وبعد سنوات، وكلما أدخل المسدسَ في فم سجين وضغط على الزناد تذكر المحقق فرانثسكو خافيير فوميرو كيف رأى جمجمة أمه تنفلق مثل بطيخة يانعة قرب دير لاس بلاناس وأنه لم يشعر بشيء سوى ذلك التقزز الذي تثيره الأشياء الميتة. وجدته الشرطة المدنية، التي استدعاها أحد الباعة، جالسا على صخرة وبحضنه مسدس لا يزال ساخنا، ولا تحيد نظراته عن الجسد مقطوع الرأس لماريا كرابونثيا، المسماة إيفونا، وتحوم فوقه الحشرات. عندما رأى الشرطة اكتفى بهز كتفيه، وكان وجهه ملطخا بالدماء كأنها بثور داء الجدري. عثرت الشرطة على رامون ذي الخصية الواحدة متواريا بين الأعشاب الضارة قرب شجرة، على بعد ثلاثين مترا من مسرح الجريمة. كان يرتجف كالطفل ويغمغم بكلمات غير مفهومة. وبعد رسم العديد من الفرضيات، توصل قائد الدورية إلى أن الحادث كان مروعا، وكتب ذلك في المحضر. وعندما سألوا الصبي إن كان بوسعهم أن يفعلوا شيئا لأجله، طلب فرانثسكو خافيير فوميرو أن يحتفظ بذلك المسدس القديم، لأنه كان يتمنى أن يصبح جنديا…
«هل تشعر بخير يا سيد روميرو دي توريس؟»
جحظت عينيّ من الدهشة وكان لظهور فوميرو غير المتوقع، في قصة الأب فرناندو راموس، عواقبه الواضحة على فيرمين. اصفر لون وجهه وارتجفت يداه.
«إنه انخفاض في الضغط» ارتجل إجابة بصوت واهن. «نحن أهل الجنوب لا يناسبنا الجو الكاتالوني كثيرا.»
«هل تريد كأس ماء؟» سأله الراهب مرتبكا.
«إن كان ذلك لا يزعج سيادتكم. وحبّذا بقطعة شوكولاطة. فأنا بحاجة إلى الكلوغوزيوم كما تعلم…»
صب الراهب كأس الماء فشربه فيرمين دفعةً واحدة.
«لدي سكاكر الكينا. هل توافقك؟»
«عوّضك الله بأفضل منها.»
ازدرد فيرمين العشرات منها بلقمة واحدة. وبعد دقائق عاد لونه الطبيعي تدريجيا.
«هل أنت متأكد يا أبانا أن ذلك الولد، ابن الحارس الذي ضحى بخصيتيه كي يدافع عن المستعمرات الإسبانية، اسمه فوميرو، فرانثسكو خافيير فوميرو؟»
«متأكد جدا. هل تعرفه؟»
«لا» أجبنا معا.
قطّب الأب فرناندو جبينه.
«لا أستغرب. فرانثسكو خافيير أصبح مشهورا مع الأسف.»
«لسنا متأكدين من أننا فهمنا قصدك…»
«بل فهمتما قصدي جيدا. فرانثسكو خافيير فوميرو اليوم محقق وقائد فرقة التحقيق بالجرائم في برشلونة. يعرفه جميع أبناء هذه المدينة للأسف. وأنت، عندما لفظت اسمه، كاد يغمى عليك.»
«الآن تذكرت. ذلك الاسم مألوف لي بشكل عام.»
نظر إلينا الأب فرناندو بقسوة.
«قولا الحقيقة، هذا الفتى ليس ابن خوليان كاراكس»
«إنه ابنه الروحيّ يا أبانا، وهذا أكثر أهمية من الجانب الأخلاقي.»
«ما هذه الحيلة؟ من أرسلكما إليّ؟»
كان لدي حدس عميق بأننا سنطرد بأسوأ الطرق بين لحظة وأخرى، لذا قررت أن ألعب ورقة الصراحة.
«معك حق يا أبانا. لست ابن خوليان كاراكس، ولكن لم يرسلنا أحد إليك. منذ عدة سنوات قرأت إحدى رواياته عن طريق الصدفة، كتاب يصعب العثور عليه. وهكذا حاولت أن أعرف عنه أكثر وأتحقق من ظروف موته. وعرض السيد روميرو دي توريس نفسه لمساعدتي» قلت.
«أي رواية هي؟»
««ظل الريح». هل قرأتها؟»
«أنا قرأت كل روايات كاراكس.»
«وهل ما تزال تحتفظ بها؟»
هز الراهب رأسه.
«هل بإمكاني أن أسألك أي نهاية منيت بها رواياته؟»
«منذ بضعة أعوام دخل أحدهم غرفتي وحرق الروايات.»
«ومن الفاعل يا تُرى؟»
«فوميرو بالطبع. أليس لأجل هذا جئتم إليّ؟»
تبادلنا نظرة الارتباك أنا وفيرمين.
«المحقق فوميرو؟ ولماذا من الممكن أن يحرق تلك الكتب؟»
«ومن يمكن أن يكون غيره؟! في آخر سنة في المدرسة، حاول فرانثسكو خافيير أن يقتل خوليان ببندقية والده لو لم يوقفه ميغيل…»
«لماذا حاول أن يقتله؟ ألم يكن خوليان صديقه الوحيد؟»
«كان فرانثسكو خافيير متيما ببينيلوب آلدايا. لم يكن أحد قد انتبه لذلك، حتى بينيلوب نفسها التي من المحتمل ألاّ تكون على علم بوجوده أصلا. خبأ فوميرو سره لأعوام. وعلى ما يبدو أنه كان يتجسس على خوليان. وذات يوم رآه يقبّلها ربّما. لا أدري. كل ما أعرفه أنه حاول قتله أمام الجميع. قفز عليه ميغيل مولينر، الذي كان متأهبا، وحجزه. وما يزال ثقب الرصاصة موجودا إلى الآن بجانب المدخل. وكلما مررت من هناك تذكرت ذلك اليوم.»
«وما الذي حصل لفوميرو؟»
«طُرد مع عائلته من سان جبريل. أفترض أن فوميرو قضى وقتا لا بأس به في سجن القاصرين. عدنا نسمع أخباره بعد عدة أعوام، عندما توفيت أمه بما أشيع أنه حادث صيد. كان ميغيل محقا منذ البداية: فرانثسكو خافيير فوميرو مجرم.»
«آه لو تعرف معاناتي…» غمغم فيرمين.
«حسنا سأكون ممتنا لو قصصتما عليّ شيئا، أقصد شيئا حقيقيا.»
«بوسعنا أن نضمن لك أنه ليس فوميرو من حرق كتبك.»
«فمن كان إذن؟»
«إنه رجل بوجه مشوه من النيران ويسمّي نفسه لايين كوبرت.»
«أليس هو…؟»
«أجل، إنه اسم شخصية لكاراكس. الشيطان.»
أرجع الأب فرناندو ظهره على مسند الأريكة، مشوش الذهن مثلنا.
«يبدو دور بينيلوب آلدايا في هذه القصة مهما أكثر فأكثر، وهي الشخص الذي لا نعرف عنه شيئا» قال فيرمين.
«أخشى أنني لن أستطيع مساعدتكما. أنا رأيتها عن بعد، مرة أو اثنتين. كل ما أعرفه عنها أخبرني به خوليان، وليس بالشيء الكثير. الشخص الوحيد الذي مازال يلفظ اسمها هي خاثينتا كونورادو.»
«ومن تكون هي؟»
«المربية. هي التي اعتنت بابني آلدايا وكانت تعشقهما وبالأخص بينيلوب. في بعض الأحيان كانت تأتي لتأخذ خورخي من المدرسة، لأن الدون ريكاردو لم يكن يفضّل أن يمضي أبناؤه ثانيةً واحدة من الوقت دون أن يراقبهما شخص موثوق به. وخاثينتا ملاك فعلا. كانت تعرف أنني، مثل خوليان، أنحدر من عائلة متواضعة فتأتينا دوما بالمأكولات الشهية وهي مقتنعة بأننا نتضور جوعا. شرحت لها بأن والدي طباخ المدرسة، ولدينا ما يكفي ويزيد من الطعام، لكنها كانت تتكرم عليّ بأية حال. كنت أنتظرها عند المدخل أحيانا وندردش قليلا. إنها أطيب امرأة عرفتها في حياتي. لم يكن لديها أبناء ولا حتى عشيق حسب ما أعرف. كانت تكرّس نفسها روحا وجسدا في خدمة خورخي وبينيلوب وما زالت إلى الآن تتحدث عنها…»
«هل بقيت تتواصل مع خاثينتا؟»
«أذهب لزيارتها في مأوى العجزة في سانتا لوسيا عندما لا أكون ملزما بشيء. بلغت خاثينتا من العمر عتيا وهي وحيدة في هذا العالم. ليس لها أحد. لحكمة نجهلها، لا يكافئنا الرب دوما في هذه الحياة.»
تبادلنا أنا وفيرمين نظرة خاطفة.
«وبينيلوب؟ لم تذهب لزيارة مربيتها القديمة أبدا؟»
تجهمت نظرات الأب فرناندو.
«لا أحد يعلم ماذا حلّ ببينيلوب. فخاثينتا كانت تعتبر تلك الفتاة كل ما لديها. عندما هاجر آل آلدايا إلى القارة الأمريكية لم تعد تجد معنى لحياتها.»
«ولماذا لم يأخذوها معهم؟ وبينيلوب هل غادرت إلى الأرجنتين مع بقية العائلة؟» سألت.
«لا أعلم. لم يعد أحد يرى بينيلوب ولا يعرف عنها شيئا منذ العام 1919.»
«العام الذي سافر فيه خوليان إلى باريس» لاحظ فيرمين.
«أرجو ألاّ تذهبا لمضايقة تلك العجوز المسكينة فتثقلا عليها أحزانها وجراح ذكرياتها.»
«وهل ترانا بهذه الحقارة لنفعل ذلك يا أبانا؟» رد عليه فيرمين.
عندما أدرك الأب فرناندو أنه لن يصل إلى أبعد مما وصل، انتزع منا وعدا بإعلامه عن كل النتائج التي ترشح عن تحرياتنا. وراح فيرمين يُطمئنه ويقسم على الكتاب المقدس الذي كان الراهب يضعه على المنضدة.
«دع الإنجيل جانبا. تكفيني كلمتك.»
«لا يفلت منه شيء. كم أنت عظيم يا أبانا.»
«تعالا. سأرافقكما إلى الخارج.»
تركنا في الحديقة وتوقف على بعد مترين من البوابة. نظر الأب فرناندو إلى ذلك الجانب من الدرب الملتوي الذي يفضي إلى العالم الخارجي كأنه يخشى أن يتبدد إذا اقترب منه خطوة واحدة. سألت نفسي متى كانت المرة الأخيرة التي ابتعد فيها الأب فرناندو عن أسوار سان جبريل.
«لقد غمرني الأسى عندما سمعت بخبر وفاة خوليان» قال بنبرة مخنوقة. «رغم أن الوقت والأحداث باعدت بيننا فإننا كنا أصدقاء أوفياء، ميغيل وخورخي وخوليان وأنا. وفوميرو أيضا. كنت على اقتناع بأنّنا لن نفترق يوما، لكن الحياة تعدّ لنا المفاجآت دوما. لم يعد لدي أصدقاء مثلهم ولن يكون عندي أبدا. أتمنى أن تعثر عمّا تبحث عنه يا دانيال.»
26
أشرف منتصف الصباح عندما عدنا إلى بازيو دي لا بونانوفا. وكنا غارقين في تفكير عميق، وفيرمين على وجه الخصوص إذ لم يكن ليتخيل ظهور المحقق فوميرو من العدم في هذه الواقعة. أسدلت الغيوم الداكنة ستارها وتمددت كنزيف الدماء فيما انبثقت من بينها شظايا الضوء بلون الأوراق اليابسة.
«فلنستعجل. سيصل الطوفان بعد قليل» قلت.
«أي طوفان. هذه الغيوم مثل الليل الطويل، ليست مستعجلة.»
«لا تقل لي إنك خبير بالأحوال الجوية أيضا.»
«إنّ العيش متسكّعا في الشوارع يعلّمك أكثر مما تطمح لمعرفته. اسمع، إنني أتضور جوعا كالذئاب لما سمعت عن فوميرو. لم لا نذهب إلى بار ساحة دي ساريا ونطلب شطيرتين بالبصل المقلي؟»
اتجهنا صوب الساحة التي اجتاحها سرب من الحمام وبعض الجدات اللواتي تحدّين الطقس برمي لبّ الخبز إلى الطيور. جلسنا بجانب باب البار. والتهم فيرمين شطيرته وشطيرتي، في غضون دقائق، وحبتي شوكولاطة وزجاجة بيرة وكأس رمّ مقطّر. كما ابتلع حبة سوغوس، فيما كان هنالك رجل يجلس على طاولة بجانبنا يراقبه من خلف صفحات الجريدة، ومن الوارد أنه يتساءل بما كان يصعقني أنا أيضا.
«أين تضع كل هذا الطعام يا فيرمين؟»
«نحن، آل روميرو دي توريس، لدينا نظام هضمي متسارع. أختي خيزوزا تغمدها الله برحمته كانت تأكل ست بيضات مقلية مع الثوم والدم المخثر في العصرية، وعلى العشاء تأكل مثل شعوب القوقاز. كانوا ينادونها بذات الكبد، لأنها تعاني من رائحة الفم الكريهة. يا لها من مسكينة. كنا متشابهين إلى درجة قصوى، في شكل الوجه وهُزال الجسد. ذات مرة قال طبيب البلدة لأمي إنّ آل روميرو دي توريس هم الحلقة الناقصة بين الإنسان وسمك قرش المطرقة، لأن أجسامنا مكونة من الغضاريف بنسبة تسعين بالمائة، تتركز في الأنف والصيوان الأذني. في بلدتنا كان الجميع يخطئ بين المسكينة خيزوزا وبيني، لأنها كانت مسطحة مثل الطاولة وبدأت تشيخ باكرا. توفيت بمرض السل في عمر الثانية والعشرين، وكانت بكرا وعشيقة سرية لراهب عديم الثقة، كلما رآها في الطريق قال لها: «مرحبا يا فيرمين لقد شببت بسرعة». يا لسخرية القدر.»
«هل أنت مشتاق إليهم؟»
«إلى من؟ عائلتي؟»
أرخى فيرمين كتفيه وابتسم لموجة من الحنين تعتلي وجهه.
«الذكريات خداعة يا صديقي. فكّر بالأب فرناندو مثلا… وأنت يا دانيال، هل تشتاق لأمك؟»
أخفضت بصري.
«جدا.»
«أتعلم ما هو أكثر شيء أذكره عن أمي؟» قال فيرمين. «عطرها. كانت رائحتها دوما توحي بالنظافة، بالخبز الذي يخرج توا من الفرن. كانت لها رائحة كل الأشياء الطيبة في العالم حتى لو كانت تعمل في الحقل كل اليوم أو ترتدي المئزر لأسبوع. وضَع في بالك أنها فلاحة وجاهلة، تجدف بالآلهة كحمّال المرفأ، لكنها تشذو بعطر الأميرات. أو هذا ما كان يبدو لي على الأقل. وأنت يا دانيال، ما هي أجمل ذكرى تحتفظ بها من أمك؟»
ترددت قليلا وأنا أتلعثم بالكلمات التي تفر من بين شفتيّ.
«لم أعد أذكر شيئا عن أمي لا وجهها ولا صوتها ولا رائحتها. اختفت ذكرياتها عن مخيليتي منذ أن وجدت كتاب كاراكس.»
«ليس لديك صورة لها؟» سألني بعد قليل من الصمت.
«لقد رفضت دوما أن أنظر إليها» قلت.
«لماذا؟»
كان الأمر سرا لم أبح به لأحد من قبل، لا لأبي ولا حتى لتوماس.
«لأنني أخاف. أخاف أن أبحث عن صورة لوالدتي ثم أكتشف أنه لا يربط بيني وبينها شيء. ربما يبدو لك الأمر في غاية الغباء.»
هز فيرمين برأسه متفهما.
«وهل تعتقد أنك سوف تذكر وجه أمك إذا نجحت في انتشال خوليان كاراكس من النسيان؟»
نظرت إليه صامتا. لم تكن نظراته تلمّح بأي حكم أو تهكّم. بدا لي فيرمين حينها الرجل الأكثر حكمة في الكون.
«ربما» أجبته.
عند منتصف النهار صعدنا إحدى الحافلات للذهاب إلى مركز المدينة. جلسنا في المقاعد الأمامية ليدردش فيرمين مع السائق عن التطور التكنولوجي الملحوظ وجماليته في مجال النقل العمومي، وفي أدوات الإشارات بالأخص، بالمقارنة مع آخر مرة استقل فيها حافلة حوالي العام 1940. كانت هنالك لافتة في الحافلة: «ممنوع البصق واستعمال الكلمات المخلة بالآداب». قرأها فيرمين بطرف عينه وقرر أن يثني عليها بإصدار بلغم مدوٍّ أثار الذعر والاحتقار لدى ثلاث نساء متزمتات يقرأن كتيبات دينة في ذيل الحافلة.
«يا لك من بربري» همهمت واحدة منهن، وكانت تشبه الجنرال ياغوي بشكل يثير الدهشة.
«ها هنّ هناك» قال فيرمين. «قديسات إسبانيا الثلاث: القديسة اضطهاد، القديسة تزمّت، والقديسة اشمئزاز. هذا البلد بات مجرّد نكتة.»
«معك حق» قال السائق. «كان الوضع أفضل في فترة حكم آزانيا. ناهيك عن أزمة السير. إنه وضع مقرف.»
انفجر أحد الرجال الجالسين قرب النساء ضاحكا. عرفته: إنه جارنا على الطاولة الأخرى في البار. كان يعطي انطباعا أنه منحاز لفيرمين، كأنه يتمنى أن يراه يتعارك مع المترهبنات. تبادلت وإياه النظرات فابتسم لي باحترام وعاد إلى جريدته. وعند شارع جراندوكسير رأيت أن فيرمين كان يغفو، ملتحفا سترته المطرية، وفمه مفتوح والهناء جليّ على تعابير وجهه. كانت الحافلة تجتاز حي سان جيرفازيو الراقي عندما فزّ فيرمين من غفوته فجأة.
«حلمت بالأب فرناندو» قال لي. «كان يرتدي زيّ ريال مدريد ويرفع كأس البطولة التي تلمع مثل الذهب.»
«ماذا يعني هذا؟»
«إن لم يخنّي فرويد فهذا يعني أن الأب فرناندو أدخل هدفا في مرمانا.»
«لكنه بدا لي شخصا نزيها.»
«ولي أيضا. لكنهم يوفدون الرهبان الصادقين في مهمات بعيدة حيث ينهشهم البعوض وأسماك البارانيا.»
«أنت تبالغ.»
«بل أنت ساذج يا دانيال. أراهن أنك مازلت تؤمن بخرافة فأر الأسنان. هل تريد مثالا؟ لقد صدقت أكاذيب نوريا مونفورت عن ميغيل مولينر. تلك المرأة، ويا للمفارقة، تزوجت صديق طفولة آلدايا وكاراكس، وحكت لك خرافات لا تخطر على بال رئيس تحرير «مرصد الفاتيكان». والآن تطفو على السطح قصة المربية الفاضلة التي ربما تكون حقيقية ولكنها عاطفية أكثر من مسرحيات أليخاندرو كازونا. ولن نتحدث عن مشاركة فوميرو الخارقة في دور المجرم السفاح.»
«هل تظن أن الأب فرناندو كذب علينا؟»
«كلا. إنني أوافقك الرأي، فملامحه تكشف عن حسن نواياه، لكنه رغم هذا يلبس رداء الكهنة وهؤلاء… حسنا لنبق في الموضوع، أظن أنه روى نصف الحقيقة فقط. إذا كذب علينا فقد فعل هذا تحسّبا، فلا أظنّه قادرا على اصطناع قصة كتلك من بنات أفكاره. لو كان دجالا لترقّى في الأسقفية، بدل أن يعطي دروس الحساب واللاتينية، ولكان له مكتب يليق بالكرادلة ومليء بسكاكر اللوز لتحلية القهوة.»
«ما الذي تقترحه إذن؟»
«علينا أن نحيي المومياء، الملاك العجوز، من كل بدّ، ثم نرى ماذا يحدث. وحتى ذلك الحين سأحاول جمع المعلومات عن ميغيل مولينر. ربما من المناسب أن نراقب نوريا مونفورت أيضا، فهي امرأة كالمياه الراكدة، مثلما كانت أمي تقول رحمها الله.»
«أنت تخطئ بنظرتك إليها» أجبت.
«أنت يا دانيال تصدّق بسذاجة أيّ امرأة لها نهد ساحر حتى لو قالت لك إنها التقت بسانتا تيريزا دل جيزو. وهذا ما أجد له عذرا مقبولا في عمرك. دع الأمر لي يا دانيال فأنا تعلمت أن أقاوم مكائد الأنثى الخداعة. في عمري، يتدفق الدم إلى الرأس أكثر مما يمر بباقي الأعضاء.»
«كم أنت واضح بحديثك يا فيرمين.»
أخرج فيرمين محفظته وراح يحسب المضمون بسرعة.
«لا بأس» قلت. «هل هذا ما تبقى من المرتجع الخاطئ صباح اليوم؟»
«بل جزء منه فقط. اليوم أخرج مع برناردا ولا أستطيع أن أكون مع هذه المرأة إلا سخيا. إنني مستعد لسرقة مصرف إسبانيا لأرضي نزواتها. وأنت ما الذي تخطط لفعله اليوم؟»
«لا شيء محدد.»
«والفتاة؟»
«أية فتاة؟»
«تلك الفتاة اللعوب. أخت توماس.»
«لا أعرف.»
«بل أنت تعرف، أنت تعرف. أقول لك بوضوح إنك في حاجة إلى الشجاعة فقط كي تمسك بالثور من قرنيه وتحكم سيطرتك عليه.»
اقترب منا مراقب التذاكر، الذي كان يدور وفي فمه نكاشة أسنان بمهارة بهلوان، وقال لنا بنبرة محايدة: «المعذرة، تسألك السيدات في مؤخرة الحافلة أن تستخدم لهجة مهذبة.»
«ما هذا الخراء؟» أجابه فيرمين بصوت مرتفع.
استدار المراقب نحو النساء الثلاث ورفع كتفيه، فقد قام بما في وسعه ولم يكن مستعدا للعراك من أجل مسألة رصانة لغوية.
«يشعر التافهون ببهجة كبرى حين يقحمون أنوفهم في حياة غيرهم» علّق فيرمين. «عم كنا نتحدث؟»
«عن عدم شجاعتي.»
«بالفعل، نحن بصدد حالة مرضيّة. اسمعني جيدا: ابحث عن الفتاة التي تحبها. فالحياة قصيرة، وجزؤُها الأفضل يمضي سريعا. ألم تسمع ما قاله الراهب؟»
«لكنها ليست فتاتي.»
«فلتتحرّكْ على عجل قبل أن ينهبها أحد آخر، كذلك الجندي الصغير.»
«بيا ليست غنيمة.»
«صحيح. إنها نعمة» قال فيرمين. «اسمعني يا دانيال. القدر يتربص بنا في إحدى الزوايا، كلص الحقائب، كالعاهرة، أو كبائع تذاكر اليانصيب. هذه هي تجلياته الأكثر شيوعا. لكنه ليس مندوب مبيعات، ولا يقوم بزيارات منزلية. علينا أن نذهب ونبحث عنه بأنفسنا.»
فكرت، أثناء الرحلة، بجواهر فيرمين الفلسفية بينما كان يخوض غفوة أخرى. كان يكرّس كل مواهبه في النوم بشكل يُحسد عليه. نزلنا من الحافلة عند التقاطع بين جران فيا وبيزيو دي غراثيا تحت سماء رمادية تسفك بالضوء وتنذر بالوعيد. ضمّ فيرمين أزرار سترته المطرية حتى عنقه وقال إنه لابدّ أن يسرع نحو النزل كي يتزين ويستعد لموعده مع برناردا.
«أحتاج إلى تسعين دقيقة على الأقل كي أبدو بمظهر متواضع. قيمة المظهر توازي قيمة الجوهر. هذا هو الواقع المرير في حقبة الدجل التي نعيشها: الانحلال يغري البشر.»
ابتعد في شارع جران فيا، مثل فزاعة ترتدي سترة مطرية رمادية ترفرف كراية بائدة. تمشيت صوب البيت، وقررت أن أختار كتابا ما وأنعزل عن العالم، ولكنني ما إن انعطفت عند زاوية شارع سانتا آنا حتى شعرت بصعقة في القلب. كان فيرمين محقا. رأيت القدر يتربص بي قبالة المكتبة، بثياب من صوف رمادي وحذاء جديد وجورب حريري، ويرتّب مظهره على زجاج الواجهة.
«أبي يظن أنني في الكنيسة للصلاة» قالت بيا دون أن تزيح نظراتها عن انعكاس وجهها.
«لم تكذبي. على بعد عشرين مترا من هنا يقيمون صلاة كل ساعة في كنيسة سانتا آنا.»
كنا نتحدث كشخصين لا يعرف أحدهما الآخر وتوقفا بالصدفة قبالة الواجهة نفسها ولا تبادل للنظرات بينهما.
«ليس هذا وقت المزاح. لقد تدبرت صفحة من الخطبة. من المؤكد أنه سيسألني عن موضوع خطبة اليوم.»
«أبوك كثير الشكوك.»
«لقد أقسم أن يكسّر ساقيك.»
«عليه أن يكتشف أولا من أكون. وما زالت قدماي في مكانهما حتى الآن وبوسعي أن أركض فلا يلحق بي أبدا.»
كانت بيا تلقي نظرات متوترة على المارة الذي يمشون مستعجلين في صباح رمادي تغزوه الرياح.
«ما الذي يضحكك؟» قالت. «أبي يتحدث جديا.»
«ومن ضحك؟ إنني أموت من الخوف، ولكنني سعيد برؤيتك أيضا.»
فرّت من شفتيها ابتسامة.
«وأنا أيضا» أقرّت.
«تقولين ذلك كاعترافك بأنّ مرضا ما قد أصابك.»
«بل أسوأ من هذا. ظننت أنني إذا رأيتك في وضح النهار سيعود لي رشدي.»
تساءلتُ ما إن كانت تقول مجاملة أم تهمة.
«يجب ألاّ يرَونا معا في الطريق يا دانيال.»
«إذا أردت بوسعنا الدخول إلى المحل. في المستودع توجد حافظة قهوة و…»
«لا. يجب ألا يرونني داخلة أو خارجة من هنا. إن لاحظ أحد وجودي الآن، سأقول إنني التقيت بصديق أخي المفضل. أمّا إذا رأونا معا مرتين فسوف تساورهم الشكوك.»
تنهدتُ.
«ومن قد يرانا؟ من سوف يهتم بهذا الأمر؟»
«ليس لديك فكرة عن حبّ الناس للنّميمة. وأبي يعرف نصف برشلونة.»
«لماذا جئت إذن؟»
«جئت للصلاة في الكنيسة، ألا تذكر هذا؟ بل أنت من قال ذلك أيضا. على بعد عشرين مترا من هنا…»
«أنت تثيرين مخاوفي يا بيا. تكذبين أفضل مني.»
«أنت لا تعرفني يا دانيال.»
«قال ذلك أخوك أيضا.»
التقت نظراتنا في زجاج الواجهة.
«أريتني شيئا فريدا تلك الليلة» همست بيا. «واليوم حان دوري.»
قطبتُ جبهتي مستغربا. فتحت بيا محفظتها، أخرجت بطاقة مثنية وأعطتني إياها.
«لست الخازن الوحيد لأسرار برشلونة يا دانيال. لدي مفاجأة لك. سأنتظرك في هذا العنوان اليوم عند الرابعة مساء. لا تخبرْ أحدا.»
«كيف سأعرف أنه المكان الصحيح؟»
«سوف تعرف.»
نظرت إليها بارتباك، وأنا أخشى من أنها تسخر مني.
«إن تغيّبت عن موعد اليوم سأفهم» قالت. «سأفهم أنك لا تريد أن تراني.»
ودون أن تعطيني الوقت لأجيبها، استدارت وابتعدت بخطوة سريعة باتجاه لاس رامبلاس. بقيت هناك والبطاقة في يدي والكلمات على شفتيّ، أتبعها بنظرتي حتى اختفت في ظل الإعصار الرمادي الذي كان يتقدم مستعجلا. فتحت البطاقة فوجدت العنوان مكتوبا بالحبر الأزرق. كنت أعرف العنوان جيدا: شارع تيبيدابو 32.