لم ينتظر الإعصار طويلا كي يثور. فاجأتني أولى ضربات البرق حين ركبت في حافلة الخط 22. ولم تقم الحافلة بالدوران حول ساحة مولينا، حتى أطبقت سيول الظلام على كل المدينة في حين كنت أحمل مظلة بائسة.

«هيا تشجع» قال لي السائق حين رآني أهم بالنزول.

تركتني العربة عند الرابعة وعشر دقائق، في نقطة منعزلة آخر شارع بالميس، تحت رحمة الإعصار. وقبالتي، كان شارع تيبيدابو يختبئ خلف سراب من مطر غزير يهطل من سماوات سوداء. التقطت أنفاسي وشرعت أركض. توقفت بعد قليل، وقد بللني المطر حتى أخمص قدمي، واصطكت أسناني بردا، عند إحدى البوابات كي أستجمع قواي وأحسب المسافة التي مازال عليّ اجتيازها. كانت الأمطار الباردة تنهمر وتخفي الجوانب اللولبية لبيوت الأكابر التي يهيمن فوقها برج قصر آلدايا، والريح تعصف برؤوس أشجار الحديقة. أبعدت عن عينيّ خصلة من شعري المبلل وواصلت الركض في الشارع الخالي باتجاه القصر.

كان باب المدخل يتحرك، فمررت في الدرب الملتوي الذي يفضي إلى المبنى. كانت قواعد التماثيل المحطمة تظهر بين تلك الأعشاب. وأدهشني أحد تلك التماثيل: ملاك الانتقام يستريح في النافورة وسط الحديقة، والرخام المغبرّ يلمع تحت سطح الماء الذي يفيض من الحوض، ويد الملاك تغرق في الماء وسبابته، التي تمتد مثل الحربة، تشير إلى المدخل الرئيسي. وكان الباب الكبير، المقتص من شجرة بلوط، مواربا. دفعته وخطوت في مدخلٍ كهفيٍّ تقفز على جدرانه أضواء شمعة.

«ظننت أنك لن تأتي» قالت بيا.

كانت ملامحها تتناثر في الممر الذي مهّده الظلام، وضياءُ الإيوان المحتضر يطوّق طيفها. كانت تجلس على كرسي، قبالة الحائط، والشمعة تحت قدميها.

«اقفل الباب» قالت لي دون أن تتحرك. «المفتاح في القفل.»

طاوعتها. وأصدر القفل صريرا كأنه قبرٌ يُغلق إلى الأبد. سمعت خلفي خطواتها الرشيقة وشعرت بلمسة أناملها على ثيابي المبللة.

«إنك ترتجف. خوفا أم بردا؟»

«لم أقرر بعد. لماذا نحن هنا؟»

ابتسمتْ في الظلام وأمسكتْ بيدي.

«لا تعرف؟ ظننت أنك خمّنت سبب وجودنا هنا…»

«ما أعرفه أننا في بيت آل آلدايا. كيف عرفته وكيف دخلت إلى هنا…؟»

«تعال. سنشعل نارا فهكذا تدفأ.»

قادتني حتى الإيوان المفتوح على الردهة الداخلية. كانت صالة واسعة فيها أعمدة نحيلة رخامية تتلوى حتى السقف المقعر المليء بالزخارف التي تتساقط أجزاء منها على الأرض. وعلى الجدران أطلال لوحات كانت تزيّن المكان، وعلى البلاط الرخامي ماتزال آثار الأثاث حاضرة. والمدفأة الضخمة في إحدى الزوايا مليئة بالحطب وبعض الجرائد القديمة وأداوت لإضرام النار. اشتممت رائحة فحم ونار قد أضرمت مؤخرا. جثمت بيا على ركبتيها، وأدخلت كرتونا مقوى بين الكومة وقرّبت منها عود كبريت، وسرعان ما اشتعلت هالة من اللهب. كانت يداها تتحركان بخفة ومهارة. وكنت أفترض أنها تظنني متشوقا ونافد الصبر، ولهذا رحت أتصرف ببرود كي تعرف أن المباراة لن تكون سهلة إذا أرادت منافستي على من بحوزته ألغازا أكثر من الآخر. كانت تختال بابتسامة الظافرين، ويداي ترتجفان وهذا ما أبطل قراري.

«هل تأتين غالبا إلى هنا؟» سألتها.

«هذه هي المرة الأولى. أنت متلهف إذن؟»

«قليلا.»

جلست متربعة أمام المدفأة ومدّدت على البلاط غطاءً نظيفا أخرجته من حقيبة جلدية. كانت رائحة الغطاء زكية كأنها خرجت من الغسالة للتوّ.

«هيا، تعال واجلس هنا، قرب النار، لا أريد أن تصيبك الحمّى بسببي.»

أعاد الدفء إليّ الحياة. وكانت بيا تنظر إلى ألسنة اللهب بصمت كأنها منومة مغناطيسيا.

«هل تفكرين في أن تروي عليّ سرّك؟» سألتُ.

قامت لتجلس على أحد الكراسي، وبقيت أنا قرب النار، أنظر إلى البخار الذي يهبّ من ثيابي كأرواح تهيم على وجوهها.

«الاسم الحقيقي لما تسمّيه أنت قصر آل آلدايا هو «ملاك الضباب»، لكن هذا الاسم لا يعرفه أحد» قالت بيا. «تحاول مؤسسة والدي أن تبيع هذا المبنى منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عاما. ذلك اليوم، عندما حدثتني عن خوليان كاراكس وبينيلوب آلدايا، لم أربط بين القضيتين. ولكنني عندما عدت إلى المنزل تذكرت أنني قد سمعت أبي يتكلم عن هذه الأسرة غير مرة، وعن هذا البيت بالتحديد. ذهبت إلى مكتبه البارحة وروى لي كازاسوس، سكرتير والدي، قصة هذا القصر. هل تعلم أنه لم يكن منزل إقامتهم الرسمية، بل واحدا من منتجعاتهم الصيفية؟»

هززت رأسي نافيا.

«كان آل آلدايا يقيمون رسميا في أحد المباني الواقعة عند نقطة تلاقي شارع بروش بشارع مايوركا وقد تم هدمه عام 1925 لتشييد مجمع سكني جديد. تم تخطيطه عام 1896 من قِبَل بويغ اي كادافالش، وبتفويض من سيمون آلدايا، جدّ بينيلوب وخورخي، عندما كانت المنطقة سهلا من الأراضي المهجورة. حصل الدون ريكاردو آلدايا، نجل البطريرك سيمون، على «ملاك الضباب» من شخص أقل ما يوصف به أنه غريب الأطوار، وبسعر مضحك لأن سمعة البيت كانت سيئة. قال لي كازازوس إن هذا البيت تسطو عليه لعنة عمياء، حتى أنّ تجار العقارات يختلقون الأعذار من كل نوع كي لا يتورطوا في عرضه على الزبائن…»

28

وبينما كنت في ذلك المساء ألتمس الدفء قبالة المدفأة، شرحت لي بيا كيف صار «ملاك الضباب» من أملاك أسرة آلدايا. كانت القصة تستحق أن يكتبها خوليان كاراكس، لما تحتويه من عناصر ميلودرامية مؤثرة. شيّد القصر عام 1899 بإشراف المهندسين ناولي ومارتوريل وبيرجادا بتفويض من الممول الكاتالوني البارز سلفادور خاوسا، والذي عاش فيه لعام واحد فقط. تيتّم خاوسا في سن السادسة وكان من أسرة فقيرة، لكن الحظ حالفه في كوبا وبورتوريكو. قيل إنه من كبار المخادعين والمسؤولين عن سقوط كوبا والحرب مع الولايات المتحدة التي خسرت فيها إسبانيا آخر مستعمراتها. عاد من العالم الجديد بثروة هائلة وزوجة أمريكية ذات حسب ونسب تنتمي إلى أعلى طبقات المجتمع في فيلادلفيا ولم تكن تجيد الإسبانية مطلقا، إضافة إلى خادمة منزلية هجينة تعمل عنده منذ أن كان في كوبا. كان يسافر دوما بسبع حقائب ضخمة ويصطحبه قرد المكاك في القفص وقد ألبسوه ثياب البهلوان. وغداة وصولهم إلى برشلونة، حجز هذا الثلاثي جناحا في فندق كولون في ساحة كاتالونيا بانتظار أن ينتقلوا إلى مكان يناسب أذواق خاوسا ورغباته.

لم يكن أحد يشك بأن الخادمة كانت عشيقته، وهي الخلاسية الحسناء بعينيها الفتانتين ومؤخرتها التي تحبس الأنفاس، كما تخبرنا الأنباء آنئذ. وكانت توصف بأنها ساحرة وملهمة الملذات الضالة والرذيلة بلا ريب. وسرعان ما بات جمال ماريزيلا، كما كان سيّدُها يدعوها، وهيئتها العجائبية موضوعا مفضلا لنساء الطبقة النبيلة اللواتي يجتمعن لالتهام المعجنات هربا من الملل والحر الخريفي. وشاعت الأقاويل عن الأنثى الإفريقية ذات القوى الجهنمية الغامضة إنها تمارس الفحشاء على الطريقة الأمازونية16، أي أنها تمتطي قضيب الرجل كالحصان، وترتكب خمس خطايا أو ستًّا مميتة دفعة واحدة. بل وكتب أحدهم إلى الأسقف كي يأتي ويبارك نفوس العائلات البرشلونية السامية من تأثير مشؤوم كهذا. وكأن كل هذا لا يكفي، كان خاوسا يخرج في كل صبيحة أحد بالعربة مع زوجته وعشيقته ليقدّم هذا العرض الإباحيّ على أعين الأولاد البريئة الذاهبين إلى الصلاة صباحا في شارع اليونان. حتى الجرائد تحدثت عن خيلاء تلك الزنجية التي تنظر إلى أهالي برشلونة كما تنظر «ملكة الغابة إلى قبيلة من أقزام إفريقيا».

ورغم أن برشلونة أصيبت بحمّى الحداثة، فإن خاوسا طلب من المهندسين أن يخططوا لمنزل جديد يكون له طابع مختلف. وكانت كلمة «مختلف» في قاموسه الخاص تعتبر ملكة الصفات بلا منازع. فهو الذي كان يمرّ أمام المساكن النيوقوطية التي شيّدها كبار الصناعيين الأمريكان في كوينتا سترادا على الجانب الشرقي من السنترال بارك. وحين انتشى بأحلامه الأمريكية، رفض الممول أن يسمع آراء أو استثناءات تحول دون بناء منزل بأقصى معايير الحداثة، كما رفض أن يأخذ شرفة في مسرح الأوبرا بعد أن اتهمه باستضافة الحمقى والمغفلين ولا يتردد إليه سوى المقرفين من أبناء برشلونة. كان يريد أن يكون بيته بعيدا عن المدينة في منطقة تيبيدابو التي كانت منعزلة نسبيا في تلك الحقبة. كان يريد أن يرى برشلونة عن بعد، في مكان لا تجاوره فيه إلا حديقة خلابة فيها تماثيلٌ لملائكة تتموضع في مخطط يشكل نجمة بسبع رؤوس (حسب تعليمات ماريزيلا) لا أكثر ولا أقل. قرر سلفادور خاوسا أن يحقق مشروعه بأي ثمن، وأوفد المهندسين ثلاثة أشهر إلى نيويورك كي يدرسوا فنون العمارات التي يسكنها عميد البحر فاندرفيلت وأحفاد جون جاكوب أستر وأندريه كارنيجي والخمسين عائلة التي تمتلك ثروات الولايات المتحدة. أوصاهم بأن ينسخوا أسلوب المعماريين وتقنياتهم أمثال ستاندفورد ووايت ان ماكيم. وحذرهم أن يعودوا بمخططات تناسب أذواق من كان يسميهم باحتقار «بائعي لحم الخنزير ومصنّعي الأزرار».

بعد عام، عاد المعماريون الثلاثة إلى قاعة فندق كولون الفاخرة كي يعرضوا عليه المشروع. أصغى إليهم خاوسا وماريزيلا الهجينة بتأنٍّ ثم سألهم عن تكلفة تحقيق المشروع في ستة أشهر. سعل فريدريك مارتوريل، العضو المؤسس في مكتب العمارة، وكتب له الرقم على ورقة. فوقّع الباشا دون رفّة رمش على المبلغ الإجمالي وأوقف الرحلة الاستكشافية. بعد سبعة أشهر، في يوليو عام 1900، حاز خاوسا وزوجته وخادمته ماريزيلا على البيت. وفي أغسطس من العام نفسه وجدت الشرطة جثة المرأتين معا، وسلفادور خاوسا يحتضر عاريا ومشدود الوثاق على ديوان مكتبه. كتب الضابط في المحضر أن الجدران كانت ملطخة بالدماء، والملائكة في الحديقة مشوهة برسوم على وجوهها كأنها ترتدي أقنعة قبلية وقد وجدوا آثار شمع أسود على قواعدها. دام التحقيق ثمانية أشهر فقدَ خاوسا أثناءها القدرة على الكلام تدريجيا.

افترضت الشرطة أنّ خاوسا وزوجته تسمما بخلاصة نباتية حضّرتها ماريزيلا التي عُثر في غرفتها على آثار من تلك الخلاصة. وقاوم خاوسا السمّ، ضد ما يستوجبه المنطق لكنه غدا أصم وأبكم وشبه مشلول الجسد حتى ظلّ يتعذب لآخر عمره من آلام ثاقبة. ووجدوا زوجته عارية على السرير، بكل جواهرها الثمينة حول رقبتها. وافترضوا أن ماريزيلا، بعدما نفذت الجريمة، قطّعت شرايينها بالسكين وراحت تتجول في البيت ودماؤها تلطخ الجدران حتى سقطت على الأرض ميتة في غرفة من الطابق الأعلى. وربطوا الجريمة بدافع الغيرة، إذ أن زوجة الباشا كانت حبلى على ما يبدو. كما قيل إن ماريزيلا رسمت جمجمة بالشمع الأحمر الساخن على بطن سيدتها. تأرشفت الحالة بعد عدة أشهر وأغلقت إلى الأبد مثل شفتي سلفادور خاوسا. ورأت الطبقة البرشلونية الرفيعة، التي لم تذكر فضيحة مشابهة كهذه، أن الذنب متعلق بأؤلئك المهندسين الأوباش الذين عادوا من أمريكا كي يدنسّوا هوية الوطن الأخلاقية. وابتهج الكثيرون في سرّهم على نهاية سلفادور خاوسا الخارجة عن المألوف. لكنهم كانوا مخطئين طبعا، فتلك لم تكن إلا البداية.

لم يستسلم خاوسا رغم أن الشرطة والمحامين قرروا أرشفة الملف. في تلك الحقبة تعرف على الدون ريكاردو آلدايا الصناعي ميسور الحال وذائع الصيت كزير نساء وأعظم مواليد برج الأسد من حيث الفطرة. كان آلدايا يطمح للحصول على العقار لأن قيمة الأراضي كانت تتهاوى في تلك المنطقة. رفض خاوسا العرض لكنه دعا ريكاردو آلدايا لزيارة القصر كي يطلعه على تجربة علمية استثنائية كما عرّفها. اندهش الصناعي، إذ أن خاوسا قد فقد عقله حقا. لم يطأ أحد المنزل منذ نهاية التحقيقات. وكانت بقع دم ماريزيلا السود ما تزال تعربد على الجدران، وقد جنّد الممول ذو الشأن الكبير طليعة الحداثة التكنولوجية في ذلك العصر، مثل السينمائي فروكتوس جيلابرت الذي وافق على مشروعٍ فني يموّله خاوسا ويهدف إلى تحقيق بعض الدراسات السينمائية، لاقتناعه بأن الصور المتحركة ستحل محلّ الأديان الوضعية خلال القرن العشرين. كان خاوسا يعتقد أن شبح الزنجية ماريزيلا ما زال يطوف في البيت ويؤكد أنه يشعر بوجودها وصوتها ورائحتها وحتى بلمساتها في الظلام، ما أدى إلى هروب الخادم بحثا عن عمل أكثر طمأنينة في ضاحية ساريا القريبة حيث يصل الكسل بالعائلات إلى عدم ملء السطل أو ترقيع الجوارب.

وسرعان ما بات خاوسا وحيدا في مخاوفه وأوهامه حتى بلغ به الظن أن مفتاح اللغز يكمن في إعطاء الفرصة للأشباح أن يصبحوا مرئيين. كان قد حضر عدة عروض سينمائية في نيويورك مع ماريزيلا، وكان مقتنعا بأن عدسة السينما تمتص أرواح الممثلين والمشاهدين على حدٍّ سواء. فأوكل إلى فروكتوس جيلابرت مهمة تدوير أمتار لا حدّ لها من الأشرطة السينمائية في ممرات القصر علّه ينجح في اصطياد بعض الإشارات والكينونات الميتافيزيقية. ولكن المحاولات باءت بالفشل حتى تلك اللحظة، رغم اسم التقني اللامع.

وتغيّر كل شيء عندما تلقّى جيلابرت مادة جديدة وحساسة تم تحضيرها في مصنع توماس إديسون في مينلو بارك في نيوجيرسي، والتي تسمح بالتصوير السينمائي تحت أضواء خافتة. وخلال إحدى العمليات العادية، صبّ مساعد جيلابرت قليلا من شمبانيا بينيديس في حوض التحميض فظهرت على الشريط أشكال غريبة. كان هذا هو الشريط الذي أراد خاوسا عرضه على أنظار الدون ريكاردو آلدايا في المساء الذي دعاه فيه إلى ذلك القصر اللولبي، رقم 32 في شارع تيبيدابو.

فكر آلدايا أن جيلابرت يتحايل على خاوسا لخشيته من تجفيف الدعم المادي. لكن خاوسا لم يكن لديه أدنى شك بصحة النتيجة، بل بينما كانت الظلال الغامضة تتراءى للآخرين، كان هو متأكدا من رؤية أرواح. وكان يقسم أنه يرى وجه ماريزيلا وهو يتجلّى في البدء على هيئة كفن ثم على هيئة ذئب يمشي على أرجله الخلفية. توصل ريكاردو آلدايا، الذي لم ير في الشريط سوى بُقعٍ مشوشة، إلى أن رائحة النبيذ ومشروبات كحولية أخرى تفوح سواء من الفلم أم من صانعه. لكن هذا لم يمنع رجل الأعمال المخضرم من التفكير في كسب فوائد كبرى من هذه المسرحية. فما كان هذا المليونير، المخبول الوحيد المهووس باصطياد كائنات خيالية، إلا ضحية مثالية. لذا قرر أن يساعده ويشجعه على المثابرة. وراح جيلابرت ومساعدوه يدوّرون أميالا من الشرائط لأسابيع ثم يحمضونها في حاويات متعددة باستخدام محاليل كيميائية خالصة ومذوبة بآروماس دي مونسيرات، نبيذ أحمر مبارك في أسقفية نينوت، وأنواع متعددة من الشمبانيا من مزارع العنب في تيراغونا. وبين العرض والآخر، كان خاوسا يحوّل الأملاك ويوقّع على التفويضات ويصرّح بإعطاء السيد ريكاردو آلدايا السماح بمراقبة كل ثروته.

اختفى سلفادور خاوسا في هوّة العدم ذات ليلة من نوفمبر 1900 أثناء الإعصار. على ما يبدو أنه كان يعاين إحدى وشائع جيلابرت الخاصة عندما حدث شيء ما. فوّض الدون ريكاردو ذلك التقني بجمع الشريط، وبعد أن عاينه على انفراد مرر عليه ومضة نار. ثم اقترح على جيلابرت أن ينال شيكا سخيا شرط أن ينسى ما جرى. سطا آلدايا حينذاك على كل أملاك خاوسا. وتوهم بعض الناس أن ماريزيلا عادت من الجحيم لتحمله معها إلى هناك، وظن آخرون أن متسولا يشبه المليونير كان يتسكع طوال أشهر في منطقة ثيوداديلا حتى دهسته عربة غامضة سوداء في وضح النهار دون أن تتوقف. لكن هذا تحصيل حاصل، إذ امّحت أسطورة القصر الفظيع وإيقاعات سون مونتونو الراقصة من ذاكرة المدينة.

بعد عدة أشهر من اختفاء خاوسا انتقل الدون ريكاردو آلدايا مع عائلته إلى ذلك القصر في شارع تيبيدابو حيث ستولد ابنته بينيلوب. وسمّى آلدايا المنزل بـ «فيلا بينيلوب» احتفالا بالمولودة، لكن هذا الاسم لم يدم طويلا. إذ كان للبيت شخصيته الخاصة وقد أبدى حياديته أمام أصحابه الجدد الذين كانوا يشتكون من أصوات ليلية مستمرة، وروائح كريهة تفوح فجأة وتيارات ريح باردة لا مسبب لها تهبّ على حين غرة وتطوف كدوريات الشرطة المسرعة. في المخزن السفلي ثمت ما يشبه السرداب الفارغ، وفي المخزن الأعلى هنالك قبة يتربع فيها مسيح ضخم على صليب متعدد الألوان عثر فيه الخدم على شبه غريب مع راسبوتين، شخصية شعبية جدا في تلك الحقبة. كانت الكتب تغير محلها على الرفوف أو يجدونها مقلوبة على الخلف. وفي الطابق الثالث كانت الأزهار النضرة تذبل في غضون دقائق، وينبري صوت ذباب حوّام لا تراه العين، في غرفة نوم غير صالحة للاستعمال بسبب بقع الرطوبة غير المبررة التي تبدو كوجوه البشر.

ولطالما أكدّت الطباخات أنّ السكّر وبعض الأنواع الغذائية الأخرى تختفي كالسحر من الخزانة، ومع طلوع الهلال شهريا تتفشى في سطل الحليب صبغة حمراء اللون. ومن حين لآخر يجد الخدم عصافير أو قوارض صغيرة ميتة أمام باب بعض الغرف، وتختفي بعض الأشياء لاسيّما الجواهر وأزرار الثياب المرتبة في الخزائن والصناديق. ونادرا ما كان يحدث أن تظهر الأغراض المختفية ثانية، بعد مرور عدة أشهر، مركونة في إحدى زوايا المنزل أو مدفونة في الحديقة. أمّا الدون ريكاردو فكان يقول إنها خرافات يعتاد عليها الأثرياء الكسالى، ويكفي أسبوع من الصيام للشفاء من هذه اللوثة. لكنه لم يكن يتفلسف في مسألة اختفاء مجوهرات زوجته، إذ سرّح على الأقل خمس خادمات من عملهن متهما إياهن بسرقة المجوهرات الثمينة، وسط اعتراضهنّ باكيات على هذا الإجحاف. ويرجّح الدهاة تلك القرارات إلى عادته السيئة بالغطس في غرف الخادمات اليانعات تحت جنح الليل. كانت جسارته في الغرام ملحوظة مثل ثرائه الواضح، حتى قيل إن عدد أولاده من الزنا كافٍ لتأسيس نقابة. ولكن في البيت لم تكن تختفي المجوهرات فقط مع الأسف، بل كانت العائلة تفقد البهجة في الحياة كلمّا مرّ الوقت.

لم يهنأ آل آلدايا ولو ليوم واحد في ذلك القصر الذي حصلوا عليه بدهاء الدون ريكاردو. وكم توسلت زوجته إليه ليعرضه للبيع كي يعودوا إلى المنزل الذي أمر البطرك سيمون ببنائه أو ينتقلوا للعيش في وسط المدينة. لكن ريكاردو لم يعر الأمر انتباها لأنه كان يقضي جلّ وقته خارج البيت. وذات يوم، اختفى الصغير خورخي لثماني ساعات وقلبت أمه والخدم الدار عاليها أسفلها بحثا عنه دون جدوى. وعندما ظهر الطفل مصفرّ الوجه وخائر القوى، قال إنه كان في صالة المكتبة برفقة زنجية أطلعته على صور قديمة وتنبأت له بأن الموت سيخطف كل إناث العائلة في ذلك القصر كبش فداء على خطايا ذكورهنّ. وأخبرته السيدة الغامضة بيوم وفاة أمه أيضا: 12 أبريل 1921. لم يعثروا على أثر لتلك المرأة بالطبع، لكن السيدة آلدايا توفيت بالفعل على سريرها فجر ذلك اليوم آنف الذكر. واختفت كل مجوهراتها. وحين تم تجفيف البئر في الفناء وجد أحد الخدم المجوهرات في وحل القاع إضافة إلى دمية للصبية بينيلوب.

بعد أسبوع قرر الدون ريكاردو آلدايا التخلص من القصر وقد تعرّضت إمبراطوريته المالية لأزمة خانقة. أرجع البعض السبب إلى اللعنة التي كانت تكبّل القصر وتحمل الشؤم لمن يقطن فيه أيّا كان، بينما رجّح آخرون، وكانوا أكثر فطنة، أن آلدايا تصرّف باستخفاف مع تغيّرات السوق ودمّر في أيام ما بناه والده سيمون طوال سنوات. صرّح ريكاردو بأنه سوف يهجر برشلونة بصحبة عائلته إلى الأرجنتين حيث تزدهر صناعات النسيج. وقال الكثيرون إنه إنما أراد الإفلات من الكارثة الاقتصادية المشينة التي ألمّت به.

في عام 1922 تمّ عرض «ملاك الضباب» للبيع بسعر مضحك، وأثار انتباه الكثيرين في بادئ الأمر بفضل روعته وتصاعدِ الطلب على تلك المنطقة الراقية. ولكن المستثمرين الكبار أداروا ظهورهم للعرض بعد أن زاروا القصر. فتمّ إغلاقه عام 1923 وانتقل صك الملكية لشركة عقارات كان على آلدايا أن يوفيها بعض المستحقات، علّها تتمكن من بيعه أو هدمه أو تفعل به ما تراه مناسبا. ثم بقي القصر معروضا للبيع أعواما، وأفلست شركة لا بوتيل وليوفريه، عام 1939 حين دخل صاحباها السجن بتهمة لم يعرف أحد بشأنها شيئا. وتوفي كلاهما في حادث غامض وقع في سجن سان فيثينس عام 1940، فصفيّت الشركة لصالح مؤسسة مالية في مدريد، كان من بين أعضائها المصرفيّ السويسري والمدير التنفيذي السيد آغويلار، والد توماس وبيا. أخفق وكلاء السيد آغويلار في بيع القصر أيضا، رغم وضعه بسعر أدنى من قيمته. ولم يدخل أحد القصر منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام.

«…حتى يومنا هذا» أنهت بيا وانغمست مجددا في إحدى لحظات صمتها.

كنت سأعتاد على هذه الحالة مع الوقت وأنا أراها تنكمش على نفسها بنظرة تائهة وصوت مبحوح.

«كنت عازمة على أن أريك هذا المكان، ووددت أن أقدّمه لك كمفاجأة. شعرتُ بلزوم أن آتي بك إلى هنا بعد ما رواه عليّ كازاسوس. فهذا القصر جزء من حكايتك وحكاية كاراكس وبينيلوب. أخذت المفاتيح من مكتب أبي. ولا أحد يعلم أننا هنا: هذا هو سرّنا. أردت أن أشاركك إياه، ولكني لم أكن أظنّك ستأتي.»

«بل كنت واثقة من هذا.»

وافقت بابتسامة.

«لا شيء يحدث عن طريق الصدفة، أتوافقني؟ كل شيء في النهاية يخضع لطاقة مبهمة خارقة الذكاء. ليس بالصدفة أنك وجدت رواية خوليان كاراكس في مقبرة الكتب المنسية ولا أننا هنا أنا وأنت في بيت كان يملكه آل آلدايا. كل شيء ليس إلاّ جزءًا من شيء ما، لا نستطيع إدراكه لكننا ننصاع لمشيئته.»

بينما كانت تتحدث، وضعتُ يدي بفظاظة على كاحل قدمها وصعدتُ بها حتى ركبتيها. نظرت بيا إلى يدي كما لو كانت حشرة. فسألت نفسي ما الذي قد يفعله فيرمين لو كان محلي.أين مني الحنكة وأنا في أمسّ الحاجة إليها؟

«توماس يقول إنك لم تحظ يوما بعشيقة» قالت بيا، وذلك ما شعرتُ بأنه يفسّر كل شيء.

أرجعتُ يدي وأخفضت عينيّ بإذعان. بدا لي أنني رأيت ابتسامة على ثغرها، لكنني فضّلت أن أتظاهر بأنني لم أر شيئا.

«أخوك ليس كتوما كما يبدو. هل يشيع عني أمورا أخرى؟»

«يقال إنك بقيت لأعوام متيما بغرام امرأة تكبرك سنا وإنّ تلك التجربة مزّقت فؤادك.»

«بل مزّقت شفتيّ كي لا أتحدث عن كرامتي التي تعرضت للإهانة.»

«وتوماس يقول أيضا إنك لم تخرج مع فتيات أخريات لأن ما من واحدة بوسعها ملء الفراغ الذي تركته تلك المرأة.»

يا لتوماس الطيب ونميمته.

«تدعى كلارا» اعترفتُ

«أعرف. كلارا برسلوه.»

«هل تعرفينها؟»

«ومن لا يعرف كلارا برسلوه؟ اسمها لا يخفى على أحد.»

طغى بيننا الصمت لبعض اللحظات بينما كنا نتأمل ألسنة اللهب التي تفرقع في المدفأة.

«البارحة ليلا، بعد أن افترقنا، كتبت رسالة إلى بابلو» قالت.

جفّ حلقي.

«خطيبك الملازم؟ لماذا؟»

أخرجت بيا ظرفا من جيب سترتها وأرتني إياه. كان مغلقا ومختوما.

«كتبت له بأنني أريد الزواج بأسرع وقت ممكن، حبذا لو بعد شهر، وأنني أرغب في مغادرة برشلونة إلى الأبد.»

واجهتُ نظراتها الثابتة وأنا أرتجف قليلا.

«ولماذا تطلعينني على ذلك؟»

«لأنني أريد أن أعرف منك إن كان عليّ إرسالها أم لا. ولهذا طلبت منك المجيء إلى هنا اليوم يا دانيال.»

ركزتُ النظر في الظرف الذي كان بين يديها.

«انظر إليّ» قالت.

فطاوعتها لكنني لم أقوَ على الإجابة. نهضت بيا وذهبت إلى آخر الصالون وفتحت إحدى النوافذ. فلحقت بها وأوقفتها وانتزعت الظرف من بين يديها. كان المطر يجلد وجهها فيمحو عن خدّيها دموع الغضب. حملتُ الظرف واتجهتُ نحو المدفأة الموقدة. كانت تتجنب النظر نحوي. رميتُ الظرف في النار وسرعان ما تلاشت الرسالة في هوجة اللهب. جثمت بيا على ركبتيها بجانبي وعيناها تغرورقان بالدموع. فعانقتها وشعرت بأنفاسها تكوي عنقي.

«لا تتركني يا دانيال» همست.

ذات يوم شرح لي أكثر الرجال حكمة عرفته في حياتي، يدعى فيرمين روميرو دي توريس، بأنه ما من شيء يضاهي الإحساس الذي يتملكنا حين ننزع الثياب عن امرأة للمرة الأولى. لم يكن كاذبا لكنه أخفى عني جزءا من الحقيقة. لم يخبرني عن الرعشة الوحشية التي تحوّل كل زر وكل مفصلة إلى عملية شاقة تحتاج إلى جهد العمالقة. لم يخبرني عن إغواء الجسد المرتجف ولا عن سحر القبلة ولا عن ذلك السراب الذي راح يشتعل في كل مسامّ جلدي. كان يعرف أن المعجزة تحدث مرة واحدة في الحياة وتصنعها عقدة من القصص السرية التي ما إن يُكشف أمرها حتى تتلاشى إلى الأبد. ألف مرة حاولت أن أستعيد مشاعري مع بيا في ذلك المساء في الصالة الكبرى في شارع تيبيدابو، عندما مسح هطول المطر هذا العالم. ألف مرة وددت أن أغرق في تلك الذكرى التي لم يبق لي منها سوى صورة مسروقة من حرارة اللهب: بيا، عارية وحبّات المطر براقة على جسمها، مستلقية بجانب النار، وتركز عليّ نظراتها الصادقة التي لم أنسها يوما. انحنيت عليها وداعبت بطنها برؤوس أصابعي. أغمضت عينيها وابتسمت بثقة وطمأنينة.

«افعل بي ما تشاء» همست.

كان عمري سبعة عشر عاما والحياة تصدح كأهزوجة الربيع على شفتيّ.

29

عندما خرجنا من القصر، بعدما خيّمت عليه الظلال اللازوردية، كان الإعصار قد تحوّل إلى رذاذ مطر بارد. أشارت إليّ بيا بنظرة كي آخذ المفاتيح. ومشينا في سكوتٍ مطبقٍ، يدا في يد حتى بازيو دي سان جيرفازيو، بحثا عن سيارة أجرة أو حافلة.

«لن نتمكن من اللقاء قبل الثلاثاء» قالت بنبرة مرتجفة كأنها تشك في رغبتي بلقائها ثانية.

«سأنتظرك هنا» قلت.

كان واضحا بأننا سنلتقي هناك، في ذلك القصر القديم، لأن باقي المدينة لم يكن يعنينا. وكان ثباتها يتناقص شيئا فشيئا كلما ابتعدنا عن شارع تيبيدابو، في طريق يخلو من البشر.

«لن نجد شيئا هنا» قالت بيا. «من الأفضل أن ننزل عند شارع بالميس.»

تابعنا بخطوات مسرعة ونحن نمشي تحت الأشجار كي نلوذ من المطر الناعم، وربما كي يتجنب أحدُنا النظر إلى الآخر. كانت بيا تسرع من مشيتها بين الفينة والأخرى وأحسست لوهلة بأنني لو تركتها وشأنها لراحت تركض. كنت ما أزال أهذي بعطر جسمها وأتلظى من الرغبة في لثم ثغرها، وأود أن أقول لها بحرا من الأشياء التافهة حتى لو كلّفني ذلك أن أبدو مضحكا. لكن بيا كانت غائبة في صمتٍ يدوّي كصرخةٍ رهيبةٍ صمّاء.

«ما بكِ؟» سألتها.

كانت ابتسامتها تتسم بالخوف ومشاعر الوحدة. رأيتُني في عينيها مجرد صبيّ لا طائل من ورائه وقد توهّم أنه سيد العالم منذ قليل ويجازف بخسارة كل شيء بين اللحظة والأخرى. تابعت المشي دون أن أنتظر ردّا. وبعد قليل سمعنا ضوضاء السير وراجت الأضواء في الأجواء كجداريّة لا تراها العين.

«فلنفترق هنا» قالت وهي تسحب يدها من يدي.

كانت أضواء سيارات الأجرة المركونة في زاوية الشارع تبدو كصف طويل من اليراعات المضيئة.

«كما تفضّلين.»

لثمت خدّي وكان لشعرها رائحة الشمع.

«بيا» قلت بصوت مبحوح. «أنا أحبك…»

وضعت أناملها على فمي كي لا أستمرّ في كلامٍ قد يجرحها.

«الثلاثاء في السادسة. موافق؟» سألتني.

فأومأت موافقا بإشارة سريعة من رأسي. ورأيتها تركب في إحدى سيارات الأجرة وتختفي في الظلام، مثل أي شخص مجهول لا أعرفه. وكان أحد السائقين يراقبني بفضول، وقد ظل يحدّق فينا.

«هل نذهب إلى البيت أيها الفتى؟»

ركبت السيارة دون أن أفكر. وظلّ السائق يتلصّص عليّ بنظراته من المرآة العاكسة فيما كنت أشاهد أضواء كلّ سيّارة من السيارات المقابلة وكأنها نقطتان مضيئتان تسقطان في بئر مظلم.

لم أتمكن من النوم إلا عندما بزغ الفجر من نافذة غرفتي وتسرّبت معه مائة درجة من اللون الرمادي تبثّ الكآبة. وبعدها، أيقظني فيرمين برمي الحصى على زجاج نافذتي من ساحة الكنيسة. ارتديت أقرب الثياب إلى ناظريّ ونزلت كي أفتح له. كان يحلّق في أعالي المرح كعادته في صباح أيام الاثنين. رفعنا غلق المكتبة ووضعنا لافتة «مفتوح» على الواجهة.

«يا لجفنيك الذابلين يا دانيال. تبدو كالأرض المحروثة. أستنتج من هذا أنك أصبت الهدف.»

وحين دخلنا المستودع ارتديت مئزري الأزرق ورميت إليه مئزره بحركة استفزازية. فأمسك به وهو يبتسم بسخرية.

«بل ربما أصاب الهدفُ كلينا معا.»

«وفّر أقوالك المأثورة لرامون غوميز دي لا سيرنا، فهي تثير الشفقة. هيا، حدّثني.»

«عن أي شيء؟»

«قرر أنت. عن عدد الوكزات أم عدد الجولات في الحلبة.»

«مزاجي ليس ملائما للحديث يا فيرمين.»

«يا لعنفوان الشباب! لا تصبّ عليّ جام غضبك يا دانيال، فإني أتيتك بأخبار طازجة بشأن تحقيقنا عن صديقك خوليان كاراكس.»

«كلّي آذان صاغية.»

أصابني بسهام نظراته البوليسية وقوّس واحدا من حاجبيه.

«مساء أمس، بعد أن أوصلت برناردا إلى منزلها، بعفة لا تخلو من لمس مؤخرتها، انتهزت هجمة الأرق التي أصابتني بسبب العشاء. ووجدت نفسي في واحد من أكثر النوادي أهمية في حياة اللهو والضلال البرشلونية، أو بالأحرى في خمارة حقيرة لإيليودورو سالفومان، المعروفة بـ بيتشافريدا، وتقع في مكان موبوء لكنه حيوي جدا، في زقاق سانت جيروني، قلب الرافال النابض والممجد.»

«اختصر لو سمحت.»

«سأختصر. حين كنت هناك، وبعدما اكتسبت ثقة بعض الزبائن الدائمين، وكانوا زملائي القدامى، قمت بالتحرّي عن ميغيل مولينر، زوج معذّبتك نوريا مونفورت، السجين السياسي المزعوم.»

«المزعوم؟»

«بالضبط، المزعوم. لم تُستخدم بعد هذه الكلمة بشكل أفضل من هذا. أكّد لي الزملاء في الحانة، وهم الذين يحوزون على كم هائل من المعلومات الحديثة والموثوقة أكثر من مخبري قصر العدل بفضل ألفتهم لظلام السجون، أكدوا لي بأنه لا وجود لرجل يدعى ميغيل مولينر في سجون برشلونة منذ عشرة أعوام.»

«ربما كان في سجن آخر.»

«في آلكاتراز، في سينغ سينغ أو في الباستيل. يا دانيال تلك المرأة كذبت عليك.»

«ربما كنتَ على صواب.»

«لا تقل ربما. اعترف بذلك.»

«ماذا تقصد؟ هل ميغيل مولينر معلومة كاذبة؟»

«كاذبة مثل نوريا التي تكنّ لها الاحترام.»

«وبم تنصحني؟»

«علينا أن نسلك دروبا أخرى. وفي البدء، لابدّ أن نقوم بزيارة للمربية العجوز في القصة التي أتحفنا بها أبونا صباح أمس.»

«ألا تشك بأنها توفيت؟»

«لا، ولكن اللحظة حانت لتبديد الشكوك. ليس علينا بعد الآن أن نطرق الأبواب مثل المتسولين، بل أن نتسلل من المدخل الخلفي. هل توافقني؟»

«على كل شيء ولكل شيء يا فيرمين.»

«إذن حضّر بدلة الصبي خادم الكنيسة لأننا في هذا المساء حالما نغلق المحل سنقوم بزيارة مودّة للعجوز في مأوى سانتا لوسيا. والآن حدثني كيف جرت الأمور البارحة مع الحسناء. إياك أن تخفي عنيّ شيئا وإلا أصابتك الدمّل الفظيعة.»

وحينها عزفت عن العمل وفتحت له قلبي. وعند نهاية الاعتراف، أدهشني فيرمين بعناق مباغت معبّرا عن معاضدته لعذاباتي الوجودية في مرحلة المراهقة والتي كان جزءا منها.

«أنت مغرم بها» همس متأثرا وهو يربت على كتفي. «كم أشفق عليك يا فتى.»

في ذلك المساء خرجنا من المحل على عجلة من أمرنا. نظر إلينا والدي مستغربا: كان قد شم رائحة مؤامرة مثيرة للشكوك بمجيئنا وذهابنا. تلعثم فيرمين بحجة غير معقولة معللا بأنه علينا أن نسلّم بعض الطلبات العاجلة. قطعت العهد ذاته على نفسي، كنت سأبوح لوالدي بكل القصة بين حين وآخر.

2021/06/22 · 78 مشاهدة · 4342 كلمة
نادي الروايات - 2025