وعلى طول الطريق وصف لي فيرمين غايتنا بخطوط عريضة وبأسلوب سوداوي، ربما بسبب ولعه بالروايات العاطفية المسلسلة. كان مأوى سانتا لوسيا مبعث شؤم ويقع في بناية قديمة على وشك الانهيار في حيّ مونكادا. كان مكانا لولبيا يتراوح بين حجرة الموتى ووادٍ في جهنّم. وتاريخه في منتهى العجب، وهذا أقل ما يمكن أن يقال فيه. إذ استضاف هذا المبنى بعض الأسر البرشلونية النبيلة بدءا من القرن الحادي عشر، ثم أصبح سجنا، ثم بيت دعارة، ثم مكتبة للأسفار المحرمة، فثكنة عسكرية، فورشة نحت، فمنفى للمصابين بالوباء والأمراض الُمعدية، حتى غدا ديرا. وعندما أمسى حطاما قرابة منتصف القرن التاسع عشر، تحول إلى متحف للفظاعة والشذوذ البهلوانيين لمقاول غريب الأطوار يسمّي نفسه لاسزلو دي فيشيرني، ويدّعي أنه دوق مدينة بارما وخيميائي خاص لآل بوربون، بينما كان اسمه الحقيقي بالتازار ديولوفيو كارايوت، المولود في إيسباراغويرا، ويعمل في الحقيقة مشعوذًا وقوّادا.

كان المقاول المحتال يتفاخر بأنه صاحب أكبر مجموعة في العالم لأجنّة من أشباه البشر في مراحل مختلفة من التشوه، ناهيك عن تحصيله لمجموعة أخرى أكبر بكثير تتألف من أحكام اعتقال أصدرتها بحقه كل دولة في أوروبا وأمريكا. وكان «سرداب الظلام» (هكذا كان ديولوفيو يسمّي مسرح ابتكاراته) فضاءً لجلسات روحانية ونكرومانسية، ومصارعة الديكة والفئران والكلاب والنساء المسترجلات، والمكائد الخارجة عن المألوف، وحلقات ترويج الإشاعات والقمار والمراهنات. كان عبارة عن مبغىً عام متخصص في الأذلاّء والظواهر الغريبة، وكازينو ومكتب قانوني ومالي، وكان ملتقًى يمنح فرص الحب، وخشبة تستضيف عروض الفلكلور الكاتالوني ومسرحا للعرائس وملهىً للراقصات الأجنبيات. ويحكى أنّ جوقة الميلاد الدورية، التي يمثّل فيها أعضاء باحة المعجزات هذه، باتت مشهورة خارج حدود المنطقة أيضا.

استمرّ النجاح المذهل والذائع الصيت لـ «سرداب الظلام» قرابة الخمسة عشر عاما، حين اكتُشف أن ديولوفيو كان قد أغوى زوجة الحاكم العسكري وابنتَه وكنّتَه في غضون أسبوع واحد. فأعلن الأخير حربا للأخذ بالثأر على مركزه الإبداعي لم يشهد التاريخ مثيلا لقساوتها. وقبل أن يهرب ديولوفيو مستعيدا هويته الحقيقية، راحت عصابة من الرجال الملثمين تطارده في أزقة حي سانتا ماريا وأمسكت به عند فانوس السيوداديلا. ثم أحرقوا جثته وقدّموها وليمة للكلاب الضارية. وبعد عشرين سنة تقريبا، ودون أن يهتم أحد بالحصول على مقتنيات لاسزلو دي فيشيرني القيّمة، أصبح «سرداب الظلام» مؤسسة خيرية عامة ومعروفة بالتقوى والتديّن.

«راهبات الرمق الأخير، هكذا يسمّون المؤسسة» قال فيرمين. «للأسف لا يسمحن لأحد بالدخول، عن سوء نية كما أرى. علينا أن ندبّر حيلة ما إذن.»

في السنوات الأخيرة، حدّد مأوى سانتا لوسيا نزلاءه بين محتضرين وعجائز مهجورين ومختلّين عقليا ومعدمين وبؤساء قاع المجتمع البرشلوني. ولحسن حظهم، لا يعيش أولئك التعساء طويلا حالما يُسعفون إلى هناك، نظرا إلى الظروف الصحية المتردية وبشاعة المكان الذي لا يعِد بعمر مديد. ويقول فيرمين إنهم يُخرجون الجثث من هناك قبل الفجر بقليل لتقوم برحلة صوب المقبرة الجماعية على عربة تبرعت بها شركة هوسبيتاليت ديليوبريجات المتخصصة في صناعة اللحوم وإنتاج المقددات، وهي شركة لها شهرتها لكنها دخلت في فضيحة شنيعة بعد أعوام.

«أنت تخترع كل شيء» احتججت بعد أن صدمني هذا السيناريو الدانتويّ.17

«خيالي لا يصل إلى هذا المستوى يا دانيال. انتظر فترَ. لقد زرت المبنى في مناسبة حزينة منذ عشرة أعوام تقريبا، ولعمري كأنهم عيّنوا صديقك خوليان كاراكس كمصمم للديكور. كان علينا أن نأتي بأوراق الغار كي نحمي أنفسنا من العفونة. سنكون محظوظين إذا نجحنا في تخطّي العتبة.»

دخلنا حي مونكادا بتلك المعنويات، وكان الظلام قد هبط على الأبنية القديمة التي تحولت إلى مخازن ومكاتب صغيرة. وسرنا على إيقاع ضرب النواقيس في كنيسة سانتا ماريا دل مار. وفجأة اجتاحت رائحة غريبة وثاقبة ذلك الجو الشتوي البارد.

«ما هذه الرائحة الكريهة؟»

«لقد وصلنا» أعلن فيرمين.

30

كانت البوابة الخشبية شبه المهشمة تفضي إلى باحة تنيرها بعض فوانيس الغاز الخافتة وتتهالك معالم الملائكة على حجرها القديم. هنالك سلم يقود إلى المدخل الرئيس الذي ينساب منه نور مائل إلى الصفرة. وقد كان الضياء الذي يتحرر من ذلك المثلث يصبغ بخار العفونة باللون البنيّ. لمحنا في الأعلى طيفًا مكفهرًّا يتبع خطواتنا بنظرة داكنة كالثوب الذي يلبسه. كانت الراهبة تحمل سطلا خشبيا بيديها وتصدر منه عفونة لا توصف.

«رحماك يا مريم العذراء الطاهرة رحماك» كان فيرمين يتلو.

«والتابوت؟» ردّ صوت ثقيل ومخنوق من الأعلى. «ألستما من مكتب تنظيم الجنائز؟» قالت الراهبة بصوت متعب.

لم أفهم إن كانت تعلّق على مظهرنا أم أنها تطرح سؤالا بسيطا. انتهز فيرمين الفرصة على الفور.

«التابوت في الشاحنة. ولكن قبل ذلك أردنا أن نلقي نظرة على الزبون. مسألة تقنية.»

انتابني الغثيان وكدت أتقيأ.

«في العادة يأتي السيد كويباتو شخصيا» قالت الراهبة.

«السيد كويباتو يستأذنكنّ أن تعذرنه، فهو ملتزم بعملية تحنيط في غاية التعقيد لرجل قوي البنية كان يعمل في السيرك.»

«هل تعملان عند السيد كويباتو؟»

«نحن بمثابة يديه اليمنى واليسرى. ويلفريدو فيلودو في خدمتك يا سيدتي وهذا سانسون كاراسكو معاوني الموثوق.»

«تشرفت سيدتي» قلت.

نظرت إلينا الراهبة بشرود وأومأت برأسها.

«أهلا بكما في سانتا لوسيا. أنا الأخت هورتينسيا. أنا من اتصل بكم. تعالا.»

تبعنا الراهبة بخشوع ديني في ممرٍ كانت له نفس الرائحة الكريهة التي تفوح في أنفاق المترو. عبرنا صالات واسعةً ليس لها أبواب وتنيرها القناديل، وكانت مليئة بالأسِرّة الموضوعة عند الجدران والمزودة بأغطية تشبه الأكفان. كنا نسمع نواحا وأنينا ونرى وجوها بشرية تتشح بالأغطية.

«من هذا الجانب» قالت الراهبة هورتينسيا التي تسبقنا ببضعة أمتار.

دخلنا قاعة كبيرة في سقفها قبة، من المحتمل أنها كانت صالة «سرداب الظلام» المسرحية. تبدّى لي في الظلام ما يشبه التماثيل الشمعية المهملة في زاوية القاعة، وقد جُسّمت بأعين زجاجية تعكس لهب القناديل وكأنها عملات حديدية. ظننتها في البداية من بقايا المتحف البائد، لكنني انتبهت لها بعد ذلك وهي تتحرك، ولو ببطء شديد ودون ضجيج. وقد كانت تعلوها الخرق الرماديّة البالية بشكل يستحيل معه تمييز جنسها أو تحديد عمرها.

«أوصانا السيد كويباتو بألا نمسّ المتوفى» قالت الراهبة كأنها تعتذر. «فاكتفينا بوضعه في أول صندوق وجدناه قبل أن تتفسخ جثته.»

«حسنا فعلتنّ. درهم وقاية خير من قنطار علاج» قال فيرمين.

وجهتُ إليه نظرة يائسة لكنه طمأنني بحركة من يده. وقفت الأخت هورتينسيا أمام ما يشبه زنزانة مظلمة وخالية من التهوية في نهاية ممر ضيق. نزعتْ من الحائط أحد فوانيس الزيت المعلقة هناك وأعطتنا إياه.

«هل سيستغرق الأمر وقتا طويلا؟ أنا لديّ التزامات.»

«كوني مطمئنة. بوسعك الذهاب إلى أعمالك يا أخت فسوف نتدبر أمرنا بأنفسنا. كوني مطمئنة.»

«إن احتجتما شيئا تجداني في الطابق الأرضي، في عنبر المجبرين على التزام السرير. احملاه إلى الخارج من المدخل الخلفي كي لا يراكما الآخرون، إن كان ذلك ممكنا.»

«دعي الأمر لنا يا أخت» همستُ بصوت رفيع.

حدقت إليّ الراهبة بفضول غامض بضع لحظات. وقد كانت تبدو عن قرب عجوزا مثل نزلاء المأوى.

«ألا يبدو أن مساعدك ما يزال صغيرا على مزاولة عمل كهذا؟»

«قسوة الحياة لا تعرف عمرا يا أختاه» أجابها فيرمين.

فابتسمت في وجهي بعطف وهي تهزّ رأسها. لم تكن نظراتها توحي بالالتباس إنما بشفقة وحزن غامضين.

«أفهم هذا…» همست.

وغابت في الظلام وهي تحمل السطل وظلُّها يزحف خلفها كثوب الزفاف. دفعني فيرمين داخل الحجرة، وكانت عبارة عن محراب مجوّف ورطب كالكهوف، وفي سقفها سلاسل معلقّة بدعامات إلى حدودها القصوى، ومن أرضيتها منزوعة البلاط تبرز شبكة أنابيب. ثمّت صندوق شحن خشبي على صفيحة من رخام رمادي في الوسط. رفع فيرمين الفانوس فرأينا جثة المتوفى ترقد وسط كومة من القش. كانت ملامحه قاسية وجامدة لا حياة فيها، وجلدُه منفوخًا مائلًا إلى البنفسجي، وعيناه الجاحظتان بلون قشر البيضة.

شعرت بالإعياء في بطني وأزحت نظري.

«هيا إلى العمل» قال فيرمين.

«هل جننت؟»

«أقصد أنه علينا البحث عن المربية خاثينتا قبل أن يكتشفوا سرنا.»

«كيف؟»

«نسأل عنها هنا.»

بعد أن تأكدنا أننا لم نكن على مقربة من الراهبة هورتينسيا، عدنا إلى الصالة الواسعة التي مررنا بها. كانت الأشباح البشرية التي تعيش هناك تتبع خطوتنا أولا بأول بأعين يسيل منها الخوف والفضول بل وربما الحسد.

«احذر يا دانيال، هؤلاء الضباع لو كان بوسعهم أن يمتصوا دمك كي يعودوا شبانا لفعلوها بلا رحمة» قال فيرمين. «رغم أنهم يبدون كالحملان الوديعة بسبب تقدم العمر، فإنّ بينهم أنذالا مثل الأنذال في الخارج تماما. بل إنّ هؤلاء أشد خطرا لأنهم دفنوا كل الآخرين وظلّوا وحدهم على قيد الحياة. لا تشفق عليهم. هيا ابدأ بأولئك الذين يبدون بلا أسنان.»

أراد فيرمين أن يمدّني بالشجاعة فإذ بالرعب يدبّ في قلبي. نظرت إلى تلك الأطلال البشرية وهي تذبل في إحدى زوايا الصالة. كانوا مثالا حيا على انعدام أخلاق هذا الكون، وعلى وحشية البشر في التخلص من أي كائن لا فائدة تُرجى من وجوده. هزّ فيرمين رأسه معترفا وكأنه قرأ أفكاري.

«فلنقل الحقيقة، أمنا الطبيعة عاهرة وفاحشة، هذه هي الحقيقة المرة» أكد. «هيا فلنرم أنفسنا في التيار.»

أدّيت دور المحقق للمرة الأولى ولم أجنِ سوى نظرات سفيهة وعنينا وتجشؤا وكلاما لا معنى له. وبعد ربع ساعة عدت إلى فيرمين آملا أن يكون حظه أوفر مني، ولكن هيهات.

«كيف سنجد خاثينتا كورونادو هنا؟»

«لا أعلم. هذا قفص للمجانين. جربت أن أستخدم السوغوس أيضا لكنهم ظنّوها تحميلة.»

«ما رأيك أن نسأل الأخت هورتينسيا؟ نقول لها الحقيقة وكفى.»

«الحقيقة هي الحل الأخير يا دانيال لاسيّما حين يتعلق الأمر براهبة. علينا أن نلعب كل الأوراق الممكنة أولا. انظر إلى تلك المجموعة من العجائز، يبدون أكثر حيوية من غيرهم. ربما لم يفقدوا صوابهم كليا. اذهب إليهم واستجوبهم.»

«وأنت ما الذي تفكر بفعله؟»

«أنا سأقوم بتغطية ما تفعله في حال ظهر الغول. هيا إلى العمل.»

اتجهت إليهم بآمال ضئيلة، إن لم تكن معدومة، وكانوا يشغلون حيزا من الزاوية.

«مساء الخير» قلت وسرعان ما شعرت بالندم بما أنّ الزمن هناك في الداخل مسائيّ على الدوام. «أبحث عن السيدة خاثينتا كورونادو. كو - رو - نا - دو. هل يعرفها أحد منكم أو بإمكانه أن يقول لي أين بوسعي العثور عليها؟»

كانت قبالتي ثماني أعين قبّحها الحسد. لابدّ أنهم ما يزالون أحياء، قلت لنفسي، ولم يخسروا كل شيء بعد.

«خاثينتا كورونادو» كررت على مسامعهم.

تبادل العجائز الأربعةُ النظرات. وكان يبدو على واحد منهم أنه زعيم المجموعة، كان بدينا وأملس تماما، ويبدو أنه مختلف عن نزلاء ذلك المأوى المرعب: يعيد إلى الأذهان مشهد نيرون وهو راض ومسرور، يدندن على القيثارة فيما تحترق روما تحت قدميه. ابتسم الإمبراطور في وجهي على طريقة النبلاء المتهكمة، فبادلته الابتسامة آملا أن يجيبني.

أشار إليّ العجوز بالاقتراب كأنه أراد أن يحدّثني على انفراد. ترددت في بادئ الأمر، ولكنني أطعت أوامره.

«هل تعلم أين أجد السيدة خاثينتا كورونادو يا سيدي؟» سألته مرة أخرى.

قرّبت أذني إلى فمه ولفحتني رائحة قاتلة. لم يعضّني لكنه أطلق ضراطا بنغمة ساخرة فانفجر أصحابه بالضحك وهم يصفقون. عدت إلى الخلف لكنني تقززت من تلك الرياح السامة على أية حال. وحينها انتبهت لوجود كهل يثني جذعه ويتكئ على عكازه ولحيته طويلة كأنه نبي وشعر رأسه خفيف وعيناه تلمعان وهو ينظر إلى أولئك العجائز باحتقار واضح.

«أنت تهدر وقتك يا فتى. خوانيتو لا يعرف إلا الضراط ليضحك الآخرون ويشتمّون الرائحة المقيتة. هذا المأوى الاجتماعي لا يختلف كثيرا عن العالم الخارجي كما ترى.»

كان الفيلسوف العجوز يعبّر بنبرة متوازنة ولغة فصيحة. راح يحدق فيّ وهو يفحصني.

«أنت تبحث عن خاثينتا إن لم أُسئ الفهم.»

لم أصدق ما سمعته أذناي. إنّه تجسيد حقيقي لكائن حيّ لم يفقد رشده في ذلك الكهف المخيف.

«لماذا تبحث عنها؟»

«أنا حفيدها.»

«أتحسبني غبيا؟ أنت كاذب كبير هذه هي حقيقتك. قل لي لماذا تبحث عنها وإلا تظاهرت بالجنون. فهذا ليس صعبا هنا ولا تتوهم بأنك ستحصل على معلومات من هؤلاء المهابيل.»

كان خوانيتو ومريدوه ينثنون من الضحك. وجاد علينا العازف المنفرد بقطعة ثانية مُطلقا عيارا أقل ضجيجا وطولا من الأول، عيارا أشبه بالأزيز الذي يرافق ثقب الإطار المطاطي. وقد كان تحكّمه في تلك الغازات موهبة حقيقية، عليّ أن أعترف. استسلمت للصراحة.

«هذا صحيح. لست قريبها ولكنني في حاجة إلى التحدث إليها. إنها مسألة في غاية الأهمية.»

دنا الكهل منّي. كانت له نظرة هرّ ماكر وابتسامة طفل في غاية الدهاء.

«هل بوسعك أن تساعدني؟» توسلت إليه.

«هذا إذا أسديت لي معروفا أنت أيضًا.»

«بكل سرور إن كان بإمكاني. هل تريدني أن أحمل رسالة إلى عائلتك؟»

ضحك الكهل بمرارة.

«عائلتي هي التي أدخلتني إلى هنا. إنهم كالعلق الذي يمتص الدماء، أوغاد يسرقون الموتى إن تسنى لهم ذلك دون أن تهتز ضمائرهم. كم سأكون سعيدا لو رأيتهم يدخلون الجحيم أو يدفنون في مقبرة جماعية. لقد ساندتهم وتحمّلتهم سنواتٍ من العمر. كلاّ. إنما أريد امرأة.»

«ماذا؟»

نظر إليّ فاقدا صبره.

«عمرك الصغير لا يبرر غباءك يا فتى. قلت لك إنني أريد امرأة. أنثى، مهرة أصيلة. شابة تحت الخمسين من عمرها تتمتع بصحة تامة دون جروح أو كسور.»

«لست متأكدا من أنني فهمت…»

«بل فهمت قصدي جيدا. قبل أن أرحل إلى العالم الآخر أريد أن أنكح امرأة لم تسقط أسنانها ولا تتبول على نفسها. لا يهم إن كانت قبيحة فأنا شبه أعمى بطبيعة الحال. في أرذل العمر نرى في أي أنثى مكتنزة صورة فينوس وقد قامت من جديد. هل كان كلامي واضحا؟»

«واضح ككتاب مفتوح. ولكنني لا أعلم أين بوسعي أن أجد لك امرأة…»

«في زمني كانت الدولة تقدّم فرص عمل للغانيات. أعلم جيدا أن العالم تغير اليوم، ولكن من المستحيل أن تتعرض عناصره الجوهرية إلى التبدل. جد لي واحدة مكتنزة يملؤها الشبق وننهي الصفقة. وإن كنت تراني عاجزا عن مضاجعة امرأة، فاعلمْ أنني سأكون في غاية السعادة لو تلمست مؤخرتها أو تمعّنت في مزاياها فقط. وهذا بفضل الخبرة.»

«وفر عليّ التفاصيل. لست قادرا على إيجاد امرأة فورا.»

«ربما كان اللعاب يسيل من فمي لكنني لم أفقد عقلي. أعلم جيدا. يكفيني وعدك.»

«وإن تظاهرت بأنني سأوفي به كي أعلم أين أجد خاثينتا كورونادو فقط؟»

ابتسم الكهل ابتسامة خبيثة.

«اعطني وعدا ودعني أعذّب ضميرك.»

نظرت حولي: كان خوانيتو على أتمّ الاستعداد لإطلاق سيمفونية أخرى. فلم أجد لديّ خيارًا آخر. ومن جهة أخرى فإن هذا الطلب أكثر شيء له معنى في ذلك الجحيم.

«أعطيتك وعدي. سأفعل ما بوسعي.»

ابتسم الكهل ابتسامة عريضة تتأرجح من أذن إلى أخرى وتكشف عن ثلاثة أسنان فقط.

«شقراء، أو صهباء لا يهم. نهدان بارزان، ذات صوت رنان إن أمكن، فحاسّة السمع هي الوحيدة التي تعمل عندي.»

«سأحاول أن أرضيك. ولكن قل لي الآن أين أجد خاثينتا كورونادو.»

31

«ما الذي وعدت به جدّ نوح هذا؟»

«ألم تسمع؟»

«آمل أنك كنت تمزح.»

«لم أكن لأخدع كهلا بائسا على حافة قبره، حتى لو كان قليل الحياء.»

«هذا شرف لك يا دانيال، ولكن كيف تفكر بأن تدخل إليه عاهرة وهو في هذا الفندق العفيف؟»

«بأن أدفع ثلاثة أضعاف الأجر، كما أظن. ستتكفل أنت بالتفاصيل.»

استسلم فيرمين وأنهض كتفيه.

«حسنا، وعد الحر دين. سيخطر في بالنا شيء ما. ولكن في المرة القادمة حين تباشرُ مفاوضات من هذا النوع دعني أتحدث.»

«موافق.»

وكما فصّل لي الكهل المضحك بالضبط، كانت خاثينتا كورونادو تقيم في العلية الموصولة بسلم كبير في الطابق الثالث. كان ذلك المكان، وفقا لمزاعم الكهل، ملاذا للنزلاء القلائل الذين لم يتفضل عليهم القدر بفقدان الرشد أو الصواب، ولكنه يخصّهم بنعمة تقليص أعمارهم. في قديم الزمان كان ذلك الجناح المنعزل يحتوي على غرف بالتازار ديولوفيو، المشهور بلاسزلو دي فيشيرني، للقيام بنشاطات «سرداب الظلام». هناك حيث يجمّع المشعوذ أرقى التقنيات الجنسية الآتية من الشرق من أبخرة وزيوت معطرة. ولم يبق من عنفوان تلك الحقبة الغامضة إلا الشذى والعطور، حتى لو كانت من طبيعة مختلفة كليا. كانت خاثينتا كورونادو غافية على كرسي الخيزران متّشحة بالغطاء.

«السيدة كورونادو؟» قلت بصوت مرتفع مفترضا بأنها صماء أو فاقدة رشدها أو كلا الأمرين معا.

نظرت إلينا العجوز بحذر وشكّ. كانت نظراتها ضبابية ورأسها مشتعل بخصلات شيباء. لاحظت أنها تنظر إليّ بغرابة كأنها قد رأتني سابقا ولم تعد تذكر أين. خشيت أن يقدّمني فيرمين بوصفي ابن خوليان كاراكس أو شيئا كهذا، لكنه جثم على ركبتيه بقربها وصافح يدها المرتجفة التي أتلفتها التجاعيد.

«خاثينتا، أنا أدعى فيرمين وهذا الفتى دانيال. أرسلنا إليك صديقك الأب فرناندو راموس لأنه لم يستطع المجيء اليوم لزيارتك فعليه أن يُقيم اثنتي عشرة خطبة وصلاة وأنت تعلمين ضيق وقته بكل القديسين الذين يملؤون التقويم. لكنه يرسل إليك أحرّ تحياته. كيف حالك؟»

ارتسمت ابتسامة عذبة على شفتيها. وداعب فيرمين وجهها وجبينها فأغمضت عينيها كالقطة. لم أستطع أن أبتلع ريقي.

«يا لهذا السؤال الغبي، أليس كذلك؟» تابع فيرمين. «إنني متأكد أنك في هذه اللحظة تودين أن تذهبي للرقص حقا. فلديك ساقا راقصة وأعتقد أنني لست أول من يلاحظ ذلك.»

لم أره أبدا يتعامل مع أحد بهذا الحنان، حتى مع برناردا نفسها. كان مجرّد كلام لكن صدقه معبّرٌ ونبرته مقنعة.

«يا لكثرة المجاملات» همست العجوز بصوت متردد لمن لم يعتد على الكلام أو ليس لديه ما يقول.

«تستحقين أكثر مما قلت يا سيدة خاثينتا. هل بوسعنا أن نطرح عليك بعض الأسئلة؟ كتلك التي يطرحونها في منافسات الراديو، هل سمعت بها؟»

حرّكت العجوز رأسها كردِّ ليس متوقعا.

«أفهم من هذا أنك موافقة. هل تذكرين بينيلوب يا خاثينتا؟ بينيلوب آلدايا. نود أن نسألك عنها.»

أشرقت نظراتها.

«ابنتي» غمغمت وأوشكت على البكاء.

«بالضبط. تذكرينها أليس كذلك؟ نحن أصدقاء خوليان كاراكس. الشاب الذي كان يكتب قصص الرعب. تذكرينه هو أيضا، صحيح؟»

كانت عيناها تلمعان: يبدو أن كلمات فيرمين ولمساته الحنونة تمدّها بالقوة شيئا فشيئا.

«قال لنا الأب فرناندو في مدرسة سان جبريل إنك تكنّين خالص المودة لبينيلوب. إنه يعزك كثيرا يا خاثينتا ويذكرك كل يوم كما تعلمين. إن كان يتغيّب عن زيارتك غالبا فهذا لأنه الأسقف الجديد. يثير الشفقة فهو يقيم الخطب والصلوات حتى يبحّ صوته.»

«هل أنت تأكل بما فيه الكفاية؟» سألته العجوز.

«إنني آكل بنهم شديد يا خاثينتا ولكنني أهضم بسرعة. بأية حال ثيابي تخفي جسما مدججا بالعضلات. تلمّسيها إن أردت. إنني مثل شارلز آتلاس، ولكنني مشعر أكثر منه.»

بدت خاثينتا مطمئنة. كانت تنظر إلى فيرمين حصرا وكأنها نسيت وجودي.

2021/06/22 · 80 مشاهدة · 2689 كلمة
نادي الروايات - 2025