ما الذي يمكنك أن تخبرينا به عن بينيلوب وخوليان؟» قال.
كنت على وشك أن أتدخل لكنه أوقفني بنظرة منه.
«من سلب منك بينيلوب يا خاثينتا؟ هل تذكرين؟»
«السيد» قالت وهي ترفع عينيها إلى السماء كأنها تخشى أن يسمعها أحد ما.
لحقت نظراتُ فيرمين بنظراتِها.
«هل تقصدين بالسيد الله عزّ وجلّ رب السموات والأرض أم السيد ريكاردو آلدايا والد بينيلوب؟»
«كيف حال فرناندو؟» سألتْ.
«الراهب؟ إنه بأحسن حال كأزهار الربيع. ويرسل إليك أطيب الأمنيات. قد يصبح بابا بين عشية وضحاها وينقلك للسكن في الفاتيكان.»
«إنه الوحيد الذي يأتي لزيارتي. ويعلم أنني أمسيت وحيدة في هذه الدنيا.»
نظر إليّ فيرمين بطرف عينه ففهمتُ أن الفكرة ذاتها تجول في رأسينا معا. كانت خاثينتا عاقلة أكثر مما كنا نتصور. لاشكّ أن جسدها كان ينطفئ لكن قلبها وذهنها لم يفقدا القدرة على الألم حتى تلك اللحظة. ومن يدري كم يحتوي ذلك الجحيم على سجناء من العجائز مثلها ومثل ذلك الشهواني الذي دلنا على مكانها.
«إنه يعزّك ولهذا يأتي لزيارتك يا خاثينتا لأنه مازال يذكر الوجبات التي كنت تحضّرينها له عندما كان تلميذا. لقد قص علينا هذا. هل تذكرين يا خاثينتا؟ هل تذكرين عندما كنت تأخذين خورخي إلى المدرسة، وتلتقين بفرناندو وخوليان؟»
«خوليان…»
اتسم صوتها بالعذوبة في حين خذلتها البسمة الهنيئة.
«هل تذكرين خوليان كاراكس؟»
«أذكر اليوم الذي قالت لي بينيلوب بأنها قد تتزوج به…»
صُعقت أنا وفيرمين وتبادلنا نظرة حائرة.
«تتزوج به؟ متى حدث ذلك يا خاثينتا؟»
«في المرة الأولى التي رأته. كان عمرها ثلاثة عشر عاما ولم تكن تعرف بعد من هو ولا اسمه حتى.»
«وكيف لها أن تعرف بأنها ستتزوج به إذن؟»
«لأنها رأته… في الحلم.»
في طفولتها كانت ماريا خاثينتا كورونادو على اقتناع بأنّ أبواب طليطلة هي حدود العالم، ولا شيء بعد تلك الأبواب إلاّ الظلمات والسراب وبحار الجحيم. جاءتها هذه الفكرة في الحلم عندما كان عمرها أربعة أعوام خلال نوبة حمّى قاسية كادت تتسبّب في مصرعها. وبدأت أحلامها بعد ذلك المرض الغامض الذي نسبه البعض إلى لدغة عقرب أحمر ضخم ظهر ذات يوم في البيت ثم اختفى في العدم، بينما عزاه الآخرون إلى راهبة شريرة كانت تدخل البيوت ليلا كي تسمّم الأطفال وماتت بعد عدة أعوام إعداما بالمخنقة18، وهي تتلو الصلاة الربّية بالمقلوب19 وعيناها تخرجان عن مداريهما بينما تتلبد السحب الحمراء فوق المدينة ويهطل عليها وابل من الصراصير الميتة. كانت خاثينتا في أحلامها ترى الماضي والمستقبل وفي بعض الأحيان تصلها أسرار أزقة طليطلة القديمة وألغازها. ولطالما تراءت لها شخصية غامضة تدعى زكريا، ملاك يلبس وشاحا أسود ويرافقه دوما قط داكن اللون بعينين صفراوين وتفوح منه رائحة الكبريت. كان زكريا يعرف كل شيء. تنبأ لها بموعد وفاة عمّها فينانسيو باليوم والساعة، فينانسيو البائع المتجول الذي يبيع المراهم والمياه المباركة. وأظهر لها المكان الذي تخفي فيه أمّها الورعة رسائل طالب الطب الفقير صاحب المعارف التحليلية الثابتة، في غرفة من زقاق سانتا ماريا حيث تذوقت أسرار النعيم. صرّح لها زكريا بأنّ روحا ميتة وخبيثة تقيم في بطنها، وبأنّها ستجرّب الحبّ مع رجل واحد فقط وسيكون حبا أنانيّا يحطّم فؤادها. قال لها إنّها ستشهد موت أغلى شخص على قلبها وإنّها قبل أن تبلغ السماء كانت ستمر من جهنم لا محالة. وعندما جاءتها أولى دوراتها الشهرية اختفى الملاك زكريا وقطه الكبريتي من أحلامها، لكنها ظلت تذكر زيارات الملاك الأسود لأن كل تنبؤاته وقعت بالفعل لسوء الحظ.
ولهذا لم تستغرب البتة عندما أخبرها الأطباء بأنها لن ترزق بأولاد. ولم تستغرب حتى عندما هجرها زوجها بعد ثلاثة أعوام من الزواج، مع أنها تألمت كثيرا، ليعاشر غيرها وهو ينعتها بأنها ليست امرأة بل شجرة بخيلة لا تهب الفواكه. وفي غياب زكريا (الذي كانت تراه رسولا من السماء وملاكا مباركا رغم أنه يرتدي اللون الأسود، بل كان أوسم رجل رأته وحلمت به)، كانت خاثينتا تناجي الله في وحدتها دون أن تراه أو تنتظر منه ردا. فالحياة وادٍ من الدموع، ودموعها في نهاية المطاف ليست سوى قطرة في محيط. كان لمونولجها الخاص موضوع واحد: خاثينتا تريد أن تصبح أما.
ذات يوم، وبينما كانت تصلي في الكاتدرائية، اقترب منها رجل تعرّفت في ملامحه إلى زكريا. وكالعادة، كان يلبس اللون الأسود ويحمل بين ذراعيه قطه الشيطاني. لم يكن قد شاخ مطلقا بل كانت أظفاره رائعة طويلة ومبرومة كأنها أظفار أميرة. أخبرها الملاك بأنّ الله لم يكن ينوي أن يجيب على توسلاتها ولهذا أرسله هو ليقول لها إنها سوف تحصل على المخلوق التي لطالما رغبت فيه كثيرا بطريقة أو بأخرى. انحنى عليها وهمس في أذنها كلمة «تيبيدابو» ولثم ثغرها برقة. وما إن لثمتها تلك الشفاه الناعمة بنكهة الكراميل حتّى تجلت أمام خاثينتا رؤية ضبابية: ستُرزق ببنت دون حاجة إلى التزوّج برجل (وهذا ما يبعث على الارتياح إذا ما فكرت في زوجها المصاب بالربو وهو يغطي رأسها بالمخدة ويقول لها «لا تنظري أيتها القحبة»)، وسوف تستلم تلك الهبة في مدينة بعيدة جدا تزدان بين جبال شاهقة وبحر متلألئ، مدينة تلمع فيها واجهات الأبنية بهاء وزهوا. لم تكن خاثينتا لتحدد إن كان زكريا قد ظهر في الحلم أم أنه اقترب منها فعلا في كاتدرائية طليطلة مع قطه وأظفاره القرمزية. ولكنها لم تكن لتشك في حقيقة تنبؤاته. في ذلك المساء نفسه استجوبت شماس الكاتدرائية وهو رجل متعلم ويعرف العالم (يقال إنه وصل حتى أندورا ويجيد الباسكية). أصغى الشماس باهتمام إلى رؤى خاثينتا، مع أنه لم يذكر وجود ملاك يدعى زكريا. وبعد أن فكر مطولا، معتمدا بالأخص على وصف كاتدرائية غريبة تبدو كقالب مرتفع من الشوكولا، كما قالت المرأة، قال لها: «يا خاثينتا لقد رأيت برشلونة المدينة الفتانة الآسرة، وتلك الكنيسة هي كاتدرائية العائلة المقدسة». انطلقت خاثينتا إلى برشلونة بعد أسبوعين، حاملة معها صرة كبيرة وكُتيبا دينيا وابتسامة هي الأولى منذ خمسة أعوام، انطلقت وهي على يقين بأن نبوءة الملاك سوف تتحقق.
وبعد أشهر من الحوادث العصيبة وجدت خاثينتا عملا في أحد محلات شركة آلدايا، قُرب أروقة المعرض الدولي في سيوداديلا. وأثناء ذلك باتت ناقمة على برشلونة التي كانت تحلم بها، إذ رأت فيها المباني مكدسة وموصودة بحواجز منيعة والمصانع تنفث الكربون وغاز الكبريت فتفسد الأجواء. ومنذ اليوم الأول، أدركت خاثينتا أن هذه المدينة لها طباع المرأة، مغرورة ومستبدة، فتعلمت أن تخشى جانبها وألا تتحداها. كانت تعيش وحيدة في نزل رديء في ريبيرا حيث يكاد معاشُها لا يسمح لها بأن تدفع إيجار غرفة بلا نوافذ وتضيئها بقناديل سرقتها بنفسها من الكاتدرائية، تتركها موقدة طوال الليل كي ترعب الجرذان بعد أن التهمت أذني ابن رامونيتا العاهرة التي تعيش في الغرفة المجاورة وهي الوحيدة التي بنت معها صداقة خلال أحد عشر شهرا من وصولها إلى برشلونة. كانت السماء تمطر كل يوم في ذلك الشتاء، أمطارًا سوداء من رواسب الدخان والزرنيخ. وخشيت خاثينتا أن يكون زكريا قد خدعها إذ كادت تموت من البرد والجوع والوحدة في تلك المدينة المريعة.
وكي تحصل على كفاف يومها، كانت تذهب إلى العمل قبل الفجر ولا تخرج إلا بعد حلول الليل. وكان الدون ريكاردو يراها بينما ترعى ابنة أحد مدرائه التي أصيبت بالهزال. أثارت حركاتها الفائضة بالحنان مشاعره فقرر أن يأخذها إلى بيته كي تخدم زوجته الحامل بأول ولد سيأتيه. تحققت دعوات خاثينتا إذن. وفي تلك الليلة ظهر الملاك زكريا في الحلم ثانية. لم يعد يتشح بالسواد بل كان عاريا وجلدُه مليئا بالحراشف. لم يظهر قطه بل ثمت أفعى بيضاء تتدلى على كتفيه. طال شعره حتى خصره وزالت ابتسامته الرغيدة، بنكهة الكراميل التي لثمتها في كاتدرائية طليطلة، وكشف عن مجموعة من الأسنان المثلثة كأسنان السمك في أعالي البحار وهو يحرك ذيله على صناديق السوق. بعد عدة أعوام، أرادت خاثينتا أن تحكي رؤاها لفتى في الثامنة عشرة من عمره، يدعى خوليان كاراكس، دون أن تنسى أنها، عندما تركت الغرفة في نزل ريبيرا كي تنتقل إلى قصر آلدايا، علمت بمقتل صديقتها طعنا في تلك الليلة أمام البوابة ومات الصغير بردا بين ذراعي الجثة. وعندما ذاع الخبر، تقاسم النزلاء أملاك المرحومة القليلة. الغرض الوحيد الذي لم يأخذه أحد كان بمثابة كنزها الأغلى على قلبها: كتاب. وكانت خاثينتا تعرفه جيدا لأن رامونيتا الأمية كانت تطلب منها بين الحين والآخر أن تقرأ عليها صفحة منه أو اثنتين.
وبعد أربعة أشهر ولد خورخي آلدايا وأدركت خاثينتا بأنه ليس المخلوق الذي وعدها به زكريا، لكنها أقسمت أن تمنحه كل المحبة التي لا تعرف أمه كيف تمنحها لطفلها، فهي مجرد سيدة متيمة بانعكاس وجهها في المرآة. ومنذ تلك اللحظة تركت خاثينتا أيام شبابها خلف ظهرها وأصبحت امرأة لا تذكر من ماضيها إلا اسمها ووجهها. فخاثينتا الأولى ماتت في نزل ريبيرا مع رامونيتا. أما الآن فهي خاثينتا أخرى تعيش تحت جناح آلدايا المترف وبعيدة عن المدينة القاسية، المدينة التي كرهتها إلى درجة أنّها لا تُقضّي فيها يوم عطلتها الوحيد في الشهر. تعلمت أن تعيش عبر الآخرين، مع تلك العائلة التي حالفها الحظ الذي لم تكن تفهم آلية عمله. ولكنّها كانت تعيش في انتظار الطفلة، الأنثى كالمدينة، الطفلة التي ستغمرها بفائض حنانها. وبين الحين والآخر تتساءل خاثينتا ما إذا كانت السعادة شيئا آخر غير السكينة التي نعمت بها خلال تلك الأيام الوديعة، وتتوهم أن الله في رحمته الواسعة يسمع تضرعاتها.
ولدت بينيلوب آلدايا في ربيع عام 1902. وكان الدون ريكاردو قد أصبح مالكا للقصر في شارع تيبيدابو، وتهامس الخدم عن القصر كيف يبدو فريسة للعنة شريرة. لكن خاثينتا لم تكن تخاف لأنها تعرف كيف تفسّر كل شيء بما كانت هي وحدها القادرة على رؤيته: ظِلُّ زكريا بعد أن فقد سمات الملاك وبات أشبه بذئب يمشي على أرجله الخلفية.
كانت بينيلوب طفلة ناعمةً، هزيلةً، غضّةَ العود. فقضّت خاثينتا السنوات الطوال وهي تسهر على نومها، وتطبخ شخصيا كل أطباقها وتخيط ثيابها. كانت بجانبها بما لا يعد ولا يحصى من المرات التي اعتلّت فيها المسكينة، بجانبها حين لفظت كلماتها الأولى، وبجانبها حين أصبحت شابة يانعة. ولم تكن السيدة آلدايا إلا واحدة من الزخرفات الكثيرة التي تملأ القصر. فكل مساء، قبل أن تخلد للنوم، تذهب إلى غرفة بينيلوب كي تقول لها إنها تحبها أكثر من أي شيء في العالم. ولم تكن المربية تقول للطفلة أبدا إنها تحبها لأنها كانت تعرف أنّ المودّة بلا صوت، بل تظهر من تلقاء نفسها، بالفعل وليس بالقول. وكانت خاثينتا في سرّها تحتقر السيدة آلدايا لأنها امرأة حمقاء يتقدم بها العمر على ثقل الحلي والمجوهرات التي يشتري بها زوجها سكوتها حين يرسو في موانئ أخرى. كانت تحقد عليها لأن الله اختارها من بين النساء لتلد بينيلوب بينما بطنها، بطن الأم الحقيقية، كان فارغا وقاحلا. وأخذت خاثينتا تخسر جسدها شيئا فشيئا، حتى شكل الأنثى خسرته، وكأن كلام زوجها السابق كان نبوءة. ضمر جسمها وصارت معالمها توحي برجل متقشف أنهك الزمان جلده وأرخى عظامه. وتسطّح ثدياها حتى استويا بعظام صدرها، وبدت مؤخرتُها مؤخرّةَ شابّ نحيف وصار لحمها خشن الملمس تزدرديه نظرات الدون ريكاردو الذي كان خبيرا بشؤون النساء، الأمر الذي تعرفه حق المعرفة كل الخادمات في قصره وخادمات أصدقائه وأقاربه. هكذا أفضل، تقول خاثينتا لنفسها. فلم يكن لديها الوقت للّهو والشقاوة.
كانت بينيلوب تأخذ كل اهتمامها ووقتها. تقرأ لها وترافقها في أي مكان، تُغسّلها وتُلبسها الثياب وتنزعها عنها وتمشط شعرها وتأخذها للتنزه وتضعها على السرير وتوقظها، ولكن أهم شيء كانت تفعله هو الحديث إليها. كان الجميع يعتبرها مُربّيةً غريبةَ الأطوار، عانسًا ليس لديها في الحياة غير عملها ولا أحد كان يعرف حقيقتها: لم تكن خاثينتا أمّ بينيلوب فحسب بل كانت أفضل صديقاتها أيضا. منذ اليوم الذي بدأت فيه الصغيرة في الكلام والتعبير عن أفكارها، وهذا ما حدث مبكرا جدا، كن يتبادلن الأسرار والأحلام ويتقاسمن الحياة.
ومع الوقت اشتد الرابط بينهما وعندما بلغت بينيلوب سن المراهقة باتتا رفيقتين لا تفترقان. راحت الطفلة الوديعة في صغرها تشبّ لتصبح امرأة مشعّة الجمال. بل كانت جميلة كشعاع الشمس. إلا أن وصول ذلك الشاب الغامض، خوليان، إلى قصر آلدايا، وضع خاثينتا في حيرة من أمرها. وسرعان ما أدركت أنّ بينه وبين بينيلوب ومضةً مغناطيسية ورباطًا مميزًا يشبه ذلك الذي يصلها هي ذاتها بالفتاة لكنه مختلف في الوقت نفسه. كان أكثر كثافة، وأكثر خطورة أيضا. فكرت في البدء أن تدخل في نزاع عميق مع ذلك الفتى، ولكنها سرعان ما فطنت إلى أنها لا تكنّ له البغضاء مطلقا، ولم تكن لتستطيع أن تكرهه في يوم من الأيام أبدا. كانت بينيلوب تقاوم سحر خوليان كاراكس وخاثينتا تسمح لنفسها بدخول تلك القصة لتشارك الفتاة رغباتها ليس إلا. لم يفطن أحد لما كان يجري، لكن القدر كالعادة كان يحيك أحداثه في الخفاء، وعندما بدأت القصة كانت النهاية قد كُتبت مسبقا.
لقد مضت أشهر كثيرة بين تبادل النظرات وحبس الأنفاس قبل أن ينجح خوليان كاراكس في لقاء بينيلوب آلدايا على انفراد. كانت لقاءاتهما من صنع الصدفة: يتلامسان في الممرات وينظر أحدُهما إلى الآخر على المائدة، ثم يحلم كل منهما بالآخر. تحدثا للمرة الأولى في صالة مكتبة البيت في مساء عاصف تتوهج فيه أنوار الشمعدانات المرتجفة في فيلا بينيلوب. اختلس خوليان لحظة من الزمان كافية ليرى في عينيها ذلك اللهيب الذي يضرم النار بمهجته. ولم ينتبه أحد لهذا أيضا، لا أحد سوى خاثينتا التي كانت تشاهد بقلق متصاعد لعبة النظرات بينهما وتخشى أن يصيبهما مكروه.
في الليل كان خوليان يؤلف قصصا من وحي غرامه ببينيلوب. ثم يخترع حجة ما كي يعرج إلى القصر في شارع تيبيدابو وينتظر الفرصة لينسلّ إلى غرفة خاثينتا ويوصيها بأن تنقل أوراقه التي كتبها إلى الفتاة. وكانت المربية أحيانا تسلمّه بطاقة من بينيلوب يظل الفتى يقرؤُها ويقرؤُها إلى ما لا نهاية. وامتدت تلك اللعبة شهورا بينما كان القدر يتآمر خلف ظهرهما، فيسلك خوليان دروبا وعرة ليتقرب من بينيلوب وتساعده خاثينتا لتسعد قلب ابنتها حبيبة قلبها. قرر خوليان، من جهة أخرى، أن يضحي بشخصيته على مذبح المنفعة. وشرع يكذب على الدون ريكاردو في ما يخص مشاريعه المستقبلية، ويظهر اهتماما بالعمل في المصارف وعالم الأموال، ويتصنع مودة زائفة لصديقه خورخي آلدايا كي يبرر وجوده المستمر في بيتهم. وصار يقول ما يحلو للآخرين أن يسمعوا وحسب، فيتماهى مع آرائهم وتوقعاتهم. كان يشعر بأنه يبيع روحه ويخشى أن يتحقق حلمه فلا تجد بينيلوب إلا أطلال خوليان الميت. وكان السهاد يدفعه إلى التفكير في الصراخ أمام العالم بحقيقة أحاسيسه فيواجه الدون ريكاردو ليقول له إنه لا يهتم لكل ثرواته ومشاريعه ورفقته، بل يريد بينيلوب فقط ليأخذها معه إلى أبعد مكان ممكن عن ذلك العالم الفارغ الذي بات أسيرا له. لكنه يفقد كلّ شجاعته حالما تطلع الشمس.
ومن حين لآخر كان يبوح لخاثينتا التي تتعاطف معه أكثر فأكثر دون تحكّم في مشاعرها. وعندما كانت تصطحب خورخي إلى المدرسة، كانت تعطي خوليان رسائل من بينيلوب. وهكذا تعرّفت إلى فرناندو، الوحيد الذي سيتذكّرها بعد أعوام طويلة وهي تنتظر الموت في جحيم سانتا لوسيا، طبقا لتنبؤات الملاك زكريا. وفي بعض الأحيان كانت المربية تصطحب بينيلوب لتنغمس مع الفتى في لقاء قصير، وهي تشهد على حبّ تتفتح براعمه ولم تكن قد عرفت مثله يوما ولم يسمح لها القدر بأن تجرّبه. ولاحظت خاثينتا أيضا وجود الفتى الانطوائي، فرانثسكو خافيير، ابن أحد حراس سان جبريل. وفوجئت في أكثر من مناسبة بأنه يتجسس على العاشقيَن وهو يرمق الفتاة بعينين جاحظتين. وما انفكّت خاثينتا تحمل معها صورة التقطها ريكارينس، المصور الرسمي لآل آلدايا: صورة بريئة تجمع خوليان وبينيلوب، التُقطت على عتبة محل القبعات في روندا دي سان أنطونيو بحضور الدون ريكاردو وصوفي كاراكس.
وذات يوم بينما كانت تنتظر خورخي في باحة المدرسة، نسيت المربية حقيبتها قرب النافورة. وعندما عادت لتأخذها رأت أن الشاب فوميرو يطوف حولها بلا غاية. في تلك الليلة بحثت خاثينتا عن الصورة ولم تجدها، وأدركت أن الفتى سرقها. وبعد عدة أسابيع، اقترب فرانثسكو خافيير فوميرو من المربية ليتوسل إليها أن توصل إلى بينيلوب هدية منه. سألته خاثينتا عن الغرض فأخرج الصبي علبة تحتوي على شكل منحوت على خشبة أرز. رأت خاثينتا فيها قسمات بينليوب فأصابتها القشعريرة. ابتعد الفتى دون أن ينتظر إجابة. وفي طريق عودتها، رمت خاثينتا المنحوتة الصلبة من نافذة السيارة كما لو أنها جيفة كريهة الرائحة. ومنذئذ راحت خاثينتا تستفيق من نومها عند الفجر، وهي تستحم بعرقها إثر كابوس كدّر قلبها: ذلك الفتى بنظراته المتجهمة يندفع نحو بينيلوب بدم بارد كأنه حشرة.
وعندما كان خورخي يتأخر في الخروج من صفه، تبقى خاثينتا في انتظاره وهي تدردش مع خوليان. حتى هو أحس بدفء تلك المرأة الهزيلة حدّ التقشف، وصار يثق فيها أكثر من ثقته بنفسه. وكلما ألمّ به ضيق لجأ إليها أو إلى ميغيل مولينر ليكونا أول من يعلم بالأمر بل ويبقى الأمر سرّا عندهما. ذات مرة، أسرّ خوليان لخاثينتا بأنّه رأى أمه تتحدّث مع الدون ريكاردو آلدايا في باحة النوافير وهما ينتظران انصراف التلاميذ. وكان الدون ريكاردو مُستمتعًا برفقة صوفي على ما يبدو. وذلك ما تنبه له خوليان فهو يعرف درجة افتتان ذلك الرجل بمحاسن النساء جميعهنّ، مهما كانت طبقتهنّ الاجتماعية، عدا زوجته المصون.
«كنت أقول لأمك إنّ المدرسة الجديدة تعجبك كثيرا.»
كان الدون ريكاردو يودّعهما بحركة متآمرة ويبتعد ضاحكا. ظلت أمه ساكتة، طوال طريق العودة إلى المنزل، تشعر دون شك بالإهانة من المجاملات الشهوانية التي لابد للدون ريكاردو أن يتلفظ بها.
وكانت صوفي تستنكر علاقاته الوثيقة مع آل آلدايا، لأنّه بات لا يعير اهتماما لرفاقه القدامى في الحي ولا لعائلته، لكنها لا تنبس ببنت شفة. أما بائع القبعات فلا يخفي أوجاعه، وسرعان ما تبدد حماسه للحصول على زبائن من كبار برشلونة ونبلائها. وكان نادرا ما يلتقي بابنه واضطر أن يعيّن أحدَ فتيان الحيّ مساعدا له، وهو كويميت، رفيق خوليان القديم. كان أنطوني فورتوني يشعر بأنه في أحسن حال حين يتحدث عن القبعات فقط، ويُخبّئ مشاعره في حجرة مظلمة من قلبه حتى تفسد. صار جلف الطباع بسبب اضطرابه المتزايد، فالريح تأتي بما لا تشتهي السفن: لا ترضيه جهود كويميت المسكين الذي وضع كل طاقته ليتعلم المهنة، ولا محاولات صوفي في التقليص من ضراوة النسيان الذي شملهما به خوليان.
«الله أعلم ماذا يظنّ ابنكِ نفسه كي يصطحبه محدثو النعمة معهم كقرد السيرك» كان يقول بنبرة عابسة والعذاب يكوي قلبه.
وفي أحد الأيام، بعد حوالي ثلاث سنوات عن أول زيارة قام بها الدون ريكاردو إلى محل القبعات، أمر فورتوني مساعده أن يبقى في المحل لأنه سيذهب ولن يعود قبل منتصف النهار. ثم اتجه إلى شركة آلدايا في بازيو دي غراثيا وسأل عن الدون ريكاردو.
«ومن حضرتك يا سيدي؟» سأله موظف متعجرف.
«صانع قبعاته الشخصي.»
استقبله الدون ريكاردو. فاجأته الزيارة لكنه رحب به عموما، معتقدا أنّ فورتوني جاء يسلّمه بعض الفواتير. هيهات أن يتعلم صغار الكسبة اللباقةَ في عالم الأموال، قال لنفسه.
«ما الذي جئت به يا فورتوناتو العزيز؟»
ودون مقدمات شرح له أنطوني فورتوني إحباطه من خوليان وخيبة أمله.
«ابني يا سيد آلدايا فتى كسول، جاهل، عديم الموهبة وفاشل مثل أمه. سيبقى طائشا، صدّقني. ليس لديه شخصية ولا طموح. حضرتك لا تعرفه جيدا، لكنني أؤكد لك أنه بارع في خداع الغرباء وإيهامهم بقدرته على فعل أي شي وهو لا يعرف شيئا. إنه منافق. أعرفه أكثر من أي شخص آخر ورأيت أنه من واجبي إخبارك يا سيدي.»
أصغى الدون ريكاردو إلى كلام بائع القبعات جيدا.
«هل أنهيت ما عندك يا فورتوناتو؟»
ضغط التاجر الكبير على زر في منضدته وبعد ثوان معدودة ظهر الموظف الذي استقبل الرجل.
«السيد فورتوناتو سينصرف يا بالسيلس» قال. «هلا رافقته إلى المخرج؟»
احتقن بائع القبعات من لهجة آلدايا المتكبرة.
«لو سمحت يا سيد آلدايا، أدعى فورتوني وليس فورتوناتو.»
«لا فرق، فأنت في غاية التعاسة يا فورتوني. أرجو ألا تريني وجهك بعد اليوم.»
عندما صار مرة أخرى في الشارع، شعر فورتوني بأنه وحيدٌ طعنه الجميع غدرا وهجرانا. كان ضحية مؤامرة ما. بدأ الزبائن الذين وصلهم به آلدايا يبرقون الرسائل في الأيام اللاحقة، واحدة تلو الأخرى لإلغاء الطلبيات وتصفية الحسابات. وفي غضون أسبوع أرغم على تسريح كويميت فلا ضرورة لوجوده بعد اليوم. ثم إن التخلي عن هذا الفتى ليس خسارة، فهو كسول ومنافق أيضا، مثل الآخرين.
ومنذ ذلك اليوم انتبه الناس للسيد فورتوني وهو يشيخ وينعزل شيئا فشيئا وينفضّ الجميع من حوله. لم يكن يتكلم مع أحد، ويقضي الأيام في المحل ينظر إلى المارة بمزيج من الشوق والازدراء. ويواسي نفسه بالقول إن الأزياء تغيرت واستغنى الشباب عن القبعة، وأولئك الذين ما زالوا يلبسونها كانوا يتوجهون إلى محلات تبيع أغطية رأس رديئة وأقل سعرا وتناسب الأذواق المعاصرة. ويوما بعد يوم، راح محل قبعات فورتوني ينزلق في سبات من ظلال وسكون.
«كلكم تنتظرون موتي» كان يهذي باستمرار. «ربما يسعدكم أن أموت.»
ورغم أنه لم يكن على علم بذلك، فإنه كان يموت منذ وقت سابق حقا.
بات خوليان يعيش في عالم آلدايا بجانب بينيلوب، وهذا هو المستقبل الوحيد الذي يطمح إليه. تحابّا في السرّ قرابة السنتين، وكان هذا السر معرّضا للانكشاف في أية لحظة. بيد أن زكريا أحاط خاثينتا علما بذلك على طريقته الخاصة: فالظلال التي تهدد كُلاّ من خوليان وبينيلوب كانت تضيّق خناقها. حصلت على أول علامة في يوم من أبريل 1918. كان خورخي يتمّ عامه الثامن عشر وقرر الدون ريكاردو أن ينظّم (أو بالأحرى أعطى أوامره بتنظيم) حفلة عظيمة لم يكن ابنه يرغب فيها ولم يكن أبوه ليحضرها بسبب مؤتمر اقتصادي لا يؤجّل، وهو في الحقيقة لقاء في الجناح الأزرق من هوتيل كولون مع امرأة فتّانة قادمة من سان بطرسبرغ. أنيرت حديقة القصر بمئات الفوانيس تحضيرا للمناسبة وازدحمت بأعلام الزينة والأكشاك المتنقلة لاستقبال المدعوين.
كان من الوارد أن يحضر كل رفاق خورخي في المدرسة إلى الحفلة. وبناء على طلب خوليان تمّت دعوة فرانثسكو خافيير فوميرو أيضا رغم أن ميغيل مولينر أنذرهم بأن ابن حارس سان جبريل لن يكون سعيدا في جو كهذا. وبالفعل، بعد أن تلقّى فوميرو دعوة رسمية، رفضها. وحين علمت أمه السيدة إيفونا بما فعل خرجت عن صوابها. أليست فرصة مناسبة لتدخل في تلك الطبقة الاجتماعية كما كانت تتوهم دوما؟ ومن الطبيعي أن تكون الخطوة التالية دعوة خاصة من السيدة آلدايا لاحتساء قدح من الشاي مع المعجنات اللذيذة. قررت السيدة إيفونا إذن أن تستثمر الأموال القليلة التي يدّخرها زوجها من راتبه الشحيح كي تشتري لابنها طقم البحّار.
كان فرانثسكو خافيير يبلغ سبعة عشر عاما من عمره. وبدا بذلك الطقم ذي البنطال الأزرق القصير، الذي يعكس أذواق السيدة إيفونا الرفيعة، في مظهر غريب ومخزٍ. قبِل فرانثسكو خافيير الدعوة بعدما أجبرته أمه وقضى أسبوعا كاملا وهو ينحت قاطعة ورق خشبية كهدية لخورخي. وفي يوم الحفلة، أخذت السيدة إيفونا على عاتقها أن تصطحب الولد حتى عتبة قصر آلدايا. كانت تريد أن تتنفس هواء نبيلا وتشهد عن كثب كيف يدخل فلذة كبدها ظافرا إلى تلك القاعات الملكية التي ستنفتح لأجلها عمّا قريب. وعندما حانت لحظة ارتداء طقم البحار، انتبه فرانثسكو خافيير أن القياس ضيّق عليه. فارتجلت أمه بعض التعديلات كانت كافية لتأخّر وصولهما إلى الحفلة. وفي تلك اللحظات، تبع خوليان ببينيلوب إلى المكتبة حيث يستحيل أن يصادفهما أحد من ممثلي الطبقة الرفيعة الأنيقة والمثقفة، لينتهز الجلبة وغياب الدون ريكاردو (الذي كان يحتفل على طريقته في مكان آخر وهو يُثني على أفضل ما أنجبه العرق السلافي). كانا في عجلة من أمرهما وتبادلا أكبر عدد من القبلات فلم ينتبها إلى الثنائي الذي كان يقترب من القصر: فرانثسكو خافيير مرتديا زي البحار الصغير كأنه ذاهب لأداء المناولة الأولى في الكنيسة وقد احمرّ وجهه خجلا برفقة السيدة إيفونا التي فتشت في خزانتها عن قبعة كبيرة مزركشة بشرائط تليق بلون الفستان المليء بالثنايا والأكاليل ما يجعلها تبدو مثل بسطة حلويات شعبية أو كالجاموس البيسوني متنكّرا بشخصية مدام ريكامييه، على حد تعبير ميغيل حين رآها. كان هنالك اثنان من الخدم يستقبلان الضيوف عند المدخل. انتفخ صدر السيدة إيفونا وصرحت بوصول ابنها الدون فرانثسكو خافيير روميرو دي سوتوسيبايوس. لم يتعجب الرجلان وأجاباها بتهكم أن هذا الاسم لا يعني لهما شيئا. أبدت السيدة إيفونا انفعالها وطلبت من ابنها أن يظهر بطاقة الدعوة. ولكن لسوء الحظ خانتهما العجلة في ترتيب الطقم ونسيا البطاقة على طاولة الخياطة.
حاول فرانثسكو خافيير أن يشرح سوء الفهم لكنه تلعثم واشتدّ حياؤُه مع قهقهات الخدم الساخرة. طلبا من الأم وابنها أن يتنحيا عن الصف. فوبختهما السيدة إيفونا قائلة إنهما لا يعرفان مع من يتعاملان، فقال لها الرجلان إن وظيفة غسل الأطباق لم تكن شاغرة. رأت خاثينتا الفتى خافيير، من نافذة غرفتها، وهو يبتعد ثمّ تفاجأت به يتوقف على حين غرة، ويعود أدراجه غير مكترث لفضيحة أمه وهي تملأ الدنيا صراخا بالشتائم المهدورة على أولئك الخدم المتعجرفين. لقد رآهما: كان خوليان يقبّل بينيلوب أمام واجهة المكتبة الزجاجية. وكانت قبلاتُهما قبلات عاشقين متيمين ولا يعيران انتباها للعالم بأسره.
وفي اليوم التالي، خلال استراحة منتصف النهار، وصل فرانثسكو خافيير إلى الباحة فجأة. شاعت فضيحة أمه في المدرسة كلها وسخر التلاميذ منه بتأليف النكات على طقم البحار الذي ارتداه أمس. لكن البهجة العامة تبدّدت على حين غرة حين لاحظوا أن الفتى يحمل بندقية والده بين ذراعيه. حلّ السكوت وتزحزح الكثيرون عن المكان عدا مجموعة الأصدقاء المؤلفة من آلدايا ومولينر وفرناندو وخوليان. ودون أن يدلو بكلمة، رفع فرانثسكو خافيير البندقية وصوّب نحو الهدف. أفاد الشهود بأن وجهه كان مُكفهرّا مثلما يكون عادةً وهو يجمع الأوراق اليابسة في الحديقة. لامست أولى الطلقات رأس خوليان. وكادت الثانية تخترق حلقه لو لم يقفز ميغيل على ابن الحارس وينتزع البندقية من بين يديه. انصعق خوليان وتجمد في مكانه. إذ توقع الجميع أن يكون الهدف خورخي آلدايا، المسؤول غير المباشر عن المذلة التي مُني بها في اليوم السابق. ووصلت الشرطة فيما بعد وتمّ طرد الحارس وعائلته، فاقترب ميغيل من خوليان وقال له بكل تواضع إنه أنقذ حياته. لكن خوليان لم يكن يتصور أن تلك المرحلة من حياته كانت في نهاياتها.
كان خوليان ورفاقه سيتركون مدرسة سان جبريل عمّا قريب. وكان كل واحد منهم قد درس مشاريعه للعام المقبل أو تدبّر أمره مع عائلته. فخورخي يعلم أن أباه سيوفده للدراسة في بريطانيا، وميغيل سيسجل في جامعة برشلونة. أما فرناندو راموس فأعرب عن رغبته في الدخول إلى المعهد الديني، ورحب جميع الأساتذة بهذا القرار ورأوه خيارا عقلانيا يتناسب مع وضعه الخاص. أما فرانثسكو خافيير فوميرو فلم يُعرف عنه إلاّ دخوله سجن القاصرين في فالي دي آران، بشفاعة الدون ريكاردو آلدايا، لإعادة تأهيله هناك حيث كان ينتظره شتاء طويل. تساءل خوليان عن مصيره حين رأى رفاقه يختارون دروبهم. فكانت أحلامه وتطلعاته الأدبية تبدو له هشة يوما تلو يوم. ولم يكن يرغب في شيء إلا العيش بجانب بينيلوب.
وبينما كان خوليان يفكر في مستقبله، كان الآخرون يخططون له نيابة عنه. فقد خصص له الدون ريكاردو وظيفة في أحد مصانعه. وقرر أنطوني فورتوني ألاّ يعيش ابنه على عاتقه إذا كان لا ينوي العمل في محل القبعات. بل وكان يخطط سرّا لتجنيده في الجيش عسى أن يشفيه شقاءُ بعض السنين من طاعون الكبرياء. وكان خوليان يجهل كلا المشروعين، وحين اطلع عليهما كان الوقت متأخّرا جدا. إذ لم يكن يفكر إلا في بينيلوب ولم تعد تلك اللقاءات السرية تكفيه، بل كان إلحاحه على رؤيتها ينمو ويتشعّب كلّ مرّة أكثر، غير آبه بالمخاطر. وكانت خاثينتا تساعدهما بشتّى الوسائل، مُتّبعة لأجل ذلك كلّ الحيل، وهي تعتقد أنّ كلّ دقيقة تمرّ عليهما لا تزيدهما إلا شغفا وولعا. عرفت ما معنى التحدي وكبرياء الرغبة في نظراتهما: إرادةٌ عمياءُ لا تبالي بأن يكشف الناس أمرهما، وتوقٌ للكشف عمّا يفعلانه سرا فلا يرغمان على التستّر بعدها. وفي بعض المرات كانت بينيلوب تبكي من الإحباط،بينما تغطّيها خاثينتا قبل النوم. وتعترف لها بنيّتها الهرب مع خوليان، وبأنهما سيستقلاّن أوّل قطار يحملهما إلى مكان لا يعرفه أحد. فينتاب الفزع قلب خاثينتا، وهي أدرى بقسوة العالم خلف بوابة القصر، وتنصحها بالعدول عن غايتها. فتسّلم بينيلوب أمرها للقدر وتتراجع عن قرارها حالما ترى الخوف يفترس وجه مربّيتها. لكن المسألة كانت تتعقد بالنسبة إلى خوليان.
في آخر ربيع من الفصل الدراسي، اكتشف خوليان أنّ الدون ريكاردو وأمه صوفي يلتقيان خلسة من حين لآخر. ساورته الشكوك وخشي، في بادئ الأمر، أن صاحب المصانع يريد إضافة اسم شهيٍّ إلى قائمة غانياته، لكنه سرعان ما أدرك أن تلك اللقاءات في إحدى مقاهي قلب المدينة كانت تنضوي على محادثات بسيطة، وأنّ صوفي كانت تتكتّم على تلك اللقاءات. فقرّر خوليان أن يواجه الدون ريكاردو بالموضوع، وسأله عمّا يجري بينه وبين أمه. ولكنّ رجل الأعمال انفجر ضاحكا.
«لا يخفى عليك شيء أيها المحتال، ها؟! وأنا أيضا أردت أن أفاتحك بالموضوع. أنا وأمك نتناقش في مستقبلك. لقد بحثتْ عني منذ عدة أسابيع، وكانت متوترة لأن أباك يريد إرسالك إلى الجندية في العام اللاحق. وهي تتمنى لك الأفضل من حيث المنطق، فطلبت مساعدتي لأجد حلا. كن مطمئنا، كلمة شرف من ريكاردو آلدايا: لن تكون لحما طريا في مجزرة. أنا وأمك فكرنا في مشاريع ضخمة لأجلك. ثق بنا.»
كان خوليان يتمنى أن يثق به حقا لكن الثقة أبعد ما تكون عن الدون ريكاردو. كان يبوح بمرارته لميغيل مولينر الذي أثنى على مشروعه بالهرب.
«إن كنت تفكر حقا بالهرب مع بينيلوب فتوسل إلى الله وتدبّرْ بعض الأموال.»
لكن خوليان لم يكن يملك قرشا واحدا.
«الحل موجود» قال ميغيل. «وما فائدة الأصدقاء الأثرياء إذن؟»
وهكذا بدأ ميغيل يساعد العاشق وحبيبته على الهرب. لابدّ أن تكون باريس هي الغاية، بناء على اقتراح مولينر. فقد كان يقول إنّ مصير خوليان أن يصبح فنانا بوهيميا، أو ميتا من الجوع بالأحرى، وباريس هي المكان المثالي للقيام بذلك. وكانت بينيلوب تتحدث قليلا من الفرنسية وخوليان، بفضل دروس أمه، يعتبر الفرنسية لغته الثانية.
«ناهيك عن كون باريس مدينة كبيرة ومن السهل أن يتوارى فيها المرء عن الأنظار، وهي صغيرة بما فيه الكفاية من جهة أخرى لتعرض عليك فرصا مناسبة للعمل» كان ميغيل يفسّر.
أعطاه مبلغا معتبرا وزاد عليه مدخرات السنوات الماضية ونجح في ابتزاز أبيه بادعاءات خيالية. كان ميغيل وحده الذي يعرف أين سيذهبان.
«وسأخيط فمي حالما ينطلق القطار من المحطة.»
وذلك المساء، بعد أن رتّب بعض التفاصيل مع مولينر على أكمل وجه، عرج خوليان إلى القصر في شارع تيبيدابو ليشرح الخطة لبينيلوب.
«إياكِ أن تطلعي أحدا على ما سأخبرك به. أيا يكن. حتى خاثينتا» قال خوليان.
أصغت إليه الفتاة مصعوقة ومندهشة. كان ميغيل قد حضّر لكل شيء: سيشتري التذاكر باسم مزيف ويكلف شخصا مجهولا بالذهاب لأخذها من المحطة. وإن عرفت الشرطة بأمره عن طريق الصدفة، فإنّ الرجل سيخبر عن شخص لا يشبه خوليان مطلقا. وكان خوليان وبينيلوب سيلتقيان على متن القطار كي لا يراهما أحد على مقاعد الانتظار. سيتم الهرب في منتصف النهار من يوم الأحد. وسيتجه خوليان بمفرده إلى محطة فرنسا حيث يجد ميغيل بانتظاره ليسّلمه التذاكر والنقود.
أمّا أخطر مرحلة من الخطة فتتعلّق ببينلوب. إذ كان عليها أن تخدع خاثينتا وتطلب منها أن تخترع حجة لتخرج مسبقا من الصلاة في الكنيسة صباحا وترجعها إلى البيت. وخلال الطريق، ستتوسل إليها كي تتركها تذهب لموعد خوليان، وتعدها بالعودة إلى المنزل قبل عودة باقي أفراد العائلة، ثم تتجه إلى المحطة. كانا يعلمان جيدا بأن خاثينتا لم تكن لتتركها تغادر إذا عرفت الحقيقة، فهي مدمنة على مودتها.
«إنها خطة متكاملة يا ميغيل» هتف خوليان.
هزّ ميغيل رأسه حزينا.
«ماعدا أمر واحد فقط: الألم الذي ستسببانه للكثير من الأشخاص بالهروب هكذا إلى الأبد.»
فكر خوليان بأمه وخاثينتا، ولم يتصور أن ميغيل يتحدّث عن نفسه في هذا الخصوص.
لكن الصعوبة تكمن في إقناع بينيلوب بضرورة إخفاء الأمر عن خاثينتا. سينطلق القطار المتوجه إلى باريس في الواحدة ظهرا، وسيعبران الحدود قبل أن يلحظ أحد غيابهما. وفي باريس سينزلان في فندق متواضع بأسماء مزيفة، كزوج وزوجة. وحينها فقط يرسلان إلى ميغيل مكتوبا موجها إلى عائلتيهما يعترفان فيه بحبهما ويطمئنانهما بعبارات تستدرّ عواطف الوالدين، ويعلنان عن موعد الزفاف في الكنيسة ثم يطلبان المغفرة والتفّهم. سيضع ميغيل الرسالة في ظرف آخر ويرسلها من موقع في الضواحي.
«متى؟» سألت بينيلوب.
«بعد ستة أيام» أجاب خوليان. «الأحد المقبل.»
كان ميغيل يُفضّل ألاّ يلتقي خوليان بالفتاة منعا لإثارة الشبهات. إذ عليهما أن يتفقا أوّلا، وألاّ يلتقيا بعد ذلك إلاّ على متن قطار باريس مباشرةً. لكن العذاب الأبدي أرحم عند خوليان من عدم رؤيتها أو لمسها لستة أيام كاملة. لذلك حين أمضى العاشقان على اتفاقية العرس السري بقبلة ماجنة، اقتاد خوليان الفتاة إلى غرفة خاثينتا في الطابق الثالث، ظنّا منه بأنّه في مأمن طالما كان بعيدًا عن الأنظار في طابق ليس فيه سوى غرف الخدم. نزعت الشهوة الهوجاء عنهما الثياب. وكان كلاهما عليما بخفايا جسد خليله. ثم راحا يقتلعان، بالعرق واللعاب، مرارةَ أسبوع قادم لن يلتقيا خلاله ولو مرّة. أسندها إلى الأرض وبدأ يلجها، فيما كانت مستسلمة له تماما بعينين مشرعتين وساقين منفرجين وشفتين مواربتين. لقد امّحى أي أثر للبراءة أو الطفولة في نظراتها المشتعلة، وجسمها متوقّد يطلب المزيد. وسرعان ما أدرك خوليان أنّ عليه الرحيل، بعد أن ثنى وجهه على بطنها ناصعة البياض ويداه تلاعب نهديها. نهض وإذ بباب الغرفة ينفتح ببطء لتظهر امرأة على العتبة. ظنّ خوليان لوهلة أنها خاثينتا، لكنه رأى السيدة آلدايا. نظرت إليهما بمزيج من الدهشة والنفور. وكادت لا تتمكّن من النطق، لو لم يخرج سؤالها مُتلعثما: «أين خاثينتا؟». ثم استدارت على الفور وانصرفت بهدوء في حين انكمشت بينيلوب على نفسها أرضا وأحسّ خوليان بأن العالم يتداعى فوق رأسه.
«اهرب يا خوليان. اهرب قبل أن يصل والدي.»
«ولكن…»
«اهرب.»
وافق خوليان.
«سأنتظرك يوم الأحد على متن القطار مهما حدث.»
علت وجهها ابتسامة.
«سأكون هناك، ولكن الآن عليك أن تنجو بروحك. أرجوك.»
كانت بينيلوب ما تزال عارية عندما خرج هو من الغرفة ونزل من سلّم الخدمة حتى المستودعات كي يلوذ بالفرار في ليلة من أشدّ ليالي حياته بردًا.
غدت الأيّام اللاحقة عذابا خالصًا. وقد قضى خوليان ليلته فريسةً للسُهاد وهو ينتظرأن يصل قتلة الدون ريكاردو بين لحظة وأخرى. وفي اليوم التالي لم يلحظ أي تغيرات في أسلوب خورخي آلدايا. قصّ ما حدث على ميغيل بعد أن أضناه الألم. فهزّ الأخير رأسه ببرودة أعصابه المعتادة.
«أنت مجنون يا خوليان وهذا ليس بالشيء الجديد. ما يدهشني أن القيامة لم تقم بعد في بيت آلدايا. وما الغريب في الأمر إن فكرنا مليا؟ ربما ما تزال السيدة آلدايا مترددة في قرارها بعد أن كشفتكما. لقد تحدثت إليها ثلاث مرات فقط وتوصلت إلى نتيجتين: أوّلا، عمرها الذهني يكاد لا يتجاوز الثانية عشرة. ثانيا، إنها مصابة بنرجسية مزمنة ولا تأخذ بالحسبان إلا ما يناسب راحتها.»
«دعنا من تحليلاتك النفسية الآن يا ميغيل.»
«من الوارد جدا أنها ما تزال تقلب الأمر: كيف تروي ما رأت ومتى ولمن، هذا ما قصدتُ قوله. لاسيّما أنها مضطرة لدراسة تداعيات المسألة عليها بالذات: الفضيحة المتوقعة، غضب زوجها إلخ… أما باقي ما تبقّى فلا يهمّها في شيء مطلقا.»
«هل تعتقد أنها لن تخبر أحدا بذلك؟»
«ربما ستنتظر يومين أو ثلاثة. لا أراها قادرة على كتمان سر كهذا على زوجها. وماذا عن خطة الهرب؟ هل غيّرت الفكرة؟»
«كلا.»
«جيد. بات من المستحيل التراجع قيد أنملة.»
انقضت أيام الأسبوع كموت بطيء. وما انفكّ خوليان، رغم قلقه المتصاعد، يذهب إلى المدرسة ويتظاهر بأنه يتابع الدروس، ويتبادل النظرات المتوترة مع ميغيل مولينر الذي كان قلقه يتصاعد أضعافا. أما خورخي فكان لطيفا كالعادة. لكن خاثينتا لم تعد ترافق سائق الدون ريكاردو الذي يمرّ كل ظهيرة ليعيد خورخي إلى البيت. لذلك كان خوليان يرتعد خوفا ويتمنى أن تحدث بلبلة كبرى تضع حدا لهذا الترقّب. وبعد نهاية الدروس في يوم الخميس توهم خوليان بأن القدر حالفه ولو لمرة واحدة. فالسيدة آلدايا لم تتحدث بالأمر بعد، خوفا من العار، بسبب غبائها أو لأيّ سبب آخر من الأسباب الكثيرة التي حددها ميغيل. لا فرق. ما يهمه أن تحفظ بينيلوب السر حتى يوم الأحد. فاستطاع خوليان أن ينام تلك الليلة بعد أيام طوال.
صباح الجمعة وجد الأب رومانونيس ينتظره أمام بوابة المدرسة.
«عليّ أن أتكلم معك يا خوليان.»
«تفضّل يا أبانا.»
«لطالما توقعت أن يحين هذا اليوم ولا أخفيك مدى سعادتي بأنني أنا الذي سأطلعك على الخبر.»
«أي خبر يا أبانا؟»
لم يعد خوليان كاراكس تلميذا في مدرسة سان جبريل. ولم يعد حضوره في الباحة والصفوف وحتى في الحدائق مُرحّبا به. وقد أصبحت أدواته وكتبه المدرسية ملكا للمدرسة.
«المصطلح الرسمي هو الطرد المباشر» لخّص الأب رامونونيس.
«هل بوسعي أن أسأل عن السبب؟»
«تخطر في ذهني عشرة أسباب على الأقل، ولكنني متأكد من أنك ستختار أفضلها بنفسك. صباحا سعيدا يا كاراكس. وحظا موفقا، فأنت في أشد الحاجة إليه.»
هنالك مجموعة من التلاميذ ينظرون إليه في باحة النوافير على بُعد ثلاثين مترا خلف البوابة. كان بعضهم يضحكون ويلقون عليه تحية الوداع بأياديهم، وآخرون ينظرون إليه باندهاش وشفقة. ثمت واحد فقط يبتسم بحزن: صديقه ميغيل، الذي حرّك يديه وشفتيه بكلمتين:
«نلتقي الأحد».
في عودته إلى البيت، رأى خوليان سيارة المرسيدس للدون ريكاردو آلدايا مركونة أمام محل القبعات. توقف عند زاوية الشارع وانتظر. خرج الدون ريكاردو من المحل بعد قليل وركب السيارة ثم انطلق. اختبأ خوليان خلف إحدى البوابات. ثم صعد السلالم راكضا ودخل إلى البيت. وجد أمه تذرف دموعا غزيرة.
«ماذا فعلت يا خوليان؟» غمغمت دون غضب.
«اعذريني يا أمي…»
عانقت صوفي ابنها. كانت قد هرمت وهزلت كأنهم سلبوها صباها على حين غرّة.«بل ربما كنتُ أنا السبب في تعاستها!» فكر خوليان.
«اسمعني يا بنيّ. اتفق أبوك والدون ريكاردو على إلحاقك بالجيش. إنها مسألة أيام وآلدايا لديه معارف كثيرة… عليك أن تهرب يا خوليان. عليك أن تذهب حيث لا يعثر أحد عليك.»
رأى خوليان في نظرات أمه ظلّ عذاب يهبّ من وجدانها.
«هل هناك شيء آخر يقلقك يا أمي؟ هل تخفين عني شيئا؟»
حدقت صوفي إليه وشفتاها ترتجفان.
«عليك أن تهرب. علينا أن نهرب أنا وأنت إلى الأبد.»
عانقها خوليان بشدة وهمس في أذنها: «لا تقلقي عليّ يا أمّاه. لا تقلقي.»
قضى خوليان يوم السبت في غرفته بين كتبه ودفاتره. كان بائع القبعات قد نزل إلى المحل فجرا ولم يعد إلا في وقت متأخر من الليل. «ليس لديه الشجاعة ليفاتحني في الأمر» فكر خوليان. في تلك الليلة الأخيرة، والدموع تطفح من عينيه، رمى خوليان وراء ظهره السنوات التي قضاها داخل تلك الغرفة الباردة والمظلمة ورأى أحلاما كان متأكدا حينها أنها لن تتحقق أبدا. وفي فجر يوم الأحد، وضع بعض الثياب والكتب في حقيبته، قبّل جبين أمه