النائمة في صالة الغداء ملتحفة بالأغطية، وانصرف. كانت الشوارع غاطسة في ضباب سماوي اللون ولمعان نحاسي يثب من فوق شرفات المدينة القديمة. مشى ببطء وهو يودّع كل باب وشارع ويتساءل إن كان الزمان سيمحو الذكريات الأليمة ويجعله قادرا على تجاوز الوحدة… الوحدة التي رافقت خطواته طويلًا في تلك الطرقات.

كانت محطة فرنسا خالية من الناس، والسكك تبدو كالسيوف الفولاذية اللامعة. جلس خوليان على مقعد في البهو وفتح كتابا. طارت الساعات بينما كان غارقا في سحر الكلمات، كان يغير اسمه وجلده ويتقمص أحلام الشخصيات الخيالية إذ باتت مصدر راحته الوحيد. وكان حدسُه يحدّثه بأن بينيلوب لن تستقل ذلك القطار معه. وحوالي منتصف الظهر وصل ميغيل مولينر وأعطاه التذكرة وما نجح في جمعه من نقود، ثمّ تعانق الصديقان بصمت مؤلم. لم يكن خوليان قد رأى ميغيل يبكي من قبل.

الساعة تبتلع الدقائق الهاربة.

«فلننتظر قليلا» قال ميغيل وهو يفحص مدخل المحطة.

في الواحدة وخمس دقائق نادى مدير المحطة للمرة الأخيرة المسافرين المغادرين إلى باريس. بدأ القطار يتحرك عندما التفت خوليان ليودّع صديقه. كان ميغيل مولينر ينظر إليه من على الرصيف ويداه غارقتان في جيبيه.

«اكتب!» قال له.

«حالما أصل سأكتب إليك رسالة» أجاب خوليان.

«لا، ليس لي. اكتب الروايات! اكتبها لأجلي ولأجل بينيلوب.»

هز خوليان رأسه وأدرك حينها كم سيشتاق إلى صديقه.

«وحافظ على أحلامك» قال ميغيل. «سوف تحتاج إليها يوما ما.»

«دوما» صرخ خوليان لكن زئير القطار ابتلع كلماته.

«روت لي بينيلوب ما حدث في المساء نفسه حين باغتتهما أمها في غرفتي. وفي اليوم التالي، استدعتني السيدة وسألتني عمّا أعرفه عن خوليان. قلت لها إنه كان صبيا رائعا وصديقا مخلصا لخورخي… أمرتني بألا تخرج بينيلوب من غرفتها. كان الدون ريكاردو مسافرا في أعماله إلى مدريد. وعندما عاد يوم الجمعة، أخبرته السيدة بما جرى. كنت حاضرة على ذلك. قفز الدون ريكاردو من الأريكة وصفع السيدة بكف يده فسقطت أرضا. ثم راح يصيح كالمجانين ويجبرها على إعادة كل ما قالته لتوها. كانت ترتعد خوفا. لم نر السيد في تلك الحالة من قبل. بدا كأنّ الشياطين تلبّسته. احتقن وجهه من شدة الغضب، وذهب إلى غرفة بينيلوب، أمسك بها من شعرها ورماها عن السرير. حاولتُ أن أوقفه ولكن هيهات أن تواجه رجلا مثله. أبعدني عنه برفسة واحدة. وبعدها اتصل مباشرة بطبيب العائلة كي يعاين بينيلوب. وعندما انتهى الطبيب تحدث إلى السيد على انفراد. أقفلوا الباب عليها في غرفتها وقالت لي السيدة أن أبقى لحراستها.

لم يسمحوا لي برؤيتها ولا بتوديعها. هددني السيد بأن يشكوني إلى الشرطة إذا فتحت فمي بكلمة عن الحادث. وطردني في الليلة نفسها. رماني في الشارع، بعد ثمانية عشر عاما في خدمته دون انقطاع. وبعد يومين، جاء ميغيل لزيارتي في نزل في حي مونتانير. شرح لي أن خوليان هرب إلى باريس وأراد معرفة ما الذي حل ببينيلوب، وما الذي منعها عن المجيء إلى المحطة. ظللت أطرق أبواب ذلك القصر أسابيع وأسابيع وأنا أتوسّل إليهم بأن يسمحوا لي برؤيتها، لكنهم منعوني من اجتياز البوابة. وبقيت جالسة في زاوية الشارع لأيام متواصلة آملة أن أراها. لكنني لم أرها أبدا إذ لم تكن تخرج من المنزل. ثم اتصل السيد بالشرطة وأدخلني في مصحة هورتا النفسية، مدعيا بأنني كنت مجنونة لا يعرفونها تلاحق العائلة والأولاد. بقيت هناك عامين، حبيسة مثل الحيوان في القفص. وحالما سرحوني ذهبت إلى القصر في شارع تيبيدابو لرؤية بينيلوب.»

«وهل رأيتها؟» سأل فيرمين.

«تم وضع القصر برسم البيع. قالوا لي إن آل آلدايا انتقلوا للعيش في الأرجنتين. راسلتهم على العنوان الذي حصلت عليه، لكنّ الرسائل كانت تعود إليّ مغلفة…»

«وما الذي حل ببينلوب؟ هل تمكنت من اكتشاف ذلك؟»

حركت خاثينتا رأسها وانهمر الدمع من عينيها كالنوافير.

ضمّها فيرمين بين ذراعيه وراح يهدهدها. كان جسدها المتشنج يبدو كطفلة إلى درجة أنّ فيرمين بدا عملاقا بالمقارنة بها. وكم من سؤال خطر في بالي، لكن صديقي أفهمني أن الزيارة انتهت. ألقى نظرة على الكوخ المتسخ والبارد الذي كانت خاثينتا تقضي فيه آخر أيامها.

«فلنرحل يا دانيال. اسبقني وسألحق بك حالا.»

أطعته. وعندما التفتُّ للحظة واحدة، رأيت فيرمين يجثم على ركبتيه أمام العجوز ويقبّل جبينها. نظرتْ إليه بابتسامة ليس لها أسنان.

«أصدقيني القول يا خاثينتا» سمعته يسألها. «ألا تحبين سكاكر السوغوس؟»

وفي مغامرة رحلتنا صوب المخرج اصطدمنا بصاحب التوابيت ومساعديه. كان لديهما أنف كمنخار الخنزير ويحملان أدوات المهنة: تابوت من خشب الصنوبر، وحبل وبعض الأغطية القديمة. كان مظهرهما بشعا للغاية، وتنبعث منهما رائحة الفورمالين المختلط بالعطر المائل إلى الحلاوة من كولونيا متردية القيمة. أشار فيرمين إلى الحجرة حيث يرقد المتوفى وبارك الثلاثة الذين كانوا يحنون رؤوسهم ويصلّون بحركة الصليب.

«فلترقدوا بسلام» قال فيرمين وهو يجرّني نحو المخرج وكانت إحدى الراهبات تحمل فانوس الزيت بيدها وتمطرنا بنظرات اتهامية.

وحين صرنا خارج ذلك المكان، بدا لي حي مونكادا المعتم مفعما بالأمل والتفاؤل. كان فيرمين بجانبي يتنفس ذلك الهواء المسائي المنعش بطمأنينة. لكن لقاءنا بخاثينتا هزّ عواطفنا أكثر مما توقعنا.

«ما رأيك يا دانيال في أن نلتهم بعض قطع اللحم ونشرب المياه الغازية في شامبانيت؟ إنه على مرمى حجر من هنا، فهكذا نعدّل مزاجنا.»

«بكل سرور.»

«أليس لديك موعد مع الفتاة؟»

«غدا.»

«آه أيها العفريت. أراك تتكبر قليلا ها؟ أنت تتعلم على عجل.»

اتجهنا صوب تلك الحانة الصاخبة وإذ بثلاثة رجال يعترضون طريقنا. التف اثنان منهما خلفنا وكادا يلتصقان بنا حتى سمعنا أنفاسهما. أمّا الثالث فقد تسمّر أمامنا وكان أقلَّهُم اكتنازا لكنّ مظهره يثير الشؤم أكثر. كان يرتدي السترة المطرية نفسها ويتخفى وراء الابتسامة الدنيئة والمتملقة ذاتها في آخر لقائي به.

«يا لمحاسن الصدف. صديقي القديم، ذو الألف الوجه» قال المحقق فوميرو.

تنهّد فيرمين متشنجا وكأنني سمعت مفاصله تقرقع من الفزع. وقام العميلان بليّ أذرعنا خلف ظهرينا، ومن المرجح أنهما من فرقة التحقيق بالجرائم.

«أتظن أنك قادر على الإفلات مني؟ لا يمكن أن تكون غبيا حتى تستسهل الخروج من القمامة لتنتحل صفة مواطن مثالي. أنت غبي لكن ليس إلى هذه الدرجة. ثم إنك تقحم أنفك في شؤون لا تعنيك، وأنفك ضخم جدا للمفارقة. وهذه علامة سيئة… ماذا كنت تفعل عند الراهبات؟ هل كنت تنكح إحداهن؟ كيف يتلذذن به في هذه الأيام؟»

«إنني أحترم أدبار الآخرين يا سيدي المحقق، خصوصا إذا كانوا يقيمون الصلوات. وإذا فعلت مثلي، فلن تنفق أموالك على البنسلين وستحافظ على صحة بدنك.»

كان الغيظ يتسرب من ضحكة فوميرو.

«هكذا تعجبني. صلد كالثور. لو كان كل اللصوص الأوباش مثلك، لكان عملي مجرد نزهة. قل لي، أي اسم تطلقه على نفسك الآن؟ جاري كووبر؟ هيا، قل لي ماذا كنت تفعل في مأوى العجزة وأدعك تذهب برضوض طفيفة فقط. هيا تكلم. ماذا كنتما تفعلان هناك؟»

«شؤون خاصة. جئنا لزيارة قريب.»

«أجل، أمك الطيبة. احمد الله أنّ مزاجي هادئ اليوم وإلا كنت سحلتك إلى المخفر كي أشويك باللهيب المؤكسد. هيا أيها الشاطر قل الحقيقة لصديقك المحقق. ما الذي كنتما تفعلانه هناك؟ أرجو أن تكون متعاونا فهكذا توفر عليّ جهد تغيير ملامح هذا الفتى الذي اخترته حاميا للفنون.»

«جرّب أن تمسّه بأذى وأقسم أنني…»

«اسمعوا ماذا يقول. أكاد أتغوط في بنطالي من الخوف.»

رفع فيرمين صوته متحليا بما بقي في رصيده من شجاعة.

«بنطالك المدرسي الذي اشترته أمك العاهرة الشهيرة؟ أرجعْ لها البنطال فقد قيل إنه يليق بها.»

تجهم وجه المحقق فوميرو.

«ماذا قلت أيها النذل؟»

«قلت إنك ورثت أذواق السيدة إيفونا سوتوسيباييلوس المنحطة. يا لها من امرأة ذات حسب ونسب.»

لم يكن فيرمين مكتنز الجسم ولم يحتمل أول لكمة أوقعته أرضا. سقط في بركة مياه وراح فوميرو ينهال عليه بالرفس على بطنه وكليتيه ووجهه. أضعتُ العدّ مع الرفسة الخامسة. تكور فيرمين على نفسه ولم يعد قادرا على صدّ تلك النوبة الهمجية. قهقه أحد العميلين غصبا أو رياء، وأحكم الثاني قبضته عليّ.

«أنت لا تتدخل» همس في أذني. «لست أرغب في كسر ذراعك.»

تلويتُ ورأيت وجه العميل الذي حدثني. كان ذاك الّذي يرتدي السترة المطرية منذ أيام ويقرأ الجريدة في بار ساحة ساريا، هو نفسه الذي لحق بنا في الحافلة وضحك على نكات فيرمين.

«لا أطيق الناس الذين ينبشون في الخراء والماضي» صرخ فوميرو وهو يدور حول فيرمين. «عليك أن تكف عن هذا، فهمت؟ وهذا ينطبق عليك وعلى رفيقك الغبي. احذر يا غلام وتعلم الدرس وإلا آتاك الدور.»

بقيت أنظر بينما يُشبع المحققُ تلك الجثة ركلا تحت نور قنديل الشارع الخافت. كان للركلات وقعٌ منقبض وهمجي وهي تنهال بلا رحمة على فيرمين، وما يزال وقعُها يوجعني حتى هذه اللحظة. لذت بين ذراعي العميل وأنا أذرف الدمع الجبان.

عندما تعب فوميرو من رفس ذلك الجسد فتح سترته وأخفض بنطاله وتبول على فيرمين الذي بات كجثة هامدة أو ككومة من الخرق البالية في مستنقع مياه قذرة. مازلت ألتزم الصمت حين اتجه المحقق نحونا، لاهثا ويتصبب عرقا. أعطاه أحد العناصر منديلا كي ينشف وجهه ورقبته. اقترب مني فوميرو حتى صار وجهه على بعد شعرة من وجهي وركز أنظاره في عينيّ.

«أنت لا تستحق عناء أن أضربك يا صبي. مشكلة صديقك أنه اختار الاصطفاف دوما إلى الفريق الخاسر. في المرة القادمة سأؤذيه حقا وأنا متأكد أن الذنب سيكون ذنبك» قال.

ظننت أنه حان دوري وأنه كان سيصفع وجهي. بل كنت آمل ذلك. تمنيت أن تمسح الضربات عار جبني لأنني لم أحرك ساكنا كي أساعد فيرمين بينما كان كالعادة يحاول حمايتي.

لكنه لم يؤذني إلا بشرارة عينيه الحقيرتين، واكتفى بقرص وجنتي.

«اطمئن يا فتى. أنا لا ألوث يدي بالجبناء.»

أظهر العميلان إعجابهما بمقولة فوميرو وسرى الارتياح في عيونهما بعدما انتهى العرض وأحسست برغبتهم في الانصراف. ابتعد الثلاثة وهم يضحكون في الظلام. هرعت نحو فيرمين الذي كان يحاول النهوض ليجد بعض أسنانه في بركة المياه. وكان الدم ينزف من فمه وأنفه وأذنيه وجفنيه. وحين رآني سالما ابتسم لكنه بدا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. جثمت على ركبتي بقربه وساعدته. إنه أكثر خفة من بيا، قلت في نفسي.

«علينا أن نذهب إلى المستشفى حبا بالله يا فيرمين.»

أشار بـ «لا».

«خذني إلى بيتها.»

«من هي؟»

«برناردا. إن جاءني ملاك الموت فأريد أن يجدني بين ذراعيها.»

32

عدت في تلك الليلة إلى الشقة في بلازا ريال حيث أقسمت أنني لن أعود. ساعدني اثنان من زبائن شامبانييت الذين حضروا الاعتداء، في حمل فيرمين حتى مرآب سيارات الأجرة في شارع برينسيسا، بينما اتصل النادل بالرقم الذي أعطيته إياه ليُعلن عن قدومنا. بدت لي الرحلة طويلة جدا: فقد فيرمين وعيه قبل أن تنطلق السيارة وكنت أضمه بين ذراعي محاولا أن أمدّه بدفء جسمي. كنت أقول له همسا بصوت مرتجف إنّنا على وشك الوصول وإنّ كلّ شيء سيجري على ما يرام، بينما يجلدنا السائق بنظراته الخاطفة من المرآة العاكسة.

«أنا لا أريد المشاكل. إن فطس هذا الرجل سأنزلكما عنوة من السيارة.»

«أغلق فمك وأسرع.»

وجدنا جوستابو برسلوه وبرناردا بانتظارنا أمام باب البناية مع الدكتور سولديفييا. وما إن رأتنا برناردا ملطخين بالدماء حتى أصابتها نوبة هستيرية. أمسك الدكتور بمعصم فيرمين وطمأننا بأنه ما يزال على قيد الحياة. صعدنا السلالم ونحن نحمله على أكتافنا ومددناه على السرير في غرفة برناردا. نزعت الممرضة التي جاءت مع الطبيب ثيابه. وطلب منا الدكتور سولديفييا الخروج وأغلق الباب قائلا: «سيعيش.»

كانت برناردا تنوح من الخيبة في الممر لأنها ما إن وجدت رجلا طيبا حتى قضى الله أن يقتلوه ركلا. أخذها الدون جوستابو إلى المطبخ وأمدّ المسكينة بقنينة براندي. وعندما راحت الخادمة تهذي بكلام غير مفهوم، ازدرد بائع الكتب جرعة سخية من مشروب روحي في رشفة واحدة.

«إنني متأسف. لم أكن أعرف أين أذهب» تلعثمت.

«بل خيرا فعلت. سولديفيا أفضل خبير في الكدمات في برشلونة» قال دون أن يوجه كلامه إلى أحد على وجه الخصوص.

«شكرا» قلت.

تنهد برسلوه بعمق وصب لي كأس براندي. رفضته فانتهى الكأس بيدي برناردا التواقة للثمالة وأفرغته في ثانية.

«استحم وارتد ثيابا نظيفة» قال لي برسلوه. «سيصاب والدك بذبحة قلبية لو رآك متهالكا هكذا.»

«لا داعي. إنني بخير.»

«تخلص من هذه الرعشة إذن. هيا. استخدم السخّان في حمّامي ريثما أتصل بوالدك وأقول له إنّ… حسنا لا أعرف. سيخطر في بالي شيء ما.»

وافقت.

«أنت في بيتك يا دانيال» قال برسلوه بينما كنت أبتعد في الممر. «لقد اشتقنا إليك.»

وجدت الحمّام لكنني لم أعثر على قاطع الضوء. كنت أفضّل أن أستحم هكذا بالضياء الواهن الذي يتسلل من النافذة الصغيرة. نزعت ثيابي المبقعة بالدم والوحل ودخلت في حوض برسلوه الملكي. كانت المياه تغلي وتتراشق عليّ بما يشبه حمّام فندق فاخر، ولم أكن قد دخلت إليه مسبقا. وبقيت طويلا تحت مياه الدوش الغزيرة.

كان دويّ الركلات التي انهالت على فيرمين، وكلمات فوميرو، ووجه العميل الذي كان يقيدني، تتردّد جميعا بقسوة في أذنيّ ولم أتمكن من تناسي المشهد. وعندما فترت المياه توقعت أنني استهلكت السخّان كله، فاستغليته حتى القطرة الأخيرة وأغلقت الصنبور. ومن وراء الستارة لاحظتُ وجود امرأة تقف عند الباب ونظراتها الفارغة تلمع كعيني قطّ.

«تفضّلْ بالخروج يا دانيال. رغم كوني شريرة فإنني لم أستعد نظري حتى الآن.»

«كلارا. مرحبا.»

أعطتني منشفة غطيت بها خصري مثل فتاة عفيفة تربّت في الدير، بينما كانت كلارا تبتسم بمكر في الظلام وهي تشعر بحركاتي.

«لم أنتبه لدخولك.»

«لم أطرق الباب. لماذا تستحم في الظلام؟»

«وكيف عرفت أنّ الضوء مُطفَأ؟»

«لا أسمع طنين المصباح» قالت. «لم تعد لزيارتي أبدا.»

بل عدت وكيف لا، أردت أن أجيبها، لكنك كنت مشغولة بأمر أهمّ. تبددت الإجابة على رأس لساني مع الإحساس بالنقمة والمرارة الّذي عشت عليه طويلا. وبدا فجأة أن كل ما مضى مثير للسخرية.

«أعرف. اعذريني.»

خرجت من الحوض وأسندت قدميّ إلى البساط الإسفنجي الصغير. نظرتُ إلى كلارا في تلك الغرفة المفعمة بالبخار. كانت تشبه تلك التي تسكن ذكرياتي، فاستعدتُ القليل من أعوام الغياب.

«تغير صوتك يا دانيال» قالت. «هل تغيرت كليا؟»

«مازلت ذلك الأحمق، إن كان هذا ما تودين معرفته.»

بل ومازلت جبانا، فكرتُ. كانت ابتسامة كلارا الأليمة هي نفسها تحت الظلام أيضا. مدت يدها وأدركت ماذا كانت تريد، مثلما حدث أثناء لقائنا الأول في مكتبة الجامعة. اقتدتُ أناملها نحو وجهي المبلل وتركتها تكتشف ملامحي بينما تتحرك شفتاها كأجنحة فراشة.

«لم أكن أقصد إيذاءك يا دانيال. سامحني.»

قبّلت يدها في الظلام.

«سامحيني أنت.»

قاطع وصول برناردا حميمية المشهد الميلودرامي. ومع أنها كانت ثملة فإنها رأتني عاريا وأقطر بللا بينما أقبّل يد كلارا.

«يا لقلة الحياء يا سيد دانيال. رحماك يا عيسى ويوسف ومريم. ما من أسوأ من…»

استدارت وتركتنا بمفردنا. تمنيت أن يختفي ما رأته من ذهنها كحلم عابر إذا تبدد أثر السكر. أعطتني كلارا الثياب التي وضتعها على ذراعها الأيسر.

«أعطاني العم أحد طقومه عندما كان شابا. يقول إنه سيليق بك. والآن أتركك كي ترتدي براحتك. ما كان عليّ الدخول دون استئذان.»

ارتديت الملابس الداخلية الطرية والمعطرة ثم قميص القطن الزهري والجوارب والسترة الخفيفة فالبنطال والمعطف. رأيت في المرآة سمسارا تنقصه الابتسامة وحسب. كان الدكتور سولديفييا يتكلم في المطبخ عن وضع المريض.

«لقد تخطى مرحلة الخطر» قال. «لا داعي للقلق. هذا النوع من الجروح يبدو أخطر مما هو عليه حقيقةً. كُسرت ذراع صديقك الأيسر وعظمتان من صدره، وفقد ثلاثة أسنان، وثمت بعض الخدوش والرضوض المضاعفة. ولكن لحسن الحظ لا يوجد نزيف داخلي ولا أضرار دماغية. فالجرائد التي يرتديها صديقك تحت الثياب درءا للبرد، وليبدو أكثر ضخامة على حد قوله، أدت دور الدرع وقلصت من قوة الضربات. منذ لحظات استعاد وعيه وتوسل إلي أن أنقل لكم أنه يشعر بكامل قدراته كأنه فتى في ربيعه العشرين وأنه يريد شطيرة من الدم المخثر وحبة شوكولاطة وسكاكر السوغوس بنكهة الليمون. لا أعترض مبدئيا ولكن من الأفضل أن ينتهج حمية من عصائر الفاكهة واللبن وقليل من الرز الأبيض حتى اللحظة. وكي يثبت أنه سالم معافى، طلب مني أن أقول لكم إنه شعر بانتصاب كجبال الجليد بينما تحقنه الممرضة آمباريتو في ساقه.»

«هذا بفضل فحولته» غمغمت برناردا كأنها تعتذر.

«هل بإمكاننا رؤيته؟»

«مازال الوقت باكرا. ربما بعد ساعة. من الأفضل أن يستريح الليلة ففي الغد سأدعوه إلى المستشفى كي أضعه تحت فحص تخطيط الموجة الدماغية، وبذلك نقطع الشك باليقين. بأية حال لابد أن أؤكد أن السيد روميرو دي توريس سيستعيد كامل عافيته في غضون أيام. وبالنسبة إلى الخدوش فقد تعرّض هذا الرجل لما هو أسوأ ونجا. إن أردتم نسخة عن المحضر للشكوى…»

«ما من داع» قاطعته.

«كانت العواقب وخيمة جدا يافتى. لابدّ أن نبلّغ الشرطة.»

رمقني برسلوه ملتبسا، وطلبت مساعدته بنظرة.

«لدينا الوقت الكافي لتقديم الشكوى أيها الطبيب، لا تقلق» قال برسلوه. «فلنتأكد أولا أن المريض بخير، وسأذهب بنفسي إلى المخفر فجر الغد. فحتى السلطات يحق لها الحصول على قسط من الراحة الليلية.»

لم ير الطبيب اقتراحي بإخفاء الحادث عن الشرطة بعين راضية طبعا، ولكنه اطمأن بما أن برسلوه تبوأ المسؤولية، وعاد إلى المريض. أشار إليّ برسلوه باللحاق به إلى المكتب. وكانت برناردا تشهق وهي جالسة على كرسي صغير تملؤُها الدهشة بفعل الفزع والبراندي.

«تشجعي يا برناردا وتنشّطي. حضّري لنا فنجان قهوة مكثفا من فضلك.»

«على الفور يا سيدي.»

دخلنا أنا وبرسلوه إلى مكتبه الذي بدا ككهف تفوح منه رائحة تبغ الغليون الذي يحلق دخانه بين أعمدة الكتب وصناديق الأوراق. وبين الحين والآخر تصلنا نغمات بيانو كلارا الناشزة. لا يبدو أن دروس المايسترو نيري أتت أكلها بما فيه الكفاية… في الجانب الموسيقي على الأقل. أشار إليّ بائع الكتب بالجلوس وراح يجهّز الغليون.

«اتصلت بأبيك. قلت له إن فيرمين تعرض لحادث بسيط وإنك جئت به إلى هنا.»

«وهل انطلت عليه؟»

«لا أعتقد.»

أشعل برسلوه غليونه وأسند ظهره إلى الأريكة كأنه مفستوفيليس المسرور بأدائه، حين كانت كلارا تضطهد ديبوسي في الجانب الآخر من الشقة. رفع بائع الكتب أنظاره إلى السماء.

«ما الذي حل بأستاذ الموسيقى؟» سألتُ.

«سرّحته. لأنه أساء استخدام منصبه.»

«آه.»

«هل أنت متأكد من أنك لم تتعرض للكمات أنت أيضا؟ ما بك تتحدث بشكل متقطع؟ كنت أكثر فصاحة في طفولتك.»

انفتح باب المكتب ودخلت برناردا وهي تعرج وتحمل طبقا فيه علبة سكر وفنجانان ينفثان البخار. خشيت أن ترمي الفنجان الساخن على صدري.

«بالإذن. هل تفضّل إضافة البراندي يا سيدي؟»

«لا، من الأفضل أن نوفر قنينة الليبانتو هذه الليلة. هيا يا برناردا اذهبي للنوم. أنا ودانيال سنبقى مستيقظين لأي طارئ. وبما أن فيرمين في غرفتك، بوسعك أن تنامي في غرفتي.»

«لا أحلم بهذا يا سيدي.»

«إنها أوامر يا برناردا. لا تناقشي. أريدك تحت الغطاء بعد دقيقتين كحد أقصى.»

«ولكن يا سيدي…»

«أنت تجازفين بمكافأة أعياد الميلاد يا برناردا.»

«كما تشاء يا سيد برسلوه. ولكنني سأنام فوق الغطاء. وهذا كثير عليّ.»

انتظر برسلوه أن تنصرف برناردا، ثم وضع سبع ملاعق من السكر في فنجانه وحرك القهوة وهو يبتسم خلف سراب الدخان المنبعث من التبغ الهولندي.

«أحكم البيت بقبضة حديدية كما ترى.»

«أجل. لقد أصبحت غولا يا دون جوستابو.»

«وأنت فتى طائش. الآن لا يسمعنا أحد يا دانيال. هلّا قلت لي لماذا لم تبلّغ الشرطة؟»

«لأنهم على علم بالموضوع.»

«هل تقصد أنهم…»

هززت رأسي.

«في أي مصيبة كنتما؟ إن كان من حقي السؤال»

تنهدت.

«هل بوسعي أن أساعدكما؟»

أعطى برسلوه هدنة قصيرة لسخريته وابتسم بوديّة.

«هل الأمر متعلق بكتاب خوليان كاراكس الذي رفضت بيعي إياه عندما كان عليك فعل ذلك؟»

كانت حيرتي واضحة.

«أنا بوسعي مساعدتكما» صرّح. «عندي ما ينقصكما: المال والقليل من العقل.»

«صدقني يا دون جوستابو، لقد أدخلت في هذه المسألة الكثير من الأشخاص.»

«وما الذي يضير إدخال شخص آخر؟ هيا احك لي. تظاهر بأنني الراهب الذي تعترف عنده.»

«منذ سنين لم أعترف.»

«واضح.»

2021/06/22 · 151 مشاهدة · 2916 كلمة
نادي الروايات - 2025