أصغى إليّ جوستابو برسلوه بطريقته الحكيمة التي تشبه طبيب رسول بابوي. كان مشبكا يديه تحت ذقنه، مُسندا مرفقيه إلى المنضدة، ومن حين لآخر يهزّ رأسه، وكأنه حدّد خطاياي في حكايتي ويبني رأيه عن الأحداث شيئا فشيئا وأنا أفرّغ ما في جعبتي. وحين أتوقف لوهلة، يقوس حاجبيه ويحثني على متابعة الكلام بحركة من يده. وبين الحين والآخر يطلب مني أن أتوقف قليلا ليسجل ملاحظة أو يركز نظره في الفراغ كما لو أنه يقيّم تداعيات ما أروي. وغالبا ما يرطب شفتيه المواربتين بابتسامة ماكرة عزوتُها لسذاجتي أو لغباوة افتراضاتي.

«إن كنت ترى أنني أروي عليك السخافات فقل لي كي أكف.»

«على العكس. الكلام مسلك الحمقى، السكوت حجة الجبناء، والإصغاء زينة العقلاء.»

«من قال ذلك؟ سينيكا؟»

«لا. إنه براوليو ريكولونس، صاحب محل اللحوم في حي آفينيون، هوايته صياغة الأقوال المأثورة. تابع من فضلك. كنت تحدثني عن الفتاة الحسناء…»

«تدعى بيا. لكن هذا من شؤوني الخاصة ولا شأن له بالقصة.»

ضحك برسلوه. وظهر الدكتور سولديفييا على عتبة المكتب منهكا، وقطع عليّ القصّة.

«اعذراني، لقد انتهيت. المريض بصحة جيدة جدا. هذا الرجل سيدفنكم جميعا قبل أن يموت. الآن يدّعي أن المهدئات أوجعت رأسه، وهو مضطرب في الواقع. لا يريد أن يستريح ويلح أن يناقش السيد دانيال على انفراد ببعض المسائل التي لم يشأ أن يطلعني عليها، لأنه لا يثق بقَسَم أبقراط، أو أبقريط20 كما يقول هو.»

«فلنذهب إليه حالا. اعذره يا دكتور فلابد أنها من تداعيات الصدمة التي حلت به.»

«ربما، ولكنني لا أستبعد أنه متهور نوعا ما. لا يحلو له فعل شيء سوى لمس مؤخرة الممرضة ونظم أبيات المديح في فخذيها المصقولين.»

رافقنا الطبيب والممرضة حتى الباب وشكرناهما بحرارة. وفي غرفة برناردا اكتشفنا أن الخادمة كانت تغط في نوم عميق على السرير بجانب فيرمين وقد هدّها الخوف والبراندي والتعب. وكان هو مضمدا بأكمله وذراعه تحت رقبته ويحنو على شعرها بلمسات ناعمة. لم يكن يتضح من قسمات وجهه سوى أنفه الضخم وأذنيه غير المتوازنتين وعينيه الغائرتين كأعين الفئران، ناهيك عن الرضوض الخطيرة. استقبلنا بابتسامة بلا أسنان، ورفع علامة النصر بإصبعيه.

«كيف تشعر الآن؟» سألته.

«كأنني شاب» همس كي لا يوقظ برناردا.

«لا تكذب فأنت تبدو في حالة مزرية. هل أنت واثق من أنك بخير؟ ألا تشعر بدوار في الرأس؟ ألا تسمع أصواتا غريبة؟»

«الآن يبدو لي أنني كنت أسمع همهمات ناشزة، كأن قردا يحاول العزف على البيانو.»

عبس برسلوه. كانت كلارا تدمّر مفاتيح البيانو.

«لا تقلق يا دانيال. لقد احتملت أسوأ من هذه الظروف. فوميرو هذا لا يقوم بعمله على أكمل وجه.»

«آه. كان فوميرو شخصيا من أرداك هكذا إذن» قال برسلوه. «أرى أنكما تناطحان المستويات العليا.»

«لم أصل في الحديث إلى تلك النقطة من القصة» بررت.

نظر فيرمين إليّ متوجسا.

«اطمئن يا فيرمين. كان دانيال يحيطني علما بتلك المصيبة التي دخلتما فيها. عليّ أن أقول إنّها قصّة مؤثّرة. وأنت يا فيرمين منذ متى لم تقم بالاعتراف؟ لا يخفى عليك أنني درست سنتين في معهد القساوسة.»

«بدت لي ثلاثا يا دون جوستابو.»

«كل الأشياء مآلها الفناء، وأوّلها الحياء. تدخل إلى هذا البيت للمرة الأولى وتنام مع الخادمة على سريرها.»

«انظر إليها المسكينة. إنها ملاكي. اعلم أن نواياي حسنة يا دون جوستابو.»

«نواياك تخصك وتخص برناردا التي لم تعد طفلة. هلا شرحتما لي ما الذي تقومان به؟»

«إلى أي نقطة وصلت يا دانيال؟»

«إلى الفصل الثاني: دخول المرأة الفتانة إلى المشهد» حدد برسلوه.

«نوريا مونفورت؟» سأل فيرمين.

لحس برسلوه شفتيه.

«وهل يوجد أكثر من امرأة؟ تبدو لي القصة شبيهة بسبي نساء سابين.»

«أرجوك أن تخفض صوتك فنحن في حضرة خطيبتي.»

«لا تقلق، خطيبتك ازدردت نصف قنينة براندي ليبانتو. لن تستيقظ حتى على دويّ المدافع. قل لدانيال أن يقص عليّ الباقي، فثلاثة رؤوس تفكر أفضل من اثنين، لاسيّما أن الرأس الثالث هو رأسي.»

شد فيرمين كتفيه بقدر ما تسمح له الضمادات واللصاقات.

«أنا لا أعارض يا دانيال. لكن القرار يعود إليك.»

استسلمت حتى أدخلت الدون جوستابو في تلك المتاهة، وواصلت السرد حتى اعترض طريقنا فوميرو وتابعُوه في حي مونكادا منذ بضعة ساعات. وحينها راح برسلوه يروح ويجيء في الغرفة، بينما كنا أنا وفيرمين ننظر إليه بترقب مثل السناجب.

«يا له من ملاك» همس فيرمين.

«ثمت شيء لا أستطيع فهمه» نطق بائع الكتب أخيرا. «أن يكون المحقق فوميرو متورطا في المسألة حتى أذنيه فهذا طبيعي، ولكننا لا نعرف كيف ولماذا. ثم يوجد تلك المرأة…»

«نوريا مونفورت.»

«دون أن ننسى عودة خوليان كاراكس إلى برشلونة، ولا أحد يعرف عنها شيئا، ومقتله في شوارع المدينة بعد شهر. من الواضح أن اللعوب تكذب، حتى في زمنية الأحداث.»

«لقد قلت هذا مرارا» قال فيرمين. «ولكن الشاب عنيد وساذج بما لا يطاق.»

«انظر من يتكلم، القديس يوحنا الصليب.»

«هدوء! فلنحاول أن نتمعّن في الأحداث. في قصة دانيال ثمت شيء يهزّني أكثر من الباقي، ولا أقصد طبيعة المغامرة في القصة، بل تفصيلا جوهريا ذا مظهر سخيف» تدخل برسلوه.

«نوّرنا يا دون جوستابو.»

«لستُ مقتنعا بأن بائع القبعات رفض التعرف إلى جثة خوليان مدعيا أنه بلا أولاد. أرى أن هذا السلوك يناقض الفطرة. فلا يوجد أب في العالم يتصرف على هذا النحو رغم كل العداء الذي قد يتراكم بين الوالد وولده. إن الموت يُبرز حساسية الإنسان وصدق عواطفه. وأمام النعش لا تخطر في بالنا سوى الذكريات الحميدة ولا نرى سوى ما يعجبنا.»

«يا لروعة العبارة يا دون جوستابو» هتف فيرمين. «هل يؤسفك أن أضيفها إلى قاموسي الشخصي؟»

«من الممكن دوما أن يوجد استثناء» اعترضتُ. «وما نعرفه عن السيد فورتوني أنه كان شخصية استثنائية.»

«نحن نؤسس فرضياتنا على نميمة رديئة» قال برسلوه. «فعندما يصف الجميع أحدا على أنه غول، فهناك احتمالان: إما أنه قديس أو أنهم يزيفون الحكاية.»

«أليس من الممكن أن يكون بائع القبعات ظريفا بالنسبة إليك لأنه كان ديوثا؟» سأل فيرمين.

«أنا لا أثق بشهادة ناطورة، مع فائق احترامي لتلك المهنة.»

«ليس بوسعنا أن نثق بشيء إذن. كل معلوماتنا نخب ثانٍ أو ثالث بالنسبة إليك.»

«لا تثق بمن لديه ثقة بالجميع أبدا» أوضح برسلوه.

«يا لفطنتك يا دون جوستابو» قال فيرمين. «أنت صندوق من الجواهر. يا لألمعيتك!»

«النقطة الوحيدة الواضحة هو أنكما في حاجة إلى مساعدتي اللوجستية والمادية، إن أردتما مَخرجًا من المعضلة قبل أن يحجز لكما المحقق فوميرو جناحا في سجن سان سيباس. موافق يا فيرمين؟»

«أنا تحت أوامر دانيال. إن كان موافقا فأنا معه.»

«ما قولك يا دانيال؟»

«أنتما تقولان كل شيء. أنت ماذا تقترح؟»

«هذه خطتي: ما إن يتعافى فيرمين، ستقوم بزيارة إلى نوريا مونفورت يا دانيال وتكشف الأوراق على الطاولة. عليها أن تفهم بأنك تعرف أنها تخفي عنك شيئا ما، قليل الأهمية أم لا هذا سنراه لاحقا.»

«لماذا؟» سألت.

«كي نرسو على برّ كحدّ أدنى. من البديهي أنها لن تعترف بذلك بل ربما تصطنع أكاذيب أخرى. عليك أن تغرس السيف في الرأس، إن استخدمنا مصطلحا من مصارعة الثيران، ثم ترى أين يأخذك الثور أو البقرة في هذه الحالة. بعدها مباشرة تدخل في المشهد أنت يا فيرمين. وبينما يرمي دانيال الطعم تراقب المتهمة ببصيرة ثاقبة وتنتظر حتى تبلع الطعم. ثم تتبعها.»

«أنت واثق جدا من أنها ستذهب إلى مكان ما» أجبت.

«يا للإنسان وشكوكه! ستفعلها عاجلا أم آجلا. لدي الانطباع بأنّها ستفعلها دون تسويف. هذا مألوف في علم نفس المرأة.»

«وماذا ستفعل أنت يا دكتور فرويد أثناء ذلك؟» سألته.

«لا يعنيك. ستعرف الأمر حين وقوعه وسوف تشكرني.»

بحثت عن أنظار فيرمين لكن المسكين قد غفا وبرناردا بين ذراعيه. كان يبتسم هانئا يثني رأسه على صدره ويسيل من فمه خيط لعاب، في حين تشخر برناردا مثل البوق.

«فلنأمل أن يكون الرجل المناسب هذه المرة» همس برسلوه.

«فرمين رجل مميز» قلت.

«هو هكذا رغما عنه، فلا أظن أنه حصل على البنت ببراعته. هيا فلنذهب.»

أطفأنا الضوء وخرجنا دون أن نُحدث ضجّة، لنترك الحمامتين في نومهما المستحق. ومن زجاج الممر رأيت الفجر يتنفس.

«فلنفترض أنني رفضت مساعدتك» قلت بصوت منخفض. «وأني طلبت منك أن تنسى الأمر برمّته.»

ابتسم برسلوه.

«لقد تأخرت جدا يا عزيزي. كان عليك أن تبيعني الكتاب منذ عدة سنوات عندما اقترحت عليك ذلك.»

رجعت إلى البيت مع شروق الشمس، وأنا أرتدي تلك الثياب الغريبة وأشعر بأنّني نجوت من غرق محقق في ليلة لا تنتهي على طول الطرقات المبللة والمتلألئة بالقرمزي. وجدت والدي غافيا على الأريكة وكتابه المفضل في حضنه، «كانديد» لفولتير: كان يعيد قراءته مرتين في السنة ولا أسمعه يضحك من كل قلبه إلا حينها. نظرت إليه: كان يتقدم في السنّ وجلد وجنتيه يرتخي. في الماضي كان يبدو ذا عزم لا يلين، أمّا الآن فيبدو في لحظات ضعفه الكبرى: رجلا مُحطّمًا دون أن يعي ذلك. وربما كان كلانا هكذا. غطيته بلحافٍ كان ينوي أن يهبه لمؤسسة خيرية منذ سنوات. وقبّلت جبينه كي أحميه من الأفكار السيئة التي تحاول إبعاده عني وعن تلك الشقة المتواضعة وعن ذكرياتي. كنت أود أن تخدع تلك القبلة الزمن وتجبره على التوقف والعودة بنا إلى يوم آخر وإلى حياة أخرى.

2021/06/22 · 85 مشاهدة · 1353 كلمة
نادي الروايات - 2025