لم أنم لكنني حلمت بعينين يقظتين طيلة الصباح، وأنا أستذكر خصر بيا الممشوق وأريجها اللذيذ كأنها حلوى تخرج لتوها من الفرن. كنت أذكر بدقة غير عادية كل تفاصيل جسمها، لمعان لعابي على شفتيها، زغبها الأصهب شبه الشفاف وهو يهبط على بطنها. تذكرت أن صديقي فيرمين، في محاضراته عن اللوجستية الجسدية، يسمّي ذلك الجزء الجميل بـ «الدرب إلى الأندلس».

نظرت إلى الساعة للمرة المائة وتأكّدت أنّ عليّ انتظارَ كثيرٍ من الوقت لأراها وألمسها ثانية. حاولت أن أرتب فواتير الشهر، لكن حفيف الورق ذكّرني باللباس الداخليّ ينزلق على ردفي السيدة بياتريز آغويلار وفخذيها، أخت صديق طفولتي.

«أراك سارحا يا دانيال. هل بالك مشغول بفيرمين؟» سأل والدي.

أومأت مؤكدا وأنا أشعر بالعار مثل لص. فقبل عدة ساعات فقط تكسرت عظامه لحمايتي بينما كنت أفكر بحمّالة صدر امرأة.

«ها قد وصل… ذكرناك للتوّ…»

رفعت بصري فرأيت فيرمين روميرو دي توريس يدخل شامخا إلى المحل بابتسامة ظافرة وزهرة قرنفل ندية في عروة سترته.

«هل فقدتَ رشدك؟ أليس عليك أن تكون في البيت لتستريح؟»

«سأرتاح في القبر بعد أن أموت. إنني رجل عملي، لن تبيعا شيئا إن لم أكن موجودا.»

لم يتبع تعليمات الطبيب، وعزم على مباشرة عمله. كان وجهه شاحبا ومتورما، ويعرج بوضوح ويتحرك مثل دمية مكسورة.

«عد مباشرة إلى السرير يا فيرمين حبا بالله» هتف والدي.

«لن نتحدث في هذا الأمر. إنها معطيات إحصائية: يموت أكثر الناس في السرير وليس في الخندق.»

راحت كل نصائحنا هباء منثورا. واستسلم والدي في النهاية: ثمت شيء ما في نظرة فيرمين يوحي بأن أكثر معاناة كان يخشاها هي العزلة في غرفة النزل.

«حسنا ولكنك لن تحمل أثقل من قلم رصاص.»

«تحت أمرك. أعدك بذلك. سأنزع عني شكوكي الثقيلة أيضا.»

ومثلما قال فعل. ارتدى المئزر وأمسك بقطعة قماش أغرقها بالكحول وجلس خلف المصطبة كي يلمع أغلفة خمسَ عشْرَة نسخةً مُستعملة من «القبعة بثلاث رؤوس: قصة الشرطية بأبيات شعرية» وهو عمل لفولخنسيو كابون الكاتب الشاب الذي حاز إعجاب النقاد في إسبانيا بأسرها. وكان فيرمين من حين لآخر يغمز لي بعينه مثل الشيطان الأعرج تماما.

«أذناك محمرتان مثل الجمبري يا دانيال.»

«هذا لأنني أسمع نكاتك.»

«ربما بسبب عذاب الروح. متى سترى الفتاة؟»

«ليس من شأنك.»

«آه، آه. تجنّبِ الأغذية الحارة فهي توسع الأوعية الدموية بشكل رهيب.»

«دعني بسلام.»

وكما يحدث غالبا في الآونة الأخيرة، يخف العمل ما بعد الظهيرة. دخل زبون له صوت رمادي مثل سترته، وطلب كتبا لزوريلا مقتنعا بأنها تروي مغامرات عاهرة شابة في مدريد تحت ظل حكم آل هابسبورغ. انذهل أبي وتردد في الإجابة فهرع فيرمين ليساعده وكان بليغا ومختصرا لمرة واحدة في حياته.

«زوريلا كان مؤلف مسرحيات. ولكن ربما يثير الدون جوان اهتمامك، فهنالك الكثير من الحبكات الغرامية ويرتبط البطل بعلاقة ماجنة مع راهبة.»

«أشتريه على الفور.»

كانت الشمس تغيب عندما تركني المترو على سفح تلة تيبيدابو. رأيت الترام الأزرق الذي يصعد إلى الشارع تحت ذلك الضباب المائل إلى البنفسجي، لكنني قررت ألا أنتظر حلول الظلام فمشيت نحو غايتي ووصلت إلى «ملاك الضباب» بعد بضع دقائق. فتحت البوابة بالمفتاح الذي أعطتني إياه بيا، ودخلت إلى الحديقة وتركته مواربا من أجلها. مازال الوقت مبكرا، ووفقا لحساباتي، كانت بيا ستصل بعد نصف ساعة على الأقل. أردت أن أبقى وحيدا بعض الوقت في ذلك القصر قبل أن يفيض بحضور بيا. وقفت أنظر إلى النافورة ويد الملاك التي تظهر من الماء مصبوغة بالقرمزي. كانت سبابته مسلولة كخنجر كأنها تتهم أحدا ما. اقتربت من الحوض ولاحظت الوجه الحجري يرتج تحت سطح المياه بلا روح أو نظرة مميزة.

صعدت على العتبات ولاحظت أنّ الباب كان مواربا بضعة سنتمترات. ويبدو أن القفل لم يمسسه أحد، فافترضت أنني نسيت أن أقفله قبل يومين. دفعت الباب بخفة فإذ برائحة القصر تجتاحني، مزيج من الخشب المحترق والرطوبة والأزهار الذابلة. أخرجت علبة الثقاب التي أخذتها معي قبل أن أخرج من المكتبة وجثمت على ركبتي لأشعل إحدى الشموع التي تركتْها بيا في المرة السابقة. أنارت الشمعة هالة من الضوء بنكهة العنبر فرأيت الرطوبة تعتلي الجدران والسقف المهشم والأبواب المخلوعة.

أشعلتُ كل شموع بيا واحدة تلو الأخرى، كأنني في قداس. فتوسعت الهالة الرقيقة كشِباك العنكبوت التي يحيطها الظلام من كل جانب، وراح ظلها يرفرف في الفراغ. جلست أمام مدفأة الصالون بجانب أغطيتنا المتسخة بالرماد. كنت آمل أن يعم الهدوء في القصر فإذ بألف صوت يخرج من العدم: خشخشة الخشب، صفير الريح بين فتحات السقف، وأنواع لا حصر لها من القطرات تتساقط من الجدران إلى الأرض.

وبعد نصف ساعة قررت أنهض وأنا أرتجف بردا وأشعر بالنعاس. فرحت أمشي ذهابا وإيابا كي أستمدّ الحرارة. لمحتُ بقايا جمرة في المدفأة، ففكرت كم سيكون الطقس باردا حين تصل بيا مما قد يلهمني الصفاء والعفة رغم شبق تخيلاتي في الأيام الأخيرة. دفعتني حاجة غريزية، تخلو من الشاعرية، إلى التمعن في طريقة لقضاء ذلك الوقت. فأخذت شمعة وقمت إلى مغامرة البحث عن مادة قابلة للاحتراق كي أُدفّئ بها الصالة وتلك الأغطية التي لم تحتفظ بحرارة ذكرياتنا عليها.

قادني اطلاعي على الأدب الفكتوري باكتشاف الطابق السفلي مبدئيا حيث يُرجَّح أن يحتوي على المطبخ ومخزن الفحم. كان علي أن أجد بابا يفضي إلى الطابق السفلي، فدخلت في ممر عميق ينتهي بباب خشبي منقوش. كان عملا فنيا جديرا بالتقدير رُسمت عليه وجوه ملائكة تطوّق صليبا ضخما في الوسط وكان المقبض تحت الصليب بالضبط. حاولت أن أديره لكنه لم يتحرك. لابدّ أنّ القُفل مُعطَّل أو صَدِئ. لم يكن أمامي سبيل لفتح ذلك الباب إلا خلعه بفأس أو هدمه برافعة، وهي بدائل غير عملية. نظرت بانتباه شديد فاكتشفت أنه أقرب إلى الناووس منه إلى الباب، وتساءلت ما الذي يوجد في الجهة الأخرى.

وبعد أن أمعنت النظر في الملائكة المنقوشة قررت أن أنسى الأمر وابتعدتُ، فإذ بي أجد بابا صغيرا على الجانب المعاكس من الممر، ظننته للوهلة الأولى باب خزانة. أدرت المقبض بسهولة فوجدت نفسي أمام سلم وعر ومظلم. واقتحمت رائحة الأرض المبللة مِنخَرَيّ بقوة. كانت تلك الرائحة مألوفة بشكل غريب حتى أيقظ ذلك البئر الدامس إحدى ذكريات طفولتي المدفونة في خوفٍ عميق.

في الجانب الشرقي من مقبرة مونتويك، كان الإعصار يدمي الظهيرة بوابل من المطر الغزير، بينما كنت أنظر نحو البحر الممتد خلف غابة من الأضرحة والصلبان والشواهد المنقوشة بوجوه أطفال بلا شفاه أو عيون، ورائحة الموت تحبس أنفاس عشرين مراهقا لا أذكر سوى ثيابهم السوداء التي بللتها حبات المطر، ويد والدي تشد على يدي بقوة كأنه أراد أن يلجم سيل دموعي، وصلوات القسيس الفارغة تهوي في قبر رخامي فيه ثلاثة رجال لا وجوه لهم يُنزلون نعشا رماديا كادت قطرات المطر تغلفّه كالشمع السائل، وشعرت بأنني ضمن هذا الضجيج أسمع صوت أمي تتوسل أن نحررها من ظلمة ذلك السجن الصخري، فهمستُ في سرّي ألاّ يشدّ أبي قبضته كثيرا، فقد كان يؤلمني وأنا أرتجف بردا وتخنقني رائحة الأرض النضرة، أرض الرماد السرابية التي كانت تبتلع كل شيء في ظلال من رائحة الموت والفقدان.

نزلت أدراج الظلام، وحين وصلت رفعت الشمعة ونظرت حولي: لم يكن من أثر لمطبخ أو مخزن فحم. هنالك ممر ضيق ينتهي بغرفة شبه دائرية، وثمت رسم لرجل حاد النظرات وتنهال على وجهه دموع من دماء. كان يفتح ذراعيه كالجناحين، ويلتفّ على رأسه تاجٌ من الشوك. اقشعر بدني. أدركت بعد ثوان أنني أمام مسيح خشبي معلق على جدار القبة. وفي الزاوية الأخرى عدد كبير من مجسمات نسائية، ليس لها أذرع أو رؤوس، مثبتة بحمالة على ثلاثة أقدام. كانت قياساتها تختلف من واحدة إلى أخرى كأنها لأجساد نساء بأعمار متفاوتة ومحددة باسم مكتوب بالفحم على البطن: إيزابيل، إيوجينيا، بينيلوب. أسعفتني ذاكرتي الأدبية لأفهم أنني أمام عادة خرجت عن الاستعمال، إذ كانت العائلات النبيلة تستخدم دمى المحلات لأخذ مقاسات النساء وتجهيز ملابسهنّ وفساتين أعراسهنّ. ورغم الوعيد الذي يقطر من نظرات المسيح فإنني لم أتمكن من مقاومة دمية بينيلوب آلدايا حتى تلمّستُ خصرها الناعم.

وفي تلك اللحظة سمعت صوت خطوات في الطابق الأعلى فتخيّلت أنّ بيا قد وصلت وتبحث عني. خرجت من القبة كي أعود إلى الصالة، وحينها لاحظت وجود مدفأة وجهاز تسخين بحالة جيدة كما يبدو. تذكرت ما قالته لي بيا عن تعديل بعض الأثاث لتشجيع المشترين الكبار. عاينت الجهاز، وكان عبارة عن آلة تدفئة على نظام المشعاع المركزي الموصول بسخّانة صغيرة. وهنالك أيضا سطول الفحم والحطب وصفائح قد تحتوي على سائل الكيروسين. فتحت زجاجة السخانة، كانت على ما يرام، لكن تشغيلها بدا أمرا مستحيلا. ومع ذلك ملأت الفرن بالفحم والحطب ورششت الكيروسين. سمعت قعقعة ما فاستدرت واثبا كي أتحرّى في الظلام. كم أرّقني خيالي برؤية المسامير النازفة دما تنبثق من الصليب وذلك المسيح الشنيع يتقدم نحوي بابتسامة شريرة.

اشتعلت السخانة على تماس لهيب الشمعة فأصدرت برقا ودويا معدنيا. أغلقتُ الزجاجة وابتعدت قليلا. بدا لي ذلك الجهاز يعمل ولو بصعوبة فقررت العودة إلى الأعلى. كنت أتوقع ظهور بيا لكنها لم تأت بعد. مضى على وصولي قرابة الساعة فتزايد خوفي من أنّ مشبعة رغباتي لن تأتي. ورحت أبحث كي أُهدّئَ من روعي عن أدلة على حياة السخانة، ولكن الوشائع التي وجدتها كانت باردة كالجليد. عدا وشيعة واحدة. في غرفة صغيرة بمساحة خمسة أمتار مربعة. حمّام صغير يقع فوق السخانة بالضبط يوحي بدفء فريد من نوعه. جثمت على ركبتي مسرورا كي أتأكد من أن البلاط كان فاترا. فوجدتني بيا في تلك الوضعية على أرجلي الأربعة، وانطبعت ابتسامة بلهاء على وجهها.

لا يسعني أن أبرّر ما وقع ذلك المساء سوى بالقول إنّ نقص الخبرة في سن الثامنة عشرة واستثنائية الظروف بوسعهما أن يحوّلا حمّاما قديما إلى جنة نعيم. لم يكن من الصعب إقناع بيا أن نحمل الأغطية وشمعتين كي نلوذ بتلك الغرفة الصغيرة التي تحتوي على شمعدان يليق بالمتاحف. تغلّبت عليها الأجواء المثيرة وربطت رغبتها بدوافعها فاستسلمت إزاء الدفء الذي يصعد من البلاط. أمّا أنا فقد كنت أخشى أن تضرم النيران المبنى كله. وبعد لحظات كنت أنزع ثيابها تحت الظلام بحركات هزلية وهي تحدق إليّ بابتسامة كي تُظهر لي أنها فكرت مسبقا في أي شيء كنت أفكر حينها، وعلى الدوام.

كانت جالسة مُسندةً ظهرها إلى باب الغرفة، وذراعاها مرتخيان ويداها تتجهان نحوي. مازلت أذكر عنقها الخزفي ونظراتها المتحدية بينما كنت أداعب وجهها برؤوس أصابعي. أذكر أنها أمسكت بيدي ووضعتهما على نهديها. وأذكر شفتيها وهما تنتفضان كلّما قرصت حلمتيها، وانزلاقها أرضا حين أغرقتُ وجهي بين ساقيها وهي تفرج فخذيها الأبيضين لأجلي.

«هل مارست سابقا يا دانيال؟»

«في الحلم.»

«أتحدث جديا.»

«لا. وأنت؟»

«لا. وكلارا برسلوه؟»

ضحكتُ، ربما كنتُ أسخر من نفسي.

«وما الذي تعرفينه أنت عن كلارا برسلوه؟»

«لا شيء.»

«وأنا مثلك وأكثر.»

«لا أصدق.»

انحنيت عليها ونظرت في عينيها.

«لم أمارس مع أي فتاة من قبل.»

ابتسمت بيا. داعبت فخذيها وبحثت عن شفتيها وبتّ مقتنعا بأن أكل لحوم البشر ما هو إلا خلاصة الحكمة.

«دانيال؟» قالت.

«نعم؟» سألت.

لم يتسن لها إكمال حديثها حتى شعرنا بهبوب ريحٍ زمهرير. وعرفنا أن سحر تلك اللحظة قد تبدد في لحظة لا تنتهي سبقت انطفاء الشموع، وأدركنا أنّ خلف الباب شخصًا يتربص بنا. رأيت الرعب يفتك بوجه بيا. طغت لحظة الظلام. ثم أعقبها صفق على الباب بهمجية كأن قبضة فولاذية تحاول اقتلاعه.

قفزت بيا فعانقتها. تحركنا إلى زاوية الغرفة قبل ثوانٍ من صفقة أخرى دفعت الباب بقوة فظيعة على الحائط. صرخت بيا وعانقتني بشدة. وفي جزء من الثانية، بين لوالب دخان الشموع التي انطفأت، تراءى لي ملامح رجل واقف على العتبة.

أخرجت رأسي من الباب خائفا، أو ربما راغبا في رؤية رجل مجهول عله يكون متسكعا يندس في تلك الدار المهجورة كي يلوذ من البرد القمطرير. لكنني لم أر أحدا عدا انعكاسات الضوء اللازوردية التي تتسرب من بين الستائر. همست بيا باسمي وكانت ترتجف وهي منكمشة على نفسها في إحدى زوايا الحمّام.

«لا يوجد أحد» قلت. «ربما كان ضرب الرياح.»

«الريح لا تلكم الأبواب يا دانيال. فلننصرف من هنا.»

عدت إلى الحمّام وجمعت ثيابنا.

«خذي ثيابك وارتديها. سألقي نظرة.»

«أنا أفضّل الانصراف من هنا.»

«دعيني أتفقد شيئا واحدا.»

ارتدينا ثيابنا تحت الظلام على عجل. وصارت أنفاسنا بخارا مجمدا في غضون ثوانٍ. أخذت شمعة من الأرض وأشعلتها. في القصر ثمت تيار ريحٍ صرصر كما لو أن أحدا فتح النوافذ والأبواب على مصراعيها.

«أترين؟ إنها الريح.»

اكتفت بيا بتحريك رأسها. اتجهنا صوب الصالون نحمي لهيب الشمعة بأيدينا. كانت بيا تمشي ملتصقة بي وبالكاد تتنفس.

«عمّ نبحث يا دانيال؟»

«أمهليني دقيقة واحدة.»

«لا، بل فلننصرف بعيدا.»

«حسنا.»

وما إن وصلنا إلى الردهة حتى انتبهتُ إلى أنّ الباب الخشبي المنقوش في عمق الممر، ذاك الذي حاولت فتحه عبثا منذ ساعة أو اثنتين، كان مواربا.

«ماذا هناك؟»

«انتظريني هنا.»

«أرجوك يا دانيال…»

دخلت في الممر وأنا أحمل الشمعة بين يديّ. تبعتني بيا على مضض. وجدت خلف الباب صمتا مهيبا وسلما رخاميا يهبط في قاع مظلم. بدأت أنزل بينما تحمل بيا الشمعة على العتبة والخوف يزلزل ركبتيها.

«أرجوك يا دانيال فلنذهب من هنا…»

نزلت عتبة تلو الأخرى حتى القعر. كانت الشمعة بالكاد تضيء غرفة مثلثة تسود الصلبان جدرانها الحجرية. وكان البرد شديدا هناك في الأسفل. بدا لي أنني وجدت شيئين متشابهين بأحجام متباينة في وسط الصالة. وتخيلت أنهما مطليان برخام أبيض لأنهما يعكسان ضياء الشمعة بكثافة كبيرة مقارنةً بباقي الأغراض في الغرفة. تقدمت خطوة ففهمتُ أنني كنت أمام قبرين. كان قياس الأول أكثر من المتر بقليل. انقضّت الرعشة الجليدية على ظهري. كان قبرا لطفل. كأنني في أسفل كنيسة إذن.

ودون أن أفكر بما كنت أقدم عليه، اتجهت صوب البلاطة الرخامية وتوقفت على بعد ذراع منها. كان القبران مكسوين بلحاف من غبار رمادي. وضعت يدي على القبر الأكبر ومسحت عنه الرماد ببطء. وقرأت على ضوء الشمعة:

بينيلوب آلدايا

1902-1919

تسمرت من الخوف. ثمت شيء يتحرك في الظلام. سمعت أنفاس هواء بارد فتراجعت خطوتين.

«اخرج من هنا» نطق الصوت من أعماق الظلام.

عرفته فورا. لايين كوبرت. صوت الشيطان.

هرعت صوب السلم وأنا أتدحرج حتى صعدت فأمسكت بذراع بيا ورحت أجرها نحو باب الدار. وقعت الشمعة منا ونحن نركض في الظلام. ولم تفهم بيا الخائفة ما سبب فزعي المفاجئ، لأنها لم تر أو تسمع أي شيء. لكن تلك اللحظة لم تكن مناسبة لتوضيح الأسباب إذ كنت أنتظر أن يخرج أحد من الظلمات ويعترض طريقنا بين ثانية وأخرى. فكان الباب الكبير ينتظرنا في آخر الممر مزدانا بظلال نور بعيد.

«إنه مقفل» صرخت بيا.

تلمست جيوبي بحثا عن المفتاح. استدرت فأدركت أن نقطتين مشعتين تتقدمان ببطء من عمق الممر نحونا… عينان… وجدت المفتاح أخيرا وأدخلته في القفل فاقدا صبري. فتحت الباب فوثبنا إلى الخارج أنا وبيا. لابد أنني أصبتها بعدوى الخوف لأنها اجتازت الحديقة راكضة ولم تتوقف إلا على رصيف شارع تيبيدابو بأنفاس ملتهبة وعرق متصبب.

«ما الذي حدث يا دانيال؟ هل كان هنالك أحد؟»

«لا.»

«وجهك مصفرّ.»

«وجهي أصفر دوما. هيا فلنذهب.»

«والمفتاح؟»

تركت المفتاح في القفل. ولم أكن في حالة تسمح لي بالعودة لاسترجاعه.

«لقد فقدته في العجلة. سنبحث عنه في المرة القادمة.»

ابتعدنا مهرولين واجتزنا الشارع حتى ابتعدنا مائة متر عن القصر على الأقل. خففنا من سرعتنا، وانتبهت أن يدي ما تزال متسخة بالرماد وحمدت ظلام الليل الذي أخفى دموع الفزع التي انهمرت على خديّ.

مشينا في حي بالميس حتى ساحة نونييز حيث وجدنا سيارة أجرة منعزلة. نزلنا حتى كونسخو دي ثيينتو دون أن نتبادل كلمة واحدة. أمسكت بيا يدي ولاحظت أنها ترمقني بنظرة جديّة. انحنيت كي ألثم ثغرها لكنها لم تفتحه.

«متى سنلتقي؟»

«سأتصل بك غدا أو بعد غد.»

«أتعدينني بذلك؟»

هزت رأسها مؤكدة.

«سأكون في البيت أو المكتبة. الرقم نفسه، وهو عندك أليس كذلك؟»

هزت رأسها مرة أخرى. قلت للسائق أن يتوقف عند تقاطع مونتانير بالديبوتاثيون وعرضت أن أرافقها حتى بوابة بنايتها لكنها رفضت. ابتعدتْ دون أن ألمس يدها. ورأيتها من السيارة تركض نحو البيت. وكانت أضواء شقة آغويلار موقدة وصديقي توماس واقف على قدميه خلف نافذة غرفته التي قضينا فيها أوقاتا سعيدة ندردش أو نتبارز في لعبة الشطرنج. حييته بيدي وابتسامة متشنجة لم يكن ليلحظها. لم يرد عليّ التحية وظلّ متسمّرا خلف الزجاج ينظر إليّ بعدم اكتراث. وما هي إلا ثوان حتى اختفى وأُطفئت الأضواء. كان ينتظرنا، قلت لنفسي.

35

عندما عدت إلى البيت، وجدت بقايا العشاء لشخصين على المائدة. كان والدي نائما وتمنيتُ أن يكون قد قرر دعوة مرسيديتاس أخيرا. دخلت غرفتي دون أن أشعل الأضواء وجلست على ظهر السرير. فانتبهت أن هنالك جثة تحت أغطية السرير، أحد ما تشتبك يداه على صدره. توقف قلبي عن النبض لوهلة، ثم سرعان ما سمعت شخيرا قويا ورأيت شكل أنف مميز ليس له مثيل. أضأت القنديل على الدرج، وها هو فيرمين يبتسم هانئًا ويصدر مواءً كأنه قط مستمتع. فتنفست الصعداء وحينها فتح جفنيه وبدا مستغربا من رؤيتي. كان ينتظر صحبة من نوع مختلف طبعا. مسح عينيه ونظر حوله مشتتا.

«أرجو ألا أكون قد أخفتك. برناردا تقول إنني أشبه بوريس كارلوف عندما أنام.»

«ماذا تفعل في سريري يا فيرمين؟»

أغمض عينيه متأثرا.

«كنت أحلم بكارول لومبار. كنا معا في طنجة داخل حمّام تركي أمسح كامل أنحاء جسدها بالزيت الذي يستخدم لمسح مؤخرات الرضّع. هل سبق وأن دلكت جسد امرأة بالزيت رويدا رويدا؟»

«الساعة منتصف الليل ونيف يا فيرمين وأكاد أموت من النعاس.»

«اعذرني يا دانيال ولكن أباك ألحّ أن نتعشى معا. ثم غلبني النعاس لأنّ لحم العجل يفعل بي هذا التأثير واقترح والدك الطيب أن أتمدد على فراشك قائلا إن هذا يسعدك.»

«وهذا لا يؤسفني فعلا. كدت أموت من الفزع ليس إلا. ابق هنا واحلم بكارول لومبار قبل أن ينفد صبرها بانتظارك. ولكن تغطّ جيدا فالبرد قارص لا تحتمله الذئاب ولا أريد أن يصيبك المرض. سأنام في الصالة.»

أومأ فيرمين برقة. كان لون الكدمات على وجهه غامقا، ويبدو رأسه الحليق والمحفوف بلحية نامية كفاكهة ناضجة سقطت لتوها عن الشجرة. أخذت غطاء من الخزانة وأعطيت واحدا لفيرمين أيضا، ثم أطفأت النور وذهبت إلى الصالة حيث تنتظرني أريكة والدي. التحفت الغطاء وبحثت عن وضعية مريحة وكنت على يقين من أنني لن أنام. فقد كانت صورة النعشين الأبيضين تحت الظلام تلاحقني. أغمضت عينيّ وأجهدت نفسي في تذكّر بيا العارية وهي مستلقية على الأغطية في الحمّام تحت ضوء الشموع. وبينما كنت أغط في تلك الخيالات سمعت صوت ضجيج بعيد عن البحر وكنت أستسلم للنعاس دون أن أنتبه. لعلّي كنت أبحر صوب طنجة. لكنني فطنت أنه ليس سوى شخير فيرمين المنتظم. وبعد لحظة تلاشى العالم. لم أنم عميقا في حياتي كلها كما نمتُ في تلك الليلة.

في الصباح التالي كانت السماء تمطر بغزارة. وباتت الشوارع سيولا والمطر يدكّ السطوح غاضبا. رن الهاتف في السابعة والنصف. فوثبتُ لأردّ وقلبي يخفق خوفا. كان فيرمين يرتدي المنشفة والخفّين ووالدي يمسك إبريق القهوة. تبادلا نظراتهما المتآمرة كالعادة.

«بيا؟» همست بالسماعة بعد أن أدرت ظهري لهما.

كنت أسمع تنهيدات عميقة من الجانب الآخر.

«بيا، أهذه أنت؟»

لم يجبني أحد وانقطعت المكالمة بعد لحظات. بقيت أنتظر على السماعة دقيقة كاملة آملا أن يرن الهاتف مجددا.

«ستعاود الاتصال مهما تأخرت يا دانيال. تعال وتناول فطورك» قال والدي.

ستتصل لاحقا، قلت لنفسي أنا أيضا، ربما باغتها أحد وهي على الهاتف. إذ لم يكن من السهل تحاشي حظر التجول الذي يفرضه السيد آغويلار، ولم يكن ثمت داعٍ للقلق. جلست على الطاولة. كان للطعام ألف طعم، ربما بسبب المطر.

فتحنا المكتبة وانقطعت الكهرباء عن الحي كلّه بسبب تماس كهربائي حتى منتصف اليوم.

«هذا ما كان ينقصنا» قال والدي.

في الثالثة ظهرا بدأت المياه تتسرب إلى المحل. اقترح فيرمين أن يذهب ليستعير من مرسيديتاس بعض السطول والأوعية الضرورية، لكن والدي منعه عن ذلك فالطوفان لم يكن ليتوقف. ولكي أقضي على الملل رويت على فيرمين ما حدث مساء أمس وتجنبت أن أقص ما رأيته في تلك المقبرة المنزلية. أصغى إليّ فيرمين باهتمام وأصرّ أن أصف له صدر بيا لكنني رفضت. وما زالت السحب تمطر حتى المساء.

بعد العشاء راح أبي يقرأ، فقرّرت الذهاب نحو بيت بيا بحجة تحريك ساقيّ. وعند زاوية الشارع وبينما كنت أنظر إلى نوافذ الشقة، سألت نفسي ما معنى ذهابي إلى هناك. للتجسس أو للفضول أو لاسوداد وجهي، كانت تلك بعض الأجوبة التي خطرت في ذهني. ورغم هذا لجأت إلى بوابة على الجانب المعاكس من الشارع هربا من الريح، إذ كانت كرامتي مغيّبة ولباسي لا يقيني ضراوة الطقس. بقيت واقفا نصف ساعة دون أن أحيد نظري عن نوافذ الشقة. رأيت أطياف السيد آغويلار وزوجته تمرّ من خلف الستائر. ولا أثر لبياتريز.

عدت إلى البيت حوالي منتصف الليل وأنا أتجمد من البرد والهمّ. ستتصل في الغد، كنت أكرر على نفسي محاولا أن أغفو. لكنها لم تتصل في اليوم التالي ولا باللاحق ولا بكل أيام ذلك الأسبوع الأطول والأخير في حياتي.

بعد سبعة أيام كدت ألتحق في عداد الموتى.

36

لا يهدر المرء وقته كما فعلت أنا في تلك الأيام إلا إذا تبقّى أمامه أسبوع واحد كي يرحل عن الحياة. كنت أقضي ساعات وساعات بجانب الهاتف، وأنا أستهلك عنفواني وأخضع لعمى البصيرة حتى كدت أستوعب حماقة القدر. عند منتصف يوم الاثنين، ذهبت إلى كلية الآداب آملا أن أصادف بيا. كنت أعلم أنها لا تفضّل أن يرانا الآخرون معا لكنني فضّلت أن أحتمل سخطها على أن تطحنني الشكوك.

سألت أحد الموظفين عن قاعة البروفسور فيلازغيز وانتظرت. وبعد عشرين دقيقة فُتحت الأبواب ورأيت الأستاذ يمر بأبّهة وأناقة معتادة، وتتبعه ثلة من المعجبين. انتظرت خمس دقائق أخرى: بيا ليست هناك. قررت أن أدخل القاعة. وجدتُ ثلاث فتيات - يبدو عليهنّ التأثّر بدروس المبادئ المسيحية - يدردشن ويطّلعن على الملخصات. رمقتني إحداهنّ بنظرة متحرية وكانت تبدو زعيمة المجموعة.

«المعذرة، كنت أبحث عن بياتريز آغويلار. هل تعرفن إن كانت ترتاد هذا الصف؟»

تبادلت الفتيات النظرات ورحن يتفحصنني بعناية.

«هل أنت خطيبها؟» سألتني إحداهنّ. «الملازم؟»

فسّرن ابتسامتي الغامضة على أنها تأكيد. وردّتْ واحدة منهن الابتسامة بمثلها على حياء، فيما بقيت الاثنتان ترمقانني بجسارة.

«كنت أتخيلك غير ذلك» قالت الجنرالة.

«وأين بزتك العسكرية؟» سألت اللواء الثانية وهي تراقبني.

«لقد تسرحت. هل تعلمن إن كانت قد عادت إلى البيت؟»

«بياتريز لم تأت إلى دروس اليوم» أكدت الزعيمة بنبرة متحدية.

«كلا» أكدت وصيفتها. «ولو كنت خطيبها حقا لعرفتَ ذلك.»

«إنني خطيبها ولست شرطيا.»

«فلنذهب من هنا. هذا ليس إلا مهرجا يهدر وقتنا» قالت القائدة.

مررن بجانبي بكبرياء وابتسامة فاترة. لكن الفتاة الثالثة التي بقيت خلفهما بخطوتين، همست قبل أن تخرج من القاعة وبعد أن تأكدت أنّ زميلتيْها لا يُشاهدانها:

«بياتريز لم تأت يوم الجمعة أيضا.»

«وهل تعلمين لماذا؟»

«أنت لست خطيبها صحيح؟»

«لا. أنا مجرد صديق.»

«أعتقد أنها مريضة.»

«مريضة؟»

«هكذا قالت زميلتنا التي اتصلت بها إلى البيت. عليّ أن أذهب الآن.»

ووصلت إلى رفيقتيها اللتين كانتا بانتظارها بفارغ الصبر في الباحة وأعينهنّ ترمي كالسهام.

2021/06/22 · 85 مشاهدة · 3414 كلمة
نادي الروايات - 2025