ربما حدث شيء ما يا دانيال. ربما توفي عم أبيها، أو أصابتها حمى البرد بعد أن ركنت مؤخرتها على أرضية الحمّام… لا تستغربْ إذا كانت المجرّة لا تدور حول غرائز قضيبك يا عزيزي، فهنالك عوامل أخرى تؤثّر في مسيرة البشرية.»

«وهل تظنّني لا أعرف هذا؟ ربما أنت لا تعرفني جيدا يا فيرمين.»

«لو كان الله قد منحني رحما مناسبا لأنجبتك يا دانيال، فأنا أعرفك جيدا. اسمعني، وحاول ألاّ تفكر في الأمر واخرج لتعديل مزاجك. القلق صدأ الروح.»

«هل أبدو مثيرا للسخرية؟»

«لا بل مشوش الذهن. في عمرك يسعى المرء لتضخيم بعض العوائق التي يواجهها ولكن لكل شيء حدوده. هذا المساء سنذهب أنا وأنت كي نروّح عن أنفسنا في حانة عظيمة لبيع الهوى في حي بلاتيريا، يُشاع عنها العجب العجاب. وقد بلغني مؤخرا وصول غانيات من ثيوداد ريال تلهبن مهجة القلب. وسأتكفل أنا بالنفقات.»

«وماذا عسى برناردا تقول؟»

«سأتصفح المجلات وأترك لك الفتيات وأستمتع بمحاسنهن عن بعد ريثما تنتهي. فإنني اعتنقت ديانة الارتباط بامرأة واحدة تطبيقيا على الأقل إن لم يكن فكريا أيضا.»

«أشكرك جزيل الشكر يا فيرمين ولكنني…»

«شاب في الثامنة عشرة يرفض عرضا كهذا يعني أنه لا يتمتع بكامل قواه العقلية. ومن الضرورة أن يخضع لعملية عاجلة. خذ.»

فتش في جيوبه وأعطاني بعض النقود. وتساءلت إن كان مقصد المال متعلقا بإيفادي إلى شاطئ الحوريات هذا.

«لن يردّوا علينا التحية بهذه القروش يا فيرمين.»

«يا لك من أبله يا دانيال. هل تصدّق أنني سآخذك إلى بيت دعارة لتعود إلى أبيك، أقدس رجل في العالم، وأنت مصاب بداء السيلان؟ لقد اخترعت قصة العاهرات كي أنبّه العضو الوحيد الذي يعمل في جسدك فأرى إلى أي مدى يتفاعل. ستستخدم هذه القروش الحديدية في الهاتف العمومي، هكذا بوسعك أن تتحدث مع حبيبتك بحميمية أكثر.»

«بيا قالت لي إنها هي التي ستتصل بي.»

«قالت لك أيضا إنها ستتصل الجمعة، ونحن في يوم الاثنين. كما تشاء. ولكن ضع في حسبانك أن الوقوع في غرام امرأة لا يعني بالضرورة أن تصدّقها في أي شيء.»

أقنعني فيرمين حتى وجدت نفسي بعد هنيهة في كابينة هاتف عمومي. ضغطت رقم آل آغويلار، وعند الرنة الخامسة رفع أحدهم السماعة دون أن ينطق شيئا. مرت خمس ثوان كاملة.

«بيا؟» همستُ. «أهذه أنت؟»

فانبثقت إجابة لها أثر المطرقة على البطن.

«يا ابن القحبة، سأضربك حتى تلفظ روحك.»

كان الغضب متماسكا في ذلك الصوت، هادئا وبارد الأعصاب. وهذا ما أخافني على الخصوص. كنت أتخيل السيد آغويلار يمسك بسماعة الهاتف نفسه الذي استخدمته مرارا كي أنذر والدي بأنني سوف أتأخر بعد يوم طويل أقضيه بصحبة توماس. وبقيت أصغي إلى أنفاس والدها اللاهثة وشككت بأنه عرف صوتي.

«ألا تقول شيئا أيها الوضيع؟ لو كنت رجلا لتشجعت لمواجهتي على الأقل. بيا شجاعة أكثر منك بكثير. لقد رفضت الكشف عن اسمك ولن تقوله أبدا. أعرفها جيدا. لكنها ستدفع هي ثمن أفعالك نظرا إلى جبنك وسفالة شخصيتك.»

كانت يداي ترتجفان حين أغلقت السماعة. وكنت مصدوما لأنني لم أتوقع أن تزيد مكالمتي من خطورة ما تتعرض له بيا. كنت أفكر في نفسي فقط وهكذا خذلت من أحبّ. وقد حصل هذا مسبقا عندما كاد المحقق فوميرو يردي فيرمين صريعا، وها أنا أترك بيا تواجه مصيرها بمفردها. وسوف أفعل ذلك كلمّا وقعت في ظرف مشابه. مشيتُ عشر دقائق محاولا أن أهدئ من روعي. وسألت نفسي إن لم تكن الحكمة تقتضي بمعاودة الاتصال والاعتراف بكل شيء للسيد آغويلار، والإفصاح عن هيامي بابنته. ولم أكن لأعترض لو هشّم وجهي وهو يرتدي بزته العسكرية. فليفعل ما يشاء. لقد كان محقا.

وفي عودتي إلى المكتبة رأيت رجلا يراقبني من الرصيف المقابل. للوهلة الأولى حسبته الدون فيديريكو الساعاتي، لكن ذاك كان أطول قامة وأكثر اكتنازا. وما إن نظرت إليه حتى أثنى رأسه، كأنه أراد أن يحييني ولم يكن يعنيه أنني اكتشفت أمره. كان ضوء الشارع ينير جانبا من وجهه فبدت لي تلك الملامح مألوفة. تقدم خطوة إلى الأمام وابتسم في وجهي بينما يشبك أزرار سترته المطرية، ثم اتجه نحو لاس رامبلاس وغاب في الزحام. تذكرته حينها: كان العميل الذي احتجزني بينما كان فوميرو يعذّب فيرمين المسكين. وعندما وصلت إلى المكتبة، رمقني صديقي بنظرة استجوابية.

«ما لوجهك شاحب؟»

«لدينا مشكلة يا فيرمين.»

قررنا ذلك المساء أن نباشر الخطة التي اتفقنا عليها مع الدون جوستابو برسلوه.

«يجدر بنا أن نتحقق أولا من أنهم يراقبوننا فعلا. سوف نذهب الآن إلى مقهى الس كواتري جاتس وكأن شيئا لم يكن، فنرى إن كان ما يزال في مكانه. ولا تخبرْ والدك بالموضوع وإلا انهارت أعصابه.»

«وبأي حجة أتذرع هذه المرة؟ سيكشف سرّنا قريبا.»

«قل له إنك ذاهب لتشتري حبوب اليقطين أو حلوى الشوكولا.»

«ولماذا الس كواتري جاتس بالتحديد؟»

«كي ندردش قليلا. ثم إنهم هناك يحضّرون أفضل الشطائر باللحوم المقددة في المدينة كلها. لا تكثر من الأسئلة وافعل ما أقول يا دانيال.»

كنت مستعدا لفعل أي شيء كي أتخلص من الأفكار التي كانت تؤرقني. خرجت من المكتبة بعد أن وعدت والدي بالعودة في ساعة العشاء. وعندما أدركتُ فيرمين على زاوية بويرتا دل آنخل، أشار إليّ بالمتابعة.

«لا تلتفتْ. فالجاسوس خلفنا بعشرين مترا.»

«هو نفسه؟»

«لا أعتقد، اللهم إلا إذا قلصته الرطوبة. وهذا يبدو ساذجا. يتجول بجريدة رياضية تعود إلى أسبوع مضى. فوميرو بات يجنّد المبتدئين في مخفر المجانين الذي يرأسه.»

وفي المقهى، جلس العميل المجهول على طاولة غير بعيدة عن طاولتنا، يتظاهر بقراءة أخبار مباريات الأسبوع الفائت. ويلقي علينا نظرة كل عشرين ثانية.

«يا له من مسكين، انظر كيف يتصبب عرقا» قال فيرمين وهو يهز رأسه. «أراك مرتبكا يا دانيال. هل تمكنت من التكلم مع الفتاة؟»

«أجاب والدها.»

«مكالمة ودية ومحترمة؟»

«بل أشبه بمونولج بالأحرى.»

«أفهم أنه لا يعاملك كصهر.»

«قال لي حرفيا إنه سيضربني حتى ألفظ روحي.»

«ربما كان مجازا أدبيا.»

وصل النادل ليأخذ طلباتنا. وراح فيرمين يحك يديه ويطلب طعاما لجيش عرمرم.

«وأنت ألا تطلب شيئا يا دانيال؟»

نفيت بإيماءة من رأسي. وعاد النادل بطبقين من اللحوم والشطائر والبيرة. دفع فيرمين الحساب وأخبره بأن يأخذ الباقي.

«سيدي، أترى ذلك الرجل الجالس بجانب النافذة؟ ذاك الذي يرتدي ثيابا تليق بصرصور ناطق ورأسه غارق في الجريدة مثل الكستناء الملفوف في الورقة؟»

هز النادل رأسه بحركة تآمرية.

«هلا أبلغته بأن المحقق فوميرو يبرق إليه رسالة عاجلة؟ عليه أن يتجه مباشرة إلى سوق بوكويرا ليشتري حمّصا مسلوقا بقيمة مائة بيزيتا ويأخذها إليه بأسرع ما يمكن إلى المخفر، ولو بسيارة أجرة إن لزم الأمر، وإلا فقد خصيتيه. هل أكرر ما قلت؟»

«ما من داع يا سيدي. مائة بيزيتا من الحمّص المسلوق وإلا دفع خصيتيه.»

تكرّم عليه بمزيد من البقشيش.

«باركك الله فيك.»

انحنى النادل باحترام وذهب لينقل الرسالة إلى ذلك الأبله. جحظت عينا العميل وترجرج خمس عشرة ثانية ثم هرع نحو الشارع فيما ينظر إليه فيرمين بحيادية تامة. كنت سأرى المشهد هزليا جدا لو حصل في لحظة أخرى لكني لم أنجح في نزع بيا من بالي.

«أين سرحت يا دانيال؟ علينا أن نتناقش في العمل. غدا ستذهب إلى نوريا مونفورت كما اتفقنا.»

«وماذا أقول لها؟»

«لن تنقصك المواضيع. يكفي أن تتبع خطة السيد برسلوه. قل لها إنك اكتشفت كذبتها بخصوص كاراكس، وإن زوجها ميغيل مولينر ليس في السجن، وإنها كانت تستلم المراسلات الموجهة إلى شقة فورتوني - كاراكس القديمة باستخدام صندوق بريدي باسم محام ليس له وجود. احصرها في الزاوية وتكلمْ بنبرة درامية واطرح سيناريوهات كارثية. ثم انصرف في اللحظة المناسبة واتركها تغلي على نار الشكوك.»

«وأثناء ذلك…»

«أثناء ذلك سأكون هناك لألحق بها. واعلمْ أنني سأكون متنكرا.»

«لن تنجح الخطة يا فيرمين.»

«ثقْ بالخطة تنجحْ. ماذا قال والد تلك الفتاة حتى تغيّر حالك؟ هل بسبب التهديدات؟ لا تنصدم!»

«أتريد معرفة الحقيقة؟»

«الحقيقة بحسب القديس دانيال الشهيد.»

«اسخر مني. أستحق ذلك.»

«لا أسخر منك يا دانيال، إنما يؤسفني أن أراك مهموما هكذا كما لو أنك ترتدي تاج الشوك في رأسك. أنت لم تقم بأي خطأ. هذا العالم مليء بالسجانين فلا يجدر بنا أن نهدر وقتنا في جلْد ذواتنا كما فعل توركويمادا المازوخي.»

«هل تتحدث عن سابق تجربة؟»

شدّ فيرمين كتفيه.

«لم تقل لي يوما كيف اصطدمت بفوميرو» ضغطت عليه.

«هل تريد أن تسمع قصة نموذجية؟»

«إن كنت ترغب في روايتها طبعا.»

سكب فيرمين لنفسه كأسا من النبيذ واحتساه في رشفة واحدة.

«حسنا» قال. «الجميع يعرف من هو المحقق فوميرو. في المرة الأولى التي سمعت باسمه كان المحقق الواعد قاتلا مأجورا لصالح الأناركيين. ذاع صيته على نطاق واسع لأنه لا يماطل في أي مهمة توكل إليه. يكفيه اسم الشخص ليغتاله بطلقة وجها لوجه، في وضح النهار وعلى مرأى الناس جميعا. كان واحدا من أولئك الرجال الذين يعلو شأنهم في الفترات العصيبة. ناهيك أنه لا يعرف معنى الوفاء والإخلاص للقيم، ولا يهتم بالقضية التي يخدمها بقدر ما كانت تخدمه. إنّ الأرض تكتظ بالشرسين أمثاله لكن قلة منهم تمتلك مواهبه. فيما بعد وضع نفسه في خدمة الشيوعيين ومنهم إلى الفاشيين برفة عين. كان يقوم باللعبة المزدوجة ويتقاضى الأموال من الجميع. كلفتُ بمراقبته منذ زمن حيث كنت أعمل لصالح حكومة كاتالونيا المستقلة في تلك الآونة. وفي بعض الأحيان كانوا يخطئون بيني وبين شقيق كومبانيس البشع وهذا ما كنت أفخر به.»

«وماذا كنت تعمل؟»

«الكثير من الأشياء. اليوم تُعرّف نشاطاتي على أنها تجسس، ولكننا في زمن الحرب نتحول جميعنا إلى جواسيس. كان جزء من عملي يتمحور على مراقبة الأشخاص الأشد خطورة مثل فوميرو. إنهم أفاع وكائنات بلا أخلاق، يتكاثرون في زمن الحروب. وفي زمن السلم يرتدون القناع. لكن طباعهم لا تتغير، وتعدادهم بالآلاف. على أية حالة ستكتشف أدوارهم عاجلا أم آجلا. أما أنا، والحق يقال، فاكتشفتها متأخرا. ما إن سقطت برشلونة حتى صرت مجرما في نظر القانون وأُجبر رفاقي الضباط الأعلى مني رتبة على التخفيّ كالفئران. وطبعا ترقّى فوميرو لإدارة العمليات «الأمنية». كانت الإعدامات، رشقا بالرصاص، تحدث في الشوارع أو في قلعة مونتويك. اعتقلوني في الميناء حين كنت أؤمن فرار بعض الضباط على باخرة يونانية. وساقوني إلى مونتويك وسجنوني في زنزانة مظلمة ليومين، وعلّقني فوميرو بالمقلوب بمساعدة رجل آخر يتحدث الألمانية حصرا. نزع الألماني ثيابي وأحرقها بلهيب مؤكسد. وكان يبدو أنه خبير بما يقوم. وحين بتّ عاريا والحروق تظهر على جلدي، قال لي فوميرو إن الحفلة سوف تبدأ إن لم أخبره عن مكان اختباء رفاقي الضباط. وأنا لست بطلا يا دانيال. ولم أكن كذلك يوما، لكنني تحليت بالقليل من الشجاعة لأشتم والدته وكل سلالته. فحقنني الألماني، بأمر من فوميرو، بسائل في فخذي وانتظر عدة دقائق. وبينما كان الآخر يدخن وينظر إلي مبتسما، راح الأول يشويني باللهيب المؤكسد. وقد رأيت الكدمات بأم عينك.»

هززت رأسي. كان فيرمين يتحدث بنبرة حيادية تخلو من العواطف.

«ولا تُعد تلك الجراح شيئا أمام الجراح التي لا تراها العين. قاومت لساعة كاملة، وربما لدقيقة واحدة، لا أعرف. ولكنني في النهاية أفشيت بأسمائهم وكنياتهم وحتى بقياسات قمصانهم. ثم ألقوا بي في زقاق من حي بويبلو سيكو، والحروق واضحة على جسدي العاري. فاستقبلتني سيدة طيبة في بيتها وعالجتني لمدة شهرين. كان الشيوعيون قد قتلوا زوجها وولديها على باب البيت، دون أن تعرف السبب. وعندما أصبحت قادرا على النهوض، بلغني أن فوميرو قد ألقى القبض على جميع الضباط، وتم إعدامهم بعد ساعات قليلة من خيانتي.»

«فيرمين إن كنت تفضّل عدم المتابعة في…»

«لا لا. من الأفضل أن تعرف الشخص الذي أمامك… عندما عدت إلى البيت، اكتشفت أن الحكومة صادرته مثلما صادرت كلّ أملاكي. فغدوت صعلوكا متسكعا على غفلة مني. بحثت عن عمل لكن أحدا لم يمنحني إياه. أسهل شيء تمكنت من تدبيره غالبا هو النبيذ الرديء، فسعره لا يتعدى القروش. إنه عبارة عن سم بطيء ينخر أحشاءك مثل الأسيد وكنت أتمنى أن يقوم بتأثيره سريعا. توهمت أيضا أنني أستطيع العودة إلى كوبا عند عشيقتي لكنهم اعتقلوني مجددا في اليوم الذي حاولت فيه الإبحار بباخرة شحن إلى هافانا. ولم يعد بوسعي عدّ الزمن الذي قضيته في ظلام السجن. بعد العام الأول، أدركت أنني كنت أفقد كل شيء، حتى الوعي. وحين خرجت من السجن بدأت أعيش في الطرقات حيث عثرتَ عليّ أنت منذ عدة أعوام. وكان هنالك الكثيرون مثلي، رفاق سجن أو عفو عام، أكثرهم حظا من كان يجد أحدا ينتظره في البيت، أو أيّ شيء يستحق العودة لأجله. أما الآخرون، أمثالي، زادوا في أعداد المستضعفين. تقف في طابور طويل ويعطونك بطاقة اشتراك في ذلك النادي لتصبح فيه عضوا مدى الحياة. كنا غالبا ما نتجول في الليل حصرا كي لا نثير الشبهات. وتعرفت على كثيرين ممن عانوا مثلي، لكنني نادرا ما التقيت بهم مرة أخرى. إذ لا يعيش المتسكعون طويلا، فالناس تنظر إليهم باشمئزاز بما فيهم أولئك الذين يقدّمون الصدقة. لكن ازدراء الآخرين لا يقارن بالقرف الذي تشعر به تجاه نفسك: جثة تمشي وتشعر بمعاناة الجوع، رائحتها كريهة وتعاند كي لا تموت. وظل فوميرو وأزلامه يعتقلونني بين حين وآخر بتهم متنوعة: سرقات أو مضايقة البنات اللواتي ينصرفن من مدارس الراهبات. فأرزح في سجن موديلو مدة شهر وأعذَّب بالعصيّ ثم أخرج إلى الشتات مرة أخرى. لم أفهم أبدا ما سبب تلك المعاملة، ولكنني أجزم أن الشرطة تحتاج دوما إلى لائحة من المشكوك في أمرهم فتغترف منهم حين تشتد الضرورة. وأثناء إحدى لقاءاتي الكثيرة مع فوميرو، الذي علا شأنه مع الوقت، سألته لماذا لا يقتلني مثلما فعل بالآخرين. فأجابني ضاحكا إنّ هنالك أنواعًا من القصاص أسوأ من الموت. كان يقول إنه لا يقتل الخونة، بل يتركهم للعفن.»

«لستَ خائنا يا فيرمين. فلم تكن أمامك خيارات. أنت صديقي المفضل.»

«لا أستحق صداقتك يا دانيال. أنت ووالدك أنجيتُماني وحياتي الآن معلقة بأيديكما. في اليوم الذي انتشلتني فيه من الشوارع، ولد فيرمين روميرو دي توريس من جديد.»

«هل هذا اسمك الحقيقي أم أنا مخطئ؟»

هز رأسه نافيا. «قرأته على إحدى اللافتات في ساحة لاس اريناس. لقد تخليت عن اسمي الحقيقي منذ أعوام مضت. فالرجل الذي كان يسكن هذا الجسد مات، مع أنه مازال يراودني أحيانا في الكوابيس. أنت يا دانيال علمتني كيف أستعيد الثقة بنفسي مجددا وأعطيتني دافعا للاستمرار في الحياة: برناردا غاليتي.»

«فيرمين…»

«لا تقل شيئا يا دانيال. بل سامحني إن استطعت.»

عانقته بصمت وتركته يبكي. كان الزبائن ينظرون إلينا ثم تجاهلونا فيما بعد. وبينما كنت أرافقه إلى النزل توسّل إليّ:

«اسمعني… لا تقل شيئا لبرناردا مما رويت عليك.»

«لا لبرناردا ولا لأي شخص آخر. سرّك في بئر يا فيرمين.»

تصافحنا وتودعنا.

37

قضيت الليلة ساهرا مستلقيا على السرير والنور موقد، أنظر إلى قلم مونتبلانك الذي لم أكتب به سطرا واحدا منذ أعوام. كنت أراه كزوج من القفازات الفاخرة تُمنح هديةً لشخص مبتور اليدين. فكرت في الذهاب إلى آل آغويلار والاستسلام لوالد بيا نظرا إلى انعدام البدائل. ولكنني، وبعد تمعّن عميق، توصلت إلى أنّ مداهمة ذلك المنزل ليلا لن تزيد الطين إلا بلة. بزغ الفجر وأنا منهك فرأيت أن الحل الأفضل هو انتظار ما ستؤول إليه الأمور، مستندا بذلك إلى أنانيتي الضيّقة.

كانت الصبيحة في المكتبة هادئة فانتهزت الفرصة لأنام واقفا بتوازن يعجز عنه الحصان، على حد وصف والدي. وفي منتصف النهار، اخترعت حجة للخروج كما اتفقنا في المساء السابق، وتذرع فيرمين بالذهاب إلى الطبيب كي ينزع اللصاقات. لم يشك والدي في شيء لكنني كنت أكذب عليه بشكل ممنهج وهذا ما كان يزعجني. أطلعت فيرمين على هواجسي.

«يا دانيال إنّ العلاقة بين الولد والوالد تقوم على كذبات صغيرة لا تنتهي وغاياتها حميدة. الهدايا التي يحملها يسوع الطفل، فأر الأسنان وخرافات أخرى كثيرة… لا تشعرْ بالذنب.»

خرجت متعجلا في اللحظة المناسبة متجها صوب نوريا مونفورت، وقلبي يخفق لأنني سألقاها ثانية. وكانت ساحة سان فيليب نيري مرتعا لسرب كسول من الحمام. تمنيت أن أجد نوريا جالسة على المقعد مع كتابها، لكن الساحة خاوية من الناس. اجتزتها تحت أنظار العشرات من الطيور، وأنا أنظر حولي بحثا عن فيرمين المتخفي في مكان لا يعرفه غير الله. دخلت الردهة وتحققت أن اسم ميغيل مولينر ما يزال على صندوق البريد. كان هذا من أولى المغالطات التي سأطلع نوريا عليها. وبينما كنت أصعد السلم المعتم تمنيت ألاّ أجدها في البيت، ومن ينتمي إلى فصيلتي يتعاطف مع المخاتلين أمثالي. تمهلت قليلا في الفناء كي أجمع شجاعتي وأفكر في حجة معقولة لزيارتي. كان راديو الجارة يبث «قديسٌ في الجنة»، برنامج مسابقات في المواضيع الدينية، يشدّ إسبانيا كلها للتجمع حول الراديو في منتصف النهار من كل ثلاثاء.

والآن سؤال موجّه إلى بارتولوميه بقيمة خمسة وعشرين بيزيتا: يتجلى الشيطان لحكماء قبة العهد بحسب الملاك جبريل وسفر يوشع بن نون متسترا في: آ) عنزة. ب) تاجر خزفيات. ج) مهرّج بصحبة قرد.

وبعد أن سمعت تصفيق الجمهور الحاضر في استديوهات راديو ناثيونال طرقت بدقة على باب نوريا مونفورت. وتوهمت لوهلة أنها ليست موجودة، وكنت على وشك الانصراف حين سمعت خطوات خفيفة ولمحت دمعة ضوء تلمع في كوة الباب. دار المفتاح في القفل والتقطتُ أنفاسي بعمق.

38

«دانيال» قالت مبتسمة في انعكاس الضوء.

كان دخان السيجارة اللازوردي يستر وجهها فيما تزدان شفتاها الرطبتان بصبغ قرمزي داكن يترك أثر الدماء على عقب السيجارة التي تحملها بين الوسطى والسبابة. بعض الأشخاص يخطرون في بالنا بفضل الذكريات، وآخرون يتجسدون في أذهاننا كالأحلام المعقدة. كنت أعتقد أن لنوريا مونفورت سمات المعجزة: لا أشك بوجودها إنما أتخيل أنها قد تتلاشى بين لحظة وأخرى. تبعتها إلى الصالة الصغيرة الغارقة في الظلام حيث كانت منضدتها وكتبها وأقلام الرصاص المبرية بإتقان.

«ظننت أنني لن ألقاك ثانية.»

«المعذرة، لقد خيّبت ظنك.»

جلست على كرسي المنضدة ووضعت ساقا على ساق وأسندت ظهرها. نزعتُ بصري عن ذلك العنق الشهي وركزت النظر في بقعة رطوبة على الحائط. اقتربت من النافذة وألقيت نظرة خاطفة على الساحة. لم أجد فيرمين. كنت أصغي إلى أنفاس نوريا خلف ظهري، وأفكر في كثافة نظراتها. بدأت حديثي دون الالتفات إليها.

«منذ بضعة أيام اكتشف أحد أصدقائي الأعزاء أن مدير شقة فورتوني القديمة كان يبعث المراسلات البريدية إلى مكتب محام ليس له وجود على ما يبدو. وعلم صديقي نفسه أن أحدا كان يستلم المراسلات من صندوق البريد في السنوات الأخيرة مستخدما اسمك، السيدة مونفو…»

«اخرس.»

لجأتْ إلى الظل بينما كنت ألتفت نحوها.

«أنت تحكم عليّ دون أن تعرفني.»

«ساعديني كي أعرفك بشكل أفضل إذن.»

«مع من تحدثت بالأمر؟ من يعلم به الآن؟»

«أكثر من شخص. والشرطة تراقبني منذ مدة.»

«فوميرو؟»

أومأت مؤكدا فارتجفت يداها.

«أنت لا تعي ما تفعل يا دانيال.»

«اشرحي لي أنت يا سيدتي» أجبتها بقسوةٍ كنت أول المستغربين منها.

«هل تحسب أن عثورك على كتاب بالصدفة يعطيك الحق في اقتحام حياة أشخاص لا تعرفهم؟ هل تظن أنك قادر على توريط نفسك بشؤون لن تفهمها ولا تخصّك أصلا؟»

«الآن باتت هذه الأمور تخصّني شئت أم أبيت.»

«أنت لا تدري ما تقول.»

«كنت في قصر آلدايا. أعرف أن خورخي يختبئ هناك. أعرف أنه هو الذي اغتال كاراكس.»

حدقت إليّ طويلا.

«وهل يعلم فوميرو بهذا؟» سألتني.

«ليس لدي فكرة.»

«من الأفضل أن تتحقق من الأمر. هل لاحقك حتى هناك؟»

كانت عيناها تقدحان شررا من شدة الغيظ. فأنا دخلت بيتها كي أتهمها وأقاضيها وأحكم عليها في حين كنت الجاني تحديدا.

«لا أعتقد. هل كنت تعلمين ذلك؟ هل كنت على علم بأن آلدايا هو قاتل خوليان وأنه يختبئ في ذلك القصر… لماذا لم تقولي لي هذا؟»

كانت تتصنع ابتسامة مُرّة.

«لم تفهم الأمر، أليس كذلك؟»

«لم أفهم سوى أنك كذبت عليّ كي تدافعي عن مجرم قتل رجلا تسمّينه صديقك، وتسترت على هذه الجريمة لأعوام، وحميت مجنونا كان هدفه الوحيد أن يمحو أي أثر لخوليان كاراكس بإحراق كتبه. كذبت في خصوص زوجك، إذ لا وجود له في السجن ولا في هذا البيت على ما يبدو. هذا ما فهمته.»

«اغرب عن وجهي يا دانيال. انصرف ولا تعد إلى هنا أبدا. لقد ارتكبت بما فيه الكفاية من الحماقات.»

اتجهت صوب الباب ثم توقفت وعدت أدراجي. كانت نوريا مونفورت تجلس على الأرض وتستند بكتفيها إلى الحائط. لقد تبددت ثقتها الظاهرية.

اجتزت ساحة سان فيليب نيري وأنا أشعر بالألم الذي كان يعذّب تلك المرأة، وأشعر بأنني مجرد أداة من أدوات التواطؤ في تلك المعاناة. «أنت لا تعي ما تفعل يا دانيال.» كنت أرغب في الابتعاد عن ذلك المكان بأي ثمن. وحين مررت قبالة الكنيسة لمحتُ راهبا هزيلا كالمسمار، وأنفه كبير، يباركني من العتبات وهو يحمل بيديه كتيبا دينيا ومسبحة.

39

عدت إلى المكتبة متأخرا ثلاثة أرباع الساعة. نظر والدي بنفاد صبره إلى الساعة.

«ألا يبدو لك أنك تأخرت؟ تعرفان أنه عليّ الذهاب إلى سان كوجات لألتقي بزبون فتتركاني وحيدا هكذا.»

«ألم يعد فيرمين من عند الطبيب؟»

أجابني بإشارة مستعجلة تذكّرني بمزاجه المكدّر.

«آه، انظر وصلتك رسالة. تركتها قرب الصندوق.»

«اعذرني يا أبي فإنني…»

ارتدى سترته وقبعته وخرج دون أن يودّعني. كان غيظه سيفتر قبل أن يصل إلى المحطة، فقد كنت أعرفه جيدا. لكنني انشغلتُ باختفاء فيرمين. لقد رأيته بزيّ الراهب في ساحة سان فيليب نيري ينتظر نوريا مونفورت أن تقوده إلى مخارج السرّ العظيم. لم أكن أثق جدا بتلك الخطة وكنت أعتقد أن نوريا إن خرجت من المنزل فإنها لن تذهب أبعد من الفرّان أو الصيدلية عند زاوية الشارع. يا لها من خطة محكمة. اقتربت من الصندوق وألقيت نظرة على الرسالة التي وصلتني. كان الظرف، بشكله المثلث ولونه الأبيض، يبدو كشاهدة قبر يحلّ فيها العنوان الفظيع بدلا من الصليب.

حكومة برشلونة العسكرية

مكتب التجنيد

«هللويا» هتفت.

كنت أعرف مسبقا ما الذي يحتويه الظرف. ومع ذلك فتحته بدافع الغرق حتى القاع. كانت السطور موجزة، مقطعان من نثر معقد، تخبرني بأنه ينبغي عليّ، أنا دانيال سيمبيري مارتين، أن أستعد لأداء واحد من أكثر الواجبات تقديسا على الذَكَر الإيبيري: خدمة الوطن وارتداء الزي العسكري ذودا عن القيم الروحية للغرب المسيحي. تمنيت أن ينجح فيرمين في إضحكانا بهجائه لـ «فشل المؤامرة اليهودية الماسونية». عليّ أن ألتحق في غضون شهرين. أي ثمانية أسابيع. يعني ستين يوما. وكنت سأظل أقسّم الوقت حتى الوصول إلى رقم ضوئي مكون من خمسة ملايين ومائة وأربعة وثمانين ألف ثانية من الحرية. ومن يدري إن كان بوسع الدون فيديريكو، القادر على تصنيع فولكس فاجن كما يقول والدي، أن يصنع لي ساعة مجهزة بالمكابح كي أخفف من إهدار الزمن. وكم كنت في حاجة إلى من يشرح لي ماذا أفعل كي لا أفقد بيا إلى الأبد. وفجأة رنّ الجرس المعلّق على الباب، فجهّزت نفسي لرؤية فيرمين يعود بخفيّ حُنين.

«من أرى؟! وليّ العهد في عرينه المستحقّ، ولكن بوجه شاحب.» قال جوستابو برسلوه وكان يرتدي معطفه الطويل الأنيق ويتكئ على عكاز، بمقبض عاجيّ، ليس له لزوم كأنه راع. «أين أبوك يا دانيال؟»

«المعذرة يا دون جوستابو. والدي ذهب إلى أحد الزبائن.»

«جيد جدا. لم آت إلى هنا من أجله. من الأفضل ألا يعلم شيئا ممّا سأقوله لك.»

نزع قفازيه وألقى نظرة عامة على المحل.

«وزميلنا فيرمين؟»

«إنه يناضل على الجبهة.»

«أتخيل أنه يضحي بنفسه لحلّ لغز كاراكس.»

«إنه يكرّس نفسه للمسألة جسدا وروحا. كان يرتدي زيّ الرهبان في آخر مرة رأيته فيها ويلقي خطبة الفاتحة البابوية.»

«أفهم ذلك… الذنب ذنبي. لم يكن من الضروري أن أقترح عليكما هذه الخطة.»

«تبدو لي محتارا. هل طرأ شيء ما؟»

«لا لا. بل أجل.»

«قل لي يا دون جوستابو.»

ابتسم بائع الكتب برقّة. تراجعت طباعه المتغطرسة وحلّ مكانها حذرٌ مشوبٌ بالاضطراب.

«هذا الصباح تعرفت على مانويل غوتييريز فونسيكا، وهو سيد يناهز التاسعة والخمسين عاما، أعزب وموظف في حجرة الموتى في بلدية برشلونة منذ العام 1924. ثلاثون عاما من الخدمة على أعتاب العدم والظلمات. أقتبس جملته كما هي. الدون مانويل رجل نبيل من الطراز العتيق، وهو أنيق ومهذب وشهم. يعيش منذ خمسة عشر عاما في غرفة لا أثاث فيها في شارع لاسينيزا، مع اثني عشر خوريا صغيرا يتعلمون تصفير المرش الجنائزي. كما أنه مشترك في مسرح الأوبرا ويعشق فيردي ودونيزيتي. يدّعي بأنّ الإذعان للنظام عنصر جوهري في عمله، لاسيما في المواقف التي لا يكون فيها للمرء

2021/06/22 · 130 مشاهدة · 3580 كلمة
نادي الروايات - 2025