حولٌ أو قوة. منذ خمسة عشر عاما، حدث أن فتح الدون مانويل حقيبة جلدية سلمته إياها الشرطة فوجد فيها رأس صديق طفولته الغالي على قلبه. وكان باقي الجسد في كيس منفصل. ومنذئذ أذعن مانويل للنظام.»
«هل ترغب بفنجان قهوة يا دون جوستابو؟ لقد اصفرّ وجهك.»
«أشكرك.»
أخذت حافظة القهوة وسكبت ما فيها بالفنجان ووضعت فيه ثمانية ملاعق من السكر. فازدردها برسلوه برشفة واحدة.
«هل تشعر بتحسّن؟»
«أجل شكرا. إذن، الحال أنّ الدون مانويل كان في عمله حين أتوا بجثة خوليان كاراكس إلى حجرة الموتى، في آب 1936. وما كان الدون مانويل ليذكر الاسم طبعا لولا إنعاش ذاكرته بتحرٍّ سريع في الأرشيف وإكرامية مادية مني من شأنها أن تدعم راتبه التقاعدي الشحيح. هل أنت معي؟»
حرّكت رأسي.
«يذكر الدون مانويل ذلك النهار جيدا لأنه أقر لي بأنه تجاوز النظام يومها وهو نادرا ما يرتكب غلطة كهذه. قالت الشرطة إنهم عثرواعلى الجثة في زقاق من حي الرافال قبل الفجر بسويعات. وصلَ الرُفاتُ إلى حجرة الموتى في منتصف الصباح. وكان الميت لا يحمل معه سوى كتاب وجواز سفر يعرّف بأنه خوليان كاراكس، المولود في برشلونة عام 1900. ويشهد ختم حدود لاخونكويرا على جواز السفر بأنّ كاراكس قد دخل إلى إسبانيا قبل شهر. ولقي مصرعه بسبب سلاح ناري ظاهريا. دون مانويل ليس طبيبا لكنه تعلم الكثير من الأشياء بفضل الخبرة. فهو يرى أنّ العيار الناري، بمحاذاة القلب، قد أطلق من مسافة قريبة جدا. سمحت المعلومات على جواز السفر بالوصول إلى السيد فورتوني، والد كاراكس، الذي حضر إلى حجرة الموتى في مساء اليوم نفسه كي يتعرف على الجثة.»
«حتى هنا كل شيء يتطابق مع رواية نوريا مونفورت.»
«صحيح. لكن نوريا مونفورت لم تقل لك بأن الدون مانويل، حين شكّ بجديّة الشرطة في الكشف عن الجريمة ولاحظ أن الكتاب الموجود في سترة الجثة كان من مؤلفات المغدور، اتصل بدار النشر في الظهيرة قبل أن يصل السيد فورتوني.»
«مونفورت تؤكد أنه اتصل بدار النشر بعد ثلاثة أيام من وصول الجثة فقط، أي بعد دفنه في حفرة جماعية.»
«أمّا الدون مانويل فيؤكّد أنه اتصل في اليوم الذي وصلت فيه الجثة إلى حجرة الموتى. يقول إنه تحدث مع سيدة شابة لطيفة جدا شكرته على اتصاله، ويذكر أنه ظل مشدوها من نبرة صوتها لأنها بدت كأنها تعرفه مسبقا، كما يدّعي.»
«وماذا قال عن السيد فورتوني؟ هل صحيح أنه رفض التعرف إلى جثة ابنه؟»
«هذا هو التفصيل الذي لفت انتباهي وأردت التحقق منه. يروي الدون مانويل أن رجلا عجوزا جاء إليه بصحبة عنصرين من الشرطة قبل مغيب الشمس بقليل وهو السيد فورتوني. تتركز صعوبة ذلك العمل على إقناع أحد أفراد العائلة بضرورة التعرّف إلى جثة أحد أبنائهم، الأمر الذي لا يستطيع الإنسان الاعتياد عليه. إنها لحظة عذاب شاقّ، لكن العذاب الأكبر إذا كان الميت شابا وعلى والديه أو شريكه أن يقوم بهذه المَهمّة الصعبة. الدون مانويل لم ينس السيد فورتوني: وقف الأخير على عتبة الحجرة والعنصران على يمينه وشماله وأصدر نواحا يعجز اللسان عن وصفه وهو يكرر: «ماذا فعلوا بابني؟ ماذا فعلوا بابني؟»»
«هل رأى الجثة؟»
«رغب الدون مانويل في أن يقترح على الشرطة أن تعفي فورتوني من ذلك. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشذ فيها عن الإذعان للنظام وتطبيق القوانين بحذافيرها. كانت الجثة في حالة يرثى لها، فالرجل مات قبل أكثر من أربع وعشرين ساعة عندما جاؤوا به إلى الحجرة، وليس في الصباح كما تدّعي الشرطة. كان يخشى أن يصاب العجوز بلوثة نفسية إذا رأى جثة نجله. رفض فورتوني الخضوع للواقع، وظل ينوح غير مُصدّق أنّ ابنه خوليان قد مات… في تلك اللحظة رفع الدون مانويل الكفن وطلبوا من العجوز أن يتعرّف على جثة ابنه.»
«وماذا بعد؟»
«أمعن السيد فورتوني النظر في الجثة بصمت مطلق حوالي الدقيقة. ثم استدار وانصرف.»
«انصرف هكذا؟»
«تماما.»
«ولم تمنعه الشرطة عن ذلك؟ ألم يكونوا هناك للتحقق من الجثة؟»
«بلى، نظريا. لكن الدون مانويل يذكر أنّ هنالك شخصًا آخر في المكتب، شُرطيًّا ثالثًا دخل بينما كان العميلان برفقة السيد فورتوني أمام الجثة. ظلّ يتابع المشهد عن قرب، مُسندا ظهره إلى الحائط والسيجارة في فمه. مازال الدون مانويل يذكره لأنه عندما حاول تذكيره بأن القانون يمنع التدخين في حجرة الموتى منعا باتا، أشار إليه أحد العنصرين بإغلاق فمه. وما إن انصرف السيد فورتوني حتى دنا الشرطي الثالث وألقى نظرة خاطفة على الميت وبصق في وجهه. ثم وضع جواز السفر في جيبه وأمر بإرسال الرُفات إلى ضاحية تونس21 ليُوارى الثرى في حفرة جماعية صباح اليوم التالي.»
«ثمت شيء غير مفهوم.»
«أجل، وقد فكر فيه الدون مانويل أيضا، لاسيما أنّ هذا الإجراء لا يتوافق مع النظام والقانون. اعترض متسائلا «كيف ونحن لا نعرف من يكون؟». تجاهله الشرطيان فتحداهما الدون مانويل: «إنكم على علم تامّ بالمسألة. من الواضح أن هذا الرجل ميت منذ يوم على الأقل». كان الدون مانويل مصابا بحمى اتباع القوانين واحترام النظام، لكنه لم يكن غبيا. فعندما نظر إليه الشرطي الثالث بشراسة قلّ مثيلها، وسأله إن كان يرغب في مرافقة تلك الجيفة إلى الدرك الأسفل من جهنّم، ارتعد الدون مانويل حقا. كانت نظرة ذلك الرجل تدبّ الرعب في القلوب وتوحي بأنه عصابيّ ولا يمزح أبدا. برر الدون مانويل قائلا إنه إنما أراد مجاراة القوانين المتبعة، والتي تمنع دفن مواطن مجهول بهذه السرعة. «أنا سأقرر من هو هذا الرجل» ردّ الشرطي. أمسك بالسجل ووقّع تحت اسم الميت. يدّعي الدون مانويل أنه لن ينسى ذلك الإمضاء ما بقي حيا، لأنه صادفه عشرات المرات، خلال الحرب الأهلية وما بعدها، على صفحات سجلات المقتولين، قرب جدول الجثث مجهولة الهوية إذ كان لا أحد يعرف من أين تصل ولم يكن بمقدور أحد التعرف عليها.»
«المحقق فرانثسكو خافيير فوميرو.»
«القائد الممجّد في سلك الشرطة. هل تعلم ما معنى هذا يا دانيال؟»
«هذا يعني أننا خلطنا عَمرا بزيدٍ منذ البداية.»
أمسك برسلوه بعكازه وحمل قبعته واتجه نحو الباب مكتئبا.
«هذا يعني أن الحكاية بدأت توّا.»
40
لم أنشغل خلال المساء إلا بالتفكير في التحاقي الوشيك بالجندية وفي انتظار فيرمين. بقي القليل على إغلاق المكتبة ولم يظهر صديقي بعد. اتصلت بالنزل في حي خواكين كوستا وأخبرتني السيدة أنكارنا بصوتها التالف أن فيرمين خرج في الصباح ولم يعد حتى الساعة.
«سيجد العشاء باهتا إن لم يعد خلال نصف ساعة. هذا ليس فندق ريتز باريس. هل أصابه مكروه؟»
«اطمئني يا سيدة انكارنا. لابد أنه استغرق في سمسرة بعض المبيعات فتأخر. بأية حالة، إن رأيته قبل أن تنامي سأكون ممتنا لك لو أخبرته بأن يتصل بي. أنا دانيال سيمبيري، جار صديقتك مرسيديتاس.»
«دون شك. ولكنني أحيطك علما بأنني أنام في الثامنة والنصف.»
اتصلت ببرسلوه مباشرة، آملا أنّ يمرّ به فيرمين كي يفرّغ جعبته أو ليخرج مع برناردا إلى مكان ما. ولم أتوقع أن تجيبني كلارا.
«دانيال، يا للمفاجأة.»
وأنا فوجئتُ مثلك، قلتُ في سرّي. وبعد أن قمت بخطبة مختصرة تليق بالدون آناكليتو، أفصحت عن سبب اتصالي دون اهتمام.
«لا. لم يأت فيرمين اليوم. كنت مع برناردا طيلة الظهيرة وكنت سأنتبه لوجوده. أتعرف أننا تحدثنا عنك؟»
«كانت محادثة مملة.»
«برناردا تقول إنك شاب وسيم، بل قد أصبحت رجلا.»
«أتغذى على الفيتامينات.»
هيمن الصمت طويلا.
«هل تعتقد أننا سنعود يوما أصدقاء يا دانيال؟ كم سيمضي من الوقت كي تغفر لي؟»
«نحن أصدقاء يا كلارا، ولم تخطئي كي أغفر لك. تعلمين هذا.»
«عمي يقول إنك ما تزال تستقصي عن خوليان كاراكس. لمَ لا تأتي لزيارتي وتروي عليّ المستجدات؟ أنا أيضا لديّ ما أخبرك به.»
«حسنا. في بحر هذا الأسبوع.»
«سوف أتزوج يا دانيال.»
شعرت بالغثيان يصعد إلى رأسي ليسقطني أرضا، أو بأنني أصبحت قزما على حين غرة.
«هل ما زلت على الخط يا دانيال؟»
«نعم.»
«هل فوجئت؟»
حاولت أن أظهر مهذبا رغم التشنج الذي أصابني.
«بل فوجئت بأنك لم تتزوجي بعد. فطابور الراغبين في خطوبتك بازدياد. من هو سعيد الحظ؟»
«لا تعرفه. يدعى يعقوب، وهو صديق العم جوستابو، ويعمل في إدارة مصرف إسبانيا. تعارفنا خلال حفلة نظمّها عمي. فهو مولع بالموسيقى الأوبرالية، ويكبرني سنا ولكننا خير أصدقاء. وهذا هو الأهم أليس كذلك؟»
خطرت إحدى النكات اللعينة في بالي لكنني وفّرتها.
«طبعا… تهانينا إذن.»
«لن تغفر لي أبدا، أليس كذلك؟ سأبقى في نظرك كلارا الشريرة.»
«ستبقين كلارا وحسب. وهذا ما تعرفينه جيدا أيضا.»
طغى صمت ثقيل يصلح لجسّ النبض.
«وأنت يا دانيال؟ فيرمين يقول إن لديك عشيقة في غاية الجمال.»
«اعذريني عليّ أن أغلق يا كلارا. لقد دخل أحد الزبائن. سأتصل بك بعد عدة أيام لنتفق على موعد. وتهانينا مجددا.»
أغلقتُ السماعة وتنهدتُ عميقا.
عاد والدي بملامح متجهمة وبرغبة قليلة في الكلام. راح يحضّر العشاء بينما كنت أعد المائدة، ولم يسألني عن أخبار فيرمين ولا كيف أمضيت النهار في المحل. تعشّينا وأبصارنا مركّزة في الطعام، ونحن نصغي بعدم اكتراث إلى الترهات التي يبثّها الراديو. بالكاد لمس الطعام واكتفى بتحريك ذلك الحساء بلا نكهة، كما لو أنه يبحث عن قطع ذهبية في عمق الزبدية.
«لم تأكل شيئا.»
نهض ليُطفئ الراديو.
«ماذا تقول رسالة الجيش؟» سألني.
«عليّ أن ألتحق في غضون شهرين.»
شاخ والدي عشر سنوات في لحظة واحدة.
«سيتكلم برسلوه مع بعض أصدقائه، وبعد دورة الأغرار يرسلونني إلى القيادة العسكرية في برشلونة. بوسعي أن أنام في البيت بعض الليالي» قلت.
لم يكن يبدو أنني أقنعتُه بكلامي. نهضت كي أنظّف الطاولة حين فشلت في مواساة نظراته المتألمة. ظل جالسا يحدق في الفراغ، وأصابع يديه تتشبث بذقنه. وبينما رحت أغسل الأطباق سمعت صدى لبعض الخطوات تصعد السلالم. خطوات واثقة وعصبية تنتقل بقوة من عتبة إلى أخرى ولا توحي بحسن النوايا. تبادلنا أنا ووالدي نظرة مرتبكة. توقفت الخطوات عند فنائنا. نهض أبي عن الطاولة مضطربا. فطرق أحدهم الباب وصرخ بصوت حادّ ومألوف.
«افتحوا! الشرطة!»
اخترقتني بعض الأفكار السلبية كالرماح. ارتج الباب إثر موجة سريعة من الضربات. رفع أبي الكوة ليرى.
«ماذا تريدون في هذه الساعة؟»
«افتح الباب وإلا خلعته رفسا يا سيد سيمبيري. لا تجعلني أكرر ما قلت.»
عرفت صوت فوميرو وانتابني الفزع. استجوبني والدي بنظرة وفتح الباب بإشارة مني. ظهر فوميرو على العتبة في انعكاس الضوء، يرافقه عميلان من أزلامه خلف كتفيه. ثلاث دمى ترتدي ثلاث سُترات مطرية بألوان الرماد.
«أين هو؟» صرخ فوميرو وهو يدفع والدي جانبا ويتجه نحو الصالة.
حاول أبي أن يعيق تقدّمه لكن أحد العميلين منعه وأمسك بذراعه ودفعه إلى الحائط. هو العميل نفسه الذي كان يراقبني أنا وفيرمين، هو نفسه الذي لوى ذراعي قرب مأوى سانتا لوسيا ولاحقني منذ مسائين. نظر إلي نظرة محايدة. دنوت من فوميرو متصنعا ما استطعتُ من الهدوء. كانت عيناه محقونتين بالدماء وثمّت خدش طازج على خدّه الأيمن.
«أين هو؟»
«من هو؟»
أثنى رأسه وهو يجدّف بالإلهة بصوت منخفض. وحين رفع رأسه ثانية طبعتْ على وجهه ابتسامة شريرة. وحينها فقط تفطّنتُ أنه يحمل مسدسا في قبضة يده. ودون أن يزيح أنظاره عني، كسر إناء مليئا بالأزهار الذابلة على الطاولة بعقب السلاح، فارتمى كل ما فيه أرضا. أرهبتني الحركة رغما عني، وكنت أسمع صراخ والدي المكبّل بقبضة العميل الفولاذية، لكن كلماته كانت تبدو آتية من مكان بعيد. ضغط بقصبة الريفولفير الباردة على وجنتي حتى شممت رائحة البارود.
«إيّاك أن تُغضبني أيها الصبي الحقير، وإلا جمع والدك أشلاء رأسك من الأرض. واضح؟»
لم أنبس ببنت شفة في حين كاد المسدس يمزّق صدغي.
«أسألك للمرة الأخيرة. أين هو؟»
رأيتني في حدقة عينيه وكانتا في شرر متصاعد بينما كان يرفع صمام الأمان.
«ليس هنا. لم أره منذ منتصف النهار. هذه هي الحقيقة.»
ظلّ فوميرو متسمرا لنصف دقيقة وهو يلعق شفتيه.
«يا ليرما» صرخ. «ألقي نظرة.»
راح العميل يفتش المنزل بينما يناضل والدي كي يتخلص من قبضة الآخر.
«إن كذبت عليّ ووجدناه، أقسم أنني سأبتر ساقي أبيك» صرخ فوميرو.
«والدي لا يعلم شيئا. دعه وشأنه.»
«وأنت لا تعي ما تقوم به. ولكن هذه اللعبة القذرة سوف تنتهي ما إن أمسك بصديقك. لن يكون هنالك قضاة ولا تعذيب ولا مستشفيات. هذه المرة سأستمتع بقتله ولن تكون ميتة رحيمة. بوسعك أن تنقل إليه كلامي حين تلتقيان. سوف أخرجه من وكره حتى لو كان مُختبئا تحت جبل. ثم يأتي دورك.»
عاد العميل ليرما إلى الصالة وأشار إلى فوميرو بحركة نافية. نزع إصبعه عن الصمام وأخفض المسدس.
«للأسف» قال فوميرو.
«ما هي تهمته؟ لماذا تبحث عنه؟»
التفّ فوميرو ووصل إلى عميليه اللذين تركا والدي.
«ستندم على كل هذا» بصق والدي.
تموضعتْ عينا المحقق عليه فتراجع والدي فطريا. وخشيت ألاّ تطول زيارة فوميرو. فما كان منه إلا أن قهقه دون أن يضيف شيئا وخرج. تبعه ليرما على عجلة بينما تمهّل الثالث، الذي يراقبني، على العتبة وهو يرمقني كأنه أراد أن يخبرني بشيء.
«بالاثيوس!» صرخ فوميرو ورجع الصدى على السلالم.
انصرف بالاثيوس، فخرجتُ إلى الفناء. كانت أوجه الجيران الخائفين تطل من الأبواب القريبة. نزل الثلاثة المرعبون على السلالم وكان صدى خطواتهم العنيفة وهي تبتعد مثل ارتداد الموجة المحمومة تاركة وراءها أطياف التوتر والظلام.
في منتصف الليل سمعنا طرقا على الباب ثانية، لكنها كانت طرقات ضعيفة، بل كأنها مذعورة. كان أبي يعقم صدغي بالكحول، فنهض على قدميه ونظر كلّ منّا إلى الآخر. تتابعت الطرقات. لعلّه فيرمين، قلت لنفسي، ربما كان يتابع المشهد وهو مختبئ على السلالم.
«من بالباب؟» سأل والدي.
«أنا الدون آناكليتو يا سيد سيمبيري.»
فتح أبي الباب وتنفس الصعداء، وكان الأستاذ شاحب الوجه بشكل لا يوصف.
«ما بك يا دون آناكليتو؟ هل أنت بخير؟»
كان البروفسور يحمل جريدة مثنية بين يديه وأعطانا إياها. وكانت أوراق الصحيفة دافئة وما يزال حبرها طازجا.
«هذه نشرة الغد» غمغم الدون آناكليتو. «الصفحة السادسة.»
وقعت عينيّ على الصورتين تحت العنوان. في الأولى يظهر فيرمين أكثر سمنة وأطول شعرا، ربما تعود إلى خمسة عشر عاما أو عشرين. وفي الثانية وجه امرأة لها بشرة من مرمر وعينين مغمضتين. لم أعرفها على الفور لأنني كنت معتادا على رؤيتها في عتمة منزلها.