ل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روحٌ مّا. روح من ألّفه وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. وفي كلّ مرة يغيّر الكتابُ صاحبه، أو تلمس نظراتٌ جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية. عندما جاء بي والدي إلى هنا للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة، كان هذا المكان قديما مثلما تراه الآن تماما، ربما كان أقدم شيء في المدينة. لا أحد يعلم بدقة كم عمر هذه المكتبة أو من الذي بناها. وكلّ ما يسعني قوله لك هو أن أكرر على مسامعك ما قاله لي والدي: عندما تغلق إحدى المكتبات أبوابها أو تتلاشى، ويضيع كتابٌ مّا في غياهب النسيان، نحن، الأمناء على هذا المكان، نجد له طريقة كي يصل إلى هنا. كل الكتب التي لا يذكرها أحد، أو التي يختفي أثرها بفعل الزمن، تعيش هنا أبدا في انتظار اليوم الذي تعود فيه إلى يدي قارئ جديد، وروح جديدة. نحن نبيع الكتب ونشتريها ولكنها في الحقيقة لا تنتمي إلينا أبدا. كل كتاب هنا كان أفضل صديق لشخص مّا. أمّا الآن فليس لهم غيرنا يا دانيال. هل ترى أنك قادر على كتمان السر؟» تاهت نظراتي في زوايا ذلك المكان الشاسع وفي سحر أنواره الخارق. أومأت بالقبول فابتسم والدي. »وهل تعلم أجمل ما في الأمر؟« هززت رأسي بصمت. «جرت العادة على أنّ من يأتي إلى هنا للمرة الأولى عليه أن يختار كتابًا ويتبنّاه ويجتهد في الحفاظ عليه دائما فيبقى حيا. إنه عهد في غاية الأهمية» شرح والدي. «واليوم حان دورك.» تجولت في تلك المتاهة واستنشقت عبق الصفحات القديمة والسحر والغبار لنصف ساعة. وتركت يدي تلامس ظهر الكتب المرتبة في صفوف طويلة، متكلًا في خياري على حاسة اللمس. رأيت كلمات في لغات أعرفها وأخرى في لغات لم أستطع حتى أن أميزها، بين عناوين باتت لا تُقرأ وأخرى بهت حبرها. رحت أنتقل بين الرفوف والأروقة التي تحتوي على مئات بل آلاف المجلدات التي تشعرني بأنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها. ولمع في رأسي أن كل غلاف ي وراءه عالمًا لا نهاية له، عالما يحفّز النفس على استكشافه، بينما يُهدر الناس في الخارج أوقاتهم بمتابعة مباريات كرة القدم والمسلسلات على الراديو وينفقون المال على جهلهم أيضا. لست أدري إن كان الأمر يتعلق بتلك التأملات، أم بالصدفة أم بأبيها النبيل (القدر)، ولكنني في تلك اللحظة كنت على يقين بأنني وجدت الكتاب الذي سأتبنّاه، أو بالأحرى الكتاب الذي سيتبنّاني. كان خجولا بظهوره من أحد الرفوف، غلافه من جلد قرمزي، والعنوان مطبوع على ظهره بحروف مطرزة. تلمست تلك الكلمات برؤوس أصابعي وقرأتها بصمت. خوليان كاراكس ظلّ الريح لم أكن أعرف الكتاب ولا المؤلف، ولم يكن هذا يهمني. كان القرار حاسمًا، من كِلا الطرفين. أخذت الكتاب وتصفحته بحذر، إذ كانت صفحاته ترتجف كجناحي فراشة استردت حريتها، أو كسحابة من غبار ذهبي خرجت للتوّ من السجن. أرضاني الخيار فعدت على نفس الخطى التي أدخلتني في تلك المتاهة، والكتاب تحت إبطي وابتسامتي ترقص على شفتيّ. ولعلّني سكرت من جوّ المكتبة الساحر، لكنني كدت أجزم أن ذلك الكتاب كان ينتظرني منذ أعوام، وأغلب الظن من قبل أن أولد. في عصر ذلك اليوم، بعد عودتنا إلى البيت، انعزلت في غرفتي كي أتعرّف إلى صديقي الجديد. جذبتني القصة بأسرع مما توقعت: قصة رجل يبحث عن أبيه الحقيقي بعد أن عرف أنه موجود بفضل أمه التي أخبرته بذلك قبيل وفاتها بلحظات. وسرعان ما تتحول القصة إلى ملحمة معقدة: البطل يناضل بحثًا عن طفولته الضائعة وشبابه المفقود حيث تتجلى شيئا فشيئا ظلال حب ملعون تلاحقه حتى آخر يوم من عمره. أمّا بنية الرواية فقد ذكّرتني بالدمية الروسية التي تحتوي على عدد لا يحصى من الدمى المتشابهة. والسرد متشظٍّ إلى ألف حكاية، وكأن القصة تدخل في معرض للمرايا فتنقسم إلى عشرات الانعكاسات، ولكنّها تظلّ مُحافظةً رغم ذلك على وحدة بنيتها. شدّتني الرواية، ومرّ الوقت بسرعة كما يمرّ الحلم. فلم أنتبه إلاّ لأجراس منتصف اللّيل بعد عدة ساعات وهي تتناهى إلى مسامعي من نواقيس الكاتدرائية في البعيد. صفحة وراء صفحة، تحت نور نحاسي يرسله القنديل، كنت أستسلم لدوامة من المشاعر المبهمة، وأغوص في عالم عجيب تسكنه شخصيات أكثر واقعية من الهواء الذي أتنفسه. تركت نفسي تنصاع لذلك الإغراء حتى بللتْ نسائمُ الفجر زجاج النافذة واستقرت عيناي المتعبتان على الصفحة الأخيرة. حينها فقط استلقيت على السرير، واستلقى الكتاب على صدري، فسمعت أصوات المدينة الغافية ترتفع فوق السقوف المزوقة بالأرجوان. دقّ النعاس والأرق على بابي مرارا لكنني قاومت، لأنني لم أشأ أن أقطع سيل تلك الحكاية الساحرة ولا أن أودّع شخصياتها الفريدة . ذات يوم كان أحد زبائن المكتبة يقول: «لا شيءر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يمس قلبه حقًا. إذ أن صدى الكلمات التي نظن بأننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلًا سنعود إليه عاجلا أم آجلا. لا يهمّ حشد الكتب الأخرى التي سوف نقرؤها، ولا عدد العوالم التي سوف نكتشفها، ولا حتى مقدار الأمور التي سوف نتعلمها ثم ننساها». أمّا بالنسبة إليّ، فسيبقى ذلك هو الكتاب الذي أنقذته من ظلمات مقبرة الكتب المنسية.