برشلونة/خبر من الوكالة (تحرير)
الشرطة تبحث عن صعلوك متسول قام هذا المساء بطعن السيدة ميغيل مونفورت ماسديديو، البالغة ثلاثة وأربعين عاما من العمر والمقيمة في برشلونة.
حدثت الواقعة في حي سان جرفازيو ظهرا، حيث اعتدى الصعلوك على الضحية دون أسباب واضحة. المعلومات الصادرة عن مركز الشرطة تؤكد بأنه كان يلاحقها لأسباب مجهولة حتى الآن.
المجرم أنطونيو خوسيه غوتييريز آلكاخيتي، البالغ من العمر واحدا وخمسين عاما من مواليد فيلا إينموندا في ضاحية كاسيريس، يبدو أنه مختلّ عقليا وصاحب سوابق. كما أنه فارّ من سجن موديلو منذ ستة أعوام، ونجح في التملص من السلطات بانتحاله لهويّات مختلفة في كل مرة. كان يرتدي زي راهب حين أقدم على الجريمة. تنوّه الشرطة بأن المجرم مسلّح وتؤكد أنه خطير جدا. لم يتضح بعد إذا ما كانت الضحية تعرف قاتلها مسبقا، مع أن المصادر الأمنية تدعم هذه الفرضية. كما لم تتضح بعد دوافع الجريمة. منيت الضحية بست طعنات بسلاح أبيض على بطنها وعنقها وصدرها. وهنالك عدة شهود على الاعتداء الذي وقع قرب إحدى المدارس، وهم تلاميذ أعلموا أساتذتهم حالا وقام هؤلاء بدورهم بإبلاغ الشرطة واتصلوا بسيارة الإسعاف. هذا ويرشح من تقرير قوى الأمن أن جروح الضحية بالغة الخطورة، ما جعلها تفارق الحياة في مستشفى بوليكلينيكو في برشلونة الساعة 18:15.
41
لا خبر عن فيرمين طوال اليوم. قرّر أبي أن يُبقي المحلّ مفتوحا ليُظهر أنّ الأمور تجري كعادتها. خصص الأمن عميلا أمام بوابة المبنى وآخرَ يراقب في ساحة سانتا آنا عند باب الكنيسة كأنه قدّيس الساعة الأخيرة. كانت أسنانه تصطك من شدة البرد تحت أمطار غزيرة لم تنقطع منذ الفجر، وكان بخار أنفاسه يلفح وجهه ويداه غارقتان في جيوب سترته المطرية. تجنّب الجيران الاقتراب منا واكتفوا بإلقاء نظراتهم من زجاج الواجهة ولم يجازف أي زبون بالدخول إلينا.
«لابد أن الإشاعة انتشرت» قلت.
هزّ والدي رأسه ولم يطرح عليّ أي سؤال. وكانت تلك الجريدة على المصطبة وهو يعيد قراءة الخبر كل عشرين دقيقة. كان يبدو هادئا ولكنّه مستاءٌ كما تبيّن لي.
«بوسعك أن تقرأ الخبر إلى ما لانهاية، ففي المحصّلة كلّها أكاذيب» قلت.
«هل كنت تعرف تلك المرأة؟» سألني.
«رأيتها مرتين.»
خطر في بالي وجه نوريا مونفورت الجميل وكان التكتم يمارس عليّ أشنع حالات الإعياء. عاد إليّ أريج جلدها وملمس شفتيها، تذكرت تلك المنضدة المرتبة بانتظام قلّ مثيله. تذكرت ملامحها الممزوجة بالحكمة والكآبة. «مرتين.»
«ولماذا؟»
«كانت صديقة قديمة لخوليان كاراكس. ذهبت إلى بيتها لأطلب منها أن تحدثني عنه. هذا كل ما في الأمر. إنها ابنة إسحاق. وهو الذي أعطاني عنوانها.»
«وهل كان فيرمين يعرفها؟»
«لا.»
«وكيف تكون متأكدا من هذا؟»
«وكيف تشك به وتثق بأباطيلَ كلها زور وبهتان؟ فيرمين كان يعرف عنها ما رويته له أنا له حصرا.»
«وهل لهذا السبب كان يتبعها؟»
«أجل.»
«هل طلبت منه أنت ذلك؟»
«المسألة شائكة ولن تفهم الأمر برمّته يا أبي.»
«فعلا. لا أفهمك ولا أفهم فيرمين ولا…»
«أبي. نحن نعرف فيرمين جيدا. إنها محض أكاذيب.»
«هذا رأيك؟ نحن لم نكن نعرف حتى اسمه الحقيقي.»
«أنت مُخطئ بحقه.»
«لا يا دانيال، أنت من يخطئ. من أعطاك الحق في اقتحام حياة الآخرين؟»
«إنني حرّ في الحديث مع من أشاء.»
«دون أن تضع العواقب في الحسبان؟»
«هل تلمّح إلى أن تلك المرأة ماتت بذنبي؟»
«تلك المرأة كان لها اسم وكنية، وأنت كنت تعرفها.»
«ليس من الضرورة أن تذكّرني بهذا» أجبت وأنا على وشك البكاء.
حدق إليّ والدي بحزن عميق وهو يحرّك رأسه مهموما.
«يا إلهي من يدري كم يعاني إسحاق الآن» غمغم والدي.
«ليس ذنبي أنها ماتت» همست آملا أن أقنع نفسي أيضا.
ذهب والدي إلى المستودع دون أن يكفّ عن تحريك رأسه.
«آمل أن تصل إلى معرفة ما الذي يترتب عليك من مسؤوليات. أكاد أحسبك غريبا عني بعض الأحيان.»
ارتديتُ السترة المطرية وخرجت إلى الطريق حيث لا أحد يعرفني ولا أحد يستطيع أن يرى ما أخبّئ في قلبي.
تجولت تحت المطر البارد بلا غاية. كنت أتمشى وأفكّر في نوريا مونفورت وهي ملقاة على بلاطة رخامية باردة وقد هشمت الطعنات جسدها. في كل خطوة كانت المدينة تتبدد من حولي. وعند تقاطع شارع فونتانيلا نزلت من على الرصيف دون أن أنظر إلى الإشارة والضوء الشاسع الذي كان يسرع كالسهم. فإذ بأحد ما يشدّني من الخلف قبل فوات الأوان. مرّت الحافلة على بعد سنتمترات من وجهي ولو اكتملت أجزاء الثانية كلها لانتهيت شرّ نهاية. وحين استفقت من الصدمة كان من أنقذني يبتعد عن الرصيف بسترته الرمادية. ثم عبر الشارع وتوقف لينظر إليّ. فعرفته رغم غزراة الأمطار: إنه بالاثيوس، العميل الثالث. حال بيننا جمع من زحمة السير والمارّة، وحين فرغت الطرقات مرة أخرى كان قد اختفى.
مشيت نحو منزل بيا بكامل قلقي وحيرتي. لم يعد بوسعي الانتظار أكثر من ذلك. كنت في حاجة إلى استعادة الثقة وهي كانت نجاتي الوحيدة. صعدت السلالم بشقّ الأنفس، طرقت ثلاث مرات على باب آغويلار وشحذت همّتي وشجاعتي. فلم يعد بالإمكان التراجع. لو ظهر السيد آغويلار وكان مستعدا لتحطيم وجهي فليفعل. هذا أفضل. طرقت ثانية. انتبهت إلى أنني كنت أقطر بللا فسرّحت شعري. كانت هنالك عين داكنة تفحصني من كوة الباب.
«من بالباب؟»
عرفت صوت سيسيليا، إحدى خادمات آل آغويلار.
«إنني دانيال سيمبيري يا سيسيليا.»
انسحبت العين، ثم صدح صرير القفل والمقبض. انفتح الباب ببطء لتظهر سيسيليا بقبعتها ومئزرها وهي تحمل بيدها شمعدانا. فهمتُ أنني في حالة يرثى لها بعدما رأيت انطباعها المتوجس.
«مساء الخير يا سيسيليا. هل بيا موجودة؟»
نظرت إليّ بارتباك. إذ أن مجيئي إلى ذلك البيت، في الآونة الأخيرة، كان شبه نادر ومتعلقا بتوماس رفيق مدرسة الطفولة.
«الآنسة بياتريز ليست هنا.»
«هل خرجت؟»
هزت سيسيليا رأسها مؤكدة بأقل ما تمتلك من شجاعة.
«هل تعرفين متى تعود؟»
شدّت الخادمة كتفيها.
«لقد ذهبت إلى الطبيب مع سَيّدي وسيّدتي منذ ساعتين.»
«إلى الطبيب؟ هل هي مريضة؟»
«لا أعلم.»
«إلى أي طبيب ذهبوا؟»
«لا أعلم يا سيدي.»
لم يكن الوضع يسمح بتعذيب سيسيليا كما أن غياب والدَي بيا كان مشجعا.
«وهل توماس في البيت؟»
«أجل. تفضّل. سأخبره بقدومك حالا.»
دخلتُ إلى الردهة وانتظرت. كنت في الماضي أدخل إلى غرفة توماس مباشرة، ولكن انقضى كثير من الوقت على آخر مرة جئت فيها إلى ذلك البيت. بتّ أشعر بنفسي غريبا. تركتني سيسيليا وحيدا في الظلام. وسمعت صوت توماس في البعيد ثم وقع خطوات تقترب من جديد. كنت أخترع حجة لتلك الزيارة المباغتة فإذ بالخادمة تعود بوجه محتقن. تبددت ابتسامتها الفاترة كما يذوب الثلج تحت الشمس.
«السيد توماس مشغول جدا ولا يستطيع أن يستقبلك.»
«هل قلت له من أنا؟ دانيال سيمبيري.»
«أجل. وقال لي أن أخبرك بأن تنصرف.»
شعرت بالبرد يجتاح بطني.
«أنا متأسفة» أضافت سيسيليا.
لم يخطر في بالي أي جواب. فتحت الخادمة لي باب البيت الذي كنت أعتبره - حتى لحظات معدودة - كبيتي الثاني.
«هل تريد مظلّة؟»
«لا شكرا.»
«أنا متأسفة» كررت.
«لا عليك يا سيسيليا.»
انغلق الباب خلف ظهري. وانتظرت بعض اللحظات ثم نزلت متعبا على السلم. مازال المطر ينهمر. ابتعدتُ مشيا في الطريق. وحين وصلت إلى الزاوية التفتُ: كان توماس ينظر إليّ من نافذة غرفته بثباته المعهود. حييته بيدي لكنه لم يردّ التحية واختفى على الفور. رجوت أن يعود ولكن هيهات، ثم مشيت بعد دقائق تحت مطر لا ينقطع حاملا معه دموعي.
42
في العودة إلى البيت، مررت أمام سينما كابيتول حيث كان بعض العمال جالسين على إحدى الدعامات وينظرون إلى لافتة علقت للتوّ وكانت ترتخي تحت المطر. لمحت العميل الذي حان دوره في مراقبتي، ثابتا مثل أبي الهول قبالة المكتبة. مررت أمام محل الساعات فظهر الدون فيديريكو على عتبة المحل ينظر إلى السماء. وعلى وجهه ماتزال آثار إقامته القصيرة في المخفر. كان يرتدي طقما رماديا أنيقا ويحمل بين أصابعه سيجارة لم يشعلها. حييته فابتسم لي باحترام.
«ما مشكلتك مع المظلات يا دانيال؟»
«وهل هناك أجمل من المشي تحت المطر يا دون فيديريكو؟»
«أجل، الحمّى. ادخل لقد أصلحتُها.»
لم أفهم قصده. كثّف نظرته عليّ دون أن تغيب البسمة عن وجهه. وحين دخلت إلى بازاره السحري أعطاني كيسا ورقيا صغيرا.
«اخرج الآن. حذار من ذاك الرجل فإنه لم يزح أنظاره عنا للحظة.»
نظرت في الكيس. كان يحتوي على كتيب مجلد: موجز الصلوات. رافقني إلى الخارج وهو يهزّ برأسه اتقاء لبعض الأسئلة المحتملة. وعندما صرنا في الشارع قال لي بصوت مرتفع:
«تذكّرْ ألا تضغط كثيرا على المسنّنات حين تشحنها، فهمت؟»
«حسنا يا دون فيديريكو، شكرا.»
اقتربت من المكتبة تحت أنظار العميل الذي يرتدي الزي المدني، وحين مررت بجانبه حييته بيدي التي أحمل فيها ذلك الكيس. ألقى العميل نظرة إلى الكيس باهتمام. دخلت إلى المحل. وكان أبي واقفا خلف المصطبة ويبدو أنه لم يتحرك قيد أنملة منذ أن خرجت.
«اسمع يا دانيال، بخصوص ما تحدثنا به اليوم…»
«لا يهمّ. أنت على صواب.»
«إنك ترتجف.»
لم أجبه بشيء وذهب ليجلب حافظة القهوة. انتهزت الفرصة لأختلي بنفسي في مرحاض المستودع وألقي نظرة على الكتيّب. هوت من بين صفحاته ورقة صغيرة تتأرجح في الهواء مثل الفراشة. أمسكت بها وهي تطير. كانت رسالة من فيرمين مكتوبة على لفافة سيجارة بحروف لا تراها العين المجردة. وتمكنت من فكّ طلاسمها حين رفعتها عكس الضوء.
عزيزي دانيال
إياك أن تصدق كلمة واحدة مما تقوله الصحف حول مقتل نوريا مونفورت. إنها مجرد تلفيقات كالعادة. إنني بخير وأنا في مأمن أيضا. لا تبحث عني. ومزق هذه السطور بعد أن تقرأها. ليس من الضروري أن تبتلع الورقة، بإمكانك أن تحرقها أو تفتتها. سأجد طريقة لأبقى على تواصل معك، بفضل دهائي ومساعدة أحد أصدقائي. أرجوك أن ترسل فحوى هذ المكتوب إلى حبيبتي برناردا، بكل أمانة. ولا تقْدمْ على فعل أي شيء.
صديقك، الرجل الثالث.
ف. ر. د. ت.
أردت أن أقرأ الرسالة ثانية لكن أحدهم طرق باب المرحاض بخفة.
«هل أستطيع الدخول؟» قال صوت مجهول.
شعرت بصعقة في القلب. ثنيت الورقة ورفعت البنطال وابتعلتها منتهزا الضجة التي أحدثتها. كان لطعمها نكهة كراميل السوغوس. فتحت الباب فوجدت العميل الذي يقوم بالمراقبة قبالة المكتبة.
«اعذرني. أكاد أتبول على نفسي كي لا أقول شيئا آخر… ربما بسبب المطر.»
«تفضل» قلت وتنحّيت. «المرحاض تحت خدمتك يا سيدي.»
«أشكرك.»
رمقني العميل بعينين تشبهان عيون الفئران الصغيرة. ووقعت أنظاره على الكتيب في يدي.
«لا أستطيع التغوط دون قراءة» بررتُ.
«وأنا أيضا لديّ نفس العادة. ثم يقولون إنّ الإسبان شعب لا يقرأ. هلا أعرتني إياه؟»
«على الخزان يوجد الكتاب الذي حاز على جائزة النقد الأخيرة» أجبت. «كتاب رائع.»
ابتعدتُ حتى بلغت والدي الذي كان يحضّر لي فنجان قهوة بالحليب.
«لماذا أدخلت هذا الرجل؟»
«قال لي إنه يكاد يتغوط في ثيابه. هل أتركه يفعلها على قارعة الطريق؟»
«أجل، فهكذا يشعر بالدفء على الأقل.»
تجهم والدي.
«هل يؤسفك أن أصعد إلى البيت؟»
«لا مشكلة. ارتد ثيابا غير مبلّلة كي لا تصيبك الحمّى.»
كانت الشقة باردة وهادئة. أطللتُ من نافذة غرفتي: كان العميل الثاني لا يزال هناك على أعتاب كنيسة سانتا آنا. نزعت ثيابي وارتديت ملابس النوم ورداء كان لجدي في الأصل. أطفأت الضوء واستلقيت على السرير أفكّر في بيا فيما حبات المطر تنقر على الزجاج. وسرعان ما غفوت لأنني لم أنم جيدا في الليلة السابقة. حلمت بزورق تغطيه الأشرعة فيبدو مثل كائن لولبي يتأرجح في سماوات برشلونة ويجر خلفه مئات التوابيت البيضاء الصغيرة ويتناثر حولها جمع من أزاهير سوداء نُقش عليها بالدم اسم نوريا مونفورت.
استيقظت في فجر رماديّ أَضْنَتهُ الرطوبة. ارتديت ثيابا ثقيلة وانتعلت الجزمة وخرجت دون أن أحدث ضجة. كانت أضواء الأكشاك تلمع في لاس رامبلاس. وصلت إلى كشك عند أول شارع تايرس واشتريت إحدى الجرائد اليومية. وتصفحتها حتى وصلت إلى زاوية الوفيات. كان اسم نوريا مونفورت يقبع تحت صليب كئيب: سيقام الجناز عند الرابعة عصرا في مقبرة مونتويك. تركت أضواء لاس رامبلاس فريسة لحزن عميق وعدت إلى البيت وأنا أقوم بدورة طويلة. كان أبي ما يزال نائما. دخلت غرفتي، وجلست إلى المنضدة وأخذت ورقة بيضاء وقلمي السحري مونتبلانك. وددت لو أن الكلمات تنساب بمفردها من القلم لكنني أخفقت في كتابة سطر واحد كإهداء مستحقّ لِطَيف نوريا مونفورت. حاصرني الخوف الشنيع من ذلك الفراغ الذي ورثته من حياة تعيسة سُلبت بعنف همجيّ. كنت على بيّنة من أنني سألقاها يوما ما، وأنني سأحافظ إلى الأبد على ذكراها وظلّها الذي لم يكن يخصّني ولا أستحقّ أن أقرنه بظلّي. لقد رحلتْ بصمت، تماما مثلما عاشت.
43
حوالي الثالثة ظهرا ركبت الحافلة المتوجهة من بازيو دي كولون إلى مقبرة مونتويك. ومن خلف الزجاج رأيت غابة كثيفة من الصواري والبيارق الّتي تزيّن السفن الراسية على المرفأ.. التفّتِ الحافلة حول تلة مونتويك وتقدمت مباشرة إلى المدخل الشرقي لأكبر مقابر المدينة. وسرعان ما غدوتُ الراكب الوحيد على متن الحافلة.
«في أي ساعة تنطلق الدورة الأخيرة؟» سألت السائق.
«في الرابعة والنصف.»
أنزلني السائق عند مدخل المقبرة. كنت أرى من هناك كيف تتسلق مدينةُ الموتى الشاسعة سفوحَ التلة حتى تصل إلى القمة. مدينة حقيقية تتكون من دروب القبور والشواهد، وأزقة بين اللحود المتوجة بمنحوتات الملائكة، ومجمعاتٍ عدمية تزداد اتساعا. كانت مدينة الموتى أشبه بمتحفٍ للغياب يحتوي على أضرحة أثرية تحرسها فيالق من التماثيل التي غزتها الطحالب الفاسدة تحت الطين. تنفستُ عميقا ودخلت متاهة الموت التي كنت أعرفها جيدا، كانت أمي ترقد على بعد مائة متر منّي حيث أقف. مشيت بين القبور متوخيا النظر إلى صور أولئك السجناء المحبطين في ذلك المعتقل الأبدي حتى يكاد الهلع الأخرس ينفجر من وجوههم الحالكة والمطوقة بأزهار ذابلة وشموع صغيرة. لمحت في البعيد قناديل غاز واهنة ترتجّ ثم رأيت أطياف ستة أشخاص على خلفية السماء الرمادية. تقدمتُ قليلا وتوقفت حيث استطعت سماع كلمات الراهب.
كان النعش، المصنوع من خشب الصنوبر الخام، يجثم على الأرض الموحلة، وبقربه يستند حفّاروا القبور إلى معاولهم. لم يأت إسحاق العجوز، حارس مقبرة الكتب المنسية، إلى جنازة ابنته. تعرّفت إلى جارة نوريا التي كانت تشهق خلف رجل عريض المنكبين. ربما يكون زوجها، قلت لنفسي. وثمّت سيدة في الأربعين من عمرها بجانبها، تتشح باللون الرمادي، وتحمل بيدها باقة من الأزهار. كانت تبكي بصمت، مضمومة الشفتين ولا تنظر إلى الحفرة. لم أكن قد رأيتها من قبل. ثم لمحت بالاثيوس، العميل الذي أنقذ حياتي في اليوم السابق، يقف على انفراد، بسترته المطرية المعتادة الداكنة، ويحمل القبعة بيديه خلف ظهره. رفع عينيه وصوّب أنظاره نحوي لعدة ثوان. تفصل بيننا هاوية من صمت ضبابيٍ مهيب تتخلله كلمات الراهب الفارغة. نظرت إلى النعش المتسخ بالوحل، وتخيلت نوريا تستلقي في الداخل. وكدت أذرف الدمع حين أعطتني المجهولة ذات الزيّ الرمادي زهرة من باقتها. انتظرت حتى ينفضّ الجمع بعدما أمر الراهب الحفّارين بالقيام بعملهم تحت ضوء القناديل. وضعت الزهرة في جيب سترتي وابتعدت دون أن أجرُؤ على كلمة وداع واحدة.
بدأ المساء يهبط رويدا عندما خرجت من المقبرة. فاتتني الحافلة الأخيرة وكان عليّ أن أمشي طويلا في الشارع الذي يحاذي المرفأ، قرب مدينة الموتى. هنالك سيارة سوداء مركونة على بعد عشرين مترا من مدخل المقبرة وأضواؤها موقدة. وخلف المقود رجل يدخن سيجارة. عندما مررت بقربه، فتح بالاثيوس الباب وأشار إليّ بالركوب.
«تعال. سأوصلك. لا يوجد نقل عمومي في هذه الساعة.»
ترددت لوهلة.
«أفضّل الذهاب مشيا.»
«لا تتفوه بالترهات. هيا اصعد.»
كان يتضح من نبرته أنه اعتاد إلقاء الأوامر فينصاع إليه الآخرون فورا.
«من فضلك» أضاف.
ركبت السيارة فضغط العميل على المحرك.
«إنريكوي بالاثيوس» مد يده مصافحا.
«بوسعك أن تنزلني في بازيو دي كولون» لم أصافحه.
انطلقت السيارة بعنف. ولم نتحدث لبضع دقائق.
«يؤسفني ما حصل للسيدة مونفورت.»
كانت تلك الكلمات تبدو كإهانة إذا لفظها شخص مثله.
«إنني ممتن لك على إنقاذ حياتي في الأمس، ولكن عليك أن تعلم بأنني لا أعير أدنى اهتمام لمشاعرك المتأسفة يا سيد إنريكوي بالاثيوس.»
«ليس الأمر كما تظن يا دانيال. أنا بودي أن أساعدك.»
«إن كنت تظنّني سأفشي عن مخبأ فيرمين فبوسعك أن تنزلني هنا.»
«لا يهمني أين يختبئ صديقك. إنني خارج العمل الآن.»
لم أرد.
«أدرك عدم ارتياحك ولكن عليك أن تسمعني. الأمور أخذت أكبر من حجمها. ولم يكن على تلك المرأة أن تموت. انس قضية كاراكس إلى الأبد.»
«لا شأن لي بما حدث، فلست إلا مشاهدا. قائدك هو الذي أخرج المسرحية، وبمساعدتكم.»
«لقد سئمت من الجنازات يا دانيال. ولا أتمنى أبدا أن أحضر جنازتك.»
«هذا أفضل فأنت لست مدعوا لجنازتي بالأصل.»
«لست أمزح.»
«ولا أنا. أنزلني من فضلك.»
«سنصل بعد دقيقتين.»
«لا يهمّ. لم أعد أحتمل رائحة الموت التي تفوح في سيارتك. أنزلني.»
أبطأ بالاثيوس حتى توقف. نزلت وصفعت الباب متجنبا نظراته. وانتظرت أن ينطلق مجددا لكنه لم يشغل المحرك بعد. عندما استدرت نحوه أخفض زجاج النافذة. كان وجهه يعبّر عن ألم صادق لكنني لم أثق به.
«نوريا مونفورت توفيت بين ذراعيّ يا دانيال» قال. «وأعتقد أن آخر كلماتها كانت موجهة لك.»
«ماذا قالت؟» سألته متجمدا من الرهبة. «هل ذكرتْ اسمي؟»
«لا ولكنني أعتقد أنها كانت تقصدك. قالت إنّ هنالك سُجونًا أفظع من الكلمات ثمّ طلبت منّي قبل أن تلفظ آخر أنفاسها أن أخبرك بأن تحررها.»
نظرت إليه محتارا.
«أحرر من؟»
«واحدة تدعى بينيلوب. توقعت أنها خطيبتك.»
شغّل بالاثيوس المحرك ثانية. ونظرت ببلادة إلى أضواء السيارة الخلفية وهي تختفي في غروب من لازورد وقرمز. ومشيت نحو بازيو دي كولون وأنا أفكّر في آخر كلمات نوريا غير المترابطة. وفي ساحة بورتال دي لاباز توقفت أمام مرسى الزوارق السياحية. جلست على العتبات التي تغرق في مياه الميناء الراكدة حيث رأيت لايين كوبرت، الرجل الذي لا وجه له، في ليلة قبل عامين من الزمن.
«هنالك سجون أفظع من الكلمات» كنت أغمغم.
فهمت رسالة نوريا مونفورت حينذاك. ليس أنا من عليه تحرير بينيلوب. بل كانت كلماتها الأخيرة موجهة. إلى الرجل الذي أحبته بصمت طيلة خمسة عشر عاما: خوليان كاراكس