خيّم الظلام عندما وصلت إلى ساحة سان فيليب نيري، وأضواء الشارع تنير المقعد الذي كانت نوريا مونفورت تجلس عليه في أول لقاء لنا، وتكسوه العبارات المنقوشة بالشفرة: أسماء عشاق وكلمات مسيئة ووعود بالإخلاص الأبدي. رفعت أبصاري فوجدت ضوءا نحاسي اللون يرتجف من نوافذ الطابق الثالث… ضوء شمعة.
صعدت السلالم كالأعمى، ورأيت الضوء الخافت يتسلل من باب الشقة الموارب. وضعتُ يدي الراجفة على مقبض الباب. وسمعت صوتَ شهقاتٍ وأنفاسًا مُعذَّبةً. توهمت لوهلة أن نوريا كانت في انتظاري، منكمشة على نفسها أرضا وتستند إلى الجدار كما تركتها آخر مرة. دخلت على حذر كأنني لا أريد إزعاجها. الستائر تتمايل بقلق متصاعد، وهنالك شخص يجلس بجانب النافذة ويمسك شمعة بين يديه… إسحاق مونفورت. دموعه تتلألأ كقطرات الندى. التفّ إليّ بوجه مزقته الفجيعة.
«لم أرك في المقبرة» قلت.
حرك رأسه وهو يمسح دموعه بكمّ معطفه.
«حتى نوريا لم تكن هناك» أجابني. «الأموات لا يشاركون في جنازاتهم.»
نظر حوله كأنه يشير إلى أن ابنته تجلس معنا تحت الظلام وتسمع كلامنا.
«هل تعلم أنني لم آت إلى هنا أبدا؟» قال. «كانت نوريا هي التي تأتي لزيارتي دوما. «هذا مريح لك يا أبتي» كانت تقول. «لا يجدر بك أن تعاني من صعود السلالم» وأنا أقول لها: «طالما أنك لا توجّهين الدعوة إليّ فأنا لا أجيء»، وهي ترد: «الغرباء وحدهم من يتلقون الدعوة يا أبي. أنت مرحب بك دائما». طوال أكثر من خمسة عشر عاما لم آت إلى زيارتها ولا لمرة واحدة. ولطالما كنت أعارض أن تسكن في هذا الحي. «المبنى قديم ولا يدخله الضوء جيدا يا ابنتي». كانت تراني على صواب دوما حتى عندما كنت أؤنبها على اختيارها حياة بلا مستقبل وزوجا بلا حرفة. من السهل أن نحكم على الآخرين ولكننا نندم على أحكامنا عندما نفقدهم أو حين يسرقهم أحد منا. أجل، لأننا نشعر أنهم ملكٌ لنا…»
كانت الحسرة الدامية تعوم على نبرة العجوز التي فقدت حسهّا الفكاهي، حسرةٌ تكتنف نظرته التي انطفأت على حين غرة.
«نوريا كانت تجلّك يا إسحاق. إنني متأكد مما أقول. وكانت تشعر بأنك تحبها، حتى لو لم تكن تتحدث عن هذا» ارتجلت.
حرك العجوز رأسه ثانية. كان يبتسم لكن دموعه اليائسة تسيل على خديه دونما انقطاع.
«ربما كانت تحبني على طريقتها كما أحببتها أنا أيضا على طريقتي. لكن واحدنا لم يتعرف على الآخر كما ينبغي، ربما لأنني لم أسمح لها بذلك أو لم أقم بأي جهد كي أتعرف عليها. لقد أصبحنا غريبين، نتبادل التحية باحترام مطلق كما تقتضي العادة. وأجزم أنها توفيت دون أن تسامحني.»
«أؤكد لك يا إسحاق أنها…»
«مازلت صبيا يا دانيال وقلبك مليء بالنوايا الحسنة. لكنك لن تستطيع خداع عجوز بائس حتى لو أفرط في الشرب وصار يهذي في كلامه.»
أخفضت نظري.
«الشرطة تتهم صديقك بقتلها» قال إسحاق.
«الشرطة تكذب.»
«أعلم.»
«أؤكد لك…»
«ما من داع يا دانيال. أعلم أنك تقول الحقيقة» قال إسحاق وهو يأخذ ظرفا من جيب معطفه.
«قبل ساعات على مصرعها جاءت نوريا لزيارتي كما كانت تفعل في السابق. أذكر كيف كنا نتناول الغداء في مقهى في شارع غوارديا حيث كنت أصطحبها حين كانت صغيرة. كنا ندردش عن الكتب، عن الكتب القديمة. وتحدثني أحيانا عن عملها، تفاصيل سطحية لا أهمية لها، كما يفعل المرء مع جليسه في الحافلة… ذات يوم أعربت عن أسفها لأنها خيّبت آمالي. فسألتها من أين أتتها هذه الفكرة السخيفة. «من عينيك يا أبي» أجابت. حتى البارحة لم أكن أضع في الحسبان أنني قد أكون سبب إحباطها الأكثر سوءا. نحن نعتبر الناس مثل بطاقات اليانصيب ونتمنى بكل أنانية أن يحالفنا الحظ من خلالهم.»
«معذرة يا إسحاق، واضح أنك أسرفت في الشرب وتتفوه بخرافات لا أصل لها.»
«الخمر يجعل الحكيم غبيا والغبي حكيما. إنني واع بما فيه الكفاية لاستيعاب أن ابنتي لم تكن تثق فيّ. كانت تثق فيك أكثر يا دانيال، رغم أنها التقتك مرتين فقط.»
«أنت مخطئ يا إسحاق.»
«قبل أمس أعطتني نوريا هذا الظرف. وكانت متوترة للغاية لكنها لم تفصح لي عن السبب. طلبت مني أن أحتفظ بالظرف، وأوصتني أن أعطيك إياه في حال حصل لها أي مكروه.»
«في حال حصل لها مكروه؟»
«هكذا بالضبط. كانت مضطربة حتى عرضتُ عليها أن أرافقها إلى المخفر، علّهم يساعدونها. فأجابتني أنّ الشرطة أقل جهة موثوقة في هذه الحالة. توسلت إليها أن تقص عليّ ما حدث لكنها قالت إنها مستعجلة وطلبت مني أن أعدها بتسليمك الظرف يا دانيال مالم تعد نوريا لاسترجاعه في غضون يومين. وطلبت مني ألا أفتحه.»
أعطاني إسحاقٌ الظرف. كان مفتوحا.
«كذبتُ عليها كما كنت أفعل دوما» قال.
نظرت داخل الظرف. كان يحتوي على مجموعة من الأوراق المكتوبة باليد.
«هل قرأتها؟» سألت.
هز رأسه مؤكدا.
«وما المكتوب فيها؟»
كانت شفتاه ترتجفان. لقد شاخ مائة عام منذ آخر مرة رأيته فيها.
«إنها القصة التي تبحث عنها يا دانيال. قصة امرأة لم أعرفها أبدا، مع أنها تحمل نفس اسمي وفي عروقها تجري دمائي. الآن هي لك.»
أدخلت الظرف في جيب السترة.
«والآن أرجوك أن تتركني وحيدا برفقة نوريا. منذ قليل، بينما كنت أقرأ هذه الصفحات شعرت بوجودها. لا أقوى إلا على تذكّرها وهي صغيرة. هل تعلم أنها كانت طفلة متكتّمة وكثيرة التأمّل؟ كانت تراقب كل شيء ولا تضحك البتة. تعشق الأقاصيص وتطلب مني أن أقرأ لها قصة تلو الأخرى حتى تعلمت قص الحكايات بمفردها. لم أر في حياتي طفلا مثلها تتفتح براعمه بتلك السرعة. كانت تحلم أن تصبح كاتبة كي تؤلف الموسوعات وكتب التاريخ والفلسفة. وكنت أنا المسؤول عن طموحاتها الغريبة وفقا لرأي أمها: كانت نوريا تحبني جدا. ولأنها كانت ترى أن والدها يعشق الكتب وحسب، كانت تتمنى أن تؤلف الكتب كي تحظى بحبّ والدها.»
«من المستحسن ألا تبقى وحيدا هذه الليلة يا إسحاق. لمَ لا تأتي معي؟ نذهب إلى بيتنا ونجلس مع أبي فهكذا تشعر بالأنسة.»
هزّ إسحاق رأسه.
«لدي ما أقوم به يا دانيال. والآن اذهب واقرأ هذه الأوراق. فهي لك.»
حاد إسحاق بنظراته عنّي بينما كنت أتجه نحو الباب. وحين كدت أطأ العتبة قال لي بصوت الهامس.
«دانيال.»
«أجل؟»
«خذ أقصى حذرك.»
حاولت ألا أفكر بأنني مطارد من المجهول في الطريق. رحت أمشي بسرعة، بل أكاد أهرول. وكان أبي ينتظرني وهو مسلتق على أريكته الحنونة، وألبوم الصور في حضنه. وعندما رآني، انتشى وانفتحت أساريره.
«كنت قلقا عليك» قال وهو ينهض. «كيف جرت الجنازة؟»
لم أجبه. هززت رأسي متثاقلا، فغيّر والدي الموضوع.
«إذا كنت جائعا أسخن لك العشاء.»
«لا شكرا. لقد تعشيت.»
نظر في عيني وهزّ رأسه مجددا. راح ينزع الأطباق عن المائدة. وفي تلك اللحظة، ودون أن أدري لماذا، اقتربت منه وضممته بين ذراعيّ. فبادلني العناق تحت هول الدهشة.
«ما بك يا دانيال؟»
عانقته بشدة أكثر.
«أحبك يا أبتي» همستُ.
طرقتْ نواقيس الكاتدرائية حين شرعت بقراءة مخطوط نوريا مونفورت. كان خطّها الأنيق الدقيق يذكّرني بمنضدتها المرتبة. ويبدو أنها بحثت في الكلمات عن الطمأنينة التي لطالما حرمتها منها الحياة.