لا شيء يحظى بفرصة أخرى كالندم. لقد عرفتُ خوليان كاراكس في سبتمبر عام 1933. كنت أعمل لدى طوني كابيستاني، الناشر الذي اكتشفه عام 1927 خلال إحدى رحلاته «الاستقصائية في مجال النشر» إلى باريس. كان خوليان يحصل على قوت يومه بالعزف على البيانو في بيت دعارة، ويكتب في الليل. وكان لدى صاحبة المبغى، وتدعى إيرين مارسو، صلات بعدة ناشرين فتمكنت من نشر روايات خوليان عبر التوسلات أو التهديد بإفشاء الأسرار، ولم تلق النجاح المتوقع بأية حال. حصل كابيستاني منها على حقوق النشر في إسبانيا وأمريكا الجنوبية بسعر مضحك يتضمن الترجمة إلى الإسبانية بقلم الكاتب نفسه الذي ألفها بالفرنسية. وكان قد تهيأ لنشر ثلاثة آلاف نسخة من كل رواية، لكن أول روايتين صدرتا في إسبانيا باءتا بفشل ذريع إذ لم تتجاوز مبيعات كلّ منها مائة نسخة على أقصى تقدير. إلا أننا كنا نتلقى مخطوطا جديدا من خوليان كل سنتين، وكان كابيستاني ينشره دون تردد مؤكدا أنه قد أعطى كلمته للكاتب وأن المال ليس كل شيء وعلينا أن نروّج الأدب الرفيع أيضا.
ذات يوم، دفعني الفضول لأسأله عن سبب استمراره في نشر روايات كاراكس رغم علمه بأنها لا تدرّ الأرباح. فما كان منه إلا أن سحب كتابا لخوليان من مكتبة الحائط واقترح عليّ قراءته. فالتهمتُ جميع رواياته في غضون أسبوعين. وبعدها سألته عن سبب فشلها في السوق.
«ليس لدي أدنى فكرة» أجاب كابيستاني. «ولكننا سنظل نحاول.»
لم يكن ذلك القرار النبيل يتوافق مع الفكرة التي كونتها عن كابيستاني. ومن يدري، ربما كنت مخطئة بالحكم على طباعه المادية الجشعة. أثناء ذلك كانت هالة الغموض التي تكتنف خوليان تجعلني فضولية أكثر فأكثر. وكان أحدهم يتصل بدار النشر مرتين في الشهر ليحصل على عنوانه، الشخص ذاته يقدّم نفسه في كل مرة باسم مختلف. وكنت أجيبه أن خوليان يعيش في باريس، كما يتضح جليا على حواشي أغلفة رواياته. ثم كفّ الرجل عن الاتصال، ولكنني قررت على أي حال أن أمحو عنوان كاراكس من أرشيف دار النشر. كنت الوحيدة التي تراسله وأعرف العنوان عن ظهر قلب.
بعد عدة أشهر، وبمحض الصدفة، وقعت بين يدي فواتير المطبعة. أدركت بنظرة واحدة أن إصدار روايات خوليان كان يموله شخص لم أسمع به من قبل: ميغيل مولينر. ناهيك عن أن ثمن الطباعة والتوزيع كان أقل مما يدفعه السيد مولينر. الأرقام تتحدث بوضوح: كانت دار النشر تربح من روايات كاراكس رغم أنها تتلف في المستودع. لم أجرُؤ على محادثة كابيستاني بالأمر خشية أن أفقد عملي، لكنني سجلت عنوان ميغيل مولينر على دفتر الملاحظات. وانقضت عدة أشهر حتى انتصر تأنيب الضمير على مخاوفي فقررت أن أتجه إلى السيد مولينر لأطلعه على احتيال السيد كابيستاني. فأجابني وهو يضحك أنه على علم بذلك.
«كل امرئ يتصرف بما يملي عليه ضميره.»
سألته إن كان هو الذي يتصل للحصول على عنوان كاراكس. فأجابني بـ «لا» ثم أوصاني بقلق ملحوظ ألاّ أعطي عنوانه لأحد مهما كان.
كان ميغيل مولينر رجلا غريب الأطوار. يسكن وحيدا في مبنى متهالك في حي بويرتافيريزا وقد ورثه عن أبيه الذي بلغ الثراء من بيع الأسلحة وإشعال الحروب كما كان يقال. لكن ميغيل كان يعيش حياة زاهدة ويستثمر المال الملطخ بالدم في ترميم الآثار والكنائس والمدارس والمكتبات والمستشفيات، وفي نشر أعمال صديق صباه خوليان كاراكس في برشلونة مسقط رأسه.
«لديّ الكثير من المال، ما ينقصني هو صديق مثل خوليان» كان يبرر.
كانت علاقته سيئة بإخوته وباقي أفراد العائلة، حتى بات يعتبرهم غرباء. لم يكن متزوجا ونادرا ما يخرج من ذلك المبنى الذي لا يشغل منه إلا الطابق الأعلى. هناك حيث يقع مكتبه الذي يؤلف فيه الموادّ والمقالات لجرائد برشلونة ومجلات مدريد، يترجم نصوصا تقنية من الألمانية والفرنسية ويحضّر لطباعة موسوعات وكتب مدرسية. كان ميغيل مولينر يعاني من إفراط النشاط في العمل ورغم احترامه بل وحسده لهمود الآخرين فإنه كان ينفر من ساعات الراحة كالفرار من الطاعون. ويتباهى بأخلاقياته في العمل وهو يسخر من تلك الحالة المرضيّة ويراها شكلًا من أشكال الجبن.
«عندما نعمل لا يتسنى لنا الوقت للنظر إلى الحياة بأعيننا.»
بدأنا نكثر من لقاءاتنا ونصبح خير أصدقاء. وكان لدينا الكثير من الأمور المشتركة حقا. إذ لا ينفكّ يحدثني عن الكتب وعن محبوبه الدكتور فرويد، وعن الموسيقى، ولكن بالأخص عن صديقه القديم خوليان الذي كان رفيقه في مدرسة سان جبريل. أراني الكثير من الصور وأطلعني على بعض قصص خوليان التي كتبها عندما كان طفلا. ظل ميغيل متعلقا بذكرياته مع خوليان وبفضلها تعرفت على هذا الكاتب. بعد عام من لقائنا الأول، اعترف لي ميغيل مولينر بأنه مغرم بي. لم أشأ أن أجرح مشاعره لكنني لم أشأ خداعه أيضا. إضافةً إلى أنّ ميغيل يستحيل أن يقع في الخديعة. أجبته بأنني أكنّ له فائق التقدير وأنني أعتبره صديقي العزيز، لكنني لا أبادله الحبّ. فقال إنه يعرف ذلك مسبقا.
«أنت مغرمة بخوليان لكنك لم تستوعبي هذا بعد.»
في أغسطس عام 1933 أعلمني خوليان بأنه وضع لمساته الأخيرة على رواية جديدة «لص الكاتدرائيات». وكان كابيستاني قد تعرض لوعكة صحية جعلته أسيرا للفراش يعاني من داء النقرس، في حين كان عليه التوجه إلى باريس في شهر سبتمبر لتوقيع بعض العقود مع غاليمار. فقرر أن يوفدني إلى فرنسا بدلا منه كثناء على انغماسي في العمل، وكي آتي برواية كاراكس الجديدة أيضا. راسلتُ خوليان كي أعلمه بوصولي في منتصف سبتمبر وطلبت منه أن يحجز لي غرفة في فندق اقتصادي. فأجابني أنه سيكون مسرورا إذا نزلت ضيفة في بيته، فهكذا أستخدم نفقات الفندق في مصاريف أخرى. وقبل انطلاقي بيوم سألت ميغيل إن كان يحب أن يحمّلني رسالة إلى صديقه خوليان. ففكّر طويلا ثم قال لا.
رأيت خوليان للمرة الأولى في محطة أوسترليتز. كانت مظاهر الخريف تهيمن على باريس، والمحطة غارقة في الضباب. نزلت من القطار وانتظرت على الرصيف بينما كان الركاب الآخرون يتوجهون نحو المخرج، وسرعان ما وجدت نفسي وحيدة. لفت انتباهي رجل يرتدي سترة سوداء، على بعد أمتار مني، يراقبني وهو يدخن سيجارة. كنت أتساءل خلال الرحلة كيف بوسعي التعرف إلى خوليان وأنا التي رأيته بصور قديمة التقطت قبل ثلاثة عشر عاما أو أربعة عشر. بقيت أنا وذلك الرجل فقط على الرصيف. لم يكن من المعقول أن يكون هو. إذ كان خوليان يبلغ اثنين وثلاثين عاما بينما يبدو ذلك الرجل أكبر بكثير: شعره أبيض ووجهه يفيض بسمات التعاسة والحزن والكآبة، بليغ الشحوب وهزيلٌ إلى درجة تثير الشفقة. ولعلّ انطباعي عائدٌ إلى كثافة الضباب أو الإرهاق الذي رافق رحلتي، بل لاعتيادي على تصوّر خوليان مراهقا. اقتربت من ذلك المجهول وركزت أنظاري في عينيه.
«خوليان؟»
ابتسم الرجل وهزّ رأسه. كان لخوليان كاراكس ابتسامة هي الأجمل في الدنيا، وهي كلّ ما يملك.
كان خوليان يعيش في حي سان جيرمان، في علية تتألف من غرفتين. الصالة وفيها مطبخ صغير ولها شرفة صغيرة تطل على أسطح كنيسة نوتردام وأبراجها، وغرفة فيها سرير لفرد واحد. ويقع الحمّام، المشترك مع الجيران، في نهاية ممر الطابق السفلي. خُلاصة الأمر: كان يسكن في مكان أصغر من مكتب السيد كابيستاني. تظاهرتُ بإعجابي بالمنزل، فخوليان فعل كل ما بوسعه كي يبدو منزله قابلا للاستضافة، بل ولمّع البلاط الذي كانت رائحة الشمع ما تزال تفوح منه. وكانت الأغطية جديدة وعليها رسوم القلعة والتنين، تليق بالأطفال. لكن خوليان قال إن جودة الأغطية عالية، وإنّ تلك التي لا تحتوي على الرسوم سعرها مضاعف وأكثر سخفا.
يقتصر أثاث الصالة على منضدة خشبية قديمة، مسندة باتجاه أبراج الكاتدرائية، وعليها آلة كاتبة من طراز أندروود، اشتراها بسلفة من دار كابيستاني، ورزمتان من الأوراق، الأولى فارغة والأخرى فيها كتابات على الوجهين. وثمت قط أبيض كبير يعيش مع خوليان ويدعى كورتز، كان ينظر إلي بعدم ارتياح وهو يلحس أطرافه قرب صاحبه. وفي الغرفة كرسيان فقط، ومشجب الثياب والقليل من الأشياء الأخرى، في حين كانت الكتب تحتل باقي المساحة وتملأ الجدران على نسقين من الأرض حتى السقف.
وبينما كنت أنظر حولي، تنهد خوليان.
«يوجد فندق قريب من هنا. نظيف واقتصادي ومحترم. حجزت لك…»
لم تكن الفكرة سيئة لكنني خشيت أن يشعر بالإهانة.
«سأكون بخير هنا إن كان ذلك لا يزعجكما أنت وكورتز.»
نظر خوليان إلى هرّه، ثم حرّك رأسه نافيا ففعل مثله القط. وحينها لاحظت كم كانا متشابهين. اختار خوليان أن يترك لي غرفة النوم فهو ينام قليلا جدا وكان سينظم أموره على سرير مطاطي استعاره من جاره السيد دارسيو، الساحر العجوز الذي يقرأ يد الفتيات مقابل قبلة حارة. كنت أشعر بالإنهاك فنمت عميقا تلك الليلة. وعندما استيقظت فجرا لم أجد خوليان بينما كان كورتز ينام على الآلة الكاتبة. كان يشخر مثل كلب ضخم. لمحتُ على المنضدة مخطوط الكتاب الذي جئت من أجله.
لص الكاتدرائيات
وكباقي روايات خوليان، كان الإهداء مكتوبا بخط اليد:
إلى ب.
أغراني المخطوط أن أقرأ بعضا من صفحاته، لكنني انتبهت لكورتز يراقبني. فهززت رأسي كما فعل خوليان قبل حين فإذ بالقط يهز رأسه مثلي وأكثر. أعدت الأوراق إلى المنضدة. وبعد قليل عاد خوليان يحمل خبزا طازجا وحافظة قهوة وقطع جُبن، وتناولنا الفطور قرب النافذة. كان خوليان يتحدث دون توقف، متجبنا أن ينظر إليّ. كان يبدو تحت ضوء الفجر طفلا هرما. لقد حلق ذقنه بعناية وارتدى طقما قطنيا جميلا فاتح اللون ومستهلكا بعض الشيء. روى لي عن ألغاز النوتردام، وعن عوامة شبحية تشق نهر السين ليلا لتجمع أرواح العاشقين التعساء الذين ألقوا بأنفسهم في المياه المتجمدة، وقصصا أخرى لا تحصى. كنت أراقبه بسكوت، وأنا أبحث في عينيه عن مؤلف الكتب التي حفظتها عن ظهر قلب، وعن الفتى الذي وصفه لي ميغيل مرات كثيرة.
«كم ستبقين في بارس؟» سأل.
كنت سأبقى يومين أو ثلاثة حسبت التزاماتي مع غاليمار. وكان الموعد الأول في عصر ذلك اليوم. قلت له إنني كنت أرغب في قضاء يومين قبل المغادرة علنّي أتمتع بزيارة المدينة.
«باريس تتطلب أكثر من يومين» أكد خوليان.
«لا أريد استغلال كرم السيد كابيستاني.»
«كابيستاني قرصان، وهو يعلم جيدا أن يومين لا يكفيان لزيارة باريس، ولا شهرين ولا حتى سنتين.»
«لا أستطيع المكوث سنتين في باريس يا خوليان.»
نظر إليّ طويلا ثم سألني وهو يبتسم: «ولم لا؟ هل ثمت أحد ينتظرك؟»
استمرت المعاملات مع غاليمار والزيارات الشرفية لدور النشر الأخرى ثلاثة أيام، كما كنت أتوقع. دبّر لي خوليان دليلا سياحيا، فتى في الثالثة عشرة من عمره يُدعى هيرفي، يعرف المدينة كراحة يده. دلني هيرفي على بعض المطاعم الاقتصادية ونصحني بتجنّب بعض الطرقات، كما نصحني بزيارة بعض الأوابد الباريسية. كان ينتظرني لساعات قبالة مكاتب الناشرين، وهو يبتسم دوما، ورفض أن يتقاضى قرشا واحدا كبقشيش. وكان يتحدث بمزيج محبّب من الإسبانية والإيطالية والبرتغالية.
«السنيور كاراكس أعطاني أجر خدماتي مقدَّما يا سيدتي…»
كان هيرفي فتىً يتيما لإحدى العاملات لدى إيرين مارسو ويعيش في آخر طابق من بيت البغاء. علّمه خوليان القراءة والكتابة والعزف على البيانو، وكان يصطحبه كل يوم أحد إلى المسرح أو إلى حفلة موسيقية. لذلك فهو يعبد خوليان وقد يتكفّل بمرافقتي حتى القطب الشمالي بكل سرور إرضاءً له. في اليوم الثالث الذي قضيناه معا سألني إن كنت خطيبة السنيور كاراكس. فأجبته أنني كنت صديقة عابرة ليس إلا فبدا لي محبطا بما فيه الكفاية.
كان خوليان يقضي الليل جالسا أمام المنضدة وكورتز في حضنه، يراجع المخطوط أو يتأمل أبراج الكاتدرائية فقط. وفي إحدى الليالي لم أتمكن من النوم من طرق المطر على الأسطح، فذهبت إليه في الصالة. خيّم الصمت علينا قليلا، ثم حين توقف الإعصار سألته عن هوية ب.
«بينيلوب» أجاب.
رجوته أن يحدثني عنها وعن أعوامه الثلاثة عشر التي قضاها في منفاه الباريسي. فقال لي هامسا إن بينيلوب هي الأنثى الوحيدة التي أحبّها في حياته.
في ليلة شتوية من عام 1921 صادفت إيرين مارسو شابا يتسكع في شوارع باريس ويتقيأ دما في حالة يرثى لها. كان يحمل بعض القروش ورزمة من الأوارق المكتوبة باليد. وحين قرأتها إيرين ظنت أنها أمام أديب شهير مدمن على الكحول. وفكرت أيضا أنّها ستربح كثيرا إن عرّفته على ناشر كريم يعيد هذا الأديب إلى رشده. هكذا كانت تقول هي، أما خوليان فكان مقتنعا أنها أنقذته بدافع الشفقة. بقي ستة أشهر في غرفة من الطابق الأخير في محفل إيرين. وأنذرها الأطباء بأنّ هذا الشاب لن يجد دواء يبقيه على قيد الحياة إن عاد لتجرّع ذلك السمّ. فقد تضررت معدته وكبده بشكل كبير، وسيظلّ يتغذى على الحليب والجبن والخبز الناعم حتى آخر يوم في عمره. وحين صار خوليان في حالة تسمح له بالكلام سألته إيرين من يكون.
«لا أحد» أجابها خوليان.
«أحيطك علما بأن لا أحد يعيش على حسابي. ماذا تجيد؟»
قال خوليان إنه يجيد العزف على البيانو.
«فلنستمع إذن.»
جلس أمام بيانو الصالون وخلفه جمهور مكون من خمس عشرة مراهقة عاهرة. أدى مقطوعة من ليليات شوبان وحظي بتصفيق الجميع، لكن إيرين وصفت تلك الموسيقى بالجنائزية بينما كانت تدير عملا يناسب الأحياء. فعزف قطعة راقصة من الراجتايم ومقطوعتين لأوفينباخ.
«هكذا أفضل.»
كان ذلك العمل يوفر له راتبا ومأوى ووجبتين ساخنتين يوميا.
قاوم خوليان في باريس بفضل إحسان إيرين مارسو الوحيدة التي كانت تشجعه على الكتابة مع أنها ليست معجبة برواياته التعيسة، فهي تقرأ الروايات الرومانسية وسير الشهداء على وجه الخصوص. ووصلته، رغم تحفظاتها، بالناشر الذي أصدر أولى رواياته، وبحثت له عن عليّة باتت ملاذه. وكانت تشتري له الملابس وتجبره في بعض الأحيان على الخروج ليروّح عن نفسه ويرافقها إلى صلاة يوم الأحد والتنزه في حديقة التويلري. وكانت هي التي تشتري له الكتب أيضا. ولم تكن إيرين تطلب منه مقابلا على ذلك سوى الصداقة والوعد بألا ينقطع عن الكتابة. ثم أعطته الضوء الأخضر باصطحاب من يشاء من فتياتها إلى العليّة، لا لشيء إنما لينعم بالعناق أثناء نومه، ولأنهن تعانين مثله من الوحدة والحاجة إلى الحنان.
«جاري السيد دارسيو يعتبرني أكثر الرجال حظا في الكون.»
سألته لماذا لم يعد إلى برشلونة ليبحث عن بينيلوب. فدخل في حالة صمت طويل وعندما لمحت وجهه تحت الظلام، لاحظت أنه كان يذرف الدموع. فجثمت بقربه على ركبتيّ وضممته إلى صدري. وبقينا هكذا حتى طلع علينا الفجر. ولم أعد أذكر من بدأ بلثم الآخر. لا أذكر سوى أنني استسلمت حين تلامست شفاهنا وكانت الدموع تسيل على وجنتي أنا أيضا. مضى ذلك الصباح بصمت، مثل الأسبوعين اللّذين قضّيتهما مع خوليان. وعندما كنا نجلس في أحد المطاعم أو نتنزه في طرقات باريس، كنت أنظر في عينيه لأتأكد أنه ما زال يحب بينيلوب، حتى بتّ أكره تلك الفتاة، التي لم تتجاوز السبعة عشر عاما بالنسبة إليّ، وصارت تزورني في أحلامي. أبرقت لكابيستاني بحجة كي أؤجل عودتي. لم يكن يهمني إن خسرت العمل أو الحياة الرتيبة التي كنت أعيشها في برشلونة. وربما كنت غير راضية لأنني وقعت بين ذراعي كاراكس مثل فتيات إيرين مارسو، اللواتي يرتضين بفُتات الحنان. ولكنني شعرت بوجودي للمرة الأولى والوحيدة في حياتي، وعرفت أنني لن أحب رجلا آخر كما أحببته.
ذات يوم غفا خوليان بين ذراعي متعبا. في مساء اليوم الماضي، وبينما كنا نمر أمام محل للأغراض المستعملة، أطلعني على قلم حبر سائل يزدان به زجاج المحل منذ أعوام، قلم لفيكتور هوغو شخصيا كما يدّعي البائع. لم يكن خوليان يقدر على شرائه، لكنه كان يتوقف هناك ليتمعن في محاسنه كل يوم. لبست ثيابي دون ضجيج وذهبت إلى المحل. كان سعر القلم باهظا جدا ولم يكن معي كل ذلك المبلغ. لكن البائع قال لي إنه يقبل التعامل بالشيكات إذا استطاع سحب المبلغ من فرع أي مصرف إسباني في باريس. قبل أن تموت والدتي كانت قد وفرت لي مبلغا لشراء ثوب الزفاف، فحلّ قلم فيكتور هوغو محلّ فستان الفرح. كنت أعرف أنني أرتكب حماقة كبرى ولكنني لم أشعر بالسعادة في إنفاق المال في حياتي كلها كما شعرتُ يومها. عندما خرجت من المحل وبيدي القلم الرهيب، اقتربت مني سيدة في غاية الأناقة وشعرها رمادي اللون يحيط بكثافة الزرقة اللامعة في عينيها. دنت مني وقدمت نفسها. كانت إيرين مارسو، منقذة خوليان. حدّثها رفيقي هيرفي عني كثيرا، وأرادت أن تتعرف على الأنثى التي يعيش خوليان كمدا في انتظارها طوال تلك السنوات. لم يكن من الضروري أن أجيبها، إذ ابتسمت إيرين بعذوبة وتسلقت عليّ لتقبّل خدي. فأدركت في تلك اللحظة أن خوليان لن يكون من نصيبي أبدا، وأنني كنت أخسره قبل أن أعرفه جيدا. وفي عودتي إلى منزله والقلم في حقيبتي، كان خوليان قد استيقظ. نزعت ثيابي بصمت ومارسنا الحب للمرة الأخيرة، وسألني عن سبب بكائي فأجبته بأنها دموع السعادة. وبعد قليل، ذهب ليشتري شيئا نأكله، فجهّزتُ حقائبي ووضعت القلم في علبته على الآلة الكاتبة ومخطوط الرواية في الحقيبة ثم خرجت. وفي البهو التقيت بالسيد دارسيو، الساحر العجوز الذي يقرأ المستقبل للبنات مقابل قبلة. أخذ يدي اليسرى ونظر إلي بحزن.
«قلبك يؤلمك يا آنسة.»
وحين أردت أن أدفع له أجره المعتاد، كان هو من قبّل يدي.
وصلت إلى محطة أوسترليتز قبل أن ينطلق قطار الثانية عشرة المتجه إلى برشلونة بدقائق. باعني المراقب البطاقة وسألني إن كنت بخير، فطمأنته وجلست في مقصورة خالية. وعند انطلاق القطار نظرت من النافذة فرأيت خوليان جالسا على المقعد. أغمضت عينيّ وفتحتهما حين غادر القطارُ المحطةَ وتلك المدينة الممسوسة التي لم أعد إليها أبدا. ووصلت إلى برشلونة في فجر اليوم التالي. في ذلك النهار بلغتُ أربعة وعشرين عاما وكنت أعرف أنني تركت خلفي أجمل سنين عمري.
2
في عودتي إلى برشلونة، انتظرت مرور بعض الوقت قبل أن أذهب لزيارة ميغيل مولينر. كنت أودّ نسيان خوليان فلا أكذب على ميغيل إذا ما سألني عنه. ولكن حين التقينا، لم يكن من الضروري أن أقول شيئا. إذ نظر ميغيل في عينيّ وفهم كل شيء. كان هزيلا وشاحبا أكثر مما تركته حين انطلقت إلى باريس، بسبب وتيرة عمله المتصاعدة. اعترف لي بأنه أنفق كل أملاكه تقريبا في تبرعات خيرية. وكان محامو إخوته يحاولون طرده من تلك البناية في بويرتافيرزا، لأن أباه كان قد أوصى أن يبقى ميغيل فيها إذا حافظ على الورثة، وفي حالة مغايرة فإن مقام العائلة يوضع تحت تصرّف إخوته.
«رغم أنّ والدي كان على شفا حفرة من الموت، فإنه كان يعلم جيدا بأنني سأتبرع بكل ثروته حتى القرش الأخير في أكثر شيء يكرهه.»
ولم تكن عائدات النشر والترجمة لتسمح له بالحفاظ على بناية كبيرة كتلك.
«ليس من الصعب الحصول على النقود» قال. «ولكن علينا أن نقوم بما هو نافع أولا كي نستحق النقود.»
كانت يداه ترتجفان وساورني الشك في أنّه بدأ يدمن على الكحول. كنت أذهب لزيارته في كل أيام الأحد وأحثه على الخروج لينفصل قليلا عن المنضدة والموسوعات. وكنت أعرف أن وجودي يسبب له الحزن، حتى لو لم يعد يحدثني بشأن الزواج. وكان بين الحين والآخر يرميني بنظراته المليئة بالشهوة، لكنني أتجنب القساوة في الرد بسبب الأنانية، فهو الوحيد الذي كان يعلم شيئا قد يطلعني عليه بشأن حقيقة العلاقة بين خوليان وبينيلوب.
وخلال الأشهر التي قضيتها بعيدة عن خوليان، كان شبح بينيلوب آلدايا يقتحم نومي وأفكاري. لم أتمكن من نسيان النفور الذي راود وجه إيرين مارسو عندما أدركت بأنني لست من كان خوليان ينتظرها طويلا. بينيلوب آلدايا، في غيابها المطلق، كانت منافسة لا أستطيع أن أهزمها، كانت كالضوء الذي يعرّيني فأظهر سوقية ودونية بالمقارنة معها. لم أكن أتصور أن الضغينة قد تستحوذ عليّ على الرغم منّي تجاه شخص لم أكن قد رأيته في حياتي. وكنت متأكدة من أنني لو صادفتها شخصيا، وجها لوجه، فسوف أقضي على ذلك السحر وأحرر خوليان وأتحرر من سطوتها أنا أيضا. واسيت نفسي بالصبر، فميغيل سيقصّ عليّ الحقيقة عاجلا أم آجلا.
ذات يوم، وبينما كنا نتنزه في باحة الكاتدرائية، أفهمني ميغيل أنه ما يزال مغرما بي. كان وحيدا لا يعلّق على الحياة آمالا. وأنا كنت أعي ما أفعله عندما أخذته إلى بيتي. كنت أعلم أنني أخدعه وأنه كان على علم بذلك هو أيضا، لكن لم يكن لديه أحد غيري. وهكذا أصبحنا عاشقين، بفضل الإحباط. كانت نظراته تشتعل بالوله الذي لطالما وددت رؤيته يلمع ولو بومضة في عينَيْ خُوليان. وكنت أتهيأ له كي أنتقم من خوليان وبينيلوب، ومن الحب الذي لم يحالفني. وكان ميغيل يعلم ذلك لكنه لا يشاء التخلي عني. كان إدمانه على الشرب يزداد حتى لم يعد قادرا على ممارسة الحب. فيسخر بمرارة قائلا إننا سرعان ما أصبحنا شريكين متقدمين في السن برقم قياسي. كنّا ندمّر أنفسنا على وقع الخسة والضغينة. ذات ليلة بعد عام عن رحلتي إلى باريس، طلبت منه أن يحدثني عن بينيلوب. كان قد شرب كثيرا وبات عصبيا، فعيّرني بأنني لم أحبه يوما واتهمني بالعهر. نزع عني ثيابي بالقوة فعرضتُ جسدي عليه دون امتناع وأنا أذرف دموعا صامتة. فعاد إلى رشده وتوسل إليّ أن أسامحه. كيف كنت سأحبه وأكون سعيدة بقربه! طلبت منه تحت الظلام أن يسامحني عن كل الأذى الذي تضررت به. وقال إنه يود أن يقص عليّ حقيقة بينيلوب آلدايا، بما أنني كنت حريصة جدا على ذلك. ولكنني كنت مخطئة حتى في هذا.
في ذلك الأحد البعيد من عام 1919، عندما اتجه ميغيل إلى محطة فرنسا ليسلم خوليان التذاكر ويودعه، كان يعرف مسبقا أن بينيلوب لم تكن لتستقل ذلك القطار. قبل يومين أعلمت السيدة آلدايا زوجها الدون ريكاردو، الذي كان عائدا لتوه من مدريد، بأنها فاجأت خوليان وبينيلوب في غرفة خاثينتا. كان خورخي من أطلع ميغيل على ما حصل في قصر آلدايا، وطلب منه أن يقسم على كتم السرّ. الدون ريكاردو انفجر من الغضب، وراح يصرخ كمجنون ممسوس، وذهب إلى غرفة بينيلوب التي ارتعدت وأقفلت على نفسها الباب. فخلعه والدها برفسة واحدة بينما كانت تتوسل إليه بالمغفرة وهي جاثمة على ركبتيها، فضربها بكف يده لتسقط أرضا وهو ينهال عليها بأشنع الأوصاف. كان أفراد العائلة والخدم ينتظرون في الطابق السفلي، خانعين لا حول لهم ولا قوّة. ركض خورخي ليختبِئ في غرفته تحت الظلام، لكن صراخ أبيه وصل إليه هناك. طُردت خاثينتا من عملها دون سابق إنذار وترفّع الدون ريكاردو حتى عن مقابلتها. أمر الخدم أن يرموها خارج القصر وهدد أن يفعل الشيء نفسه مع أي أحد يظلّ على تواصل معها.
نزل الدون ريكاردو إلى المكتبة حوالي منتصف الليل. أغلق على البنت في غرفة خاثينتا السابقة وحرّم على أيّ كان أن يتحدث إليها. سمع خورخي والديه يصرخان كالمجانين في الطابق السفلي. ووصل الطبيب عند الفجر ورافقته السيدة آلدايا إلى بينيلوب. وعندما أنهى عيادته، اكتفى الطبيب بهزّ رأسه ووضع النقود في جيبه. نصحه الدون ريكاردو أن يغلق فمه إن أراد أن يستمر في مزاولة مهنته. وخورخي أيضا فهم مقصد والده.
لكنه ظلّ منشغل البال من أجل بينيلوب وخوليان بطبيعة الحال. لم يكن قد رأى أباه يخرج عن طوره إلى هذه الدرجة. ورغم العار الذي لحق بالأسرة فإن ذلك الغضب المسعور كان أبلغ من المصيبة نفسها. ثمت سرٌّ ما، قال لنفسه، ثمت سرٌّ ما. استطاع الدون ريكاردو أن يستبعد خوليان عن مدرسة سان جبريل وأوصى بائع القبعات أن يرسله إلى الجيش دون تأخير. وقرر ميغيل ألا يطلع خوليان عمّا جرى. فلو كشف له أن الدون ريكاردو قد حبس بينيلوب وأنها كانت حبلى منه فما كان خوليان ليركب ذلك القطار إلى باريس، وبقاؤه في برشلونة يعني موتا محققا. فضّل أن يخفي الحقيقة عن صديقه ويجعله يغادر آملا أن تلحق به بينيلوب عاجلا أم آجلا. وعندما ودّعه في ذلك اليوم في المحطة، عقد ميغيل آماله بإيجاد حلّ ما قريبا.
وبعد عدة أيام، حينما شاع اختفاء خوليان، قامت القيامة. جرّ الدون ريكاردو خلفه الشرطة دون تردد. كان وجهه مضرّجا بالحقد، واتهم بائع القبعات بإفساد الخطة وهدده أن يذبحه في المحل. فراح أنطوني فورتوني، الذي يجهل خفايا الأمر، يتهم صوفي بأنها خططت لهروب ذلك الولد العاق وهدد أن يرميها في الطريق إلى الأبد. أما خورخي فكان الوحيد الذي أدرك أن ميغيل هو العقل المدبر لفرار خوليان المفاجئ، فذهب بعد أسبوعين إلى بيته. لم يعد خورخي ذلك الفتى الخجول والمهموم كما كان في الأيام السابقة، بل فقد براءته وأصبح راشدا على حين غرّة. كان خورخي سيكتشف سبب الغضب الأعمى الذي اعترى والده، لكنه كان يقصد شيئا آخر من الزيارة. فهو يعلم علم اليقين فعلة ميغيل، لذا أخبره بانقطاع الصداقة بينهما إلى الأبد وهدده بالموت إن خطر في باله أن يذيع أسرار آل آلدايا.
بعد أسبوع، تلقى ميغيل رسالة من باريس. كان خوليان، تحت اسم مزيف، يُنبئه بعنوانه ويُطمئنه عن صحته ويعرب عن اشتياقه إليه ويطلب منه أخبارا عن أمه وبينيلوب. وكان الظرف يحتوي على رسالة أخرى موجهة إلى الفتاة كي يرسلها ميغيل بطريقته من برشلونة، وكانت تلك أولى الرسائل الكثيرة التي لم تقرأ بينيلوب منها حرفًا واحدًا. انتظر ميغيل مرور بعض الوقت احترازيا. وراح يراسل خوليان أسبوعيا ويقصّ عليه ما يراه مناسبا وما كان قليلا بطبيعة الحال. وكان يرسل إليه النقود والكتب ودفء صداقتهما. وكانت كل رسائل خوليان تحتوي على رسالة إلى بينيلوب فيرسلها ميغيل كل مرة من صندوق بريدي مختلف وهو يعلم أنه لا جدوى من ذلك. وكان خوليان يلحّ لمعرفة أيّ شيء عن بينيلوب لكن ميغيل لم يقص عليه أيّ شيء. عرف من خاثينتا أن الفتاة لم تعد تخرج من قصر تيبيدابو بعد أن حبسها والدها في غرفة من الطابق الثالث.
ذات ليلة ظهر أمامه خورخي على بعد أمتار عن بيته. «هل جئت لتقتلني؟» سأله ميغيل. فأجابه خورخي بأنّه يريد أن يسدي معروفا له ولصديقه. سلّمه ظرفا كي يرسله إلى خوليان أينما كان مُختبئًا. «لصالحهما معا» أضاف. كان الظرف يحتوي على بطاقة مكتوبة من بينيلوب آلدايا.
عزيزي خوليان،
في هذه السطور القليلة أرغب أن أعلمك بزواجي وأطلب منك ألا تكتب إليّ بعد الآن، أن تنساني وتلتفت إلى حياتك. لا أحقد عليك ولكنني أود أن أكون صادقة معك. لقد أخفيت عليك الحقيقة فأنا لم أكن أحبك يوما ولن أستطيع مستقبلا. أتمنى لك السعادة أينما كنت.
بينيلوب
قرأ ميغيل الرسالة مرة واثنتين وألفا. كان خط بينيلوب بلا شكّ لكنه لم يصدق ولو للحظة بأنها كتبت الرسالة بكامل إرادتها. «أينما كنت…» بينيلوب كانت تعلم أين خوليان: كان في باريس ينتظرها. فاستنتج أنها تصنعت جهلها بمكانه كي تحميه. ولهذا السبب تحديدا لم يفهم ما الذي أوصلها لتكتب هذه السطور. أي نوع من العقاب كان والدها يمارسه عليها وهو الذي يحبسها منذ أشهر؟ وكانت هي، أكثر من أي شخص آخر، تعرف أن تلك الرسالة ستقضي على خوليان… فتىً في الثامنة عشرة من عمره، يعيش وحيدا في مدينة بعيدة، تخلى عنه الجميع، وأمله الوحيد أن يتزوج عشيقته. فلماذا كانت تريد أن تبعده عنها؟ قرر ميغيل في النهاية ألا يرسل البطاقة دون أن يكتشف لماذا كتبتها بينيلوب. لم يكن ليغرس الخنجر في قلب صديقه.
أثناء ذلك، نجح الدون ريكاردو، بفضل علاقاته المتشعبة، أن يعزل خاثينتا في مصحة نفسية بعد أن بقيت شهورا تقصد القصر وتستجدي رؤية البنت. وعندما ذهب ميغيل لزيارتها، شرح له طبيب شاب ومهذّب أن على المريضة أن تبقى معزولة لثلاثة أشهر كي تستطيع التواصل مع الناس مجددا. فقرر ميغيل أن يتجه إلى النزل الذي أقامت فيه خاثينتا بعد أن طردوها. تذكرت صاحبة النزل أن المرأة تركت له رسالة ولم تدفع إيجار ثلاثة أسابيع. دفع ميغيل الحساب دون أن يناقش وعرف من تلك الرسالة أن لاورا، إحدى الخادمات في قصر آلدايا، طرُدت عندما اكتشفوا بأنها أرسلت خلسة مكتوبا من بينيلوب إلى خوليان. ولم يكن أمام تلك الفتاة عنوانا ترسل إليه المكتوب إلا بيت والد خوليان في روندا دي سان أنطونيو، في حال أرسلوه إلى ابنهم.
عرج مغيل إلى بيت فورتوني كي يتحدث مع صوفي، ويحصل على ذلك المكتوب. لكن المرأة لم تعد تسكن هناك، صوفي كاراكس هجرت زوجها منذ بضعة أيام، أو هذا ما كان الجيران يتهامسون به على الأقل. فاتّجه ميغيل إلى بائع القبعات الذي كان يقضي أيامه محبوسا في المحل يحرق أعصابه. وسأله إن كان قد رأى رسالة وصلت إلى خوليان منذ بضعة أيام.
«ليس لدي أولاد» أجابه بائع القبعات.
لم يفطن ميغيل مولينر إلى أن تلك الرسالة وقعت في يدي الناطورة والتي حصلتَ عليها أنت يا دانيال بعد سنوات طويلة وقرأت كلماتها التي كتبتها بينيلوب، بصدق هذه المرة، ولم يتسنّ لخوليان أن يقرأها أبدا.
بينما كان ميغيل يخرج من محل القبعات، نادته إحدى الجارات، قالت إنها تدعى بيثينتيتا، وسألته إن جاء يبحث عن صوفي.
«أجل. إنني صديق خوليان» أجاب ميغيل.
باحت له بيثينتيتا بأنّ صوفي انتقلت إلى نزل رديء خلف مكتب البريد العام في انتظار أن تبحر بباخرة إلى أمريكا. فذهب ميغيل إلى هناك. صعد سلما متداعي العتبات، ووجد صوفي كاراكس في غرفة رطبة ومظلمة في الطابق الرابع. كانت أم خوليان تنظر من النافذة، وتجلس على السرير، وبقربها حقيبتان تشبهان التابوت تحتوي على ما بقي لها من اثنين وعشرين عاما قضتها في برشلونة.
بعد أن قرأت البطاقة التي سلّمها خورخي من بينيلوب إلى ميغيل، أجهشت صوفي بدمع مالحٍ كالخوف.
«إنها تعرف إذن» غمغمت. «إنها تعرف… يا للمسكينة! إنها تعرف…»
«ماذا تعرف؟» سأل ميغيل.
«الذنب ذنبي» قالت صوفي. «الذنب ذنبي أنا وحدي.»
لم يفهم ميغيل وراح يشدّ بيديه على يديها، ولم تجرأ صوفي على النظر في عينيه.
«بينيلوب وخوليان إخوة.»