قبل أعوام كثيرة على استعباد أنطوني فورتوني، كانت صوفي كاراكس تقتات من موهبتها. لقد وصلت إلى برشلونة حين أتمّت عامها التاسع عشر بحثا عن فرصة عمل لم تتحقق أبدا. قبل أن تُوافي المنيّة والدها استطاع بمعارفه أن يدخلها في خدمة آل بينارين، وهي عائلة ميسورة من تجار الألزاس كانت تعيش في تلك المدينة.
«عندما أموت اذهبي إليهم» قال لها. «سيعاملونك كابنة لهم.»
وفعلا استقبلها السيد بينارين بحفاوة كبيرة. أما السيدة بينارين فأعطتها مائة بيزيتا بدافع الشفقة الخالصة وطردتها من على الباب.
«مازال المستقبل أمامك يا فتاة، أما أنا فليس لي سوى هذا الزوج الأحمق.»
وجدت صوفي عملا في مدرسة الموسيقى في شارع ديبوتاثيون كمعلمة خصوصية على البيانو والقراءة الموسيقية. وكان رائجا في تلك الحقبة أن تحصل الفتيات من العائلات النبيلة على تعليم موسيقي يكفيهنّ لعزف قطعة بولونية في الصالون ويبقين بعيدات عن النقاشات الخطيرة والمجادلات حول بعض القراءات. بدأت صوفي كاراكس تطوف من قصر إلى آخر، حيث تستقبلها الخادمات الخرساوات والجلفات ويُرافقنها إلى صالة الموسيقى ويكون بانتظارها أفراد الأسرة الأرستقراطية القبيحة، من أصحاب المصانع، كي يسخروا من لكنتها وحيائها ومستواها الاجتماعيّ المتدنّي. فتعلمت مع الوقت أن تنسى الآخرين وتركز على التلاميذ القلائل الذين يتميزون عن تلك الحظيرة الحيوانية ذات الرائحة الزكيّة.
وفي تلك الحقبة تعرفت صوفي على الشاب أنطوني بائع القبعات (كما كان يسمّي نفسه مفتخرا بحرفته) وقرر أن يتقرب منها بأي ثمن. طلب منها الزواج وكان يعيد عليها الطلب مرة واحدة في الشهر على الأقل. وبعد كل موعد، تقطع صوفي عهدا على نفسها بألا تلقاه ثانية لأنها لا تريد أن تسبب له عذاب الحبّ، لكن بائع القبعات كان يعاود الكرّة ويدعوها إلى الرقص أو التنزه أو تناول الشوكولا بالبسكويت في حيّ كانودا. وكان من الصعب عليها، وهي وحيدة في برشلونة، أن تقاوم شراهة أنطوني فورتوني، رغم أنها تكتفي بالنظر إليه لتستوعب أنها لا تحبّه، أو أنه ليس الرجل الذي حلمت بحبّه على الأقل. ومن جهة أخرى يروق لها أن ترى في نظراته المرأة التي أحبّت أن تكون.
وما لبثت ترضخ لغزل بائع القبعات، سواء بسبب العبث أو الضعف، فقدكان دواء مسليّا ضد الوحدة والحنين، وكانت متأكدة أنه سيهجرها ما إن يصادف امرأة تناسبه أكثر منها. كانت تلتقي بفورتوني كل أيام الأحد بعد الصلاة، وفي باقي الأسبوع تشرف على دروس البيانو. فلديها آنا فايس، أكثر تلميذة محببة إلى قلبها لأنها في منتهى الذكاء. آنا ابنة أكبر المنتجين لآلات النسيج، بلغ الثراء بعدما قدّم تضحيات عظيمة، وبالأحرى بعدما سلب الآخرين تضحياتهم. وكانت آنا تتطلع لتصبح موسيقية مشهورة وتؤدي على مسامع صوفي مقاطع وجيزة تؤلفها بنفسها، ومستوحاة من موسيقى غريج وشومان، وتعد بمستقبل مشرق. أما السيد فايس، ورغم قناعته بأن النساء قادرات على التطريز فقط، فكان يقف إلى جانب ابنته في تطلعاتها ويأمل أن يزوّجها بأقصى سرعة من وريث ذي كنية مهمة، ومن المعلوم أن الأكابر يقدّرون الفتيات في سن الزواج خصوصا إذا تميّزن بمواهب خارجة عن المألوف.
وحدث في ذلك القصر أن تعرفت صوفي كاراكس على أهم شركاء السيد فايس: الدون ريكاردو آلدايا، بطل واعدٌ من الطبقة الثرية ذات النفوذ في كاتالونيا نهاية القرن. قبل عدة أشهر تزوج الدون ريكاردو من وريثة في غاية الجمال واسمها عصيٌّ على اللفظ، وكان يشاع بأن خطيبها لا يجد فيها جمالا يُذكر ولا يجهد نفسه بلفظ اسمها. كان زواجا بين المصارف وليس حبا من النظرة الأولى، كما يقول السيد فايس الذي يعتقد أنه لا ينبغي على البشر الخلط بين مشاريع الغرام والمشاريع العابرة..
ما إن التقت صوفي بنظرة الدون ريكاردو حتى فهمت أنها هامت به. كانت عيناه ثاقبتين ومتعطشتين للدماء كعيون الذئاب، تركزان على الفريسة وتعرفان من أين تؤكل الكتف. قبّل يدها بعذوبة، ولامست شفتاه أناملها. وإن كان بائع القبعات لطيفا وجسورا فإنّ الدون ريكاردو كان الرجل الذي يحصل دوما على ما يريد. فهمت صوفي أنه قرأ أفكارها من ابتسامته القاسية وتكهّن برغباتها، وأنه سيتلاعب بها. وشعرت بذلك الازدراء الغامض الذي يراودنا إزاء بعض الأمور دون أن نعرف أسبابه الحقيقية. قالت لنفسها إنها ستستغني عن تلميذتها المفضلة كي لا تلتقي به ثانية، لأنّه تجلّى أمامها كوحش مفترس يلبس الحرير مما أوقد غريزة الفرار في صدرها. اصطنعت حجة كي تنصرف أمام حيرة السيدة فايس وقهقهة الدون ريكاردو ونظرة حزينة من آنا الصغيرة التي كانت تفهم البشر أكثر من فهمها للموسيقى وتدرك أنها خسرت آنسة الموسيقى.
بعد أسبوع، انتظر الدون ريكاردو صوفي أمام مدرسة ديبوتاثيون، وهو يتصفح جريدة. تبادلا النظرات، ودون أن يقول كلمة واحدة حملها معه إلى بناية النبلاء على بعد مسكنين من هناك. كان المكان جديدا ولا يزال فارغا. فتح الدون ريكاردو باب الشقة على مصراعيه وأفسح لها المجال. فدخلت صوفي في متاهة من الممرات والشرفات بجدران عارية وسقوف مرتفعة. لم يكن ثمت أثاث ولا لوحات ولا فوانيس، لا شيء يجعل من ذلك المكان صالحا للسكن. أغلق الدون ريكاردو الباب وراءه وتبادلا النظرات مجددا.
«فكرت فيك طوال الأسبوع كله» قال ريكاردو. «إن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إليك فقولي كي أدعك تذهبين ولا أبحث عنك بعد.»
سكتت صوفي.
استمرت اللقاءات غير الشرعية بينهما ستة وتسعين يوما. كانا يتقابلان في الشقة الفارغة على تقاطع «الديبوتاثيون» بـ «رامبلا كاتالونيا» كلّ ثلاثاء وخميس في الثالثة ظهرا، ولا يدوم اللقاء أكثر من ساعة. وكانت صوفي تظل هناك بعض الأحيان بعد انصراف آلدايا، لتبكي في إحدى زوايا الغرفة. ثم تحاول في يوم الأحد أن تجد في عيني بائع القبعات بقايا صوفي القديمة. فلم يكن أنطوني فورتوني يرى الشحوب والشطوب والكدمات على جلدها، ولا اليأس في ابتسامتها. إنّه لا يرى شيئا أبدا. وربما لهذا السبب قبلت صوفي طلبه بالزواج. كانت تحمل في رحمها ابن آلدايا لكنها تخاف أن تخبره بذلك بقدر خشيتها من فقدانه. ونجح آلدايا مرة أخرى في التقاط ما لم تستطع هي الاعتراف به. أعطاها خمسمائة بيزيتا وعنوانا في شارع بلاتيريا وأمرها أن تتخلص من الجنين. وحين رفضت صفعها حتى أدمى أذنيها وهددها بالقتل إن فضحت علاقته بها أو ادعت أن الولد ابنه. وعندما قالت لأنطوني إنّ المنحرفين اعتدوا عليها في ساحة بينو، صدّقها. وعندما قالت له إنها ستكون سعيدة بالزواج منه، صدّقها. ويوم الزفاف وصلتهما باقة كبيرة من الأزهار الجنائزية إلى الكنيسة. وتسبب خطأ حامل الأزهار في ضحك الحاضرين. لكن صوفي لم تضحك، فالدون ريكاردو تذكّرها في يوم عرسها.
4
لم تكن صوفي كاراكس تتوقع أن يعود الدون ريكاردو، بعد أعوام كثيرة غدا خلالها رجلا ناضجا يقود إمبراطورية مالية شاسعة وأبا لراشدين، كي يتعرف على ابنه الذي أراد أن يتخلص منه ذات مرة بخمسمائة بيزيتا.
«ربما لأنني أتقدم في العمر» برر ريكاردو. «أريد أن أتعرف على ذلك الفتى وأعرض عليه كل الفرص الذي يستحقها أي أحد تجري في عروقه دمائي. لم أفكر فيه أبدا أثناء تلك السنين ولكنني اليوم لا أفكر إلا فيه.»
كان نجله خورخي ولدا خجولا ومنزويا لم يرث شيئا من أبيه سوى الكنية. ذات يوم استيقظ الدون ريكاردو في سرير إحدى الخادمات بإحساس غريب: لم يعد يشعر بأنه الدون ريكاردو. نظر إلى نفسه في المرآة عاريا ورأى رجلا آخر، فانتابه الغثيان.
وهكذا قرر أن يعثر على ريكاردو الماضي. تذكّر ابن بائع القبعات ولم يكن قد نسي صوفي، شأن سلوكه المعتاد في تناسي حريمه. وفي الحقيقة لم يكن الدون ريكاردو ينسى شيئا. وعندما تعرف إلى الصبي وجد فيه ما كان يرجو: ذكرٌ لا يخشى هيبته ويجرُؤ على تحديه بل ويسخر منه أيضا. وجد في خوليان ذلك العنفوان والطموح والجسارة الخفية التي لا يراها الحمقى حتى تقضي عليهم من الداخل. أعاد الله إليه شبابه. ولم تكن صوفي، شبح المرأة التي يتذكرها، قادرة على صدّ توغّله، أما بائع القبعات فكان مجرد أضحوكة، جلفا بغيضا وخسيسا. قرر أن يسلب خوليان من ذلك الجو الملوث كي يشرّع أمامه أبواب الجنة المالية. فكان سيدرس في سان جبريل، ويتمتع بكل الميزات المحصورة في طبقته، وسيبدأ في التمرن على نشاطات والده الحقيقي: كان الدون ريكاردو يستحق خلفا صالحا. إذ أن خورخي سيبقى دوما غير كفء، وبينيلوب الجميلة الغالية على قلبه كان عيبها الوحيد أنها أنثى وليست على درجة من خلافته. أما خوليان فكانت تسكنه روح شاعر، أي روح مجرم في النهاية، ويجمع في شخصيته الصفات الضرورية. مسألة وقت ليس إلا، فكر الدون ريكاردو، سوف تستغرق العملية عشرة أعوام على الأقل كي يظهر ذلك الولد على صورة شبيهة به. وخلال كل الأعوام التي قضاها خوليان عند آل آلدايا كأنه واحد منهم - بل ومميزا عنهم - لم يشكّ ريكاردو أبدا بأن الفتى يبتغي منه شيئا آخر… بينيلوب. لم يخطر في باله يوما أن خوليان كان يحتقره وأنه يؤدي ذلك الدور ليتقرب أكثر من بينليوب ليس إلا. كي يستحوذ عليها كليا. وفي هذا الطبع كان يشبهه جدا.
عندما باحت له زوجته بأنها اكتشفت خوليان يختلي بابنتها، تهاوى الكون فوق رأسه. غاب عقله نتيجة الرعب والتقزز من ذلك الانتهاك، وشعر بأنه ساذج مخدوع وأحسّ بطعنة في الظهر من ذاك الفتى الذي علق عليه كل آماله. وعندما أكد الطبيب أن بينيلوب فقدت بكارتها ومن المحتمل أنها حبلى، سقط الدون ريكاردو في هوّة الحقد الأعمى. وكان اليوم الذي حبس فيه بينيلوب في غرفة الطابق الثالث أول أيام احتضاره البطيء والخفي، أول خطوة نحو التحطّم الذاتي.
اتجه إلى بائع القبعات، ولطالما احتقر ذلك البائع، وأمره بإرسال خوليان إلى الجيش فورا حيث سيصادفه الموت لا محالة. وحرّم على أيّ شخص، عدا زوجته، من لقاء بينيلوب خلال الوقت الذي قضته الفتاة سجينة في غرفة لها نكهة الموت والمرض والخطيئة. وفي تلك الأثناء، كان شركاؤه يجردونه من سلطاته باستهلاك رأسماله نفسه، وراحت إمبراطورية آل آلدايا تتهاوى على ضرب جلسات سرية تعقد في قصور مدريد ومصارف جنيف. ولاذ خوليان بالفرار، فأعجب به الدون ريكاردو كثيرا مع أنه كان يتمنى رؤيته ميتا. لقد تصرّف تماما كما كان سيفعل هو في حالة مماثلة. ولابدّ أن يدفع أحد ما ثمن أخطائه.
في 26 سبتمبر 1919 وضعت بينيلوب آلدايا مولودا بلا روح. لو كان لطبيب أن يزورها، لكان انتبه إلى أنها في خطر وأنها في حاجة ماسة إلى عملية قيصرية. لو كان لطبيب أن يشهد المخاض، ربما كان بوسعه إيقاف النزيف الذي قتل بينيلوب بينما كانت تطرق الباب الموصد وفي الجانب الآخر يبكي أبوها بصمت وتنظر أمها إليه مرتعدة. لو كان لطبيب أن يحضر هذا كان سيتهم الدون ريكاردو بارتكاب جريمة قتل، وهو المصطلح الوحيد الذي يصلح لوصف ما حدث في تلك الزنزانة المنزلية. عندما فتحوا الباب ووجدوا بينيلوب ميتة في بركة من دمها، مع مخلوق داكن بين ذراعيها، لم يتجرّأ أحد على نطق كلمة واحدة. دفنت الجثتان في قبو القصر، بلا جنازة ولا شهود، وأُضرمت النيران في الأغطية وأُغلق القبو بجدار من القرميد.
كان خورخي آلدايا من أطلع ميغيل مولينر على هذا، وهو يبكي من الشعور بالذنب والعار. فقرر الأخير أن يرسل بطاقة بينيلوب إلى خوليان، تلك التي تقر فيها بأنها لم تكن تحبه وتطلب منه أن ينساها وتخبره بزواجها. رأى من الأفضل لخوليان أن يصدق تلك الكذبة ويلتفت لبناء حياته على أن يكتشف الحقيقة. وبعد عامين، عندما توفيت السيدة آلدايا، راجت الشائعات عن شؤم ذلك القصر الملعون، لكن خورخي كان يعلم أنها قُتلت في ظل الحسرة وأصداء صراخ بينيلوب الممزق وطَرْقها المتكرّر على الباب الموصد دون جدوى. وكانت العائلة، في تلك الحقبة، قد وقعت في كارثة وتهاوت حظوظ آلدايا مثلما تمحو الأمواج قصر الرمال، ضحية الحسد والثأر وحتمية التاريخ. نظم الموظفون خطة الهروب إلى الأرجنتين حيث كانوا سيعاودون نشاطاتهم على أسس أكثر تواضعا. كان لابد من الفرار بعيدا، بعيدا عن إسبانيا وعن الأشباح التي تطوف في ممرات قصر آلدايا.
انطلقوا فجر يوم من عام 1926 وسافروا تحت أسماء مزيفة على متن سفينة تجتاز المحيط الأطلسي لتحملهم إلى بوينوس آيريس. تقاسم خورخي ووالده المقصورة، وكان العجوز آلدايا يكاد لا يقف على قدميه. ولم يجرُؤ الأطباء الذين منعهم من عيادة بينيلوب، أن يخبروه بالحقيقة، لكنه كان يعلم أن الموت قد استقلّ تلك السفينة. وخلال الرحلة الطويلة، بينما ينظر إلى الأفق ملتحفا بالأغطية، أدرك أنه لم يكن ليرى اليابسة ثانية. وكان في بعض الأحيان يجلس في مؤخرة السفينة ويراقب أسماك القرش تلحق بالسفينة منذ أن غادروا تنريف22. سمع أحد البحارّة يقول إنّ تلك الجوقة المشؤومة كانت ظاهرة طبيعية في مسارات السفن في أعالي المحيط، فهذه الأسماك تتغذى على نفايات البواخر التي ترميها في البحر. لكن الدون ريكاردو كان يعلم علم اليقين أن تلك الشياطين تلاحقه شخصيا. «إنكم تنتظرونني» كان يقول في سرّه بينما رأى فيهم وجه الله الحقيقي. وحينها أخذ وعدا من خورخي، نظرا لانعدام البدائل، أنه سيحقق إرادته الأخيرة.
«سوف تعثر على خوليان كاراكس وسوف تقتله. عدْني بذلك.»
ذات صباح، قبل يومين من الوصول إلى بوينوس آيريس، استيقظ خورخي ولم ير أباه في السرير. صعد إلى السطح ليبحث عنه، لكنه وجد منشفته الفاترة فقط عند مؤخرة السفينة. وكان خطّ السفينة يشقّ عباب المحيط الراكد ويتلاشى في الأجاج الواسع. ولاحظ أن أسماك القرش لم تعد تلاحق السفينة وتراءت له في البعيد مجموعة من الأسماك تُدعى إلى وليمة طازجة. ومنذ ذلك الحين لم يلاحظ أي مسافر سمكة واحدة من أسماك القرش، وحين نزل خورخي آلدايا في ميناء بوينوس آيريس سأله ضابط الجمارك إن كان بمفرده، فأجاب بنعم. منذ وقت طويل وهو يسافر بمفرده.
5
بعد عشرة أعوام، تعقّب خورخي آلدايا ظله، وعاد إلى برشلونة. في الأرجنتين تضاعفت التحديات التي دمّرت إمبراطورية العائلة في العالم القديم. فوجد نفسه مرغما على مواجهة المصاعب المريرة بمفرده، وكان تحمّل تركة أبيه أكبر من جهوده. لقد وصل إلى بوينوس آيريس بروح تغص بالتعاسة أصلا. وكان يتذرع بأن أمريكا حلم خدّاع، ويرثيها بوصفها أرض الضباع، وهو معتاد على طراوة أوروبا فلم يقاوم. وفي غضون أعوام قليلة خسر كل شيء، بدءا بالسمعة الحسنة. ولم يبق بحوزته سوى الساعة الذهبية التي أهداه إياها والده في المناولة الأولى، فباعها ليشتري ثمن تذكرة العودة إلى برشلونة. وكان الرجل الذي عاد إلى إسبانيا يحمل صفات المتسول الصعلوك، وغدا ذليل الأوجاع والخسائر ومهووسا بالحسرة على أمجاد الماضي ومليئا بالغلّ ممن يعتبره المسؤول عن شتاته: خوليان كاراكس.
لم ينس الوعد الذي قطعه على أبيه إذن. ما إن وطأت قدماه برشلونة حتى شرع يتتبع آثار خوليان. إلا أن صديقه السابق تبخّر والمدينة باتت مختلفة جدا عن تلك التي يذكرها. وفي تلك الحقبة، وجد رفيق صباه القديم، عن طريق المصادفة التي يُعدّها القدَر. بعد دورة طويلة بين المخافر وسجون الدولة، كان فرانثسكو خافيير فوميرو قد تجند في القوى المسلحة، وحصل بذلك على رتبة مقدم. وكان سيترفع إلى رتبة جنرال لو لم يُطرد من الجيش بعد فضيحة لم تُكشف خفاياها أبدا. لكنه كان قد بنى اسمه بطبيعة الحال وصار رجلا ذا هيبة. وأصبح المراهق المنزوي، الذي كان يجمع أوراق الخريف اليابسة في باحة سان جبريل، مجرما دمويا. ويقال إنه أعدم رجالا بارزين من أجل المال، وإنه يصفي شخصيات سياسية بالوساطة، بل وإنه كان الموت بعينه.
سرعان ما تعرف خورخي على فوميرو في صالة المدخنين في مقهى نوفيداديس. وكان آلدايا قد استعاد عافيته من حمى يرجّح سببها إلى حشرة أمريكية برية. «حتى البعوض قحاب هناك» كان يقول. أصغى إليه فوميرو باهتمام يتخلله الإزعاج. إذ كان يحب جميع أنواع الحشرات، ويعشق تصرفاتها المدروسة وقوتها وقدرتها المنظمة. كائنات لا تعرف الكسل أو التمرد أو المثلية الجنسية ولا حتى الانقراض. لكنه كان يفضّل فصيلة العنكبيات، لقدرتها على حياكة المصائد التي تنتظر فيها الفرائس بصبر جميل، فتنتهي وسط الشباك بسبب الغباوة أو الشرود. ومن جهة أخرى كان آلدايا مثالا واضحا للانحطاط الجسدي والأخلاقي. لقد شاخ باكرا وأهمل جسده الخالي من أي لفتة عضلية. وكان فوميرو يكره المترهلين الضعفاء ويتقزز منهم حتى التقيؤ.
«إنني متعب يا خافيير. هلا ساعدتني لبضعة أيام؟» توسل إليه آلدايا.
فقرر فوميرو أن يستضيفه في بيته. وكان يقيم في شقة صغيرة في شارع كادينا في الرافال، برفقة العديد من الحشرات المتكدسة في أوعية صيدلانية، وحوالي ستة كتب. فوميرو يكره الكلمة المكتوبة بقدر عشقه للحشرات على الأقل. لكن تلك لم تكن كتبا اعتباطية، بل كانت روايات خوليان كاراكس الصادرة عن دار كابيستاني. دفع مبلغا للعاهرتين اللتين تعيشان بالشقة المجاورة - أمّ وابنتها ينصاعان لأوامره حين يندر الزبائن لاسيّما في نهاية الشهر - كي يعتنيا بخورخي لأنه كان مشغولا بالعمل. لم يكن ينوي أن يقتله حينها.
كان فوميرو قد تطوع ضمن فرقة التحقيق في الجرائم حيث يوجد دائما مكان شاغر لمحترف قادر على مواجهة أصعب المسائل وحلّها بدقة فيتمكن المواطنون المحترمون من متابعة حياتهم المترعة بالأوهام، كما قال له قائده النقيب دووران ذات مرة.
«الشرطة ليست مهنة، إنما مهمّة» صرح دووران. «إسبانيا في حاجة ماسّة إلى رجال ذوي بأس يُكثرون من الأفعال ولا يكتفون بالأقوال.»
ولسوء الحظ، كان النقيب دووران سيفقد حياته لاحقا بسبب حادث وقع خلال عملية تمشيط في برشلونيتا.23
كانوا هناك لاعتقال بعض الأناركيين وفي الجلبة انزلق دووران وهو يقع من عمود إنارة. قيل إن إسبانيا فقدت رجلا حكيما ومفكرا ينغمس في الحدث. فحلّ فوميرو محله بكامل كبريائه وهو يهنئ نفسه على دفع دووران من الأعلى إذ كان طاعنا في السن ولم يعد يصلح لمثل هذا العمل. كان العجائز - والمشوّهون والغجر والمثليّون - يثيرون اشمئزازه حتى لو كانوا يتحلّون بالقوّة. فالله أحيانا يرتكب بعض الأخطاء، ومن واجب أي إنسان طيب أن يعالجها كي يبقي العالم محافظا على أبهى صوره.
بعد بضعة أسابيع من لقائه بفوميرو في مقهى نوفيداديس، مارس 1936، بدأ خورخي آلدايا يستعيد عافيته. اعتذر له عن معاملته السيئة في الماضي، وقص عليه حكايته بالتفصيل. كان فوميرو كله آذانا صاغية، ويهز رأسه من حين لآخر متسائلا إن كان عليه أن يقتله حالا أم يعطيه وقتا إضافيا. وتساءل مرارا إن كان نصل السكين قادرا على قتل ذلك الكائن المنحطّ وعلى اختراق لحمه ذي الرائحة الكريهة والمترهل بسبب الخمول. لكنّه قرّر أن يؤجل الاختبار الحيّ فتلك القصة تهمّه وبالأخص الجزء الذي يتناول كاراكس.
كان يعرف أن كاراكس يعيش في باريس. ولكن لا أحد يعرف عنوانه عدا موظفة في دار النشر، سيدة تدعى مونفورت، وترفض أن تمدّه بالعنوان. وقد لاحقها فوميرو مرتين حين خروجها من المكتب. كان على بعد خطوات منها في الترام. ولم تكن النساء تعيره أي انتباه، بل يَسْتَدِرْنَ إلى الطرف الآخر إذا تقاطعت نظراته بعيونهنّ ويتظاهرن بعدم رؤيته. وذات مساء بعد أن تبعها حتى بوابة البناية، عاد فوميرو إلى شقته واستمنى متخيلا أنه يدخل نصل سكينه في لحمها بعمق ثلاثة سنتمترات دفعة واحدة، وببطء مدروس، وهو يركز النظر في عينيها. ومن يدري إن كانت ستعطيه عنوان كاراكس وهي في تلك الحالة وتعامله باحترام يستحقه أي ضابط في الشرطة.
كان خوليان كاراكس الشخص الوحيد الذي أراد فوميرو قتله ولم يفلح، لأنه أول فريسة تاق لاصطيادها ولكنّه كان عديم الخبرة. وعندما لفظ خورخي آلدايا ذلك الاسم القبيح، ابتسم المحقق بطريقة تخيف جاراته كثيرا، بتمرير لسانه على شفته العليا. لا تزال أعصابه تحترق كلما دوت في رأسه ذكرى كاراكس وهو يقبّل بينيلوب آلدايا في قصر شارع تيبيدابو. بينيلوب الحبيبة. كان يحبّها بهيام شديد وعشق طاهر، كقصص الحب التي يعرضونها في الأفلام حسب فوميرو. فهو يتردد إلى السينما مرتين في الأسبوع على الأقل، هناك حيث اكتشف أن بينيلوب كانت الحب الكبير الذي عرفه في حياته. فكل الأخريات عاهرات بما فيهنّ والدته. وحين انتهى خورخي من قصته قرّر الشرطي ألاّ يقتل ذلك الحقير فهذا ليس من صالحه حاليا، بل وشكر القدر الذي جعلهما يلتقيان. وراودته رؤية مباغتة كما يحدث في الأفلام: كان آلدايا سينفعه في اجتذاب الآخرين على طبق من فضة. وسيقع الجميع في شباكه قريبا.