34 - نوريا مونفورت‏ذاكرة الأطياف‏1933-1955

في شتاء 1934 تمكّن إخوة ميغيل من طرده من تلك البناية التي ما تزال مهجورة إلى اليوم. كانوا ينوون حرمانه من ذلك القليل الذي بقي عنده، من كتبه وحريته وفكره الذي يشعرهم بالتهديد والإهانة. لم يحتجّ أبدا ولم يطلب مساعدتي. أخبرني أحد المحامين الأنذال أنه كان يعيش مُتسوّلا في حين كان إخوته يصنّفون أملاكه القليلة بهدف تصفيتها. نام ميغيل عدة ليال في حجرة رديئة بلا نوافذ أشبه بالقبر، على سرير يليق بالسجناء. فقررت أن أستضيفه في بيتي. كان حزينا جدا ويسعل باستمرار. وما لبث يقول إنها مجرد حمى عابرة كتلك التي تصيب العجائز العزّاب وسيشفى منها قريبا، فإذ بأحواله تزداد سوءا بعد مرور أسبوعين.

لم ألحظ بقع الدم على كمّ سترته باكرا لأنه كان يرتدي اللون الأسود دوما. وأنّبني الطبيب الذي زاره على عدم استدعائه من قبل: ميغيل مصاب بداء السل. كان مريضا ومفلسا ويعيش على الذكريات والحسرات. كان الرجل الأضعف والأطيب الذي عرفته في حياتي، الصديق الوحيد الذي عرفته. تزوجنا في البلدية في صباح من فبراير واقتصر شهر العسل على صعود تلة تيبيدابو بالقطار الجبلي كي نستمتع بمنظر المدينة الغارقة في لازورد الضباب. لم نخبر أحدا بزواجنا، لا كابيستاني ولا أبي ولا أهل ميغيل الذين كانوا يتعاملون معه على أنه ميت. بل كتبتُ رسالة إلى خوليان لكنني لم أرسلها. بعد عدة أشهر طرق بابنا رجل بشع بنظرات مضطربة وجلد يتصبب عرقا، وقال إن اسمه خورخي آلدايا، وابتسم بمرارة قائلا: «لقد حلّت علينا اللعنة جميعا يا ميغيل. أنت، خوليان، فوميرو وأنا». كان ينوي أن يطوي صفحة مع ميغيل ويتواصل مع خوليان كاراكس كي ينقل إليه رسالة مهمة جدا من والده المتوفى الدون ريكاردو آلدايا. فأجابه ميغيل بأنه لا يعرف مكان خوليان.

«لم نتراسل منذ أعوام» شرح. «كان في إيطاليا حين كتب لي آخر مرة.»

كان آلدايا ينتظر هذه الإجابة.

«أنت تخيب آمالي يا ميغيل. ظننت أنك ازددت حكمة بعد مرور هذا الزمن ومآسيه.»

«رُبّ خيبة تشّرف صانعها.»

فانفجر خورخي ضاحكا، بكل الوهن الذي كان باديا على وجهه.

«فوميرو يرسل إليكما أطيب تهنئاته بزواجكما» قال ثم انصرف.

صُعقت بتلك الكلمات الأخيرة، بينما لم يعلّق عليها ميغيل. وفيما بعد، حين كنا نتظاهر بالنوم، اقتنعت بأن آلدايا كان على صواب. فنحن قد حلّت علينا اللعنة حقا.

ولم نسمع أخبار خوليان ولا آلدايا طوال أشهر عديدة. كان ميغيل منشغلا ببعض المقالات الثابتة في صحافة برشلونة ومدريد، ويعمل دون توقّف على الآلة الكاتبة كي يجهز ما يسمّيه «طعام القرّاء في الترام». وأنا كنت أعمل دوما في دار نشر كابيستاني، ربما لأنني أردت أن أكون قريبة من خوليان. أرسل إليّ بضعة أسطر قائلا إنه يستعد لرواية جديدة «ظل الريح» ويتمنى أن ينهيها في غضون بضعة أشهر. لم يشر إلى ما حصل بيننا في باريس، بل كانت نبرته باردة أكثر من المعتاد. ورغم هذا لم أكرهه. بل بدأت أشك في أنّ خوليان تحوّل عندي إلى مرض.

ولم يكن ميغيل يعوّل على طبيعة مشاعري. كان يحبني بعمق وفي المقابل لا يطلب مني سوى الصحبة والقليل من الاهتمام. لم يكن يشتكي ولم يعاتبني أبدا. بل تولد في قلبي مع الوقت شعور لا متناه بالحنان، شيء مختلف عن الصداقة والشفقة التي كانت تثقل ظلها علينا كتهمة كبرى. فتح ميغيل دفتر توفير باسمي وكان يضع فيه أجره المتواضع من النشر. لم يكن يرفض أي عمل ويستخدم ثلاثة أسماء مستعارة، مكرسا ما بين أربع عشرة وست عشرة ساعة في اليوم. وعندما كنت أسأله عن سبب هذه التضحية بنفسه إلى هذه الدرجة، يجيبني مبتسما بأنه قد يشعر بالضجر إن توقف عن الكتابة. لم يعرف الكذب مكانا بيننا أبدا ولا حتى تلك الأكاذيب الخرساء. فقد كان يعرف أنه مريض جدا وأنه سيعيش لأشهر قليلة.

«إن حدث لي أي شيء، عديني بأنك ستأخذين هذه الأموال وتتزوجين ثانية وتنجبين أطفالا وتنسيننا جميعا، وعلى رأسهم أنا.»

«ومن عليّ أن أتزوج يا ميغيل؟ كفّ عن قول الترهات أرجوك.»

في بعض الأحيان كنت ألتفت إليه فجأة لأراه يرمقني من إحدى الزوايا بابتسامة شاردة، كأنني كنزه الأغلى على قلبه. كان يأتي ليصطحبني كل مساء عندما أخرج من دار النشر، في فترة استراحته الوحيدة خلال النهار كله. يمشي مُحدَودِبَ الظهر، وسعالُه لا يهدأ وكلما حاول أن يُشفى منه استتبّ الضعف في جسده. كان يأخذني إلى أحد المقاهي أو للاطلاع على زجاج المحلاّت في جادة فرناندو، ثم نعود إلى المنزل ليستمر في العمل حتى الفجر. وكنت أنعم بكل دقيقة نمضيها معا، وفي الليل ننام متعانقين، وتتعذب روحي تأنيبا لأنني لم أكن قادرة على مشاطرته الحب ولم أستطع أن أمنحه ما منحته لخوليان. كنت أتمنى لو أنساه كي أجعل ميغيل سعيدا، لكنني بقيت عشيقة خوليان لمدة أسبوعين وزوجة ميغيل لبقية حياتي. لو قرأتَ هذه الصفحات يوما وحكمت عليّ كما فعلت أنا بينما كنت أكتبها وأسلك الدرب المحفوف بالحسرة والندم، تذكّرني هكذا يا دانيال.

ما إن وصل مخطوط رواية خوليان الأخيرة إلى دار النشر حتى أرسلته إلى المطبعة دون أن أقرأه، نكاية أو خوفا. موّل ميغيل إصدار الرواية بآخر ما تبقّى له من مُدّخرات، أما كابيستاني، الذي راحت صحته تتدهور، فلم يكن ليهتم بالأمر. في ذلك الأسبوع، جاءني طبيب ميغيل إلى مكتبي، وكان مضطربا بشأنه جدا وقال لي إن أدوية السلّ القليلة لم يكن لها أي جدوى إذا لم يخفّض من وتيرة العمل ويأخذ فترة نقاهة.

«عليه أن يغادر برشلونة وينتقل للعيش في الجبال. ليس لديه سبعة حيوات كالقطط وأنا لست مربية. حاولي أن تجعليه يفكر في الأمر. أنا حاولت ولكنه لا يصغي إليّ.»

في ساعة الغداء مررت بالبيت كي أحدّثه بهذا الشأن. وحين فتحت الباب سمعت ميغيل يخاطب أحدا ما، فظننت أن أحد زملائه في الجريدة جاء يطمئنّ عليه، حتى انبرى اسم خوليان في أذنيّ. سمعت صوت الخطى تقترب من الباب فركضت لأختَبِئ خلف منشر الغسيل. ورأيت الضيف.

رجل يرتدي ثيابا سوداء، وملامحه غامضة وشفتاه ناعمتان كأنهما خدش قديم. وعيناه لا تعبّران عن شيء، كأعين السمك. قبل أن ينزل السلم توقف عند الفناء، فحبستُ أنفاسي والتصقت بالجدار. كان يلحس شفتيه بابتسامة خبيثة، كأنه شمّ رائحتي. انتظرت أن يبتعد صدى خطواته قبل أن أدخل إلى المنزل. فقد ترسبت رائحة الكافور في جوّ البيت. وحين دخلتُ وجدتُ ميغيل جالسا قرب النافذة وقد ارتخت ذراعاه على خصره، وارتجفت شفتاه. فسألته من كان ذاك الرجل وما الذي يريده.

«إنه فوميرو. جاء بأخبار عن خوليان.»

«وما شأنه هو بخوليان؟»

نظر إليّ ميغيل بنظرة منهكة.

«خوليان سوف يتزوج.»

انعقد لساني حين سمعت الخبر. وسقطت على الكرسي فشبك ميغيل يديه بيديّ. ثم قصّ عليّ ما قاله فوميرو. إذ نجح المحقق، بفضل اتصالاته مع شرطة باريس، في اكتشاف مكان خوليان وأوصى بوضعه تحت المراقبة. أخبرني ميغيل بأن الحادثة قد بدأت منذ أشهر، وربما قبل أعوام. لم يكن ميغيل يقلق من تمكّن فوميرو من تتبّع كاراكس، فذلك سيحدث عاجلا أم آجلا، بل لأنه اختار تلك اللحظة كي يخبره بزواج خوليان المفاجئ. كان الزفاف متوقعا في مطلع صيف العام 1936 وكان يعرف عن الزوجة اسمها فقط: إيرين مارسو، صاحبة بيت الدعارة حيث يعزف خوليان على البيانو منذ أعوام طويلة.

«لا أفهم» قلت متلعثمة. «خوليان سوف يتزوج المرأة التي أنقذته؟»

«تماما. هذا ليس زواجا، إنما عقد.»

كانت إيرين مارسو تكبره بخمسة وعشرين عاما أو يزيد وقررت، كما يرى ميغيل، أن تتزوجه كي تورّثه أملاكها وتضمن له مستقبلا آمنا.

«لكنها تساعده أصلا. ولطالما ساعدته.»

«ربما استوعبت أنها سترحل يوما ما» أكد ميغيل.

لقد أثّر فينا ذلك الكلام كثيرا. فجثمتُ على ركبتيّ وعانقته وأنا ألجم دمعي.

«خوليان لا يحب تلك المرأة يا نوريا» قال دون أن يفهم أنني كنت أبكي لأجله.

«خوليان لا يحب أحدا، إلا نفسه وكتبه اللعينة» همهمت.

ركز ميغيل النظر في عيني كأنه طفل حكيم.

«أتساءل ما مصلحة فوميرو في الكشف عن هذا الخبر الآن؟»

ولم نتأخر في اكتشاف السبب. بعد عدة أيام جاء خورخي لزيارتنا، مصعوقا أكثر وأكثر. أعلمه فوميرو بزواج خوليان من سيدة غنية جدا وبمراسم احتفالية. وكان آلدايا حانقا لتصوّر المسؤول الأساسي عن مآسيه يعيش حياة هنيئة ويتمتع بالثراء الذي تربّى عليه هو وحُرم منه بسببه فيما بعد. وتجنّب فوميرو أن يخبره بأن إيرين مارسو كانت صاحبة بيت دعارة وليست أميرة نمساوية. بل وأخفى عنه أن العروس تكبره بثلاثين عاما وأن ذلك الزواج ما كان إلا صدقة. لم يقل له لا أين ولا متى سيقام الزفاف. اكتفى برشّ بذار الحقد في خياله كي يحترق قلبه ويزيد من سطوة الحمّى التي كانت تفتك بجسده المتعب ذي الرائحة القبيحة.

«فوميرو كذب عليك يا خورخي» قال ميغيل.

«وأنت يا أكذب الكاذبين طعنتني غدرا وأنا صديقك!» صرخ آلدايا.

كانت نية القتل واضحة عند خورخي الذي تحول إلى هيكل عظمي. وفهم ميغيل استراتيجية المحقق. ألم يكن هو من علمه لعبة الشطرنج عندما كانا طالبَيْن؟ فوميرو يتمتع بوحشية الجراد وصبر الآلهة. أرسل ميغيل إلى خوليان فورا كي يحيطيه علما بالتطورات.

وعندما حانت اللحظة، قال فوميرو لآلدايا إنّ خوليان سيتزوج في غضون ثلاثة أيام ولكنه لا يستطيع التدخل فهو عميل في الشرطة. أما آلدايا فكان بوسعه الذهاب إلى باريس كي يهدم ذلك الزواج. كيف؟ سأل آلدايا فاقدا صبره. فاقترح عليه فوميرو أن يتحدى خوليان بمنازلةٍ في يومَ الزفاف. ودبّر له سلاحا ظنّه خورخي قادرا على اختراق قلب اللعين الذي دمر مملكة العائلة. وقد رشح من تقرير شرطة باريس أن السلاح المعلق على قدم خورخي كان معطلا وليس من المستغرب أنه انفجر في وجهه. لقد سلّمه فوميرو ذلك السلاح مغلفا، على الرصيف في محطة باريس، وكان يعلم جيدا كيف ستجري الأمور. كان يعرف أن الحقد الأعمى وفقدان الصبر سيمنعان هذا المراهق خورخي من قتل خوليان في مبارزة شرف. لم يكن لذلك المسدس وظيفة إلا قتل حامله. إذ لم يحبّذ أن يُقتل كاراكس هناك، بل آلدايا. لقد استفاد من وجوده الفارغ، جسدا وروحا، بضعة أشهر لاستدراج خوليان إليه.

كان فوميرو يعرف جيدا أن خوليان لم يكن ليصطدم بصديقه القديم وهو بتلك الحالة، ولذا علّم آلدايا كيف يتصرف. عليه أن يعترف لخوليان بأن الرسالة التي كتبتها له بينيلوب منذ سنوات بعيدة، والتي تخبره فيها بزواجها وتطلب منه أن ينساها، لم تكن سوى خدعة. لابدّ أن يخبره بأنه هو الذي أرغم أخته على كتابة تلك الأكاذيب في حين كانت تغرق في دموعها وتصرّح بحبّها لخوليان. لابد أن يفهم خوليان أن بينيلوب تنتظر عودته وقد تعذبت روحها في غيابه. وهذا كافٍ كي يضغط كاراكس على الزناد ليقتل خورخي، وينسى مشروع الزواج لينشغل بالعودة إلى برشلونة بحثا عن بينيلوب وإحياءً لشبَح حُلمٍ ألقاه أدراج الرياح. وفي برشلونة، وسط شبكة العنكبوت الكبيرة التي كان يحيكها بصبر وتأنٍّ، كان خوليان سيجد فوميرو بانتظاره.

7

اجتاز خوليان الحدود الفرنسية قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب الأهلية وبعد أسبوعين من صدور الطبعة الأولى والأخيرة من «ظل الريح» لتواجه مصير سابقاتها في التجاهل وعدم الاهتمام. لم يعد ميغيل يستطيع مزاولة عمله ولا الجلوس خلف الآلة الكاتبة أكثر من ثلاث ساعات في اليوم. بلغت الحمّى أشدها واستفحل فيه الهوان. فخسر الكثير من فرص النشر بسبب التأخير في تسليم المقالات، ناهيك عن أنّ بعض المجلات فضّلت عدم نشر مواده بعد أن تلقت تهديدات من مصادر مجهولة. ولم يتبّق له سوى زاوية يومية في صحيفة «دياريو دي برشلونة» ينشرها باسم مستعار: أدريان مالتيس. إذ كانوا يفضّلون عدم التمرغ في المخاطر في زمنٍ يشهد قرع طبول الحرب الأهلية. قلّت فرص العمل أمامه وازدادت آلامه حتى بات ينوح من الوجع، وكان ينزل إلى الساحة أو يمشي إلى شارع الكاتدرائية حاملا معه أحد كتب خوليان، كأنه يحمل جالب الحظ. انخفض وزنه حتى الستين كيلوغراما في آخر مرة زانه فيها الطبيب. وكنا معا نستمع إلى الراديو حين تلقينا خبر التمرد العسكري في المغرب وبعد عدة ساعات أخبرنا أحد زملائه الصحفيين أن كانسينوس، رئيس التحرير، لقي مصرعه بعيار ناري في رقبته قبالة مقهى كاناليتاس. لم يجرُؤ أحد على الاقتراب منه وبقيت الجثة على قارعة الطريق مضرجة بالدماء.

ولم ننتظر كثيرا لخوض أيام الرعب التي كانت قصيرة من جهة وكثيفة من جهة أخرى. زحفت فصائل الجنرال جوديد على شارع الدياغونال وبازيو دي غراسيا باتجاه مركز المدينة حيث سُمعتْ أولى الطلقات. حدث هذا في يوم الأحد يوم يخرج الناس للتنزه وتناول المشروبات في باحات كاريتيرا دي لاس بلاناس. ولم يكن ذلك سوى أول الغيث: ففي العامين اللاحقين أصبحت فظاعات الحرب رفيقتنا اليومية. بعد بضع ساعات، استسلمت فصائل الجنرال جوديد بفضل معجزة أم لعدم التنسيق بين الضباط. وبدا أن حكومة لويس كومبانيس تستعيد السيطرة على الوضع حتى أثبتت الأسابيع اللاحقة أنها لم تكن سوى مناوشات تستهلّ بداية لعبة الموت.

استولى النواب الأناركيون على زمام السلطة في برشلونة. وبعد بضعة أيام من حرب الشوارع، أشيع عن تصفية الجنرالات الأربعة المتمردين في قلعة مونتويك. كان أحد أصدقاء ميغيل، وهو صحفي بريطاني، شاهدا على المجزرة وقال إن منصة الإعدام تكونت من سبعة رجال، وفي اللحظة الأخيرة انضم عشرة من رجالات المليشيا إلى تلك الحفلة. تغربلت الجثث من غزارة الرصاص. وظن البعض أن الحدث سيكتب نهاية الصراع، وأن الفصائل الفاشية لن تقتحم برشلونة أبدا وسيوضع حلّ للتمرد. ولكن هيهات، إذ لم تكن تلك سوى تباشير حرب طاحنة.

علمنا أن خوليان كان في برشلونة يوم استسلم الجنرال جوديد. كتبت لنا إيرين مارسو قائلة إن خوليان قتل خورخي آلدايا خلال مبارزة شرف في مقبرة بير لاشيز. وقبل أن يموت آلدايا، اتصل مجهول بشرطة باريس وأخبرهم بما حصل في حين لاذ خوليان بالفرار. ولم يكن لدينا أدنى شك في هوية فاعل الخير. ترقبنا بحذر أن يتواصل معنا خوليان كي ننذره بالخطر ونجنّبه الوقوع في كمين أسوأ من كل مصائد فوميرو: اكتشاف حقيقة بينيلوب. مرّت ثلاثة أيام ولم يلمّح خوليان بأي علامة على وجوده. وكنت أعلم جيدا ما الذي كان ميغيل يفكر فيه: لقد عاد خوليان من أجل بينيلوب وليس من أجلنا.

«ما الذي سيحدث حين يعلم بالحقيقة؟» سألته.

«سنفعل ما بوسعنا كي نمنع حدوث ذلك» أجابني ميغيل.

وسرعان ما أدرك خوليان أن عائلة آلدايا اختفت دون أن تترك أثرا وأنه ليس من السهل العثور على بينيلوب. سجّلنا جدولا بكل الأماكن التي من الممكن أن يتجه إليها خوليان وبدأنا نجول بينها بحثا عنه. كان يصعُب دخول القصر في شارع تيبيدابو، بسبب السلاسل وشجرة اللبلاب المتسلق، وبات مهجورا منذ أعوام. تذكر بائع الأزهار والقرنفل على زاوية الشارع أنه رأى أحد الأشخاص مؤخرا يقترب من المنزل فعلا، رجلا بعمر متقدم ويعرج قليلا.

«تصور أنني حين عرضت عليه قرنفلة ليضعها في عروة سترته أجابني بكلمة بذيئة وقال إن الأزهار لا تباع ولا تشترى في زمن الحرب.»

ولم يلحظ وجود أحد آخر. اشترى منه ميغيل بعض الأزهار الذابلة وأعطاه رقم هاتف صحيفة «دياريو دي برشلونة» كي يخبره حالما يرى رجلا بصفات خوليان. الهدف الثاني كان مدرسة سان جبريل حيث التقى ميغيل ثانية بفرناندو راموس صديق المدرسة القديم.

صُعق فرناندو، الذي أصبح راهبا ويعلّم الإغريقية واللاتينية، من رؤية ميغيل مريضا إلى هذه الدرجة. وقال لنا إن خوليان لم يكن عنده لكنه تعهد بأن يتواصل معنا في حال طلب منه مساعدة وسيحاول أن يستبقيه إلى جواره. ثم أقر متوجسا بأن المحقق فوميرو، كما كان يسمي نفسه حينها، قد سبقنا إلى زيارته ونصحه بأن يأخذ حذره.

«في الحرب يسقط الكثير من الناس قتلى، والرصاص لا يفرّق بين بزّة جندي أو رداء خوريّ.»

لم تتضح لفرناندو راموس ميول فوميرو، ولا لأي فريق ينتمي، ولم يجرُؤ على طرح السؤال أيضا. من المستحيل أن أصف أولى أيام الحرب في برشلونة يا دانيال. كان الحقد والخوف يقدحان في نظرات الناس، والصمت المقيت يهيمن على الشوارع بما يخنق المعدة. وتصل الأنباء ساعة تلو أخرى ويوما بعد يوم بما لا يطاق من التوجس والاضطراب. أذكر ذات مساء أنني كنت أتمشى مع ميغيل في لاس رامبلاس باتجاه المنزل، والفراغ يغتال الحياة من حولنا، ونظرات الناس من النوافذ تنهال بسهام شكوكها علينا، حتى قال ميغيل لكأنه يسمع شحذ السكاكين في المطابخ.

في اليوم التالي ذهبنا إلى محل قبعات فورتوني دون أن نعقد آمالا كبيرة في العثور على خوليان. قال لنا أحد الجيران إن بائع القبعات، وقد أرهبته التطورات في الأيام الأخيرة، أغلق على نفسه في المحل. طرقنا طويلا، لكنه رفض أن يفتح لنا. كان هنالك تبادل لإطلاق النار ذلك المساء على بعد بيتين من هناك، ورأينا بقع الدماء أمام المحل. وكانت الكلاب الضارية تنهش جيفة حصان وبعض الأولاد يلقون عليها الحصى. استطعنا أن نرى الخوف على وجه بائع القبعات فقط من خلف شباك الباب. عندما قلنا له إننا نبحث عن خوليان، أجابنا بأن ابنه قد مات وأنه سيتصل بالشرطة إن لم نرحل مباشرة.

ولأيام طويلة سألنا عن خوليان في البارات والمحلات، في الفنادق والخانات، في محطات القطار والمصارف التي قد يسحب منها بعض المال… لم ير أحدٌ رجلا يحمل تلك الصفات. وحين توجس ميغيل بأنه ربما قد وقع في براثن فوميرو، سأل صديقه الصحفي ذا العلاقة الطيبة بأقسام الشرطة، علّه يتحقق من اعتقاله، فلم نحصل على شيء يدعم هذه الفرضية. كان خوليان يبدو، بعد أسبوعين من عودته إلى برشلونة، أنه صار هباء منثورا.

وكان ميغيل لا يستطيع النوم. ذات مساء، عاد إلى البيت ومعه قنينة بورتو أهداها له نائب رئيس التحرير قائلا إنهم لم يعد بوسعهم أن ينشروا مقالاته.

«لا يريدون مشاكل وأتفهم هذا.»

«وماذا ستفعل؟»

«في البدء، لابدّ أن أسكر.»

ولم يتمكن من إكمال نصف كأس من النبيذ بينما شربتُ القنينة كلها شيئا فشيئا على معدة خاوية. وهويت على الأريكة حوالي منتصف الليل، وحلمت بأن ميغيل يقبّل وجنتي ويغطيني باللحاف. استيقظت ورأسي يكاد ينفجر من الدوار حتى لعنتُ ميغيل وفكرة المشروب من أساسها. لكنني انتبهت لنفسي وحيدةً في المنزل. ترك ميغيل رسالة على الآلة الكاتبة يخبرني فيها بألاّ أشعر بالقلق وبأن أبقى في انتظاره إذ سيعود إلى البيت ومعه خوليان بأسرع وقت ممكن. وختم رسالته قائلا إنه يحبني. وقعت الورقة من بين يديّ وحينها انتبهت إلى أنّ ميغيل حمل أغراضه من المنضدة كأنه كان يعرف أنه لن يستخدمها بعد ذلك، وأدركت أنني لن أراه بعدها أبدا.

2021/06/22 · 74 مشاهدة · 2705 كلمة
نادي الروايات - 2025