35 - نوريا مونفورت‏ذاكرة الأطياف‏1933-1955

في ذلك المساء، اتّصل بائع الأزهار بجريدة «دياريو دي برشلونة» وترك رسالة لميغيل. فقد رأى الرجل الذي وصفناه يطوف كالطيف حول القصر. وفي منتصف الليل وصل ميغيل إلى رقم 32 من شارع تيبيدابو وكان يخلو من البشر وينيره القمر من بين رؤوس الأشجار. ورغم أنه لم يقابل خوليان منذ سبعة عشر عاما، فإنه تعرف إلى خطواته الناعمة كالهرة. كان قد دخل إلى الحديقة واثبا من السور واختبأ بجانب النافورة مثل الحيوان المطارد. أراد ميغيل أن يناديه لكنه فضّل ألا يثير انتباه أحد الشهود، إذ انتابه الإحساسُ بأنّ أحدهم يختلس النظر من نوافذ البيوت المجاورة تحت جنح الليل. جال حول القصر، وقرب ملعب التنس القديم لاحظ خدوشا في حجارة السور لعلّ خوليان استخدمها للتسلق عليها. صعد السورَ والألمُ يعتصر صدره ويكدّر عليه النظر. استلقى على قمة السور وهمس باسم خوليان. فتوقف الرجل الذي كان يتحرك حول النافورة فجأة. ولمح ميغيل لمعان عيني صديقه وتساءل إن كان قد عرفه أم لا. اقترب الرجل بحذر، وكان يقبض في يده اليمنى على غرض طويل ولامع. قطعة زجاج ربما.

«خوليان…» تمتم ميغيل.

تسمّر الرجل. وسمع ميغيل صوت تكسّر الزجاج على الحصى ورأى وجه خوليان يطفو على سطح الظلام. كانت عظام وجهه ناتئة وتحيطها لحية طويلة.

«ميغيل؟»

مدّ ميغيل ذراعه إذ كان في حالة صحية لا تسمح له بالقفز على الأرض أو العودة إلى الرصيف. فتسلق خوليان السور وتشبّث بيد صديقه وتلمّس وجهه بالأخرى. وهيمن الصمت على تبادل النظرات الطويل بينهما.

«علينا أن نذهب من هنا يا خوليان. فوميرو يراقبك. المنازلة مع آلدايا كانت مجرد طعم.»

«أعلم» قال خوليان بلا مبالاة.

«هذا القصر مهجور منذ أعوام» أضاف ميغيل. «هيا ساعدني كي أنزل ونذهب حالا.»

قفز خوليان إلى الجانب الآخر من السور، وأمسك بذراع صديقه مستغربا من خفة وزنه المبالغ فيها. لا شيء سوى كومة عظام تحت ثياب فضفاضة جدا. ابتعدا في شارع رامون ماكايا. واتّكأ ميغيل على خوليان فحمله ونهض به.

«ما بك؟»

«لا شيء. حمّى عابرة. إنني أستعيد قواي.»

فضّل خوليان ألا يكثر من الأسئلة. مشيا نزولا في شارع ليون الثالث عشر حتى التقاطع مع بازيو دي سان جرفازيو حيث لمحا أضواء مقهى مشرعة. جلسا على طاولة في العمق بعيدا عن المدخل وواجهة الزجاج. هنالك زبونان على الكونتوار يدخنان ويصغيان إلى الراديو. جاء النادل، شاحب اللون وعيناه تركزان في الأرض، ليأخذ الطلب. براندي، قهوة ووجبة طعام.

لم يلمس ميغيل الطعام، أمّا كاراكس الذي كان يتضور جوعا فقد أكل نيابة عنه وعن نديمه على ما يبدو. كان الصديقان يتعارفان مُجدّدا تحت ضوء المقهى الواهن، وهما يتّتبعان الذكريات البعيدة. لقد كانا مراهقين في آخر لقاء. أمّا الآن، فالأوّل فارٌّ والثاني يحتضر. وكلٌّ منهما يتساءل إن كان حظه سيئا أم أنه أخفق في التعامل مع الطالع.

«لم أشكرك على كل مساعداتك أبدا يا ميغيل.»

«لا ينبغي عليك أن تشكرني. لقد فعلتُ ما يمليه عليّ واجبي ورغبتي.»

«كيف حال نوريا؟»

«كما تركتها.»

أخفض كاراكس عينيه.

«تزوجنا منذ عام. ألم تخبرك؟»

شعر خوليان بشفتيه تتجمدان، وأومأ برأسه ببطء.

«ليس من حقك أن تلومها يا خوليان.»

«أعلم. لا أستحقّ أي شيء وكفى.»

«لماذا لم تبحث عنا؟»

«لا أريد توريطكما في الأمر.»

«لم يعد الأمر يخصك وحسب. أين كنت؟ لقد ظننّا أن الأرض انشقت وابتلعتك.»

«ظنك في محله. كنت في البيت عند والدي.»

حدق إليه ميغيل مشدوها. فروى عليه خوليان أنه اتجه إلى عنوان والده حين وصل إلى برشلونة وضاقت به السبل. كان يحسب أن البيت مهجور منذ زمن، لكنه وجد محل القبعات مشرعا أبوابه، وخلف المصطبة رجل عجوز أصلع في حالة كئيبة. عندما نظر إليه العجوز فورتوني بحيرة، أراد خوليان أن يهرب لكنه تسمّر على عتبة المحل. ودون أن ينبس بائع القبعات ببنت شفة، أدخل ابنه وأغلق الباب ولجّ في البكاء.

أوضح له بائع القبعات أن الشرطة كانت هناك منذ يومين. استجوبه عنصر إمّعة يدعى فوميرو، الذي كان من بين مرتزقة المتمردين ثم التحق بالأناركيين. وأعلمه بعودة وشيكة لكاراكس إلى برشلونة، وقال إن ابنه قتل خورخي آلدايا بدم بارد في باريس، وكان ملاحقا بجرائم أخرى، لكن فورتوني لم يكن ليصغي إلى حقير مثله. إذ كان فوميرو مقتنعا أن بائع القبعات لن يتردد في إعلام الشرطة بعودة الابن الضال إن تمّت. فأجابه فورتوني بأنه سيفعل ذلك، لكنه شعر بالذل من أن ثعبانا كهذا يثق في عمالته إلى تلك الدرجة. وما إن خرج ذلك الخبيث من المحل حتى اتجه هو إلى الكاتدرائية، حيث تعرف على صوفي، وتوسل إلى القديسين لحماية خطى ابنه وإعادته سالما إلى البيت قبل أن يحصل المكروه.

«أيا كان السبب الذي عاد بك إلى برشلونة، اسمح لي بأن أساعدك يا بنيّ. ستبقى مختبئًا في المنزل. فغرفتك كما تركتها وبوسعك أن تبقى قدرما تشاء.»

قال خوليان بأنه عاد من أجل بينيلوب آلدايا فوعده بائع القبعات بأنه سيعثر عليها ويساعدهما على الفرار إلى مكان آمن بعيد عن مخالب فوميرو والماضي وكل شيء.

بقي خوليان في البيت في روندا دي سان أنطونيو بينما كان أبوه يمشّط المدينة بحثا عن أي خبر عن بينيلوب. كان يقضي النهار في غرفته القديمة التي حافظت على سابق عهدها مع أن كل شيء فيها يبدو أصغر من حجمه. ولعلّ الحياة هي التي ضيّقت عليه الآفاق. وجد دفاتره القديمة، وأقلام الرصاص التي براها قبيل رحيله إلى باريس، والكتب التي تنتظر من يقرؤُها مكدّسة في الخزانة. أخبره بائع القبعات بأن صوفي هجرته بعد هروبه فورا ولم يتلق أخبارها لأعوام طويلة، حتى أرسلت إليه مكتوبا من بوغوتا ذات يوم. كانت قد استقرت في الجانب الآخر من العالم وتعيش مع رجل آخر، ومنذئذ شرعا يتراسلان بانتظام. «نتحدث عنك دوما» أقر بائع القبعات «إذ لم يعد لدينا ما يجمع بيننا غيرك يا بنيّ.» اعتقد خوليان أن أباه وقع في غرام أمه في اللحظة التي فقدها إلى الأبد.

«نحن نحب لمرة واحدة في الحياة يا خوليان، حتى لو لم ننتبه لذلك.»

وأخذ أنطوني فورتوني على عاتقه الخوض في عكس الزمان عسى أن يصلح ما أفسد الدهر، وكان على اقتناع بأنّ بينيلوب هي حبّ خوليان الحقيقي والوحيد، وعلى أمل كبير بأن يجدها، علّه يملأ الفراغ الذي أثقل عليه حياته كأنه لعنة مستبدة.

وبذل قصارى جهده حتى رضخ للأمر الواقع. لا أحد يعرف شيئا عن الفتاة، ولم تعد برشلونة تذكر آل آلدايا أساسا. كان ريكاردو ينحدر من أصول متواضعة، وقد أرغم على العمل كي يعيش لكنه توهم أن المال والحَسَب يضمنان الخلود، ولم يكن ليتخيل أن خمسة عشر عاما من الخسائر المالية كافية لتمحو قصوره ومصانعه وآثار عائلته البارزة عن وجه الأرض. كان الكثيرون يذكرون اسم آلدايا لكنّ لا أحد منهم يربطه بعائلة تتمتع بنفوذ واسع. وفي اليوم الذي طرق ميغيل ونوريا باب المحل بحثا عن خوليان، ظن فورتوني أنهما عميلان موفدان من قِبل فوميرو. لن يسمح لأحد أن يخطف ابنه ثانية من بين يديه، حتى لو كان الله بجلالة شأنه وهو الذي لطالما تجاهل دعواته. لو حاول أحدٌ، مجرد محاولة، أن يفرّقه عن خوليان لفقأ عينيه دون تردد.

وكان فورتوني هو الرجل الذي صادفه بائع الورد قرب قصر آلدايا. وكان بائع الورد هو الذي استخفّ بعزم رجلٍ بات عنده هدف في الحياة يسعى إليه بعناد يتحدى الزمن. ولسوء الحظ لم يكترث الله لآخر دعوات فورتوني المتضرعة، فلم ينجح في تحقيق ما يصبو إليه: خلاصه وخلاص ابنه متجليا في فتاة لا يذكرها أحد. كم من الأرواح الخائبة تلزمك يا إلهي كي تروي ظمأك؟ كان بائع القبعات يناجي ربّه، والله ينظر إليه ولا يردّ عليه.

«لم أجدها يا خوليان… أقسم لك أنني…»

«لا عليك يا أبتي. دع الأمر لي. لقد ساعدتني بما فيه الكفاية.»

في تلك الليلة، قرر خوليان أن يخرج إلى الطريق ليبدأ بحثه عن بينيلوب.

كان ميغيل يصغي إلى قصة صديقه وهو يشعر بنفسه فريسة هواجس متضاربة. ولم ينتبه للنّادل الذي كان يتحدث إلى الهاتف همسا ولا لنظراته المتوجسة المصوّبة نحو المدخل وهو يغسل الكؤوس بهمّة لا داعي لها في محلّ تسوده القذارة. كان عليه أن يتخيل أن فوميرو قد مر بهذا المقهى، وبعشرات مثله، على بعد خطوتين من قصر آلدايا، كي يكون على اطلاع مسبق بحضور كاراكس. عندما توقفت سيارة الشرطة قبالة المقهى، ودخل النادل إلى المطبخ، استسلم ميغيل لحتمية المصير. ورأى كاراكس ذلك في عيون صديقه، فالتفت كلاهما في اللحظة نفسها. ثلاث سترات مطرية من اللون الرمادي تتجه نحو المدخل. لم يكن فوميرو بينهم، فقد اكتفى بإرسال أتباعه الأوباش قبل مجيئه.

«فلننصرف حالا!»

«لا مجال للفرار» قال خوليان بنبرة هادئة جدا.

كان في يده مسدس من طراز ريفولفر ونظراته تنضح بالثقة والتصميم. غطّى طنين الجرس المعلق على الباب صوت الراديو. فسحب ميغيل المسدس من بين يديه وحدق في عينيه.

«أعطني وثائقك يا خوليان.»

جلس العملاء الثلاثة على الكونتوار. وكان أحدهم ينظر إليهما ريثما يفتش الآخران في جيوب سترتهما عن شيء ما.

«هات وثائقك يا خوليان هيا.»

هز خوليان رأسه مستنكرا.

«لم يتبقّ لي في هذه الحياة أكثر من شهر أو اثنين إن حالفني الحظ. على واحد منا أن يخرج من هنا حيا يا خوليان. وأنت لديك إمكانيات أكبر. لا أعلم إن كنت ستجد بينيلوب، لكن نوريا تنتظرك.»

«نوريا زوجتك.»

«ألا تتذكّر اتفاقنا؟ عندما أموت سترث مني كل شيء…»

«…ما عدا الأحلام.»

تبادلا ابتسامة للمرة الأخيرة. أعطاه خوليان جواز سفره، فوضعه ميغيل في جيبه، بجانب نسخة من «ظل الريح» كان يحملها معه دوما منذ أن تسلّمها.

«إلى اللقاء» همس خوليان.

«لا داعي للعجلة. بوسعي الانتظار.»

ما إن استدار رجال الأمن نحوهما، حتى نهض ميغيل واتجه صوب الكونتوار. رأى الثلاثة رجلا على شفير الموت، ويتقدم نحوهم بخطوات متأرجحة وابتسامة متعبة على شفتيه البيضاوين اللّتين ينسلّ منهما خيط دم. ولم ينتبهوا إلى المسدس إلا حين كان على بعد خطوات قليلة منهم. ولم يتسن لأوّلهم أن يصرخ حتى اخترقت الرصاصة فكّه، فخرّ الجسد على ركبتيه ثم استوى عند قدمي ميغيل. أشهر العميلان الآخران سلاحيهما حين اخترقت الرصاصة الثانية بطن أكبرهما سنا فهشّمت عموده الفقري وتطايرت أحشاؤه على الكونتوار. ولم يحالفه عامل الزمن لإطلاق الثالثة. إذ غرس العميل الثالث قصبة المسدس بين عظام صدره.

«توقف يا بن اللعينة وإلا أقسمت أن أرديك قتيلا.»

وبابتسامته المعهودة، رفع ميغيل الريفولفر ببطء وصوّبه على وجه العميل. لم يكن يتجاوز عمره الخامسة والعشرين والخوف باد من رجفة شفتيه.

«قل لفوميرو إن كاراكس مازال يذكر طقم البحّار.»

لم يشعر بالألم. طرحته الرصاصة على الزجاج بعنف هيمنَ على بقية الأصوات والألوان. وتكثف البرد كطوق حول عنقه، وتناثر النور كالغبار. حاول بالكاد أن يلتفت نحو صديقه ليراه يهرب في الشارع. كان ميغيل مولينر يناهز ستة وثلاثين عاما، وقد عاش أكثر ممّا كان يأمل. وقبل أن يهوي على الرصيف المكسو بشظايا الزجاج المدمى، كان قد سلّم الروح.

9

في تلك الليلة، وبينما كان خوليان يلوذ بمكان آمن، هرعت شاحنة بلا رقم حكومي على اتصال قاتل ميغيل. لا أعلم ما اسمه ولا أعتقد أنه كان على دراية بهوية ضحيته. فالحروب الشخصية، كالحروب الأخرى، لا فرق بينها مادامت كلّها عرضا في مسرح العرائس. أخذ رجلان جثتي العميلين ونصحا صاحب المقهى أن ينسى ما حدث. لا ينبغي أن نستخفّ أبدا بالميول إلى النسيان التي تولدها الحروب يا دانيال. ظلت جثة ميغيل مرمية في زقاق من حي الرافال اثنتي عشرة ساعة كي لا يتمّ الربط بين موته وموت العميلين. ولم تصل الجثة إلى مرقد الموتى في البلدية إلا بعد يومين. وكان ميغيل قد ترك وثائقه في البيت، فوجدوا في جيبه جواز سفر باسم خوليان كاراكس، وصورة شخصية مهشمة وكتاب «ظل الريح». توصلت الشرطة إلى الخلاصة المنطقية أن المقتول هو كاراكس بعينه، ويبدو أن مكان إقامته ما يزال باسم آل فورتوني في روندا دي سان أنطونيو.

وصل الخبر إلى فوميرو على جناح السرعة، فاتجه إلى حجرة الموتى. وكان بائع القبعات هناك كي يتعرف على الجثة. لم يكن قد رأى ابنه منذ يومين فتوقّع الأسوأ. وعندما وجد الجثة للرجل الذي طرق باب محلّه منذ أسبوع بحثا عن خوليان (الرجل الذي ظنه عميلا لفوميرو)، التزم الصمت وانصرف. ففسرت الشرطة ردة فعله كتأكيد على الاعتراف. كان فوميرو يراقب المشهد، فاقترب من الجثة. لقد مرّت سبعة عشر عاما لم ير فيها خوليان كاراكس. وعندما تعرف على ميغيل مولينر ابتسم ووقّع ضبط الطبيب الشرعي مؤكدا أن الجثة كانت لخوليان كاراكس وأمر بدفنها حالا في حفرة جماعية في مقبرة مونتويك.

ولطالما تساءلتُ لماذا تصرّف فوميرو على هذا الشكل. لكن ردة فعله كانت منطقية. فبموته بهوية خوليان، قدّم ميغيل لفوميرو هدية العمر دون أن يدري: خوليان كاراكس لم يعد موجودا ولا شيء سيُدين فوميرو حين يعثر على ذلك الرجل، عاجلا أم آجلا، ويقتله. إذ كانت الحرب قد اندلعت ولن يطرح أحد التساؤلات على موت مجهول. وهكذا تحوّل خوليان إلى ظل. بقيت في المنزل مدة يومين بنفاد الصبر، أنتظر عودة ميغيل أو خوليان. كنت على شفا حفرة من الجنون. وفي يوم الاثنين، ذهبت إلى المكتب. وكان السيد كابيستاني قد أسعف إلى المستشفى قبل بضعة أسابيع، واستلم آلفارو ابنه الأكبر عنان المؤسسة. لم أقل شيئا لأحد. ولم يكن من أحد أطلعه على ذلك السرّ.

وفي ذلك المساء، اتصل موظف الحجرة، السيد مانويل جوتيريز فونسيكا، ليعلمني أنه تلقّى جثة المدعو خوليان كاراكس، كما يظهر اسمه كمؤلف لكتاب كان في جيب سترته، وشعر من واجبه أن يخبر دار النشر. وأضاف أنه لم يكن راضيا عن الإجراءات التي قامت بها الشرطة في سبيل التعرف إلى الجثة. وحينها أحسست بالرعب، وظننت للوهلة الأولى أنه فخ يحيكه فوميرو كالعادة. ولكن صوت السيد فونسيكا، الذي كان يعبر بدقة بيروقراطية، كان يحتوي على قلق حقيقي. ولحسن الحظ أنني أنا من أجاب على الاتصال حين كنت بمفردي في مكتب السيد كابيستاني بينما كان آلفارو خارجا للغداء، وإلا لما استطعت أن أبرّر دموعي ورعشة يدي.

شكرت السيد فونسيكا بكل احترام وأغلقت السماعة. وأغلقت باب المكتب وعضضت على يدي كي لا أصرخ. ثم غسلت وجهي وانصرفت، وقلت إنني أشعر بالإعياء وسأصل صباح الغد قبل المعتاد. وفي الطريق التزمت السكينة كي لا أركض فألفت الانتباه. وعندما وصلت إلى البيت وأدخلت المفتاح في القفل، فوجئت بأن القفل كان مخلوعا. عدت خطوتين إلى الوراء. رأيت المقبض يدور، وتوقعت أن ساعتي قد حانت. فحزنتُ لأنني سأموت هكذا، على سلّم مظلم، دون أن أعرف ما الذي حل بميغيل. لكن الباب انفتح ليتجلّى أمامي خوليان كاراكس. سامحني يا الله! في تلك اللحظة أحسست أنني أولد من جديد وشكرت السماء لأنها أعادت إليّ خوليان بدلا من ميغيل.

تعانقنا طويلا، ولكنه أبعد وجهه عندما حاولت أن أقبّله. أغلقت الباب وشددت على يده. واستلقينا على السرير بعناق صامت بينما تأفل الشمس على وقع تبادل النيران في البعيد كما كان يحدث كل مساء منذ اندلاع الحرب. كان خوليان يبكي بين ذراعيّ، وهاجمتني نوبة غثيان هوجاء. وبالتواطُؤ مع الظلام، خلعنا ملابسنا التي تبللت تحت وطأة الرعب وأصداء الردى. كان علي أن أتذكر ميغيل لكن الشهوة غيّبت خجلي ومأساتي. ورغبت في أن أتوه بلا عودة رغم يقيني أننا، في مطلع الفجر، سنتبادل نظرات الاحتقار.

10

أيقظني طرق المطر. كان السرير فارغا والرطوبة تجتاح الغرفة المعتمة.

وجدت خوليان يداعب أزرار آلة ميغيل الكاتبة. انتزعت ابتسامته البعيدة مني أي وهم. وأغرتني الرغبة في إيذائه بكشف الحقيقة. كان بوسعي أن أخبره بأن بينيلوب كانت ميتة، وأنه كان يعيش في أوهام، وأنني أنا وحدي من تبقّى له في الدنيا.

«لم يكن عليّ أن أعود إلى برشلونة أبدا.» قال.

جثمت على ركبتيّ بقربه.

«لن تجد ضالتك هنا يا خوليان. فلنرحل بعيدا عن هذه المدينة ما دام الوقت لصالحنا.»

نظر إليّ. «ما الذي تخفينه عني؟» سأل.

هززت رأسي نافية وأنا أبتلع لعابي. فاكتفى خوليان بهزّ رأسه أيضا.

«هذا المساء سأذهب إلى هناك.»

«أصغ إليّ يا خوليان…»

«عليّ أن أفعل ذلك.»

«سآتي معك إذن.»

«لا.»

«لا أريد أن أبقى هنا في انتظارك.»

«هذا الأمر يخصني أنا وحدي يا نوريا.»

تساءلت إن كان يشعر بقسوة كلماته.

«ليس صحيحا.»

أراد أن يداعب خدي لكنني أدرت وجهي.

«عليك أن تكرهيني يا نوريا، فهذا يجلب لك الحظ.»

«أعلم.»

قضينا طوال النهار خارج البيت، بعيدا عن رائحة أجسادنا التي امتصّها السرير. كان خوليان يريد أن يرى البحر. فرافقته إلى برشلونيتا وتمشينا على الشاطئ الخاوي من البشر إلا قليلا، والريح ترقص مع غبار الرمل تحت الضباب. جلسنا عند مضرب الأمواج، كما يفعل الصغار والعجائز. كان خوليان يبتسم، سارحا في ذكرياته.

وحين غربت الشمس صعدنا شارع لايتانا بالترام حتى بازيو دي غراسيا، عبرنا بلازا ليسيبس واجتزنا شارع الجمهورية الأرجنتينية حتى آخر خط الترام. كان خوليان يراقب الطرقات كأنه يخشى أن تتبدد المدينة خلفه. وفجأة شدّ على يدي ولثمها دون أن يقول كلمة واحدة. وكان ثمت رجل عجوز برفقة طفلة ترتدي ثيابا بيضاء، ينظر إلينا متأثرا، وسألنا إن كنا مرتبطين. هبط الليل حين وصلنا إلى شارع تيبيدابو. تسلقنا السور من جهة ملعب التنس. وكان رذاذ المطر يصبغ حيطان القصر باللون الفضي. عرفت القصر فورا لأنني كنت قد صادفته أكثر من مرة في كتب خوليان. في رواية «البيت الأحمر» كانت أبعاد القصر تتغير، وتتعدد فيه الممرات والشرفات والأروقة والسلالم التي لا حصر لعتباتها وتفضي إلى غرف تختفي وتظهر لتبتلع أي مغفل يغامر بدخولها. كانت البوابة مغلقة بالسلاسل الموصولة إلى قفل أكبر من قبضة اليد، وعلى زجاج الطابق الأول ثمّت محاور خشبية تغطّيها شجرة اللبلاب. وكانت رائحة الأرض المبتلة والأوراق اليابسة تحوم في الأرجاء، والصخور اللزجة والداكنة تتلألأ تحت المطر مثل هيكل ثعبان عملاق.

أخرج خوليان قارورة صغيرة من جيب سترته حين وصلنا أمام الباب العظيم كمدخل السجن. نزع الغطاء فانطلقت رائحة فتاكة لسعت أنفي. أمسك بالقفل وسكب فيه الأسيد، فانصهر المعدن مثل الحديد في النار، ونفث بخارا أصفر. ترك خوليان الأسيد يتفاعل للحظات ثم أخذ حجرة كبيرة من الأرض وضرب بها القفل ورفس الباب فانفتح ببطء كغطاء القبر. لفحتنا رائحة الرطوبة الآتية من داخل ذلك المكان المغلق. أخرج خوليان ولاعة فقدحها ورفعها كشعلة وتقدم خطوة في الظلام. لم يكن في القصر أي أثر للأثاث. وكنا نمشي فوق بساط من الغبار لا أثر عليه سوى أقدامنا. كانت الجدران العارية والأبواب بلا مقابض تهتز من ضياء الشعلة. نظر خوليان صوب الأعلى. أردت أن أبتسم له لكنني رأيت لمعان الاندفاع في عينيه تحت الظلام. لحقت به على أدراج السلّم هناك حيث تبدّت له بينيلوب للمرة الأولى. كنت أعرف أين كنا ذاهبين، فاجتاحني البرد الذي لا يمتّ بصلة إلى رطوبة ذلك المكان الفاسد.

صعدنا إلى الطابق الثالث ودخلنا في ممر يفضي إلى الجناح الجنوبي بسقفه المنخفض وأبوابه الصغيرة. كان ذلك طابق الخدم، وكنت متأكدة من أن الغرفة الأخيرة هي غرفة خاثينتا كورونادو، هناك حيث التقى خوليان بالفتاة للمرة الأخيرة وهناك طارحها الغرام، وهناك قُدّر عليها أن تموت نازفة، سجينة لتلك الجدران الأربعة. سبقني خوليان إلى عتبة الغرفة. وحين وصلت، وجدت الغرفة فارغة بالكامل. وتتّضح من غبار الأرض آثار سرير قديم ذي محاور خشبية وبقع داكنة اللون في وسط الغرفة. حدّق خوليان فيها وشرد في ذلك الفراغ لأكثر من دقيقة. كان يعرف الغرفة شبرا شبرا وربما كان يتألم من سخرية القدر. فأمسكت بذراعه وجذبته نحو السلالم.

«لا يوجد شيء هنا يا خوليان» همستُ. «لقد باعوا كل شيء قبل أن يغادروا إلى الأرجنتين.»

هز رأسه بشرود ونزلنا إلى الطابق الأرضي. اتجه خوليان إلى المكتبة ولم يجد إلاّ جدرانًا فارغة وموقدا متهالكا. اهتزت الجدران الشاحبة على لهيب الشعلة. كان المقاولون والممولون الكبار قد سلبوا العائلة كل ذكرياتها وملؤوا بها أسواق الخردة.

«لقد عدتُ إلى لا شيء.»

هذا أفضل، قلت في نفسي بينما كنت أعد الخطى التي تفصلنا عن المخرج. مازال عندي بصيص أمل إن خرج من القصر بإحساس أليم من الخذلان. أعطيته الوقت لكي يمتص الضربة.

«الآن وقد رأيت أنه لا يوجد شيء. لا شيء سوى حطام قصر قديم. فلنذهب إلى البيت» قلت.

هزّ رأسه منزعجا. أمسكت بيده وقدته نحو الباب. وكان الضوء ينسل من الباب الموارب على بعد متر منا. وعندما وصلنا إلى العتبة أفلت خوليان يده من يدي.

«ما بك؟»

لم يجبني. ركز نظره إلى ممر المطبخ الصغير. أنار لهيب الولاعة الواهن أحد الأبواب في الجدار، وكان الجدار غريبا من قرميد أحمر مثبّت بالجصّ. انتابتي رعشة باردة على ظهري. كانت كل الأبواب الأخرى مشرّعة بلا أقفال ولا مقابض عدا الباب في ذلك الجدار في نهاية الممر. تحسسه خوليان بكف يديه.

«فلنذهب من هنا أرجوك يا خوليان.»

أصدر الجدار دويّا أصمّ. وضع خوليان الولاعة على الأرض وأشار إلي بالتراجع بضعة خطوات.

«خوليان…»

أثارت الرفسة الأولى غبارا أحمر. وشعرت أن عظامه تتكسر لكنه راح يضرب الحائط بيديه وقدميه كسجين ثائر يفتح منفذا نحو الحرية. وحين انهارت الطبقة الأولى من القرميد وهوت من الطرف الآخر كانت يداه وذراعاه تنزفان دما. فضاعف خوليان قواه ليوسّع الكوة بإرادة وحشية. فتداعت الأحجار واحدة تلو الأخرى حتى سقط الجدار. توقف حينها بعد أن تصبب عرقه وانسلخ جلد يديه، ورفع الولاعة فوق القرميد. خلف الجدار الساقط ثمت باب خشبي مزركش بصورالملائكة. راح خوليان يتلمسها كأنه يقرأ الهيروغليفية، ثم فتح الباب.

انبثق الظلام اللازوردي المتماسك من سلّم من الصخرالأسود. التفت خوليان نحوي بنظرة من يتنبأ بسوء الطالع. توسلت إليه ألا ينزل لكنه استدار يائسا وغطس في الظلماء. أطللت برأسي من كوة القرميد ورأيته ينزل السلم وهو يتأرجح. ارتجت الشعلة وصارت وميضا من الأزرق الفاتح.

«خوليان؟»

لم يجبني. كنت ألمح ظله الثابت في قاع السلم، فنزلت إليه. وقفنا في حجرة مثلثة باردة وحيطانها ملبّسة بالرخام. كانت الشاهدتان تتشحان بشباك العناكب التي انحلت من حرارة الولاعة كخيوط الحرير الناعم. وآثار العفن السوداء تطوّق الأحرف المنقوشة على شاهدة القبرين المتجاورين، لا يفترقان، وهما يغفوان في حضن اللعنة.

بينيلوب آلدايا دافيد آلدايا

1902 – 1919

2021/06/22 · 75 مشاهدة · 3249 كلمة
نادي الروايات - 2025