جرّبت أن أعيش ذلك المشهد ألف مرة كي أتخيل آلام خوليان بعد أن قضى سبعة عشر عاما يحلم بحب مستحيل ليجد حبيبته في عداد الموتى وقد لحق بها ابنه، ثمرة عشقهما. وغالبا ما يحالفنا الحظ أو التعاسة كي نشهد تدهور حياتنا رويدا رويدا دون أن نشعر بذلك أصلا. ولكن ما حصل لخوليان لم يتعدّ الدقيقة الواحدة. خشيت أن يهرب من ذلك المكان الملعون وألاّ أراه بعدها. وربّما كان هذا أفضل بكثير.
انطفأت الولاعة. وكان خوليان يرتجف لا إراديا تحت الظلام. تقوقع في زاوية الغرفة دون أن يتكلم، دون أن يبكي. عانقته وقبّلت جبينه. كنت على قناعة أنه لطالما توقع ذلك وظننت أن تلك الرؤية المريعة ستحرره منها إلى الأبد. لم يعد شيء يربطه ببرشلونة. وتوهمت أنّ مصيرنا كان سيتغير وأن بينيلوب ستسامحنا.
أخذت الولاعة وأضأت وجهه وأرغمته على النظر إليّ. كانت عيناه تحدّقان إلى الفراغ، والحقد يجري في عروقه كالسم. كان يكرهني لأنني خدعته. ويكره ميغيل لأنه أعطاه فرصة ليعيش حياة أليمة كجرح نازف. لكنّ جلّ ضغينته ينصبّ على الرجل الذي يعتبره أساس الكارثة وأصل البلاء: هو نفسه. كان يكره الكتب التي كرّس حياته لتأليفها ولم يقرأها أحد. كان يكره حياته المليئة بالخداع والأكاذيب. كان يكره كل لحظة وكل تنهيدة تبعدانه عن الموت.
راح يرمقني دون أن يرف له جفن، كما ينظر إلى غريب أو إلى شيء مجهول. كنت أهز برأسي نافية وأبحث عن يديه. فانتفض واقفا، وحين حاولت أن أعانقه دفعني عنه بقوة وانصرف دون أن يقول شيئا. صار رجلا آخر، فخوليان الذي أعرفه مات. بحثت عنه في أرجاء القصر والحديقة ولم أجده. تسلقت السور وصرخت باسمه على طول الطريق الخاوي. وحينما عدت إلى البيت حوالي الرابعة صباحا، وجدت الشقة مليئة بالدخان ورائحة الحريق تعمّ أجواءها. كان خوليان هناك. فتحت النوافذ على مصراعيها. وعلى المنضدة وجدت علبة قلم الحبر السائل الذي اشتريته في باريس، قلم فيكتور هوغو. وكان الدخان يصدر من موقدة خشبية. حين فتحت زجاج الموقدة وجدت خوليان قد ملأها برواياته التي سحبها من على الرفوف. بعض العناوين كانت لا تزال واضحة فيما تلتهم النيران الكتب وتحولها إلى رماد.
وحين ذهبت إلى العمل في ذلك اليوم، استدعاني ابن كابيستاني إلى مكتبه. قال لي آلفارو إنه استقبل في الصباح رجلا يدعى لايين كوبرت أبدى رغبته في شراء كل روايات خوليان كاراكس المكدسة. فأجابه آلفارو بأن مستودعنا في بيويبلو نويفو مليء بها لكنه طلب سعرا أعلى من عرض كوبرت، بحجة أن تلك النسخ كانت مطلوبة جدا في السوق. فرفض الرجل وانصرف مستاء. وحينها تحسّر كابيستاني الابن، وطلب مني أن أبحث عن المدعو لايين كوبرت وأقبل اقتراحه. فقلت له إن لايين كوبرت ليس له وجود، بل كان شخصية خيالية من روايات كاراكس، وإنه لم يكن يريد شراء الكتب إنما اكتشاف مكانها. وتذكرت أن السيد كابيستاني يضع نسخة من كل عنوان ينشره، بما فيها روايات كاراكس، في مكتبته. فدخلت إليها خلسة وأخذت نسخة من كل روايات خوليان.
وفي ذلك المساء ذهبت عند والدي، في مقبرة الكتب المنسية، وخبأتها حيث لا يسع أحد أن يجدها، لاسيّما خوليان. وعندما خرجت كان قد هبط الليل. فمشيت حتى برشلونيتا ووقفت على الشاطئ حيث كنت أتامل البحر مع خوليان. ونظرت صوب المدينة، فرأيت أعمدة الدخان تنهض في البعيد، ووهج النار يصبغ البحر. كان مستودع الدار في بويبلو نويفو يحترق. عندما نجح رجال الإطفاء في إخماد الحريق، قبل الفجر بقليل، اتضح أننا خسرنا كل ما في المستودع الذي لم يتبق منه سوى هيكل القرميد والمعدن. تحدثت مع لويس كاربو الذي كان يعمل في المستودع منذ عشرة أعوام كحارس ليلي. احترق زغب ذراعيه وحاجبيه واحمرّ جلده، وكان ينظر متعجبا إلى الركام. أخبرني بأنّ الحريق اشتعل بعد منتصف الليل بدقائق وأن ألسنة اللهب التهمت عشرات الآلاف من الكتب. كان يضم إلى صدره الكتب الوحيدة التي استطاع إنقاذها، بعض المجلدات من أشعار فيرداغوير ومُجلّدين من «تاريخ الثورة الفرنسية». هرع بعض النقابيين ليلقوا نظرة على مكان الحادث، وقال لي أحدهم إن رجال الإطفاء وجدوا جسدا متفحما ولكنه لا يزال يتنفس فأسعفوه إلى مستشفى دل مار.
عرفته من عينيه. سلخت النيران جلده ويديه وشعره، وكان جسده ملفوفا كليا بالضمادات. لقد عزلوه في غرفة في آخر الجناح من جهة البحر، وحقنوه بالمورفين وكان ينتظر الموت. أردت أن أمسك بيده لكن إحدى الممرضات أنذرتني أن لحمه كان هشا للغاية. حرقت النار جفنيه وكانت عيناه ترنوان إلى الفراغ بشكل مستمر. سألتني الممرضة التي وجدتني على الأرض إن كنت أعرفه فقلت إنه زوجي. وعندما وصل الراهب ليقوم بالمسحة الأخيرة علا صراخي وطردتُه من الغرفة. وبعد ثلاثة أيام كان خوليان لا يزال على قيد الحياة. وكان تبرير الأطباء أن رغبته اليائسة في البقاء هي التي تبقيه حيا. وكانوا مخطئين. فالحقد هو ما جعله يتشبث بالحياة. وبعد أسبوع، سُجّل ذلك الجسد الذي يأبى الموت باسم ميغيل مولينر. وكان سيبقى في المستشفى أحد عشر شهرا. أحد عشر شهرا من الصمت والنظرات المسمومة.
كنت أذهب لزيارته كل يوم. رفعت الممرضات الكلفة معي وصرن يدعونني إلى وجبة الغداء معهن. كن نساء وحيدات وقويات ينتظرن عودة رجالهن من الجبهات. وكان أحدهم يعود بين الحين والآخر. علّمنني كيف أعقّم جراح خوليان، وأستبدل الأدوية وأغيّر أغطية ذلك الجسد الهامد الملقى على السرير. وحضّرنني أيضا على تقبّل أنني لن أرى ذلك الرجل كسابق عهده. بعد ثلاثة أشهر نزعن الضمادات من على وجهه. كان وجه خوليان قناعا من جلد متفحم، جمجمة تبدو فيها مدارات العين أكثر ضخامة. لم تقل الممرضات شيئا لكن الرعب دبّ في قلوبهن. ورجّح الأطباء أن بشرته ستصبح قشرية وبنفسجية اللون حالما تزول الجراح. ولم يجرؤ أحد على التنبّؤ بحالته العقلية. كانوا يفترضون أنّ خوليان (ميغيل) ربما فقد عقله، وقد يعيش بفضل عناية مشددة من زوجة صالحة. كنت أنظر إليه فأدرك أنه مازال واعيا ويتهالك في الانتظار.
لم تعد له شفتان لكن الأطباء اعتقدوا أن حباله الصوتية لم تتضرر وأن الحروق على اللسان والحنجرة تعدّت مرحلة الخطر. كان الخرس الذي تعرّض له يعود برأيهم إلى ظاهرة شيطانية. ذات مساء، بعد ستة أشهر عن الحادث، وبينما كنا وحدنا في الغرفة، انحنيت نحوه وقبّلت جبينه.
«أحبكَ» قلت له.
فأصدر نواحا من فمه الذي غدا كالخدش الذليل. واغرورقت عيناه بالدموع. أردت أن أمسح دموعه بالمنديل لكنه أعاد ذلك الصوت اليائس.
«دعيني وشأني» قال لي.
أغلقت دار النشر بعد شهرين من حريق المستودع في بويبلو نويفو. وقبل أن يموت كابيستاني العجوز، تكهن بأنّ ابنه سيفشل في غضون ستة أشهر، وكان متفائلا جدا. فرُحت أبحث عن عمل في دور نشر أخرى، لكن الحرب كانت على أشدّها وفرص العمل معدومة. كنا نظن أن النزاع لن يدوم طويلا وأن الأمور ستتحسن قريبا. غير أنّ الحرب امتدت سنتين إضافيتين وكان ما تلاها أسوأ. بعد عام عن الحريق قال لي الأطباء إنه من غير المجدي أن تطول إقامة خوليان. فالبلاد تمر بلحظات عصيبة وكانوا في أمسّ الحاجة إلى الغرفة. نصحوني بأن آخذه إلى مستوصف مثل مأوى سانتا لوسيا لكنني رفضت. وفي شهر أكتوبر من 1937 أخذته إلى البيت. ولم ينطق بأية كلمة أبدا بعد تلك الجملة: «دعيني وشأني».
كنت أقول له كل يوم إنني أحبه. وكان يبقى جالسا على أريكة أمام النافذة متشحا بأغطية كثيرة. كنت أغذّيه بعصائر الفواكه والخبز، والحليب إذا كان متوفرا. وراح خوليان يستعيد القليل من وزنه شيئا فشيئا. وكنت كل يوم أقرأ له ساعتين من بلزاك وزولا وديكنز… وأخذ يستعيد صوته تدريجيا. وبعد وقت قصير بدأ يحرك يديه وذراعيه ورقبته. وفي بعض الأحيان، عندما أعود إلى البيت، كنت أجد الأغطية وبعض الأغراض مرمية هنا وهناك. ذات يوم وجدته يزحف على الأرض. وذات ليلة، بعد عام ونصف على الحريق، أيقظني هزيم الرعد، فرأيته جالسا بقربي على السرير ويداعب شعري. مسحتُ دموعي وابتسمت له. استطاع أن يعثر على إحدى المرايا التي كنت قد خبأتها وقال لي بصوت متراخٍ إنه تحول إلى أحد تلك الوحوش التي يصنعها خياله، إلى لايين كوبرت. أردت أن أقبّله كي يفهم أنني لا أشمئز منه لكنه ابتعد عني ولم يعد يسمح لي بمسّه منذئذ. عندما كنت أخرج لشراء بعض الحاجيات، كان خوليان يطوف في البيت بعد أن استعاد قواه. نفدت مدخرات ميغيل وأرغمت على بيع بعض الأغراض، من ضمنها مجوهراتي. وفي النهاية أجبرت على التضحية بقلم فيكتور هوغو الذي اشتريته من باريس. أخذته إلى محل يبيع هذا النوع من المقتنيات، خلف مبنى الحكومة العسكرية. ولم يُصعق صاحب المحل حين عرف أن هذا القلم للكاتب الفرنسي الكبير، لكنه اعترف بأنه قطعة فنية عظيمة وعرض فيه مبلغا منصفا نظرا إلى ضيق تلك المرحلة.
اعترفت لخوليان بأنّني بعت القلم. وكنت أخشى أن يغضب لكنه قال لي إنني أحسنت صنعا لأنه لم يستحقه أبدا. وفي يوم من تلك الأيام الكثيرة التي كنت أبحث فيها عن عمل، لم أجد خوليان في المنزل حين عودتي. وعندما عاد مطلع الفجر سألته أين كان فاكتفى بتفريغ جيوب معطفه (معطف ميغيل القديم) ووضع مبلغا من المال على الطاولة. وبعدها راح يخرج كل ليلة تقريبا. تحوّل إلى ظلّ، تحت الظلام، مرتديا تلك السترة المطرية الغامقة، والقفازين والشال والقبعة. لم يكن يبوح لي بوجهته وغالبا ما يعود محمّلا بالمال والمجوهرات. ينام في الصباح جالسا على الأريكة بعينين مفتوحتين. وذات مرة وجدت في جيبه سكينا بقفل يدوي. وكان على حده المزدوج بقع داكنة.
وفي تلك الآونة أشيع في المدينة عن رجل غريب الأطوار يكسر زجاج المكتبات ليلا ويحرق الكتب. ونجح المخرب المريب في دخول بعض المكتبات العامة وبيوت بعض المولعين باقتناء الكتب النادرة. وكان في كل مرة ينهب كتابين أو ثلاثةً ويحرقها. في فبراير 1938 سألت صاحب مكتبة للكتب النادرة إن كان من الممكن سحب جميع روايات خوليان كاراكس من السوق. فأجابني بلا، إذ هنالك مجهول تكفّل بسحقها عن بكرة أبيها. وقد باع هو نفسه النسخ القليلة التي كانت عنده لرجل لا يبعث على الطمأنينة، يخفي وجهه ويتحدث بصوت أجش.
«منذ زمن قريب، كان من الممكن العثور على نسخ عند بعض هواة تجميع الكتب هنا وفي فرنسا، ولكن الآن يفضّل الكثير من المشترين ألا يدخلوا في الموضوع. يخافون وأرى أنهم على صواب» قال لي.
صارت غيابات خوليان تطول لتصل إلى أسابيع أحيانا. يتحرك ليلا ولا يعود بأيد فارغة أبدا. لم يكن يقدّم توضيحات أو يقص قصصا صادمة. ذات يوم قال لي إنه كان في باريس وليون ونيس. وبين الحين والآخر كنت أتلقى بعض الرسائل من فرنسا موجهة إلى لايين كوبرت. وكانت كلها من باعة كتب أو مقتنين صادفوا نسخة لإحدى رواياته. فيختفي لبضعة أيام ثم يعود منتشيا، ورائحة الحريق والغلّ تفوح من ثيابه.
وخلال إحدى غياباته صادفت أنطوني فورتوني وهو يتسكع في باحة الكاتدرائية كالمختلّين عقليا. وسرعان ما عرفت ملامحه لأنني ذهبت إليه منذ سنتين مع ميغيل لنسأل عن أخبار خوليان. جلسنا في إحدى الزوايا. وقال لي بائع القبعات إنه متأكد من أن ابنه لم يمت وأنه مُختبئ في مكان ما، لكنه لا يستطيع أن يتواصل معنا لأسباب غامضة. «لابدّ أنّ لفوميرو الشرير يدًا في الموضوع.» قلت له إنني أشاطره مخاوفه. فالحرب مثل المنّ والسلوى بالنسبة إلى ذلك المحقق السافل. كان يغير حلفاءه كل شهر، فيتهمونه بأنه جاسوس، عميل، مجرم، متواطئ، مخادع. ويرى فيه البعض بطلا، مخلّصا، وإلها. لكن الجميع كان يهابه ويبتغي صداقته. ولعله نسي خوليان لانشغاله بمكائد الحرب، أو ربما كان مثل بائع القبعات يتخيل أنه في مكان بعيد جدا.
سألني السيد فورتوني إن كنت صديقة قديمة لابنه فأجبته بنعم. وتوسل إليّ أن أحدثه عنه بعد أن اعترف بأنّه لا يعرفه حقّ المعرفة. «الحياة فرّقت بيننا كما تعلمين». قال لي إنه نقّب في كل مكتبات برشلونة عن رواياته دون أن يجد أي نسخة منها. وقصّوا له عن مجنون يسعى لحرقها كلها. وكان فورتوني لا يشكّ بأنه فوميرو، فلم أخالفه الرأي شفقة مني أو بسبب تأثير غامض. بل جعلته يصدّق أن خوليان عاد إلى باريس وأنه بخير وكذبت عليه قائلة إنه كان معجبا بأبيه جدا وسيلتقي به ما إن تسمح الظروف. «كله بسبب هذه الحرب الملعونة» قال. ألحّ علي أن يترك عنوانه وعنوان زوجته السابقة أيضا، والتي استعاد التواصل معها بعد فترة طويلة من «سوء الفهم». كانت صوفي قد انتقلت إلى بوغوتا وتعيش مع طبيب ميسور، قال لي. وافتتحت مدرسة للموسيقى وكانت تراسله بانتظام كي تسأل عن خوليان.
«ذكراه تُبقينا على تواصل. نحن نرتكب أخطاء كثيرة في الحياة يا آنسة، وعندما نستوعب ذلك يكون قد فات الأوان. هلاّ أخبَرْتِني، هل أنت مؤمنة؟»
انصرفت بعد أن وعدته بإخباره هو وصوفي، حالما أتلقى أنباء جديدة عن خوليان.
«سيسرّ قلب أمه بذلك. فأنتن النساء تهتممن بالمشاعر أكثر من أي شيء آخر، ولهذا السبب تعشن طويلا» أكد بائع القبعات مهموما.
كم أثّر فيّ ذلك العجوز، رغم كل القصص المريعة التي سمعتها عنه. كان يأمل أن يعوّض القديسون زمانه المفقود، فيُكثر من زيارتهم في الكاتدرائية بإيمان عميق. وكم بالغوا بوصفه دنيئا وذا طبع انتقامي، فقد بدا لي رجلا طيبا، غير أنّه مشوش الذهن مثل باقي الرجال. وغمرني إحساس العطف بحاله، ربما لأنه ذكّرني بوالدي الذي يخفي أسرار قلبه عن نفسه والآخرين أيضا. كنت غالبا ما أذهب لزيارته، على غفلة من ابنه، في شقة روندا دي سان أنطونيو، إذ كفّ بائع القبعات عن العمل.
«لقد فقدت حيوية الشباب، والبصر والزبائن…» كان يقول.
كنا نلتقي كل خميس تقريبا، فيعرض عليّ القهوة والبسكويت والمعجنات التي يتناول منها القليل. ويحدثني لساعات عن طفولة خوليان في البيت والمحل، ويظهر لي صورا قديمة. كان يأخذني إلى غرفة ابنه التي بدت لي كالحرم حيث يحفظ اللوحات القديمة والأغراض التي يقدّسها لكونها أطلال حياة هنيئة عاشها في خياله فقط. ثم ينسى بأنه أراني إياها مسبقا وأنه روى لي القصص ذاتها منذ بضعة أيام. وفي يوم خميس ما، صادفت طبيبه على السلالم. فسألته عن وضع السيد فورتوني.
«هل أنت قريبته؟»
أجبته بأنني الشخص الوحيد الذي يهتم به. فقال لي الطبيب حينها إن فورتوني لن يعيش طويلا.
«ما به؟»
«إنه مصاب بمرض القلب ولكنه في الواقع يموت من الوحدة. الذكريات لا تغيب عن باله.»
أما أنطوني فورتوني فأخبرني بأنه لا يثق في الطبيب، لأن الأطباء كانوا سحرة مشعوذين. لقد ضخّمت الشيخوخة من وساوسه الدينية، وراح يلمح يد الشيطان أينما قلّب أنظاره متأهبا ليحمل الإنسان إلى هلاكه.
«انظري إليّ. إنني الآن عجوز بريء ولكنني في شبابي كنت فظا وغليظ القلب.»
وأضاف أنه يتهم الشيطان بسلبه خوليان من بين يديه.
«الله يخلق الكون ويمنحنا الحياة، لكن الشيطان هو الذي يحكم العالم…»
كنا نقضي المساء هكذا، بين البراهين الدينية والمعجنات الزنخة.
وكنت أقول لخوليان إنه إذا أراد أن يرى والده حيا فعليه أن يستعجل. وفي الواقع كان غالبا ما يذهب لرؤيته دون أن ينتبه بائع القبعات. ينظر إليه من زاوية بعيدة كيف يهرم، عند المغيب، جالسا على مقعد في الساحة. وكان خوليان يفضّل أن يحفظ والدُه عنه ذكراه الطيبة ولا يحبّذ أن يطلعه على حالته المزرية.
«هذا امتيازٌ تحرمني منه» قلت له وسرعان ما ندمت.
لم يقل شيئا، ولكنه بدا أنه عاد إلى رشده لينتبه إلى الجحيم الذي كنا نعيش فيه. أصاب الطبيبُ في توقعاته، ولم يشهد فورتوني نهاية الحرب. اغتالته الذكريات، ووجدوه ميتا على الأريكة، والصور القديمة لصوفي وخوليان بين يديه.
وكلّما اقترب الصراع من نهايته اشتدّت رحى الحرب دورانا. فحتى تلك اللحظة، كانت المعارك تقع على بعد مسافة من المدينة، كجرح لايندمل لكنه تحت التخدير. وطالت أشهر القصف والجوع. وخنَقَ الموتُ العنيف والنزاع والدسائس روحَ المدينة خلال أعوام، بينما آثر الكثيرون الظن بأن الحرب كانت في مكان آخر، كصرير بعيد لزوبعة صيفية. وزاد الانتظار من مأسوية النهاية، وهاجرت الرحمة قلوب الجميع. ورغم ذلك لا شيء يشجّع على النسيان كما تفعل الحرب يا دانيال. إذ يهيمن علينا الجنوح إلى الصمت ونقنع أنفسنا بأن ما عشناه وفعلناه وعرفناه ما كان إلا كابوسا. الحروب تعطّل الذاكرة وتثنينا عن تقصّي جذورها حتى ينطفئ صوت من يقوى على سردها. وحينها تعود الحروب، باسم آخر وقناع جديد، لتهدم القليل الذي أبقت عليه سابقاتها.
لم يبق أمام خوليان سوى القليل من الكتب ليحرقها، بعد أن أصبح محترفا في هدر الوقت كيفما أراد. وحوّله موت أبيه، الذي لم يكن يتحدث عنه أبدا، إلى عاجز وخفف من غلواء حقده. كنا نعيش مثل المهمشين دون أن نخفض من مستوى الحذر. وعرفنا أن فوميرو خان أصدقاءه وركب موجة الظافرين. وأشيع أنه كان يعدم حلفاءه القدامى شخصيا رشقا بالنار بغتة في زنازين قلعة مونتويك. عادت آلة النسيان إلى العمل مجددا حالما هدأ ضجيج السلاح، فما من شيء يثير خوفهم أكثر من بطل يجرُؤ على كشف ما يخشى الآخرون على البوح به. في الأسابيع اللاحقة على سقوط برشلونة، أريقت الدماء أكثر من كل أعوام الحرب، ولكن في السرّ بعيدا عن الأنظار. وعندما وصل السلام أخيرا، كئيبا كشحوب المقابر، لم تعد هنالك أياد أو نظرات بريئة. ومنذ ذلك الحين غرقنا في ضباب الصمت وظلمات العار. وكل الذين عايشوا تلك السنوات سيحملون أسرارهم إلى قبورهم.
أنفقنا أنا وخوليان كل مدخراتنا وإيراد السرقات الليلية التي كان يقوم بها لايين كوبرت، ولم يعد في البيت أي شيء للبيع. وكنت لا أنفكّ أبحث عن عمل في الترجمة، في التنضيد، أو حتى في غسل الصحون. لكنهم كانوا يتعاملون مع عملي السابق في دار نشر كابيستاني على أنه تهمة. إذ التقيت ذات مرة بممول وضيع، يطلي شعره بالدهن وله شاربان مضحكان ويرتدي طقما جديدا، أفهمني أن فتاة جميلة مثلي ليست بحاجة إلى عمل. وحين اقتنع الجيران أنني أعتني بزوجي ميغيل المسكين، العائد من الحرب بإعاقة مزمنة، راحوا يتبرعون لنا بما تيسّر من الجبن والحليب والخبز، وأحيانا حتى السمك الناشف واللحوم المقددة التي يتلقونها من أهلهم. وبعد أشهر من العوز والفقر المدقع، قررت أن أستخدم مكيدة استوحيتها من إحدى روايات خوليان.
راسلتُ صوفي المقيمة في بوغوتا، مُنتحلةً صفة محام اتجه إليه السيد فورتوني ليرتّب حساباته. وأعلمتها في الرسالة أن أملاك بائع القبعات المتوفى دون وصية، بما فيها الشقة والمحل في المبنى نفسه، ستكون من نصيب ابنه خوليان الذي من المفترض أنه يعيش منفيا في باريس. وبما أن انتقال الميراث لم يتمّ، بسبب إقامتها في المهجر، فإن المحامي - الذي أسميته خوسيه ماريا ريغويخو على اسم أول شاب لثم ثغري - يلتمس إذنها كي يباشر المعاملات الضرورية لنقل الملكية إلى خوليان حالما يعرف مكانه عبر السفارة الإسبانية في باريس، وكي يتولى الشؤون آنيا بأجر متكامل. ويطلب منها المحامي أيضا أن تتواصل مع مدير البناية كي يتمكن من إرسال الوثائق الضرورية والأجر المستحق إلى مكتبه. فتحت صندوقا بريديًّا باسم المحامي ريغويخو وصرّحت بعنوان مزيف، مأوى سيارات قديم وفارغ على بعد بيتين عن قصر آلدايا. وكنت آمل أن صوفي، التي تتمنى العثور على ابنها ومساعدته، لن تشغل بالها بتلك التفاصيل القانونية المغلوطة، وكانت سترسل المال دون تسويف نظرا إلى حالتها الاقتصادية الميسورة التي تتمتع بها في كولومبيا البعيدة.
وبعد شهرين، استلم مدير البناية أول حوالة شهرية كي تغطي أجور الشقة في روندا دي سان أنطونيو. كما تسلّم أجور المحامي خوسيه ماريا ريغويخو، موصية أن تُرسل إلى مكتبه بشيك على الصندوق البريدي 2321 في برشلونة. وسرعان ما فطنتُ أن المدير كان يختلس نسبة من المبلغ المرسل من السيدة صوفي. لكنني لم أعترض، فذلك المربح السهل سيمنعه عن طرح الأسئلة. وكنا أنا وخوليان نعيش بتلك النقود، في تلك الأعوام الفظيعة ولكنني نجحت أخيرا في إيجاد عمل في الترجمة. لم يعد أحد يذكر كابيستاني وكانت المقاصد تتجه إلى سياسة الغفران وتناسي العداوات القديمة. وكنت أخاف دوما أن يعاود فوميرو ملاحقة خوليان، وآمل أن يحسبه ميتا أو أن ينسى أمره كليا. لقد أصبح فوميرو شخصية عامة وترقّى في مناصب النظام، وكنت أعتقد بأنه لم يكن ليسمح لنفسه بالتفتيش عن شبح خوليان كاراكس. ولكنني غالبا ما كنت أستيقظ في قلب الليل، مستحمّة بعرقي، ظنا أنّ بعض عملائه المسلحين يطرقون الباب. وكنت أخشى أن يرتاب الجيران من زوجي المريض، الذي يراوح مكانه في البيت ويبكي ويصفع الجدران كالمجانين أحيانا، فيَشُون بنا للشرطة. كنت أخشى أن يختفي خوليان من جديد، وأن يعود لاصطياد ما نجا من الكتب ليحيلها إلى رماد فيمحو آخر آثار مروره بهذه الدنيا. وهكذا أهملت نفسي، ونسيت أنني أتقدم في السنّ بعد أن أهدرت صباي في حبّ رجل محطم، كائن بلا روح… طيف سقيم… ظل…
إلا أنّ الأعوام اللاحقة اتسمت بالهدوء وانقضت بسرعة. فالحياة الفارغة مثل القطار الذي لا يتوقف على محطتك. وأثناء انتظارك، يتكفل الزمن برأب الجراح التي خلّفتها الحرب. وجدت عملا في دار نشر وكنت أقضي أغلب النهار خارج البيت. صار عندي عشّاقٌ بلا أسماء، وجوه خائبة أقابلها في السينما وفي المترو أشاركها وحدتي. ثم أشعر بالذنب دون تفسير، وأنظر إلى خوليان فيروادني البكاء، وأقسم في سرّي أنني لن أخونه بعدها. كنت أراقب النساء اللاتي يصغرنني سنا، في الحافلات والطرقات، يمسكن بأيادي أطفالهن. وكان يبدو أنهن سعيدات أو راضيات على الأقل، كأن أولادهنّ يضيفون المعنى إلى حياتهنّ. وأنا أيضا كنت أسرح بخيالي أحيانا لأراني أحمل طفلا على ذراعي، طفلا كنت سأنجبه من خوليان. ثم أتذكّر الحرب وأخلص إلى أن من خاضها كان طفلا في يوم من الأيّام.
ذات يوم تلقينا زيارة من شاب في مقتبل العمر، وجهُه الأملط مليء بالبثور، ويحمرّ خجلا عندما ينظر في عينيّ. كان يستعلم عن السيد ميغيل مولينر ليحدّث أرشيف الصحفيين. وقال لي إن السيد مولينر بوسعه أن يتقاضى مبلغ إعانة شهريا ولذا تلزمه بعض المعلومات. أجبته بأن السيد مولينر هاجر البلاد إبان الحرب. فتأسف وانصرف بابتسامة مزيفة كمُخبر مُبتدِئ. لم يعد هنالك من وقت نضيّعه، على خوليان أن يختفي تلك الليلة نفسها. كان يبدو أنه عاد طفلا، ويعيش من أجل تلك اللحظات التي عشناها معا ذلك المساء، ونحن نصغي إلى موسيقى الراديو، بينما يشد على يدي ويداعبها بصمت.
في تلك الليلة، رافقت خوليان إلى البيت الذي نشأ فيه، باستخدام مفاتيح الشقة التي أرسلها المدير إلى المحامي الخيالي. تركته في غرفته ووعدته بأن أعود إليه في اليوم اللاحق، وأوصيته أن يأخذ كامل احتياطاته.
«فوميرو يبحث عنك مجددا» قلت له.
هزّ خوليان رأسه بلا مبالاة كأنه لا يذكر شيئا عن فوميرو. ومضت عدة أسابيع. كنت أذهب إليه بعد الثانية عشرة من كل ليلة، وأسأله عمّا فعل خلال النهار. ينظر إليّ خوليان مشدوها، كأنه لا يفهم كلماتي. فننام متعانقين، ثم أخرج في الصباح وأعده بالعودة باكرا ما أمكنني وأقفل عليه باب البيت. لأنّه لا يملك نسخة عن المفتاح. فأن يكون سجينا خير من أن يغدو جثة.
لم يأت أحد ليسأل عن زوجي فأشعتُ أن ميغيل كان في فرنسا. وكتبت رسالتين للقنصلية الإسبانية في فرنسا أؤكد فيهما بأنني على دراية بوجود المواطن الإسباني السيد خوليان كاراكس في تلك المدينة وبأنني أطلب مساعدتهم في البحث عنه. كنت أفترض أن الرسالة ستصل إلى الأيادي الأمينة عاجلا أم آجلا. وأخذت كل احتياطاتي وأنا على ثقة بأنها مسألة وقت ليس أكثر. فالبشر مثل فوميرو لا يكفون عن الحقد أبدا. وحقدهم ليس له سبب: يكرهون هكذا كما يتنفسون.
كانت الشقة في روندا دي سان أنطونيو تقع في الطابق الأعلى وفي الردهة ثمّت باب يفضي إلى السطح. وكانت كل شرفات المبنى، التي تستخدمها ربات البيوت لنشر الغسيل، تشكّل لولبا من الفناءات التي تعزلها حواجز لا تتخطّى المتر. حددتُ إحدى البنايات في شارع خواكين كوستا، على الطرف الآخر من المبنى، أستطيع من خلاله الوصول إلى السطح، ثم أصل إلى شرفة فورتوني بالقفز على الحاجز دون إثارة انتباه أحد إلى دخولي أو خروجي من بوابة المبنى. وذات يوم كتب لي المدير ليعلمني بأن بعض الجيران سمعوا ضجيجا في شقة فورتوني. فأجبته باسم المحامي أن بعض العاملين في المكتب دخلوا يبحثون عن بعض الوثائق وما من داع للقلق حتى لو كان الضجيج ليليًا. وختمت رسالتي بالتنويه إلى أن الأسرار الحميمة بين الرجال أكثر قداسة من أية مناسبة دينية. فأجاب المدير بأنه ما من داع للقلق، فحسّه الذكوري يدفعه إلى التعاون وغضّ الطرف.
في تلك السنوات، كان تقمص دور المحامي يشغل كل وقتي. وكنت أذهب لزيارة أبي في مقبرة الكتب المنسية مرة كل شهر. لم أره راغبا في معرفة زوجي الخفي ولم أقترح عليه ذلك. كنا نتجنب الموضوع كما يتجنّب البحّارة الخبراء الصخور الناتئة. سألني بعض المرات إن كنت في حاجة إلى مساعدة، وإن كان بوسعه فعل شيء. ومن حين لآخر، في فجر يوم السبت، كنت أرافق خوليان ليرى البحر. كنا نخرج من السطح ونمر على الشرفة المقابلة ثم ننزل في شارع خواكين كوستا ونصل إلى المرفأ مشيا بين أزقة الرافال. لا أحد كان يقترب منا أبدا، فخوليان كان يسبب الرعب من مسافة بعيدة. وأحيانا كنا نصل حتى كاسر الأمواج. كان خوليان يحب الجلوس على الصخور ليشاهد المدينة. ونقضي هكذا ساعات طويلة، دون أن نتكلم بشيء. وفي المساء نذهب إلى السينما أحيانا، وندخل إلى صالة بدأ فيها العرض لتوّه. كنا نعيش في الليل، وفي صمت مطبق. ومع الوقت تعلمت أن أمزج رتابة الأيام باعتياديتها حتى اعتقدت أنني صاحبة خطة محكمة. يا لي من مسكينة بلهاء.