كان عام 1945 عام الرماد. وضعت الحرب أوزارها منذ ستة أعوام، ولم يكن هناك خيار سوى التغاضي عن ذكرها رغم أن ذكراها ما تزال حية. ولكنّنا كنا بصدد حرب أخرى في تلك الآونة، حرب عالمية، ملأ طاعونها الأرض بأسرها، ولم يكن من السهل التخلص منه. كانت أعوام الحرمان، يتخللها سلام غريب يشبه الشفقة التي يتطلّع إليها الخرسان والمعوّقون. وبعد أن بذلت جهودا في البحث عن عمل كمترجمة، وجدت فرصة للعمل في تدقيق المسودات في دار نشر بيدرو سانمارتي، رجل أعمال من الجيل الأخير. شيّد المؤسسة بأموال حميه ثم نقله إلى مأوى للعجزة على بحيرة بانيالوس، لينتظر أن يمنّ عليه البريد برسالة تحتوي على شهادة وفاته. كان سانمارتي يتباهى بكونه عصاميا، وهو مفهوم حظي برواج على مستوى واسع في تلك الحقبة. وكان كل همّه مغازلة الفتيات اللاتي تصغرنه سنا، ويتحدث الإنكليزية بشكل مريع، فهي لغة المستقبل، بلكنة واضحة من فيلانوفاجيلترو، ولابدّ أن ينهي كلامه دوما بـ «أوكي».
أسمى دار النشر «إنديميون» إذ كان يبدو له الاسم أكثر أبهة، وراح ينشر كتبا جوفاء، وإرشادات في الحب، وسلسلة روايات تافهة أبطالها راهبات في مسرحيات تجارية وممرضات متطوعات في الصليب الأحمر وموظفون جشعون بإيمان ديني راسخ. وكنا نصدر أيضا سلسلة من القصص المصورة للجنود الأمريكيين، «كوماندو فالور» حظيت باهتمام كبير من الشبان خاصّة وأنّهم في أشد الحاجة إلى أبطال يأكلون اللحم كل يوم. أصبحت صديقةً لسكرتيرة سانمارتي، مارسيديس بييترو، وكانت أرملة حرب، تعيش وحيدة مع طفل بلغ ربيعه السابع مصابا بنقص التغذية العضلية. وكنا امرأتان يحملنا التيار، الأولى يرافقها رجل ميت والأخرى رجل متوارٍ عن الأنظار. كانت تبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاما فقط، لكن شقاء الحياة بدا جليًّا على وجهها. وخلال تلك الأعوام كانت مارسيديس الوحيدة التي أغوتني بفتح قلبي لها.
وهي التي قالت لي إن سانمارتي كان صديقا مقربا من المحقق البارز فرانثسكو خافيير فوميرو، وينتمي كلاهما إلى شرذمة، ما إن انتهت الحرب حتى أحكمت قبضتها على المدينة كشبكة عنكبوت عملاقة. كانت بمثابة النخبة الجديدة. ذات يوم مرّ فوميرو ليصطحب صديقه سانمارتي لتناول الغداء معا. فاختبأت في قاعة الأرشيف ريثما يخرجان. وعندما عدت إلى منضدتي، رمقتني مارسيديس بنظرة فصيحة. ومنذئذ صارت تنذرني كلما جاء فوميرو.
وما مرّ يوم إلا ودعاني السيد سانمارتي للعشاء أو المسرح أو السينما. وكنت أجيبه بأن زوجي في انتظاري وأن زوجته ستقلق عليه إن لم يعد باكرا. وفي الحقيقة لم تكن السيدة سانمارتي تصل إلى أهمية سيارة البوغاتي الفاخرة في هرميات المحبة عند زوجها المهتم بسلب حميّه كامل ثروته على وجه الخصوص. وقد أحاطتني مارسيديس علما بذلك. إذ أنّ صاحب العمل يحتاج إلى التجديد دوما، فيقع كل انتباهه على آخر الواصلات، وقد كنت الفريسة المنشودة. فكان يستثمر أي حجة لمخاطبتي.
«عرفت أن هذا ميغيل، زوجك كاتب… لم لا يؤلف كتابا عن صديقي فوميرو؟ يخطر العنوان في بالي «فوميرو قاهر المجرمين أو قانون الشارع». ما رأيك يا عزيزتي نوريا؟»
«أنت لطيف جدا يا سيد سانمارتي، لكن ميغيل مشغول في رواية ولا أعتقد أنه قادر في هذه اللحظة على…»
يقهقه سانمارتي.
«رواية؟ حبا بالله يا نوريا… الرواية ماتت ودُفنت. هذا ما يؤكده أحد أصدقائي الذي عاد توّا من نيويورك. الأمريكان يقومون بصناعة آلة تدعى التلفزيون، تشبه السينما لكنها تعرض في المنزل مباشرة. لن نعود في حاجة إلى الكتب ولا إلى الصلوات. قولي لزوجك أن ينسى الروايات. لو كان مشهورا على الأقل، لاعب كرة قدم أو مصارع ثيران… اسمعي. لم لا نذهب إلى كاستيلديفيلس بسيارة البوغاتي ونتحدث بهذا الشأن ونحن نتناول البايللا؟ عليك أن تتحلي بحسن النوايا يا نوريا… تعلمين جيدا أنني أود أن أساعدك أنت وزوجك. في هذا البلد لا يمكنك الحصول على شيء دون عرّاب يقوم بتزكيتك.»
بدأت ألبس ثيابا مثل أرملة لا يواسيها العزاء، من أولئك اللواتي يخلطن ضوء الشمس بالخطايا القاتلة. كنت أذهب إلى العمل بشعر معقود كليا ولا أضع أي كحل أو أحمر شفاه، لكن سانمارتي يضغط باقتراحاته ويطلق ابتسامة مزيفة ومستخفة كالمخصيين أصحاب النفوذ الذين غالبا ما يعتلون عروش السلطة. تقدمت إلى مقابلات عمل ولكنني في كل مرة أصطدم بنسخة أخرى عن سانمارتي. كان ذلك الصنف ينتشر بسرعة، تدعمه أرضية خصبة. اتصل أحدهم به فورا ليخبره بأن امرأة تدعى نوريا مونفورت جاءت تبحث عن عمل دون علمه. فاستدعاني إلى مكتبه. داعب خدي بأصابعه التي تفوح منها رائحة التبغ والعرق. فتسمرت في مكاني.
«ما عليك سوى أن تخبريني إن كان العمل هنا لا يطيب لك. ما الذي بوسعي فعله لأجلك؟ إنني أحترمك كثيرا ولك أن تتخيلي كم شعرت بالمرارة حين عرفت من الآخرين أنك تريدين أن تتركينا. اسمعي، سآخذك إلى العشاء فهكذا نضع الأمور على نصابها.»
أبعدت تلك اليد عن وجهي وأنا أبدي اشمئزازي.
«إنك تخيبين آمالي يا نوريا. أرى أنك تفتقدين رُوحَ العمل الجماعي وليست لديك ثقة في هذه المؤسسة.»
أنذرتني مارسيديس بأن شيئا ما من هذا القبيل لابدّ أن يحدث. بعد عدة أيام، أخذ سانمارتي، وقد كانت له كفاءة لغويّ تليق بقرد، يعيد كل المخطوطات التي أدققها مدعيا أنها مليئة بالأخطاء. فأبقى في المكتب كل مساء حتى العاشرة أو الحادية عشرة ليلا وأنا أعمل على تلك الصفحات التي تعج بتعليقات سانمارتي.
«يوجد كثير من الأفعال في صيغة الحاضر. تبدو كتابة عفا عليها الزمن. تفتقد الإيقاع… الأسماء المشتقّة لا تستخدم بعد الفاصلة أو النقطة، هذه قاعدة بديهية يعرفها الجميع…»
وغالبا ما كان يبقى هو أيضا في مكتبه حتى وقت متأخر. وكانت مارسيديس تحاول أن تبقى ما أمكنها، ولكنه يرسلها إلى البيت أكثر من مرة. وحين تغادر، يأتيني.
«لا تبالغي يا نوريا. العمل ليس كل شيء، علينا أن نستمتع أيضا. مازلت شابة والشباب يمضي بسرعة.»
كان يجلس على حافة منضدتي ويحط أبصاره عليّ. وأحيانا يقف خلفي فأشتم رائحة فمه الثقيلة، وبعض المرات يضع يديه على كتفي.
«أنت متوترة جدا. استرخي.»
كان بودي لو صرخت أو هربت بعيدا دون عودة، لكنني كنت في حاجة إلى ذلك الراتب التعيس. ذات مساء، بعد التدليك المعتاد، كان سانمارتي هائجا، وراح يبالغ في لمساته ويتوغّل كثيرا.
«ستخرجيني عن طوري بين يوم وآخر يا نوريا» كان يهمس.
فنهضت على حين غرة وهرعت مسرعة نحو المخرج، ممسكة بالمعطف وحقيبة اليد، فيما كان هو يقهقه. وعلى السلم قابلت رجلا كأنه يمشي دون أن تطأ قدميه الأرض.
«كم يسعدني لقاؤُك يا سيدة مولينر…»
كان المحقق فوميرو وابتسامته الكريهة.
«أنت تعملين عند صديقي سانمارتي. هو مثلي، الأفضل في مجاله. كيف حال زوجك؟»
شعرت أن ساعتي قد حانت. في الصباح اللاحق شاع في الدار أن نوريا مونفورت سحاقية لأنّها لا تعير اهتماما لسحر الدون بيدرو سانمارتي ورائحة فمه البشعة، فتلهث خلف مارسيديس بييترو. وأقسم أكثر من موظف متسلق أنه رآنا نتبادل قبلات الغرام في قاعة الأرشيف. وفي المساء طلبت مني مارسيديس أن نتحدث على انفراد. فاتجهنا إلى مقهى في زاوية الشارع، قال لها سانمارتي بأنه لا يرحب بصداقتنا وبأن الشرطة تدّعي أنني ذات ماضي في النضال الشيوعي المسلح.
«لا أستطيع أن أخسر هذا العمل يا نوريا. عليّ أن أفكر بابني…» قالت وهي تبكي، وقد آلمها الذل والخجل.
«لا عليك يا مارسيديس. أفهم وضعك.»
«فوميرو هذا مستاء منك. لست أدري لماذا؟ لكنه واضح من جبينه…»
«أجل أعلم.»
يوم الاثنين التالي، وجدت على منضدتي رجلا كثير الأناقة ويصبغ شعره بالدهن. عرّف نفسه بأنّه سلفادور بيناديس، المدقّق الجديد.
«وأنت من حضرتك؟»
لم يجرؤ أي زميل على النظر في وجهي حين كنت أجمع أغراضي. ركضت مارسيديس خلفي على السلم وسلمتني ظرفا. كان يحتوي على رزمة من النقود الورقية والحديدية.
«شارك الزملاء كلٌّ حسب طاقته. خذيها يا نوريا أرجوك. افعلي هذا لأجلنا.»
ذهبت إلى شقة فورتوني تلك الليلة. كان خوليان بانتظاري جالسا كالعادة تحت الظلام. قال إنه قد كتب قصيدة لأجلي، وهي أول شيء يكتبه منذ تسعة أعوام. فانهارت أعصابي وحدثته عما جرى لي وكنت أخشى أن يقبض عليه فوميرو. أصغى إليّ خوليان بهدوء، وضمني بين ذراعيه وداعب شعري، وللمرة الأولى منذ سنين شعرت أنني أستطيع الاعتماد عليه. أردت أن أقبّله لكن الحريق سلب شفتيه. نمت بين ذراعيه، وانكمشت على نفسي فوق سرير طفولته. وعندما استيقظت لم أجده. سمعت صوت خطى على الشرفة فجرا وتظاهرت بالنوم. ولاحقا سمعت الخبر في الراديو. على مقعد في بازيو ديل بورني تم العثور على جثة رجل جالس ويداه متشابكتان على صدره، يوجه أنظاره نحو كنيسة سانتا ماريا دل مار. ولو لم يفقأ الحمام عينيه لما انتبه أحد سكان الحيّ، فأبلغ الشرطة. كانت رقبة الرجل مخلوعة. تعرفت السيدة سانمارتي إلى جثة زوجها، بيدرو سانمارتي مونيغال. وعندما وصل النبأ إلى مأوى العجزة في بانيالوس، شكر حمو المتوفى السماء وقال لنفسه إنه سيموت سعيدا الآن.
13
ذات مرة كتب خوليان إنّ المصادفات جراحٌ على وجه القدر. ليس للمصادفات وجود يا دانيال: نحن لسنا إلاّ دمى نتحرك دون وعي على مسرح العرائس. توهمت طيلة سنوات أن خوليان، أو ما تبقّى منه، لا يزال الرجل الذي أحببته، ورجوت أن يعود لايين كوبرت شخصية في كتاب. فالبشر مستعدون للإيمان بأي شيء عدا الحقيقة.
ساعدني مقتل سانمارتي على فتح عينيّ. كان لايين كوبرت حيا أكثر من أي وقت مضى. لاذ بجسد خوليان المحروق وشرع يتغذى من ذكرياته. عرفت أنه اكتشف طريقة لدخول شقة فورتوني والخروج منها عبر نافذة المنور، دون الحاجة إلى خلع الباب الذي كنت أقفله عندما أخرج. وعرفت أيضا أن لايين كوبرت، الذي يتقمص خوليان، كان يذهب ليلا إلى قصر آلدايا بعد أن يتسكع في المدينة، ولقد نزل مجددا إلى القبو الذي يضمّ المقبرة، وهتك الشواهد وفتح قبري بينيلوب وابنها. «ماذا فعلت يا خوليان؟»
جاءت الشرطة إلى البيت لاستجوابي عن مقتل الناشر سانمارتي. أخذوني إلى المخفر. وتركوني لخمس ساعات في مكتب مظلم، ثم جاء المحقق فوميرو وهو يرتدي اللون الأسود. عرض علي سيجارة.
«بوسعنا نحن الاثنين أن نصبح خير أصدقاء يا سيدة مولينر. رجالي يقولون لي إن زوجك ليس في البيت.»
«زوجي تركني. ولا أعلم أين يكون.»
صفعني بكفه فوقعت من على الكرسي. جررت نفسي إلى زاوية دون أن أرفع نظراتي. قرفص فوميرو بقربي وشد شعري.
«أصغ إلي جيدا أيتها العاهرة الشمطاء. سأجده وأقتل كليكما. وسأبدأ بك أنت كي يرى أشلاءك، ثم أقتله هو. ولكن ليس قبل أن أخبره بأن تلك القحبة التي قتلها بغبائه كانت أخته.»
«سيقتلك هو يا ابن العاهرة.»
بصق فوميرو في وجهي. كنت أظن أنه سيمزقني إربا لكنني سمعت خطواته تبتعد في عمق الممر. كنت أرتجف، نهضت مجددا والدم ينزف من وجهي. وفاحت مني رائحة يديه المقرفة، ممزوجة برائحة الخوف.
أبقوا علي في تلك القاعة تحت الظلام ودون ماء لستّ ساعات أخرى. وعندما أطلقوا سراحي أخيرا كان ظلام الليل دامسا والسماء تمطر بغزارة. وجدت البيت في فوضى عارمة إذ دخله رجال فوميرو. وعلى الأرض، بين الأثاث والأدراج المقلوبة والرفوف المنزوعة، وجدت ثيابي وكتب ميغيل مهشمة. ووجدت قذارتهم على السرير، وكتبوا بالغائط على الجدار «عاهرة».
ذهبت إلى الشقة في روندا دي سان أنطونيو، بعد أن درت طويلا كي أفلت من مراقبتهم. دخلت إلى المبنى من شارع خواكين كوستا، صعدت على الأسطح ووصلت إلى مخبأ خوليان من جهة الشرفات المبتلة بالمطر. تنفست الصعداء حين رأيتُ البابَ غيرَ مخلوع. دخلت بحذر. لم أجد خوليان هناك. انتظرت عودته في الصالة تحت الظلام أستمع لقطرات المطر حتى الفجر. وحينها خرجت من الشرفة ونظرت إلى المدينة التي ترزح تحت سماء رصاصية اللون. لن يعود خوليان إلى ذلك البيت. لقد فقدته إلى الأبد.
تلاقينا بعد شهرين. كنت ذاهبة إلى السينما كي أهرب من جو الوحشة الذي يعربد في بيتي. في منتصف الفيلم الذي يحكي قصة حب مملة بين أميرة رومانية تحب المغامرات ومحقّق أمريكي قوي البنية تظل تسريحة شعره ثابته، جلس رجل بجانبي. لم تكن المرة الأولى. يحدث غالبا أن تمتد الأيادي المقرفة، في صالات السينما البائسة التي تفوح منها رائحة البول والعطر الرخيص ورائحة الوحدانيين التعيسة، بحثا عن صحبة قصيرة الأجل. كنت على وشك النهوض لأخبر المراقب فإذ بي أتعرف على وجه خوليان المشّوه. شدّ يدي بقوة وبقينا وقتا قصيرا بلا حراك نتظاهر بأننا نتابع الفيلم.
«هل أنت من قتل سانمارتي؟» همست.
«هل شعر أحد بغيابه؟»
كنا نتحدث بصوت خافتٍ تحت أنظار الكثير من القلوب الوحدانية المبعثرة في الصالة، يحسدون ذلك المنافس الضبابي على نجاحه. سألته أين كان يختبئ فلم يجبني.
«توجد نسخة أخرى من «ظل الريح»» قال هامسا. «هنا في برشلونة.»
«أنت مخطئ يا خوليان. لقد أحرقتها كلها.»
«كل النسخ عدا واحدة. يوجد شخص أذكى مني خبأها في مكان مبهم على ما يبدو. أنت.»
وكانت المرة الأولى التي سمعت فيها الحديث عنك. بائع كتب مدّع، اسمه جوستابو برسلوه، كان يتباهى على بعض مقتني الكتب بأنه وجد نسخة من «ظل الريح». شاع الخبر بسرعة الريح في أجواء بائعي الكتب النادرة. وفي غضون شهرين حصل برسلوه على الكثير من العروض من جامعي الكتب في برلين وباريس وروما الذين كانوا مهتمين بالحصول على الكتاب. كان هروب خوليان الغامض من باريس بعد منازلة شرف دامية، وموته الملغّز خلال الحرب الأهلية الإسبانية، يمدّ أعماله بقيمة ملحوظة. وأكثرت أسطورة الرجل بلا وجه، الذي يتعدى على المكاتب والمكتبات والمجموعات الخاصة ليضرم النيران في روايات كاراكس، من الفضول ورفعت المزاد. «نحن شعبٌ يجري السيرك في دمائنا» كان برسلوه يدّعي.
وسرعان ما وصل الخبر إلى خوليان أيضا، وهو المصمم دوما على إسكات صدى كلماته. وهكذا اكتشف أن الكتاب ليس ملكا لجوستابو برسلوه بل لفتى وجده صدفة وكان يرفض أن يبيعه لإعجابه بالقصة ولغز مؤلفها الغريب. ذلك الفتى أنت يا دانيال.
«حبا بالله يا خوليان، لن تؤذي فتى صغيرا» كنت أهمس بقلق واضح.
شرح لي خوليان أن كل النسخ التي أحرقها كانت مسلوبة ممن لا يعير اهتماما بالغا لأعماله، أو يسعى مجرّد السعي للاستفادة منها، مسلوبة من جامعي كتب دجالين، ومن فئران المكاتب العامة. في حين كنتَ أنت ترفض أي عرض يُقدّم لك في الكتاب، كنتَ تريد إحياء كاراكس من ركام الماضي. ولذلك وجدَكَ مختلفا تماما وحظيتَ باحترامه. فصار يتبعك ويراقبك على غفلة منك.
«حين يعلم من أنا وماذا فعلت، ربما سيحرق الكتاب بنفسه.» كان يقول وعيناه تبرُقان كأولئك المجانين المحصّنين من رياء الواقع.
«من هو هذا الفتى؟»
«يدعى دانيال، ابن أحد باعة الكتب في شارع سانتا آنا، وكان ميغيل زبونا له. يعيش مع والده فوق المحل. وفقد أمه مذ كان طفلا صغيرا.»
«كأنك تتحدث عن نفسك يا خوليان.»
«ذلك الفتى يشبهني.»
«دعه بسلام يا خوليان. ما هو إلا صغير. ذنبه الوحيد أنه معجب بك.»
«ليس ذنبا بل إنها خطيئة السذاجة. لكنه سيشفى منها. حين يفهمني ويكف عن الإعجاب ربما يعيد إليّ الكتاب.»
قبل أن ينتهي الفيلم بدقيقة، نهض خوليان وانصرف. وكنا التقينا هكذا لأشهر عديدة، في صالات السينما الدخانية وفي الأزقة المعتمة ليلا. كان خوليان يعرف دائما أين يجدني، وكنت أشعر بوجوده الصامت دون أن أراه. كلما ذكر اسمك ازدان صوته بالعذوبة، وانتابه إحساس لم أكن أعتقد أنه قادر عليه. عرفت أنه كان يعيش في قصر آلدايا كمتسول صعلوك، كالأشباح، سجينا لحطام حياته، وحارسا لرفاة بينيلوب وابنيهما. كان ذلك المكان الوحيد في العالم الذي لا يشعر أنه سيُطرد منه. ثمت سجون أسوأ من الكلمات يا دانيال.
كنت أذهب إليه مرة في الشهر، أتسلق السور شبه المدمّر، كي أطمئن على أنه ما يزال حيا. ولا أجده أحيانا، فأترك له قليلا من الطعام والنقود وبعض الكتب… كنت أنتظره لساعات حتى يهبط المساء. ورحت أستطلع البيت في أكثر من مناسبة. وحينها عرفت أنّ خوليان قد خلع شواهد القبر وانتزع النعشين. لم يبد لي الحدث تدنيسا، إنما خطوة صحيحة مع الأسف. عندما كنت أجده، نبقى نتحدث طويلا، أمام نار المدفأة. كان خوليان يتذكر كتبه بشكل عام كأنها مؤلفات رجل آخر، وقال إنه يحاول أن يكتب ثانية، وكلما أخفق رمى بالصفحات إلى ألسنة اللهب. ذات يوم، أردت استغلال غيابه فقمت بانتزاع رزمة من الأوراق من بين رماد النار الهامدة. كانت الأوراق تتحدث عنك. قال لي ذات مرة إن السرد هو رسالة يكتبها المؤلف إلى نفسه ليعرّي روحه. وكان خوليان يشكّ في صحّته الذهنية منذ وقت قصير. هل المجنون يعرف أنه مجنون؟ أم أن المجانين هم أولئك الذين يريدون إقناعه بأنه مجنون كي يحافظوا على وجودهم الذي لا معنى له؟ كان خوليان يراقبك وأنت تكبر، ويعتبرك هبة من السماء، ويظن أنك ستمنحه فرصة للحرية، إن نجح في تنبيهك على عدم اقتراف خطاياه. حتى أنني شككت أنك، في ذهنه المتخبط، حللت أنت مكان ابنه المفقود، كصفحة بيضاء ينقش عليها القصة التي لم يتمكن يوما من كتابتها.
تضاعف اهتمامه بك مع مرور السنوات. كان يحدثني عن أصدقائك، وعن فتاة تدعى كلارا كنت متيما بها، عن أبيك الرجل الذي يحترمه، عن فيرمين وعن صبية كان يرى فيها ظل بينيلوب، بيا حبيبتك. يتحدث عنك كأنك ابنه. لقد كان كلّ منكما يبحث عن الآخر يا دانيال. وكان مقتنعا بأن براءتك ستنقذه من شرور نفسه. لم يعد يجول لاصطياد كتبه، لم يعد يريد أن يدمر آثار وجوده. كان يتعلم أن ينظر إلى العالم بعينيك، ليجد فيك الفتى الذي كان. وفي أول مرة جئت فيها إليّ أحسست بأنّني كنت أعرفك مسبقا. تعاملت معك ببلادة كي لا تفهم أنني كنت أخاف منك ومما أتيت تبحث عنه. كنت أخشى أن يكون خوليان محقا في قوله إننا نتوحد بفعل القدر والصدفة مثل اللؤلؤ في الطوق. أخشى أن أرى فيك خوليان الذي فقدته. وكنت أعرف أنّك تنقّب برفقة أصدقائك في ماضينا وأنكم ستكتشفون الحقيقة عاجلا أم آجلا، ولابد أن يحدث هذا في اللحظة المناسبة، عندما تكون مستعدا لها. كنت واثقة أنك ستلتقي بخوليان مهما تأخر اللقاء. وهذا خطئي. فأنا متيقنة من أن فوميرو على علم بذلك، وأنه ينتظر بفارغ الصبر أن تقوده أنت إلى خوليان.
استوعبت خطورة الظرف عندما بات من المستحيل العودة إلى الوراء، لكنني توهمت بأنك ستنسانا وأن الحياة ستأخذك بعيدا لتكون في مأمن. علّمني الزمن ألا أفقد الأمل أبدا، وألا أعتمد على الأمل كثيرا لأنه قاس وواهم وجاهل. فوميرو يراقبني منذ زمن. ويعرف أنني سأقع في مصيدته يوما ما. إنه يتصرف هكذا لأنه ليس مستعجلا. إذ لا يجد لحياته مغزىً دون الانتقام من الآخرين ومن نفسه أيضا. فوميرو يعرف أنك ستقوده برفقة أصدقائك إلى خوليان. ويعرف أيضا أنني بلا حول أو قوة بعد هذه السنوات الخمس عشرة الطويلة. كان يشاهد احتضاري البطيء وينتظر الفرصة ليطلق عليّ رصاصة الرحمة. ولطالما عرفت أنني سأموت على يديه، وقد حانت هذه اللحظة. سأعطي هذه الأوراق لوالدي وسأطلب منه أن يسلمك إياها في حال حدث لي مكروه. وأرجو الله الذي لم أعرفه يوما أن لا تكون مضطرا لقراءتها، لكن مصيري -بغض النظر عن إرادتي وخيبة آمالي- أن أطلعك على هذه القصة. أما مصيرك، بغض النظر عن براءتك وصغر سنك، أن تعيد لها الحرية.
إن قرأت هذه المذكّرات، المذكّرات التي أراها أقرب إلى السجن المتين من الذكريات، فذلك يعني أنني لن أستطيع أن أودعك كما كنت أريد لأرجوك أن تسامحنا كلنا، خوليان على وجه الخصوص، وأن تحميه ما استطعت. ليس لي الحق في أن أطالبك بشيء، إن لم يكن التفكير في نجاتك. لعلّ هذه الصفحات تقنعني بأنني كسبت فيك صديقا أبديا، مهما سيحدث، هذا رجائي الوحيد. عثرتُ في كتب خوليان على فكرة لطالما شعرت أنها فكرتي: نحن نستمر في الحياة في ذاكرة من يحبّنا. أشعر بأنني أعرفك وأنني أثق فيك، كما حدث لي مع خوليان قبل أن ألتقي به. اذكرني دوما يا دانيال حتى لو في سرّك، في إحدى زوايا قلبك. حافظْ عليّ في قلبك إلى الأبد.
نوريا مونفورت