استسلم الليل حالما انتهيت من قراءة مخطوط نوريا مونفورت. هذه قصّتي. بل قصّتنا جميعا. ففي مسيرة كاراكس المفقودة تعرّفتُ إلى أثَر خطواتي التي كان من الصعب استعادتها. رحت أطوف في الغرفة ذهابا إيابا مثل الحيوان في القفص. كنت خائر القوى، أشعر بالندم والحيرة، ورغم هذا لم أكن أنوي التراجع قيد أنملة عن مواقفي. فارتديت معطفي ووضعت مخطوط نوريا في الجيب الداخلي وخرجت. كان الثلج ينهمر والطقس باردًا. والسماء تذرف دموعا مُكثّفة من الضوء فتقع على أنفاسي ثم تتلاشى. في وسط ساحة كاتالونيا هنالك عجوز شائب الشعر في عزلة تامة، يبدو كالملاك الهارب، ملفعا بدفء معطفه الرمادي الفضفاض. في نظرته المتجهة إلى السماء، كان أمير الفجر يحاول الإمساك بحبات الثلج بيديه العاريتين وهو يضحك. حين مررت بجانبه، ابتسم لي بمرارة كأنه يقرأ أفكاري. وعيناه تلمعان كعملة حديدية في عمق البئر.

«حظا سعيدا» بدا لي أنه قال ذلك.

كنت ممتنا لدعائه وأسرعت خطاي آملا أنني لم أتأخر وأن بيا، ياقوتة حكايتي، ماتزال في انتظاري.

توقفت حين بلغت واجهة بيت آغويلار وأنا ألهث، فيما يطلي الثلج الرصيف بلونه الأبيض. وساتورنو موييدا، حارس المبنى، والشاعر السوريالي المقنّع حسب مزاعم بيا، في الخارج يتأمل مشهد الثلج الاستثنائي، والمكنسة في يده، و كان ينتعل جزمة كبيرة ويلف عنقه بثلاثة شالات على الأقل.

«هذه قشرة الشعر تتساقط من رأس الله» هبط عليه الوحي لمديح الثلج بشعر لا مثيل له.

«إنني ذاهب إلى بيت السيد آغويلار.»

«إن في الصباح رباحًا، ولكن ألا تظن أنك تبالغ أيها الشاب؟»

«جئت لأمر طارئ. إنهم في انتظاري.»

«وإنني أطلق سراحك»

صعدت السلالم بسرعة. إن حالفني الحظ ستفتح لي إحدى الخادمات ولا بأس في هذا. وربما أجد نفسي، في أسوأ الأحوال، أمام والد بيا، بما أن الوقت باكر جدا. كنت آمل أنه لا يحمل السلاح داخل منزله الحميم، أو على الأقل ليس قبل أن يتناول الفطور. انتظرت بضع لحظات لألتقط أنفاسي، ثم أعلنت الزحف. طرقت الباب بتصميم. وعاودت المحاولة بعد خمس عشرة ثانية، غير آبه بنبضات قلبي الخرساء والعرق البارد الذي يتصبب على جبيني. انفتح الباب.

«ماذا تريد؟»

نظر إليّ صديقي توماس برباطة جأش.

«أريد أن أرى بيا. لك أن تهشم وجهي إن أردت، ولكنني لن أنصرف قبل أن أتحدث إليها.»

كانت نظراته ثابتة ومركزة. فتساءلت إن كان ينوي أن يمزقني إربا في حينها.

«أختي ليست هنا.»

«توماس…»

«بيا ذهبت.»

لم يكن غضبه قادرا على إخفاء اضطرابه.

«أين ذهبت؟»

«كنت آمل أنك على علم بهذا.»

«أنا؟»

تجاهلت قبضة يده المتأهبة وملامحه القاسية، وتجاوزت العتبة.

«بيا!» صرخت. «أنا دانيال يا بيا.»

توقفت في منتصف الممر. وكان صوتي يدوّي في الشقة الفارغة. لم يجب أحد على ندائي: لا السيد آغويلار ولا زوجته ولا الخادمات.

«قلت لك لا أحد هنا» رد توماس. «والآن اخرج من هنا ولا تريني وجهك. فأبي أقسم أنه سيقتلك ولن أقف في وجهه.»

«حبا بالله يا توماس قل لي أين أختك.»

«بيا هربت من المنزل. أبي وأمي يبحثان عنها منذ يومين كالمجانين. والشرطة أيضا.»

«ولكن…»

«قبل يومين، عندما عادت إلى المنزل بعد أن كانت معك، صفعها والدي على وجها. اطمئن، لم تفش باسمك. لأنك لا تستحقها.»

«توماس…»

«اخرس. في اليوم التالي أخذها والدي إلى الطبيب.»

«لماذا؟ أهي مريضة؟»

«مريضة بحبك أيها الأحمق. بيا حامل. لا تقل لي إنك تجهل الأمر.»

نظرت إليه بفم مفتوح. ومنعني الشعور بالغثيان عن الكلام. اتجهت صوب الباب فأمسك توماس بذراعي وألصقني بالحائط.

«ماذا فعلت بها؟»

«توماس أنا…»

أخفض جفنيه. قطعت اللكمة الأولى أنفاسي. فانزلقت أرضا، وكتفيّ على الحائط وركبتيّ ترتجفان. بقيت واقفا على قدميّ أختنق باللعاب في حلقي.

«ماذا فعلت بها يا ابن العاهرة؟»

حاولت أن أفلت منه لكنه ألقاني على الأرض بلكمة على وجهي. طرحتني لكماته على أرضيّة الممر الخشبية والتهب رأسي من شدة الألم. فأمسك بي من ياقة المعطف وجرني إلى الردهة مثل كيس النفايات.

«قسما إنني سأقتلك لو حصل لبيا أي مكروه»

لم يعطني الوقت لألتقط أنفاسي وأشرح له الأمر. أغلق الباب. كانت أذني اليسرى تطن بينما ينزف نهر من الدماء من رأسي المتألم. نهضت بصعوبة. وكانت عضلات بطني، التي استقبلت أولى لكمات توماس، تشتعل بألم عظيم. نزلت السلالم مترنحا. وحين وصلت إلى الأسفل، كان الدون ساتورنو يهز رأسه.

«تعال، ادخل إلى مكتب الحراسة واستعد عافيتك…»

كنت أمسك بطني بيدي، وأشعر بالنبض يدوّي على الجانب الأيسر من رأسي وكأنّ الدماغ يودّ أن ينبثق من الجمجمة.

«إنك تنزف» قال ساتورنو مضطربا.

«ليست المرة الأولى.»

«ولكن إذا تابعت بهذا الشكل فلن تحظى بمناسبة أخرى لتكرار التجربة. ادخل إلى المكتب أرجوك. سأتصل بطبيب من أجلك.»

نجحت في الوصول إلى البوابة والهروب من إرادة الحارس الطيبة. كان الثلج ينهمر بكثافة ويغطي الأرصفة، والريح الجليدية تنهش عظامي وتلحس جرح وجهي النازف. لا أعرف إن كنت أبكي ألما، غضبا أم خوفا. محا الثلج دموعي الجبانة بلا مبالاة، وابتعدت تحت ضوء الفجر كظل بين الظلال الكثيرة التي تفتح معبرا في قشرة رأس الله.

2

قرب شارع بالميس لاحظت أنني ملاحق من سيارة تسير بقرب الرصيف. كان رأسي يدور وأنا أمشي مُتكئًا على حيطان البيوت. توقفت السيارة ونزل منها رجلان. أصابني الطرش من شدة الطنين ولم أسمع صوت المحرك ولا كلام الرجلين اللذين يرتديان ثيابا سوداء حين أمسكا بإبطيّ وحملاني نحو السيارة. تقوقعت على المقعد الخلفي ينتابني الإعياء. كنت أرى الأضواء كتدفق المدّ البحريّ الذي يغشي الأبصار. انطلقت السيارة بينما كانت أيادي الرجلين تجسّ وجهي ورأسي وعظام صدري. وعندما وجد أحدهما مخطوط نوريا مونفورت، أخرجه من جيبي. حاولت أن أمنعه لكن ذراعيّ كانتا ترتخيان. انحنى أحدهم، وشعرت بأنّه كان يحدثني حين أحسست بحرارة فمه. كنت أتوقع أن أرى وجه فوميرو وهو يسفح عنقي بحدّ سكينه. تموضعت عيناه نحوي، وقبل أن يغمى غليّ رأيت ابتسامة بلا أسنان لفيرمين روميرو دي توريس.

استيقظت في حمّام من العرق، لمحتُ فيرمين على يميني بينما كانت يداه تحاولان إجباري على الاستلقاء على منصّة محاطة بالشموع مثل الجناز. ابتسم لي، ولكنّني أدركتُ أنّه مضطرب بعض الشيء. وقد كان الساعاتيّ، الدون فيديريكو فلافيا، يقف بقربه.

«إنه يستيقظ يا فيرمين» قال الدون فيديريكو. «ما رأيك أن أسخن له الحساء؟»

«لا بأس. هلا حضّرت لي شطيرة بأي شيء تجده؟ لقد تسبب لي هذا الجوع الأسود بالقلق.»

تركنا فيديريكو وحدنا، بلباقته المعتادة.

«أين نحن يا فيرمين؟»

«في مأمن يا دانيال. نحن في ضاحية انسانش، في شقة صغيرة لأصدقاء الدون فيديريكو الذي ندين له بأرواحنا وأشياء أخرى أيضا. يُسمّيها العارفون بملتقى العشّاق، لكن هذه الشقة معقل خفيّ بالنسبة إلينا.»

حاولت أن أنهض، فشعرت بأذنيّ تنبضان بشدة نارية.

«هل سأصبح أطرش؟»

«لا أعلم ولكنك أصبحت شبه مجنون. ذلك الحيوان آغويلار ضربك بعنف.»

«لم يكن السيد آغويلار. بل توماس»

«توماس؟ صديقك المخترع؟»

هززت رأسي مؤكدا.

«ولماذا؟»

«بيا هربت من المنزل…» قلت.

قطب فيرمين جبينه.

«تابع.»

«إنها حامل.»

لم يصدق فيرمين ما سمع. رأيت تعبيرا جديا يكسو وجهه للمرة الأولى منذ تعارفنا.

«لا تنظر إليّ هكذا يا فيرمين.»

«وماذا تريدني أن أفعل؟ هل أفتح قنينة شمبانيا احتفالا بهذا النبأ الفظيع؟»

حاولت النهوض ثانية فمنعني الوجع ويدَا فيرمين عن ذلك.

«عليّ أن أبحث عنها يا فيرمين.»

«لا تتحرك. لا يمكنك الذهاب إلى أي مكان وأنت في هذه الحالة. قل لي أين هي وأذهب بنفسي إليها.»

«لا أعلم.»

«حبّذا لو كنت أكثر دقة.»

ظهر الدون فيديريكو على العتبة بوعاء من الحساء. وتوشحت ابتسامته بالحنان.

«كيف تشعر يا دانيال؟»

«أفضل بكثير. شكرا يا دون فيديريكو.»

«تناول الحساء. وخذ هاتين الحبتين أيضا.»

نظر إلى فرمين فهز الأخير رأسه موافقا.

«إنه دواء مُهدّئ.»

ابتلعت الحبتين وارتشفت من حساء بنكهة النبيذ. خرج الدون فيديريكو بحياء وأغلق الباب. وحينها لمحت مخطوط نوريا على حضن فيرمين. وكانت الساعة على الدرج تشير إلى الواحدة. الواحدة ظهرا على الأرجح.

«هل ما تزال تثلج؟»

«تثلج كلمة قليلة بحقّ ما يحدث. إنه عذاب إلهيّ.»

«هل قرأت المخطوط؟»

هزّ فيرمين رأسه.

«عليّ أن أجد بيا قبل أن يفوت الأوان. أظن أنني أعرف أين تختبِئُ.»

جلست على السرير وأنا أتكئ على فيرمين. راحت جدران الغرفة وسقفها تتموّج مثل الأعشاب في عمق مستنقع، وانتابني الدوار. مددني فيرمين على المنصة.

«لن تذهب إلى أي مكان يا دانيال.»

«ما تانك الحبّتان؟»

«إنه منوّم. ستنام مثل الدب.»

«كلا. لا أستطيع الآن…»

نطقت كلمات غير مترابطة ثم تثاقل جفناي وغططت في نوم عميق، كنوم المذنبين.

استيقظت من ذلك السبات بعد الغروب. وكان لهيب الشموع الموضوعة عند الدرج يُضيء الغرفة. وفيرمين ينام على أريكة ويشخر مثل الكير، وصفحات نوريا مبعثرة على الأرض مثل الدموع. انخفض ألم الرأس إلى نبض خفيف عند الصدغين. خرجت من الغرفة على رؤوس أصابعي، فوجدت نفسي في صالة صغيرة لها شرفة وباب يبدو كأنه مدخل الشقة. كان معطفي وحذائي على الكرسي. والضوء القرمزي يلج من النافذة المرقطة بانعكاسات متعددة الألوان. نظرت إلى الخارج فوجدتُ الثلج مايزال ينهمر، وسطوح برشلونة كلّها مكسوّة بالبياض، فيما أبراج المدرسة الصناعية مرتفعةٌ في الأفق. كتبت بإصبعي على الزجاج المغطى بالبخار: سأذهب لأبحث عن بيا. لا تتبعني. سأعود باكرا.

كنت قد فهمت ذلك حينما استيقظت وكأنّ أحدهم همس في حلمي. خرجت إلى الطريق. كان شارع أورجل يختبئ تحت بساط ناصع تنتأ منه النباتات وأعمدة الإنارة كصواري السفن تحت الضباب. ألقت الريح الثلج على وجهي. ومشيت حتى موقف المستوصف الطبي ونزلت في أنفاق المترو الساخنة بحرارة رديئة. كان الناس يتناقشون في تلك الظاهرة الجوية الغريبة، والنبأ يستولي على الصفحات الأولى للجرائد المسائية، بالخط العريض «أثلوجة القرن»، مزودا بصور ساحة لاس رامبلاس تحت الثلج ونافورة كاناليتاس المكسوّة بالصقيع. جلست على مقعد واستنشقت الهواء الكثيف الذي يثيره مجيء القطارات وذهابها. وعلى جدار السكة المعاكسة رأيت لافتة إعلانية كبيرة لملاهي تيبيدابو، تظهر فيها أضواء الترام الأزرق الصغير وخلفه تهيمن ظلال قصر آلدايا. تساءلت إن كانت بيا قد لاحظت تلك الصورة، وهي تائهة في برشلونة المهمشين، وإن أدركَتْ بأنّها لا تملك مكانًا آخر تلوذ به.

2021/06/22 · 74 مشاهدة · 1482 كلمة
نادي الروايات - 2025