حلّ الظلام حين خرجت من المترو. وكان شارع تيبيدابو خاليا ومعتما، يشبه عبور الجنازة بين القصور وأشجار الأرز. سمعت الجرس الذي يعلن انطلاق الترام الأزرق من أول الخط. فصعدت به الترام بينما كان يباشر السير، وأخذ مني مراقب التذاكر نفسه العملات وهو يهمهم. جلست داخل العربة بعيدا عن الثلج والبرد. وكانت القصور تعبر في الظلماء ببطء خلف الزجاج المتجمد. نظر إليّ مراقب التذاكر بفضول وعدم ارتياح.
«الرقم 32 أيها الفتى.»
التفتُ، فرأيت جانب قصر آلدايا قُبالتي كمقدمة سفينة شبحية. توقف الترام بهزة عنيفة ونزلت متجنبا النظر إلى المراقب.
«حظا سعيدا» قال.
رأيت الترام يبتعد على طول التل حتى سمعت صدى جرسه. وكان الظلام يحاصرني، فاستدرت بحثا عن السور الحجري في مؤخرة القصر. وبينما كنت أتسلق سمعت صوت خطوات واهنة تقترب على الرصيف الموازي. بقيت متسمرا لوهلة وأنا أمتطي السور ولم أسمع شيئا بعدها. اجتزت الحديقة. كان برد القبور يستلقي على الأعشاب الضارة وتماثيل الملائكة المهدمة، ومياه النافورة تشكّل قشرة صقيع سوداء تبرز منها أصابع الملاك الغاطس في المياه كسيف مصنوع من حجر السبج. وكانت قطرات الندى تتجمد قبل سقوطها من سبابته التي تشير صوب الباب الموارب.
رجوت السماء ألا أكون قد وصلت متأخرا. كان النور يقود خطواتي عبر الرواق نحو عتبات السلّم الكبير: إنها شموع بيا، وقد كادت تنطفئ. كان صف الشموع يتقدم حتى الطابق الأول. صعدت الأدراج فيما كان ظلّي يتراقص على الجدران. وفي الأعلى، عند أول الممر، رأيتُ شمعة ترتج أمام غرفة بينيلوب. فاقتربت وطرقت الباب.
«خوليان؟» همس صوت مضطرب من الداخل.
أدرت مقبض الباب على مهل والرعب يسحق أنفاسي. فوجدت بيا، ملتفّة بالأغطية، وجالسة في إحدى زوايا الغرفة. ركضت إليها وعانقتها فانهالت عليّ بالدموع.
«لم أكن أعرف أين أذهب» همست. «هاتفتُك في البيت أكثر من مرة ولم يجبني أحد. لقد خفت…»
مسحت بيا دموعها بكفّيها وحدقت إليّ. فاكتفيت بهز رأسي، إذ لم يكن من الضروري أن أقول شيئا.
«لماذا ناديتني بخوليان؟»
أشارت بيا إلى الباب الموارب.
«إنه هنا في هذا القصر. فوجئت به البارحة بينما كنت أحاول الدخول. لم يكن من داع لأخبره بهويتي، كان يعلم مسبقا. أرشدني إلى هذه الغرفة وجاء لي بالطعام والشراب. وأوصاني أن أبقى في انتظاره، فالأمور أوشكت على خواتمها، وأخبرني بأنّك ستأتي. لقد روى لي الكثير من الأشياء في الليلة الماضية، حدثني عن بينيلوب وعن نوريا… وعنك تحديدا، وعنا نحن الاثنَين. يريد أن يعلمك أن تنسى…»
«وأين هو الآن؟»
«في الأسفل، في المكتبة. ينتظر أحدا ما، قال لي ألا أخرج من هذه الغرفة؟»
«ينتظر من؟»
«لا أعلم. شخص سيأتي معك، أو أنك ستأتي به إلى هنا…»
عندما أطللت برأسي من الممر سمعت خطوات ثقيلة في عمق السلالم. فرأيت ظلا يستطيل على الحائط، وسترة سوداء، وقبعة على الرأس، والمسدس في قبضته يلمع كالمنجل المسنن. فوميرو. لطالما ذكّرني بأحد ما، أو بشيء ما، ولكنني حينها فقط أدركت من يكون.
4
أطفأت الشموع بإصابعي وأشرت إلى بيا بكبت أنفاسها. أمسكتْ بيدي واستجوبتني بعينيها، فيما كانت خطوات فوميرو تتقدم ببطء في الأسفل. فأومأت لها بأن تختبئ خلف الباب دون حركة.
«لا تخرجي من هنا مهما حدث» همست.
«لا تدعني وحيدة يا دانيال أرجوك.»
«عليّ أن أخبر كاراكس.»
تجاهلتُ نظرات بيا المتوسلة، وعدتُ إلى الممر ووصلت إلى الصالون. لم أعد أرى ظل فوميرو. لابد أنه يختبئ في زاوية ما تحت الظلام، يراقب بصبر شديد. نظرت إلى الخارج من زجاج إحدى الواجهات. فرأيت أربعة أضواء زرقاء مشوشة كمياه المستنقع تنسلّ من بين الصقيع. كانت أضواء السيارة السوداء المركونة أمام البوابة الخارجية. لابد أنها سيارة المساعد بالاثيوس. لمحتُ داخل السيارة وميضَ جمر سيجارة. وعدت متمهلا نحو الصالون ثمّ نزلتُ الأدراج واحدا واحدا محاولا عدم إثارة الضجة. وفي منتصف الطريق وجدت ظلمات الطابق الأرضي.
ترك فوميرو الباب مفتوحا، فأطفأت الريح الشموع وغطت البلاط بالثّلج. وكانت الأوراق اليابسة تحوم في دوامة عند الرواق في وهج البياض. نزلت أربع درجات أخرى، ملتصقا بالجدار، وتوقفت حين رأيت انعكاس الضوء الخارجي على زجاج المكتبة. ربما نزل فوميرو إلى الطابق السفلي أو إلى القبو حيث المقبرة. وشاء الثلج الذي دخل بغزارة من الباب المفتوح أن يمحو آثاره. وعندما وصلت إلى عمق السلم أخيرا، نظرت نحو المدخل فلسعت الريح الزمهرير وجهي. كنت أرى أصابع الملاك الغارق في النافورة تحت الظلام. وكان باب المكتبة على بعد عشرة أمتار مني، والظلام يكتنف الغرفة السابقة. تنفست عميقا وأنا أفكّر في أنّ فوميرو يتربص بي، ثمّ تقدّمتُ لا أبصر شيئا وأكاد لا أرفع قدميّ عن الأرض.
وكانت جدران صالة المكتبة البيضوية مرقطة بظل حبات الثلج التي تتراكم خلف الزجاج. ربما كان فوميرو مختبئ خلف الباب. رأيت شيئا يدبّ على الحائط على بعد مترين من يميني، وبدا لي أن هذا الشيء يتحرك لوهلة، لكنه كان مجرد انعكاس للقمر على حد السكين. كان ذو النصلين يغرس قطعة ورقية على الجدار. اقتربت فوجدتُ صورة محروقة الحواف، مطابقة لتلك التي دسّها لي أحدهم على مصطبة المكتبة. خوليان وبينيلوب في سنّ المراهقة، يبتسمان لمستقبل مستحيل، دون دراية بما كانت الحياة تدبّر لهما. وكان نصل السكين يخترق قلب خوليان. ففهمت أنه ليس لايين كوبرت، أو خوليان كاراكس، من أمدّني بتلك الصورة، إنما فوميرو. كانت الصورة بمثابة دعوة. أردت أن أخلع السكين من الحائط عندما أحسست بشيء بارد على رقبتي.
«ربّ صورة خير من ألف كلمة يا دانيال. لو لم يكن والدك بائع كتب خرائي لكان علّمك هذا.»
استدرت على مهل، فاشتممت رائحة البارود تفوح من فوهة المسدس، لابدّ أنه استعمله منذ فترة قصيرة جدا. كانت ابتسامة فوميرو مثل تكشيرة تُسبّب الذعر.
«أين كاراكس؟»
«ليس هنا. لقد عرف أنك جئت تبحث عنه فانصرف.»
كان يراقبني بثبات.
«سأقتلك أيها القذر.»
«لن يجدي هذا. كاراكس ليس هنا.»
«افتح فمك» أمرني فوميرو.
«لماذا؟»
«افتح فمك وإلا فتحته بنفسي.»
انصعت لأوامره. أدخل فوميرو قصبة المسدس في فمي. انتابني التقيؤ. رفع الصمام.
«والآن أيها النذل، هل تريد أن تموت؟»
أشرت بعيني.
«قل لي إذن أين كاراكس.»
حشرجتُ. فأخرج القصبة من فمي شيئا فشيئا.
«أين هو؟»
«في القبو حيث المقبرة.»
«اسبقني. أريدك أن تكون حاضرا حين أقص على ابن العاهرة كيف كانت نوريا تتأوه حيت أدخلت المسدس في…»
ظهر ظلٌ من العدم. رأيت شيئا في الظلام يلوح خلف فوميرو، ثم انجلى الرجل بلا وجه، بنظرة متأججة، يتقدم في صمت مطبق كأن أقدامه لا تمس الأرض. لمح فوميرو حركة في عينيّ المليئتين بالدموع فاستدار ببطء.
أطلق النار دون تصويب، ولكن قبضة فولاذية التفت حول عنقه، يدان سوداوان خشنتان كالحديد العتيق. دفعه خوليان إلى الحائط، وحاول المحقق أن يوجه المسدس نحو رأسه، ويضغط على الزناد فإذ بكاراكس يمسك بمعصمه ويلكمه حتى ألصقه بالحائط. انطلق عيار ناري من السلاح فهشمت الطلقة أحد الألواح الخشبية. وانهال وابل من الشظايا واللهيب الحارق على وجه المحقق وحامت في الصالة رائحة لحم محروق.
حاول فوميرو أن يتخلص من تلك القبضة التي تطوّق عنقه وتمسك بيده على الحائط، لكن كاراكس كان مصمما. وحينها، زأر فوميرو من الغضب، وأثنى وجهه وعض يد كاراكس. سمعت صكّ أسنانه التي نهشت ذلك الجلد الميت ورأيت الدماء على شفتيه. وربما لم يحس كاراكس بالألم ونزع السكين من على الحائط وغرسه في معصم فوميرو الأيمن وثبّت يده على الجدار بضربة موفقة فلم يصدّق فوميرو ما رأى. دخل السكين في لوح خشبي حتى مقبضه، فأطلق الشرطي صرخة وحشية وسقط المسدس من بين يديه، فركله كاراكس بعيدا.
لم يستغرق ذلك المشهد غير ثوان قليلة. أصابني الهلع، ولم أفكر في ما عليّ فعله. التفت كاراكس نحوي ونظر في عينيّ. فنظرت إلى هيأته بتلك الملامح التي لطالما تخيلتها وأنا أشاهد الصور وأستمع إلى القصص القديمة.
«خذ بياتريز بعيدا من هنا يا دانيال. هي تعلم ما الذي ينبغي فعله. كن بقربها. ولا تسمح لشيء ولا لأحد أن يسلبها منك. واعتن بها أكثر من نفسك» قال لي.
استطاع فوميرو أن يخرج السكين من معصمه وسقط على ركبتيه بذراع تنزف دما على صدره.
«هيا اذهب حالا» همس كاراكس.
كان فوميرو ينظر إلينا بعينين جاحظتين والسكين الدامي في يده اليسرى. اتجه كاراكس نحوه. سمعنا صوت خطوات وتخيلت أن بالاثيوس، وقد سمع إطلاق النار، جاء ليساعد زعيمه. وقبل أن يتمكن كاراكس من نزع السكين من يد فوميرو، دخل الشرطي الثاني حاملا مسدسه.
«إلى الخلف» أمرنا.
ألقى نظرة خاطفة على فوميرو الذي كان يعاود النهوض، ثم نظر إلينا، إليّ أولا ثم إلى كاراكس. كان الرعب والقلق يكدران عليه البصر.
«قلت ارجعا إلى الخلف.»
تراجع كاراكس إلى الوراء. كان بالاثيوس يحدق إلينا ليُقيّم الوضعيّة. وركز أنظاره نحوي.
«أنت لا شأن لك بالموضوع. اذهب بعيدا. هيا.»
«لن يذهب أحد من هنا» قال فوميرو. «أعطني مسدسك يا بالاثيوس.»
«كلا» ردّ بالاثيوس.
امتلأت عينا فوميرو الممسوستان بالاحتقار. انتزع المسدس من يد بالاثيوس ودفعه جانبا. لم يكن لدي أدنى شك بما كان سيحدث. رفع فوميرو السلاح الملطخ بالدم على مهل. وتحرك خوليان ليختبئ تحت الظلام لكن قصبة المسدس كانت تتبع حركاته. شعرت بالغضب يتصاعد وأنا أرى ابتسامة فوميرو الساخرة تتلذذ بالثأر الذي طال انتظاره. نظر إليّ بالاثيوس وحرك رأسه متأسفا، بينما وقف خوليان في وسط الصالة ينتظر الرصاصة.
لم يكن فوميرو يراني، إذ لم يكن هناك وجود لشيء سوى كاراكس، واليد الدامية التي تحمل المسدس. قفزت عليه بغتةً. ولم أعد أذكر إلاّ قدميّ وهما ترتفعان عن الأرض ثمّ تّوقف كل شيء في تلك اللحظة. سمعت صوت الطلقة الناعم كهزيم الرعد في البعيد. ولفحني حرّ فريد كأن هراوة معدنية تنهال عليّ بغضب وحشي لترميني في الفراغ. لا أذكر دويّ الصدمة، إنّما الإحساس بانهيار السقف وتداعي الجدران لتهرسني.
انحنى خوليان عليّ وجسّ نبض عنقي بيده. رأيت وجهه الشاب كما كان قبل الحريق. رأيت في عينيه يأسًا لم أفهم سببه. وضع يده على صدري فاستغربت من السائل الفاتر الذي يبلل أصابعه. حينها فقط شعرت بحرارة كبيرة في بطني، ووددت أن أصرخ لكن صرختي انطفأت في دم متدفق. رأيت الدهشة تكسو وجه بالاثيوس الذي قرفص بجانبي. ثم رأيت بيا تقترب، ووجهها العابس غارق في خضمّ الذعر، وأناملها ترتجف على شفتيها. وددت أن أناديها لكن البرد طوّقني وسرق صوتي.
كان فوميرو يكيد خلف الباب، وحين نهض كاراكس فجأة والتفتت بيا بفزع، كان يصوّب حقده نحوها. ألقى بالاثيوس بنفسه لإيقافه لكن كاراكس سبقه. سمعت صرخة في البعيد تنادي باسم بيا. ثم انفجر برق الرصاصة في الصالة، وأصابت يد كاراكس اليمنى. وبعد لحظة هبّت ريحٌ هوجاء كادت تقتلع القصر من جذوره، وظهر الرجل بلا وجه ليرمي فوميرو على الأرض، وجلست بيا بجانبي لم يمسسها الأذى. بحثت عن كاراكس فلم أجده، استطاع كائن آخر أن يحكم قبضته على فوميرو: لايين كوبرت، الشيطان الذي كنت أخشاه وأنا أقرأ كتابا منذ عدة سنوات. وحينها كانت أظفار كوبرت تغوص في عيني فوميرو كالخطاف. رأيت المحقق يتلوى بينما يجرّه كوبرت بلا رحمة صوب الباب، وركبتاه تضربان بعتبات السلم الرخامي والثلج يجلد وجهه. ثم أمسك برقبته ورفعه كألعوبة وقذفه بعنف إلى النافورة. فانغرست يد الملاك في صدره، وفارقت روحه الآثمة جسده، وتلطّخ الصقيعُ بدمائه الملعونة، بينما أغمض جفنيه إلى الأبد.
وحينما انتهى ذلك المشهد المرعب، فقدت وعيي. شقّت الأضواء الظلام، وانحلّ وجه بيا في الضباب. شعرت بحرارة يدها تلامس وجهي وهي ترجو الله، مُجهشةً بالبكاء، ألاّ يقتلني وتقول إنها تحبني ولن تسمح بأن أتركها. لا أذكر سوى أنني انفصلت عن تلك الرؤية المنيرة والباردة. انتابني سلامٌ فريدٌ يمحو كل آلامي، ورأيتني أمشي مع بيا في شوارع برشلونة السحرية يدا بيد وقد نالت الشيخوخة من كلينا. رأيتُ أبي ونوريا مونفورت يضعان باقة من الأزهار البيضاء على قبري. رأيتُ فيرمين يبكي بين ذراعَيْ برناردا وصديقي توماس وقد نال منه الخرس لشدة الندم. تتابعت وجوههم أمام عيني كأنهم أغراب أراهم من نافذة قطار مسرع. في تلك اللحظة، رأيت وجه أمي جليّا لأول مرة منذ أن نسيته قبل أعوام كثيرة، كأنني أعثر على زهرة بين صفحات كتاب. ورافقني نورها الباهر طوال الطريق.