تزوجنا أنا وبيا بعد شهرين في كنيسة سانتا آنا. وهذا بعد أن سمح لي السيد آغويلار بيد ابنته، وفضّل أن يتجاهلني لآخر يوم في عمره بعد أن استحال عليه تهشيم رأسي. فقد أجبره هروب بيا على اتباع طرق أكثر سلمية، وأذعن لفكرة أن يكون حفيده ابنا لذلك الفاجر الآثم، ذي الوجه المليء بالكدمات، ليخطف المرأة التي بقيت طفلة في عينيه رغم نظارتيه المقعرتين. قبل أسبوع عن الزفاف، جاء السيد آغويلار إلى مكتبتنا وصافحني وأهداني قلادة ذهبية توضع على ربطة العنق ورثها عن أبيه.
«بيا أثمن ما لديّ في هذه الحياة» قال. «فاعتن بها.»
رافقه والدي إلى الباب وتبعه بنظراته المتضامنة الحزينة التي تجمع بين المتقدمين سنا.
«ليس شخصا شريرا يا دانيال» علق. «للمودة أشكال مختلفة.»
أوصاني الدكتور ميندوزا ألاّ أقف على قدميّ أكثر من نصف ساعة، وأن تحضيرات الزفاف لم تكن علاجا مناسبا لمريض في حالة نقاهة.
«لا تقلق يا سيدي» طمأنته. «لا يسمحون لي بفعل شيء.»
وهذه هي الحقيقة. إذ عيّن فيرمين روميرو دي توريس نفسه قائما على شؤون الحفل. وعندما اكتشف راهب الكنيسة أن العروس حامل رفض أن يكمل الاحتفالية نهائيا، متوعدا بلعنة تضاهي إجراءات محاكم التفتيش. فقد فيرمين صبره وجرّه إلى الخارج وهو يصرخ على الملأ بأن الراهب لا يستحق رداءه ولا منصبه الديني، وأنه كان سيفضحه عند الهيئة الكنسية حتى يرسلوه إلى جبل طارق كي يبشّر القردة بالرسالة بما أنه كان تعيسا إلى ذلك الحدّ. صفّق المارّة لمرافعة فيرمين، وأهداه بائع الأزهار في الساحة قرنفلة بيضاء بدت أكثر بهاء في عروة سترته لتطابق لونها مع لون القميص. ونظرا إلى انعدام البدائل، توجه فيرمين إلى مدرسة سان جبريل ليلتمس العون من الأب فرناندو راموس الذي لم يبارك أي حفل زواج في حياته، واقتصر اختصاصه على تعليم اللاتينية وهندسة المثلثات والتمارين الرياضية السويدية.
«يا أبانا لقد نجا العريس لتوّه من موت محقق ويعزّ عليّ أن أتركه في هذه الورطة. إنه يراك تجسيدا لكل آباء الكنيسة، كالقديس توماس أو القديس أغسطين أو عذراء فاطمة. والإيمان يطفح من قلبه، مثلي تماما. إنه متصوّف. إن لم تساعدنا سيتحول الفرح إلى مأتم.»
«إن كان الأمر كذلك فلا بأس…»
وعرفتُ لاحقا ماذا جرى، فأنا لم أنتبه لتفاصيل العرس وعادة ما يهتمّ المدعوون بها. تنفيذا لاقتراح فيرمين، قام جوستابو وبرناردا قبيل الحفل بجعل الراهب المسكين يتجرع من مشروب الموسكاتيلو كي ينتشي. وخلال المراسم، قام الأب فرناندو بحركة استثنائية ومميزة: إذ حضر بابتسامة هنيئة وخدين مشتعلين، وبدل أن يقرأ رسالة الرسول بولس الأولى، ألقى قصيدة حب لشاعر يدعى بابلو نيرودا وجد فيها الكثير من ضيوف السيد آغويلار إيحاءات شيوعية خطيرة، بينما كان الآخرون يبحثون في الكتيب عن تلك الأشعار الوثنية نادرة الروعة، متسائلين إن كانت دعوة للتسامح الأبدي.
عشية الزواج، أخبرني فيرمين بأنّه حضّر حفل وداع للعزوبية، لي وله فقط.
«ولكن يا فيرمين أنا لا…»
«ثق بي.»
تبعته طواعية إلى وكر موبوء في حي ايسكودييرس حيث تختلط روائح البشر المتنوعة برائحة زيت القلي التي تستخدمه أسوأ المطابخ المتوسطية. استقبلتنا بعض الفتيات ذوات الخبرة الضعيفة بابتساماتهنّ التي يحلم بها طلبة كلية الأسنان.
«جئنا نبحث عن روخيتو» قال فيرمين لقوّادة ذات شعر كثيف.
«لا يا فيرمين» تلعثمت مصعوقا. «حبا بالله…»
«ثق بي.»
ظهرت روخيتو ذات التسعين كيلوغراما بكامل رونقها، تلتف بشال شعبي معقود على لباس أحمر ناري متوهج.
«أهلا يا جميل. لم أكن أتوقع أنك شاب إلى هذه الدرجة» قالت بعد أن تفحّصتني.
«ليس هو الزبون» أفصح فيرمين.
فهمت أخيرا، وتنفست الصعداء. لا ينسى فيرمين وعدا أطلقه أبدا، وبالأخص إن كنت أنا المعني بالأمر. ركبنا سيارة أجرة لنذهب إلى مأوى العجزة في سانتا لوسيا، ومنحني فيرمين المقعد الأمامي نظرا إلى حالتي الصحية، والاجتماعية بما أنّني مقبل على الزواج. ولم يقم بشيء سوى التغزل بمحاسن روخيتو التي جلست قربه في الخلف.
«أنت قوة الطبيعة والشبق الفتان يا روخيتو. مؤخرتك كانت ستلهم بوتيشيلي.»
«آه يا سيد فيرمين، لقد تناسيتني منذ أن ارتبطت.»
«أنت مرتبطة بالكثير من الرجال يا روخيتو، وأنا سقيمٌ بحبي لامرأة واحدة.»
«سأتكّفل أنا بشفائك من هذا السقم، باستخدام البنسلين.»
وصلنا إلى حي مونكادا منتصف الليل، ونحن نطوّق آلهة الحبّ. أدخلناها إلى المأوى من الباب الخلفي الذي كانوا يخرجون منه الجثث، وينفتح على زقاق كأنه ممر إلى الجحيم. وتحت عتمة «سرداب الظلام» كان فيرمين يزود روخيتو بتعليماته الأخيرة بينما رحت أبحث عن الكهل الذي وعدته برقصة أخيرة مع إيروس قبل أن يقبض ثاناتوس روحه.
«تذكّري يا روخيتو أنّ الكهل شبه أطرش وعليك أن تخاطبيه بصوت مرتفع وتطريبه بكلمات مثيرة. لاشكّ أنك بارعة بذلك ولكن حذار أن تبالغي وإلا مات قبل أوانه.»
«لا عليك يا عزيزي. أنا محترفة.»
وجدت الولهان الذي ينتظر ذلك الحب الطائش في إحدى زوايا الطابق الأول. كانت له ملامح حكيم زاهد يشيّد جدارية الوحدة بينه وبين العالم. نظر إليّ مرتبكا.
«هل أنا ميت؟»
«كلا بل أنت حي ترزق. هل تذكرني؟»
«بالتأكيد، كما أذكر أول حذاء لبسته في طفولتي يا فتى، لكنّ ثيابك الرديئة أشعرتني بأنك جئتني من العالم الآخر. لا تأخذني إلى هناك. ففي هذا المكان لا يوجد ماتسمّونه في الخارج بالقدرة على التمييز. هل أنت متأكد من أنها ليست رؤية؟»
«الرؤية تنتظرك في الأسفل، إن أردت المجيء معي.»
أخذته إلى حجرة نظفها فيرمين وروخيتو ووضعا فيها الشموع ونثرا العطور. عندما رأت عيناه قسمات تلك العذراء الشعبية، أضاء وجهه.
«بارك الله فيكما.»
«استمتع» قال فيرمين وهو يشير إلى الحورية لكي تباشر عملها.
أخذت العاهرة الكهل من يده وقبّلت الدموع التي انهمرت على خديه. فخرجنا أنا وفيرمين من الحجرة كي ينعم ذلك الثنائي الغريب بالخصوصية المستحقة. وبينما كنا ندور في كهف اليأس ذاك اصطدمنا بالأخت إيميليا، إحدى الراهبات اللاتي يُدرن المأوى. نظرت إلينا عابسة.
«وصلني أنكما جئتما بامرأة والعياذ بالله تبيع الهوى والآن كل النزلاء يريدون مثلها.»
«ومن تظننينا يا أختاه؟ إنما جئنا هنا بدوافع خيرية. هذا الفتى سيتزوج غدا في سانتا ماريا، فأتيت به ليبثّ هذا الخبر السعيد للسيّدة خاثينتا كورونادو.»
قوست الأخت إيميليا حاجبها.
«هل أنتما أقرباؤها؟»
«روحيا.»
«خاثينتا وافتها المنية منذ خمسة عشر يوما. وقبلها بيوم جاء رجل لزيارتها. هل هو قريبكما؟»
«تقصدين الأب فرناندو؟»
«لا، ليس راهبا. قال لي إن اسمه خوليان. لا أذكر كنيته.»
نظر إليّ فيرمين مصعوقا.
«خوليان، إنه صديقي» قلت.
هزت الأخت رأسها.
«بقي بقربها وقتا طويلا. لم أسمعها تضحك هكذا منذ أعوام. وعندما انصرف قالت لي خاثينتا إنهما تحدثا عن الأزمنة القديمة حين كانا شابين. لعلّه جاءها بخبر عن ابنتها بينيلوب. لم أكن أعلم أن خاثينتا لديها طفلة. أذكر جيدا أنها في ذلك الصباح ابتسمت لي وعندما سألتها عن سبب سعادتها أجابتني أنها ستلتقي بابنتها بينيلوب قريبا. فماتت فجرا وهي نائمة.»
بعد أن انتهى طقس الغرام، وضعت روخيتو الكهل في حضن مورفيوس24. وقاضاها فيرمين ضعف الأجر، لكنها بعد أن تأثرت بمنظر الحطام البشري الذي نسيه الله والبشر، قررت أن تتبرع بإكراميتها للأخت إيميليا كي توزع فنجان الشوكولا والبسكويت على كل النزلاء. كانت أميرة العاهرات ترى هذه الوجبة كأفضل مضاد لشقاء الحياة.
«مع تقدّم العمر نصبح عاطفيين يا سيد فيرمين. تصور أن ذلك المسكين أراد بعض العناق واللمسات فقط. فكيف لا تتحرك مشاعري؟»
وضعنا روخيتو في سيارة أجرة مع بقشيش سخي، ووصلنا إلى شارع برنسيسا الغارق في الضباب والخالي من البشر في تلك الساعة.
«ربما حان وقت النوم» قال فيرمين.
«لا أعتقد أنني سأتمكن من ذلك.»
تمشينا باتجاه برشلونيتا حتى وصلنا إلى كاسر الأمواج خطوة تلو خطوة. كان الصمت يلفّ المدينة التي تبرز من مياه المرفأ الراكدة كالمعجزة. جلسنا على رصيف الميناء نتمعن في ذلك المشهد البهيّ. وعلى بعد عشرين مترا ثمت طابور طويل من السيارات المتوقفة، وزجاجها مغطى بأوراق الجرائد.
«هذه المدينة ساحرة يا دانيال. تسري في عروق دمك، وتستولي على روحك.»
«بت تتكلم مثل روخيتو يا فيرمين.»
«لا تسخر. فأمثالها هم الذين يجعلون هذا العالم المقرف مكانا صالحا للعيش»
«العاهرات؟»
«كلا. كلنا عاهرات نوعا ما. أقصد الأناس الطيبين. لا تنظر إليّ هكذا. ليس ذنبي إن كانت الأعراس تؤجج مشاعري.»
بقينا جالسين هناك ننعم بهدوء فريد وننظر إلى انعكاس وجهينا على سطح الماء. وبعد قليل، صُبغت برشلونة بضوء مزدهر. وفي البعيد، رنّت أجراس كنيسة سانتا ماريا دل مار، وتمايل الضباب بين الكنيسة والميناء.
«هل تعتقد أن كاراكس ما زال مُختبئًا في هذه المدينة؟»
«اسألني عن أي شيء آخر أرجوك.»
«هل اشتريت الخواتم؟»
ابتسم فيرمين.
«فلنذهب يا دانيال. هيا فالحياة في انتظارنا.»
كان يرتدي بزّة عاجية اللون، ونظرته تستضيف العالم بأسره. أكاد لا أذكر كلمات الراهب في ذلك الصباح من شهر مارس حيث غصّت الكنيسة بوجوه المدعوّين المتأثرين. كلّ ما أذكره هو شفاه كلّ واحد منّا وهي تطبق على شفاه الآخر، والقَسَم السري الذي قطعته على نفسي وكنت ملتزما به حتى آخر يوم في حياتي.