في يوم الأحد ذاك، أطبقت على المدينة موجة من القيظ الخانق فارتفعت على إثرها عقارب ميزان الحرارة. دخلت إلى شارع كانودا بعد الظهيرة تحت حرارة تفوق الثلاثين درجة، متأبطا الكتاب وجبيني مرصّع بحبات العرق. كانت الجامعة، وما تزال، مكانًا من أماكن المدينة الكثيرة التي توقّف فيها الزمان عند القرن التاسع عشر. هنالك سلالم حجرية تبدأ من الباحة الداخلية لتفضي إلى شبكة من الممرات وصالات القراءة حيث تبدو السرعة والهاتف وساعات اليد كأنها هلوسات مستقبلية. لم يعر الحارس أي انتباه لقدومي، كأنه كان تمثالا يرتدي بزة رسمية. ثم وصلت إلى الطابق الأول فاستأنست لسماع حفيف شفرات إحدى المراوح وهي تنعش القراء الغافين قبل أن يذوبوا كقطع الجليد على الكتب والجرائد.
وجدت جوستابو برسلوه تحت أقواس الإيوان المطل على الحديقة الداخلية. ورغم ذلك المناخ شبه الاستوائي، فإن بائع الكتب كان بكامل هندامه الأنيق والمعتاد بينما كانت نظارته المفردة تلمع في الظل كعملة حديدية في عمق بئر. وإلى جانبه كانت هنالك امرأة ترتدي فستانًا ناصع البياض حتى بدت لي كأنها ملاك منحوت في الضباب. وحالما سمع برسلوه خطواتي استدار وأشار إليّ بالاقتراب منه.
«دانيال، أليس كذلك؟» سألني. «هل أحضرت الكتاب؟»
هززت برأسي مرتين ثم أجلسني على مقعد بقربه وبقرب رفيقته الغامضة. ولدقيقتين كاملتين لم يقم بشيء سوى ابتسامة مريحة وعدم اكتراث لحضوري. وانقطع الأمل في أن يقدّمني لتلك السيدة التي ترتدي الأبيض، كان يتصرف كأنها ليست موجودة أو كأنّ أحدًا منا لا يراها. فخطفت عيني إليها وأنا أخشى من أن تتقاطع نظرتي بنظراتها التي تحدّق في مكان ما. كانت بشرتُها نقيةً ووجهُها مصقولًا ومُحدَّدًا بدقة، مُحاطًا بشعر كثيف قاتم السواد، ولامعًا كالجمر. لابدّ أن عمرها في العشرين، لكنّ شيئا ما في ملامحها وتصرفاتها، المحبطة كأغصان صفصافة، يعيد إلى الذهن كائنا لا عمر له يتمتع بشباب أبدي مثل دمى المحلات التجارية. كنت أمعن النظر في عنقها الشبيه بعنق الإوزّة، عندما انتبهتُ إلى أن برسلوه يركّز نظره عليّ.
«والآن، هلاّ قلت لي أين عثرت على هذا الكتاب؟» سألني.
«ليتني أستطيع. لقد وعدت والدي أن أحفظ السرّ» أجبته.
«آه فهمت، فهمت. سيمبيري وأسراره» قال برسلوه. «في كلّ الأحوال أدرك الوضع تمامًا. لقد كنت محظوظا أيها الفتى. لابدّ أنّ مقولة «وجد الإبرة في كومة التبن» مُحقّة إذن. هل لي بالكتاب؟»
أعطيته إياه فأخذه بين يديه بعناية دقيقة.
«أعتقد أنك قرأته. أليس كذلك؟»
«أجل يا سيدي.»
«كم أحسدك يا فتى. لطالما فكرت أنّ اللحظة المناسبة لقراءة كتاب لكاراكس تحين عندما يكون قلب المرء صافيًا وأيام العمر كلها أمامه. هل تعلم أنّ هذه هي الرواية الأخيرة التي كتبها؟»
هززت رأسي نافيًا بصمت.
«وهل تعلم كم نسخة مثل هذه توجد في السوق يا دانيال؟»
«أظن أنها بالآلاف.»
«ولا واحدة» أوضح برسلوه. «باستثناء نسختك. كل النسخ الأخرى تعرضت للحرق.»
«تعرضت للحرق؟!»
ابتسم برسلوه دون أن يجيب وهو يتصفح الكتاب ويتلمّس الصفحات كأنها من حرير نادر في الكون كله. التفتت المرأة البيضاء بهدوء. كانت شفتاها مواربتين على ابتسامة مُفعمة بالخجل والحيرة. أمّا عيناها اللتان تلتحفان بجفنين من مرمر، فقد كانتا تطوفان في الفراغ. جحظت عينايَ وابتلعتُ ريقي. إنها عمياء.
«لم أعرّفك بعد إلى قريبتي كلارا. أليس كذلك؟» سألني برسلوه.
أومأت بالنفي ولم أستطع أن أزيح نظري عن ذلك المخلوق الذي يشبه الدمية وعينيها البيضاويين، أكثر عينين حزنا رأيتهما في حياتي.
«في الحقيقة إنّ كلارا هي الخبيرة بخوليان كاراكس، ولهذا دعوتها للمجيء إلى هنا» قال برسلوه. «بل وإنني أستأذنكما بالذهاب إلى القاعة الأخرى لكي أتفحص الكتاب جيدا بينما تتحدثان في أموركما. هل أنت موافق؟»
نظرت إليه مشدوهًا بينما ربّت ذلك القرصان العجوز على كتفي واختفى والكتاب بين يديه.
«هل تعلم أنه معجب بك جدًا؟» سمعتُ صوتا ما من خلفي.
التفتّ ورأيت ابتسامة فاتنة على وجه قريبة بائع الكتب، ونظراتها الهائمة في الفراغ. كان لها صوت مؤثر وواهن مثل البلّور، ما جعلني أتردد في الإجابة.
«أخبرني العم جوستابو بأنه عرض عليك مبلغا طائلا من المال في كتاب كاراكس وأنت رفضت» أضافت كلارا. «لكنك كسبت احترامه.»
«يبدو لي ذلك أيضا» تنهدتُ.
كانت كلارا تتبسم ورأسها محنيّ قليلًا وأصابعها تداعب خاتما من الياقوت.
«كم عمرك؟» سألتني.
«أحد عشر عاما تقريبا» أجبتها. «وحضرتك؟»
وجدت كلارا سذاجتي مدعاة للتسلية.
«ضِعف عمرك تقريبًا، لكن هذا لا يمنع من خفض الكلفة بيننا.»
«حضرتك تبدين أصغر من عمرك» قلت محاولًا أن أصلح ما أفسدتْه وقاحتي.
«سأثق بك طالما أنني لا أعرف هيئتي» ردت بتلك الابتسامة المطفأة دوما. «وبما أنّني بدوت أصغر من عمري فيجدُر بك إذن أن تخفض الكلفة بيننا.»
«كما تفضّلين يا آنسة كلارا.»
لاحظتُ باهتمامٍ يديها وهما تنفتحان على حضنها كالأجنحة، وخصرَها الممشوق في ثنايا فستانها، لاحظتُ منحنى كتفيها، عُنقَها ناصعَ البياض وشفتيها المرسومتين على وجهها. ولكم تمنّيت أن ألمسها، فأنا لم أحظ بإمكانية النظر إلى امرأة قريبة إلى هذا الحد دون أن تراني مطلقا.
«إلام تنظر؟» سألتني كلارا بنبرة مخاتلة.
«يقول الدون جوستابو إنك خبيرة بخوليان كاراكس» ارتجلت إجابة ما.
«العمّ قادر على أن يقول أي شيء شرط أن يقضي الوقت وحيدا وهو يعاين كتابا أعجبه» ردت كلارا. «ولكنك ربما تتساءل كيف يمكن لأعمى أن يكون خبيرا بالكتب مع أنه لا يستطيع قراءتها.»
«أقسم أنني لم أكن أفكّر في هذا.»
«كم أنت بارع في صنع الأكاذيب، إذا أخذنا بالحسبان أنك لم تتم الحادية عشرة من عمرك بعد. حذار أن تصبح مثل العم جوستابو.»
خشيت أن يزلّ لساني بكذبة أخرى فاقتصرت على البقاء ساكتا أتأملها بذهول.
«هيا. اقترب مني» قالت.
«ماذا؟»
«اقترب مني. لا تخف. لن آكلك.»
نهضتُ من الكرسي واقتربت منها فمدت يدها اليمنى تبحث عني بإحساسها. مددت يدي إليها مترددا، فأخذتها باليسرى ووضعت فوقها اليمنى بكل هدوء. فأدركت حينها ماذا تريد ورفعتُ يديها نحو وجهي. كان لها ملمس دقيق ومرهف في الوقت نفسه. اكتشفتْ أصابعها عظام وجنتيّ. وبقيت جامدًا أحبس أنفاسي بينما كانت تفكّ طلاسم ملامحي وهي تبتسم راضية وتحرّك شفتيها بخفة. تلمَّسَتْ أناملُها جبيني وشعري وجفنيّ واقتربت على مهل نحو فمي وهي تتبع ثنايا شفتيّ بالبنصر والسبابة. كانت رائحة القرفة تفوح من بين أصابعها، وقلبي يرفرف كالطير. لقد حمدتُ العناية الإلهية على غياب الشهود لأنّ اللهيب الذي كان يحرق خديّ كاف لإشعال سيجار على بعد ذراع مني.
3
في ذلك العصر الحار الذي تساقطت فيه زخّات من المطر، سلبت مني كلارا برسلوه النوم والقلب والأنفاس. طبعت يداها على وجهي، تحت ذلك الظل الذي يحوم في تلك الصالة، لعنةً كادت تلاحقني إلى الأبد. وبينما كنت أتأملها منبهرا كالأطفال، روت لي قصتها وكيف التقت، عن طريق الصدفة هي الأخرى، بصفحات خوليان كاراكس. حدث هذا في إحدى بلدات البروفانس الفرنسية. فحالما اندلعت الحرب الأهلية أرسل والد كلارا، وهو محام لامع ذو صلة بحكومة الرئيس كومبانيس، أرسل زوجته وابنته عند أخته التي تعيش في فرنسا. وقد قيل عنه حينها إنه يبالغ في حذره، فكان الجميع على يقين بأنّ برشلونة سوف تكون في معزل عن تلك الأحداث وبأن البربرية في إسبانيا، مهد الحضارة المسيحية، محصورة في حركة الأناركيين1 الذين لن يؤثروا كثيرا طالما أنهم يمتطون دراجات هوائية ويرتدون ثيابا رثة. وكان والد كلارا يقول إنّ الأمم لا تنظر إلى نفسها في المرآة، ولاسيما إذا أرادت خوض حرب ما. كان هذا المحامي يعرف التاريخ جيدا ويعرف أن المستقبل يُقرأ بوضوح في الشوارع والمصانع وثكنات الجيش أكثر ممّا يُقرأ على صفحات الجرائد. ظل يراسل عائلته كل أسبوع من مكتبه الواقع في شارع ديبوتاثيون في بادئ الأمر، ثم راح يمحو عنوانه كي يتوارى عن الأنظار. وفي النهاية راسلهم من إحدى زنازين سجن قلعة مونتويك مثلما انتهى الأمر بالكثيرين، ومثلهم أيضًا لم يره أحد وهو يدخل هناك ولا وهو يخرج بعدها إلى الأبد.
كانت والدة كلارا تقرأ تلك الرسائل بصوت مرتفع وهي تشهق وتتخطى بعض المقاطع كي لا تزيد في قلب الفتاة لوعة. لكن كلارا كانت تقنع ابنة عمتها كلاوديت، في وقت متأخر حوالي منتصف الليل، بأن تعيد عليها قراءة الرسائل. هكذا كانت تزاول القراءة، بأن تستعير عيون الآخرين. لم يرها أحد تذرف دمعة أبدا، لا حين توقفت رسائل المحامي عن الوصول ولا حين بدا أن أخبار الحرب تُنبئ بحدوث الأسوأ.
«كان أبي على علم بما سيجري» قالت. «ظل قريبا من أصدقائه بدافع الواجب ثم قُتل لأنه كان وفيا لمن خانه في اللحظة الحرجة. لا تثق بأحد يا دانيال، خصوصا بأولئك الذين يعجبونك. سيكونون أول من يطعنك غدرا.»
بينما كانت كلارا تبوح بتلك الكلمات بقسوة تشكلت عبْر سنوات من الألم المكبوت، كنت أتوه في نظراتها التي تشبه الدمية الخزفية، وأضيع في تَيْنك العينين اللتين لا تدمعان، وأصغي إليها تحدّثني عن أمور لم أكن لأفهمها. كانت تصف أشخاصًا وأجواءً وأشياء لم ترها يوما بدقة خالصة وتفاصيل غنية لا يوازيها إلا الرسامون الفلامنديون. كانت لغتها مصبوغة بشتى الألوان، وذكرياتها كنسيج شفاف تحيكه برنة الأصوات ووقع الخطى. وضّحت لي بأنها كانت تدرس في أيام المنفى الفرنسي رفقة ابنة عمتها كلاوديت عند معلّم خصوصيّ يناهز الخمسين عاما، عاشق للنبيذ المعتق وله مطامح أدبية. ويزعم بأنه يحفظ إنياذة فرجيل عن ظهر قلب، باللاتينية ودون أي أثر للهجة. كانت الفتاتان تسمّيانه بالسيد روكفورت2 نسبة إلى الرائحة الكريهة التي تنبعث منه رغم حمّام الكولونيا وباقي العطورات التي يرشها على جسمه المترهل. وكان السيد ركفورت معتدا بسلوكه الرفيع رغم بعض مسلماته الغريبة (من بينها يقينه التام بأن اللحوم المقددة، لاسيّما أمعاء الخنزير المملحة التي تصل إلى كلارا وأمها من أقاربهما الإسبانيين، بمثابة الدواء الشافي لأمراض المفاصل والدورة الدموية). كان يقصد باريس مرة في الشهر منذ أيام شبابه لينمّي آفاقه الأدبية بالاطّلاع على جديد الأدب وزيارة المتاحف، ويشاع أنه كان يضاجع مومسًا هناك يسمّيها مدام بوفاري مع أنها تدعى هورتينس التي يملأ الزغب وجهها. وأثناء تلك النزهات الثقافية، كان السيد روكفورت يشبع فضوله على إحدى عربات باعة الكتب المتجولين قبالة كنيسة نوتردام حيث وقعت بين يديه رواية لكاتب مغمور يدعى خوليان كاراكس، في إحدى أمسيات العام 1929. حصل روكفورت على الكتاب وقد جذبه العنوان وذلك لأنه اعتاد على قراءات خفيفة يقضي بها رحلة العودة في القطار. كان عنوان الرواية «المنزل الأحمر» وعلى غلافها الخلفي ثمّت صورة للكاتب غائمة المعالم، لعلّها صورة فوتوغرافية أو رسم بورتريه على الفحم. وبحسب النبذة عن المؤلف فإن خوليان كاراكس كان يبلغ السابعة والعشرين من عمره، ولد في برشلونة في أوائل القرن ثم انتقل إلى باريس، يكتب بالفرنسية ويحصل على قوت يومه بالعزف على البيانو في أحد بيوت الدعارة. كان هذا التقديم، ذو الأسلوب المسهب وفقا لمفاهيم ذلك العصر، يُبرز عملًا أدبيا استثنائيا لمؤلف متعدد المواهب، ويكشف عن كاتب واعد في مستقبل الآداب الأوروبية دون أي مجال للمقارنة بينه وبين الأدباء الأحياء حينئذ. والملخص يوحي بأجواء غريبة وغامضة وشخصيات شبيهة بأبطال الروايات المسلسلة، وهذا ما بدا على قدر من الأهمية بالنسبة إلى السيد روكفورت الذي كان يفضّل أدب الإثارة والتشويق بقدر ولعه بالمؤلفات الكلاسيكية الكبرى.
تتحدث رواية «المنزل الأحمر» عن شخص غريب الأطوار يسرق الدمى من المتاحف ومحلات لعب الأطفال ثم يفقأ عينيها ويحملها معه إلى كوخه المظلم الموحش على إحدى ضفاف نهر السين. وفي إحدى الليالي يدخل إلى منزل فاخر لواحد من كبار الشخصيات الاقتصادية يقع في حي فوا. كان صاحب المنزل قد اغتنى بنشاطات غير مشروعة أثناء الثورة الصناعية، وأراد اللص أن يحطّم الدمى التي جمعها ذلك الرجل بشغف كبير. فتقع ابنته في غرام اللص، وهي سيدة مثقفة وراقية من الطبقة الباريسية النبيلة. وخلال قصة حبهما التي تشوبها أحداث معقدة وشائكة، تكتشف البطلة اللغز الخفي وراء إقدام البطل الغامض الذي لا تعرف اسمه على فَقْء عيون الدمى. تتسارع المجريات حتى تكتشف الفتاة السر الفظيع الذي يدفع والدها على اقتناء تلك الدمى الخزفية فتخرّ ميتة في نهاية تراجيدية رومانسية ومرعبة على الطريقة الأدبية القوطية.
كان السيد روكفورت يعرف اسم دار النشر المتواضعة التي أصدرت الرواية، والتي اشتهرت، على نطاق ضيق، بإصدار كتب لتعليم الطبخ والتطريز والفنون المنزلية الأخرى. كيف لا وهو المنظر الأدبي الذي لا يشق له غبار، والفخور بكونه صاحب أكبر عدد من رسائل الرفض التي رد بها الناشرون الباريسيون على أعماله الشعرية والنثرية. أخبره بائع الكتب المتجول أن تلك الرواية كان قد صدرت لتوها ولم تحظ إلا بقراءة أو اثنتين في زاوية فرعية على صفحة الوفيات في إحدى المجلات الريفية. هاجم النقاد الرواية بعنف لا يتجاوز السطرين ونصحوا الكاتب الغرّ بأن يلتفت لعمله كعازف بيانو لأنه كاتب نكرة. أمّا السيد روكفورت الذي كان سخيَّ العواطف فقد قرر أن يستغني عن نصف فرنك ليشتري رواية كاراكس وطبعة فاخرة لإحدى روايات فلوبير العظيم الذي لطالما اعتبر نفسه خليفته المظلوم.
كان القطار المتوجه إلى ليون مكتظا بالمسافرين، وهو ما أرغم السيد روكفورت على مشاطرة المقصورة في الفئة الثانية مع اثنتين من الراهبات. وما إن انطلقت القافلة من محطة أوسترلتز حتى بدأتا بالتمتمة وإطلاق نظرات الإعجاب. وهذا ما جعل السيد روكفورت يُخرج رواية كاراكس من حقيبته ليختبئ وراء صفحاتها وينأى بنفسه عن تغزّل الراهبتين به. وسرعان ما تفاجأ بأنه، بعد مائة كيلومتر من الرحلة، كان قد انعزل تماما عن الراهبتين وحشرجة القطار والمنظر الطبيعي الذي يمرّ عبر النافذة مثل كابوس قضّ مضجع أحد الأخوين لوميير. بل قرأ خلال الليل كله غير آبه بشخير الراهبتين ولا بالوقوف على المحطات الغارقة في الضباب. وطلع الفجر حالما أدار روكفورت الصفحة الأخيرة ولاحظ أن عينيه تغرورقان بالدموع وقلبه أسير الحسد والإعجاب.
وفي يوم الاثنين نفسه، هاتفَ دار النشر الباريسية كي يستفسر عن الكاتب. ألحّ طويلا قبل أن يحصل على إجابة سفيهة من صوت سيدة مصابة بالربو. قالت تلك الموظفة إن السيد كاراكس لم يترك لديها أي عنوان وإن الناشر قد قطع علاقته به إذ أنّ مُجمل مبيعات رواية «المنزل الأحمر» لم يتجاوز سبعة وسبعين نسخة اقتنتها العاهرات على أغلب الظنّ وزبائنُ بيت الدعارة حيث يدندن الكاتب المقطوعات الليلية البولونية. فيما أرسلت النسخ التي لم يشترها أحد إلى مزبلة الورق لإعادة تدويرها وتحويلها إلى كتيّبات دينية وبطاقات يانصيب ومخالفات مرورية. أعجب السيد روكفورت بالحظ العاثر الذي مني به ذلك الكاتب الغامض، فما كان منه إلاّ البحث في كل محلاّت الكتب المستعملة عن أعمال كاراكس الأخرى في كل رحلة إلى باريس خلال السنوات العشر اللاحقة. ولكن هيهات، لم يعثر على شيء. لم يكن أحد يعرف شيئا يُذكر عن الكاتب. رأى بعضهم أن كاراكس كان قد أصدر بعض الروايات الأخرى، من دور نشر صغرى أيضا وبنسبة تداول ضئيلة جدا. وكان من شبه المستحيل العثور على تلك الروايات. لقد قال له أحد الباعة ذات يوم إن رواية لكاراكس بعنوان «لص الكاتدرائيات» كانت قد مرّت بين يديه في الماضي لكنه ليس متأكدًا تماما. وفي نهاية العام 1935 بلغ خبر إلى مسامع روكفورت يفيد بأن رواية جديدة لكاراكس بعنوان «ظل الريح» قد صدرت للتو من دار نشر صغيرة في باريس. وسرعان ما راسل الناشر ليحصل على عدة نسخ لكنه لم يستلم أية إجابة. وفي مطلع صيف العام اللاحق، سأله صديقه القديم بائع الكتب على عربة عند نهر السين إن كان ما يزال مهتما بكاراكس. فأجابه بأنه لم يستسلم أبدا، إذ باتت مسألة شرف: كلما أصر العالم على دفن كاراكس في النسيان ازداد تصميما على بعث الروح فيه ثانية. فأخبره صديقه بشيوع بعض الأقاويل عن كاراكس منذ عدة أسابيع تُنبئ بأن الحياة قد ابتسمت أخيرا في وجه الكاتب. إذ كان سيتزوج من سيدة ميسورة الحال وقد صدر له كتاب بعد سنوات من العزلة حاز على قراءة إيجابية في صفحات اللوموند. ولكن ما إن بدا أن الحظ السعيد وقف في صفه حتى دُعي كاراكس إلى مبارزة في مقبرة بيرلاشيز. كانت التفاصيل متضاربة، والمؤكد أنّ المبارزة قد وقعت في فجر يوم زواجه وأنّ العريس لم يأت إلى الكنيسة قطعا.
وتضاربت التخمينات أيضا. تكهّن بعضهم أنّ المبارزة أدت إلى مصرع كاراكس وأنه دفن في قبر دون شاهدة، بينما توقّع أكثرهم تفاؤلا بأنه أقحم نفسه في عمل قذر اضطره إلى هجر عروسته عند مذبح الكنيسة ليفرّ من باريس عائدا إلى برشلونة. لم يعثر أحد على ذلك القبر دون الشاهدة وبعد حين شاعت حكاية أخرى تُفيد بأن البؤس والتعاسة المصيرية لحقا به إلى مسقط رأسه ليموت هناك، وهذا ما دعى بنات بيت المتعة، حيث كان يعزف، إلى لمّ بعض النقود كي يدفعن له ثمن قبر يليق به. ولكن المبلغ وصل إلى برشلونة متأخرا وكانت الجثة قد دفنت في حفرة جماعية تضمّ جثث الشحاذين والغرقى المجهولين عند المرفأ والميتين جوعا على سلالم الميترو.
ومع هذا لم يستطع روكفورت العنيد أن ينسى خوليان كاراكس. فبعد عشرة أعوام من اكتشافه لـ «المنزل الأحمر» قرر أن يعير الرواية لتلميذتيه الشابتين آملا أن يجذبهما بهذا الكتاب الغريب إلى حب القراءة. وكانت كلارا وكلاوديت في سن الخامسة عشرة يمران بأعتى العواصف الهرمونية ويتحسّسان من أيّ مغازلة تُمطر على نوافذ الغرفة التي يدرسان فيها. ورغم مساعي المعلم الخصوصي، فقد حاولت الفتاتان حتى تلك اللحظة أن تبقيا محصنتين بتأثير الكلاسيكيات وحكايات إيسوب وأشعار دانتي الخالدة. ولأنه خشي من إمكانيّة تخلّي والدة كلارا عن خدماته حين تكتشف أن دروسه كانت مفيدة في تكريس الجهل والغباء في رأس الشابتين لا غير، فقد قرّر إذن أن يعيرهما رواية كاراكس قائلا بأنها قصة حب من النوع الذي يُشغل العيون بالبكاء. وكان محقًا في هذا نسبيا