لم يحدث أبدا أنّ رواية سحرتني وجذبتني وحركت مشاعري كما فعلت بي رواية «المنزل الأحمر»» قالت لي كلارا. «لطالما اعتبرت القراءة واجبا أو صدقة تُمنح للأساتذة والمعلمين دون أن نعرف سببها الحقيقي. كنت أجهل طبيعة المتعة التي تهبنا إياها الكلمة المكتوبة، المتعة في ولوج أسرار الروح والاستسلام لنزوات الخيال وألغاز الإبداع الأدبي. أعترف بأن لتلك الرواية الفضل في هذه الاكتشافات. هل سبق وأن قبّلتَ فتاة يا دانيال؟»

صعقني السؤال وانعقد لساني.

«حسنا. لا أنكر أنك مازلت صغيرا، لكن الإحساس مشابه لما مررت به. ومثلما لا يمكن للذاكرة أن تنسى لهيب القبلة الأولى، فإنّ الخلود هو مصير الرعشة التي تنتابنا من متعة القراءة. نحن نعيش في عالم من الظلال يا دانيال، والخيال من الخيرات النادرة. لقد علّمني ذلك الكتاب أنّ القراءة تمنحني فرصة العيش بكثافة أكبر وأنني قادرة على الإبصار بفضلها. وهذا ما يفسّر كيف غيّر حياتي كتابٌ اعتبره الآخرون بلا جدوى.»

لم أستطع أن أقول شيئا إذ كنت أرزح تحت رحمة ذلك المخلوق الذي يفتنني بصوته فلا أقوى عليه ولا أريد أن أقاوم سحره. بل وددتُ ألاّ تكف كلارا عن الكلام لكي أبقى أسيرا لصوتها، وألاّ يعود عمّها أبدا كي لا يبدد لحظة الإغراء تلك التي شعرت بأنها لي وحدي.

«بحثت لسنوات عن كتب أخرى لخوليان كاراكس» تابعت كلارا. «كنت أقصد المكتبات وباعة الكتب والمدارس دون جدوى. ما من أحد سمع بالكاتب ومؤلفاته ولم يكن بوسعي أن أصدّق هذا. وذات يوم وصلَتْ إلى مسامع السيد روكفورت إشاعةٌ مفادُها أنّ شخصا ما كان يجول بين المكتبات بحثا عن أعمال كاراكس، فإن وجدها إما اشتراها أو حصل عليها بعنف أو سرقها وذلك كله لكي يحرقها وحسب. لم يكن أحد يعرف من هو ولماذا يفعل هكذا، كأن شخصية كاراكس ينقصها غموض جديد يضاف إلى سيرته الغامضة أصلا. وبعدها بزمن قصير، أصاب المرض والدتي فقررتِ العودة إلى إسبانيا، إلى دارها وعالمها في برشلونة. وكنت أقتات في سريّ على الأمل في اكتشاف أي شيء عن كاراكس بما أنه ولد هنا واختفى من هنا مع بداية الحرب. باءت محاولاتي بالفشل رغم مساعدات عمي وجهوده. حتى محاولات أمي بالبحث باءت بالفشل أيضا. إبان عودتها لم تجد برشلونة التي كانت تعرفها، لقد تحولت إلى مدينة أشباح وفي كل زاوية وشارع يتراءى لها ظل أبي. ثم قصدت أحدهم كي تعرف كيف مات وكأنها لم تكن تعاني ذكراه بما فيه الكفاية. وبعد أشهر من البحث عثر المحقق على ساعة يد والدي المحطمة فقط، كما عرف اسم الرجل الذي قتله في دهاليز قلعة مونتويك. يدعى فوميرو، خافيير فوميرو. قالوا لنا إن هذا الرجل، وكان عدد أمثاله لا يحصى، بدأ يتسلق سلّمه الوظيفي كقاتل مأجور لصالح الحركة الأناركية اللاسلطوية ثم راح يتعامل مع الانفصاليين والشيوعيين والفاشيين ويبيع خدماته القذرة لمن يقدّم عرضا ماديا أكبر. وبعد سقوط برشلونة انحاز إلى جانب المنتصرين ودخل في سلك الشرطة. واليوم أصبح محققا معروفا وعُلقت على صدره النياشين. وأما والدي فلا يذكره أحد. ولك أن تتخيل كيف توفيت والدتي حسرة في غضون أشهر قصيرة. وقال الأطباء إن قلبها لم يكن يحتمل أي عبء وأظن أنهم كانوا محقين ولو لمرة واحدة. وبعد وفاتها انتقلتُ للعيش عند العم جوستابو إذ كان قريبنا الوحيد في برشلونة. كنت أكن له المودة لأنه كان يهديني الكتب في كل مرة يأتي خلالها لزيارتنا. وأثناء هذه السنوات غدا عائلتي وصديقي المفضّل. قد يبدو متعجرفا لكنه ودود. يقرأ عليّ شيئا ما كل مساء حتى لو اشتدّ عليه النعاس.»

«بوسعي أن أقرأ عليك أنا إن أحببت» اقترحتُ وسرعان ما ندمت على جسارتي لأنني ظننت أن صحبتي ستزعجها أو أن تعتبرها حكاية مضحكة تتسلى بها مع صديقاتها.

«من دواعي سروري. شكرا يا دانيال» أجابتني.

«إنني بخدمتك متى أردت» أومأتُ بخجل وأنا أبحث عن نفسي في ابتسامتها.

«لم تعد عندي تلك النسخة من رواية «المنزل الأحمر» لسوء الحظ» قالت. «لم يشأ السيد روكفورت أن يتخلى عنها. لعلني قادرة على روايتها لك بإيجاز ولكنها ستبدو شبيهةً بوصف كاتدرائية بأنها جمع من الصخور يقوم على نسق هرميّ.»

«إنني واثق من أنك قادرة على إيجازها بأفضل من هذا بكثير» غمغمتُ.

بإمكان النساء أن يدركن على الفور ما إذا كان أحد الذكور متيما بهنّ ولاسيما إذا كان قاصرا أحمق. كانت المقدمات كافية لكي تهملني كلارا برسلوه كليا، غير أنني توهمت بأن العمى قد يضمن لي هامشًا آمنا أتحرك فيه. خلتُ أن تعلّقي الرومانسي بامرأة تكبرني ضعف عمري وتفوقني ذكاء وطول قامة قد يمر دون أن تلحظه عين أحد. ومن يدري ما الذي وجدته فيّ لكي تمنحني صداقتها، ربما كنت انعكاسا جليا لنفسيتها أو صدى يؤنس ظلمة وحدتها. كانت المراهقة تمنّ عليّ بالأحلام لأرى أننا عاشقان نمتطي ظهر كتاب ونهرب نحو عالم خيالي مبنيّ على ركام أوهام مستعملة.

ظهر برسلوه ثانية بابتسامة مخادعة بعد ساعتين مرّتا عليّ كأنها دقيقتان. أعاد لي الكتاب وهو يغمز.

«تفحّصْه جيدا أيها الفتى. لا أريدك أن تتهمني بأنني استبدلته بكتاب آخر.»

«إنني أثق بك يا سيدي.»

«أحسنت أيها الماكر! تصوّرْ أن سائحا أمريكيا كان آخر ضحية وقعت بين براثني. كان مقتنعا بأن الـ «فابادا» طبق ابتكره همنغواي للاحتفال بالقديس فيرمين. فاحتلتُ عليه وبعتُه نسخة من كوميديا «فوينتيه أوبيخونا»3 بعد أن جلّدتها بعناية وزعمتً بأنها مُمضَاةٌ من لوبي دي فيغا بقلم حبر جاف. اعلمْ أن في مهنة بيع الكتب لا يمكنك الوثوق حتى بالفهارس.»

كان قد حلّ الظلام حين خرجنا إلى الشارع. هبّ نسيم بارد فنزع برسلوه سترته ووضعها على كتفي كلارا. وقبل أن أنصرف، وبحيادية مطلقة جدّدتُ عرضي بالمجيء إلى بيتهم في اليوم التالي كي أقرأ على كلارا بعض الفصول من «ظل الريح». رمقني برسلوه بنظرة غائرة وافتعل ضحكة قصيرة.

«أراك متحمّسا يا فتى!» تمتم بصوت منخفض ونبرة محترمة.

«إن لم يكن بإمكاني المجيء في الغد، فبوسعي المرور في يوم آخر أو…»

«إنها كلارا من عليه أن يقرر» قال بائع الكتب. «لدينا سبع قطط وببغاوّان. ماذا يضير لو زادت هذه الحيوانات واحدًا؟»

«سأنتظرك غدا حوالي السابعة إذن» أنهت كلارا النقاش. «هل تعرف أين بيتنا؟»

5

في طفولتي المبكرة، كنت أحلم بأن أصبح كاتبا وبأن أعيش كبطل قصة ميلودرامية مثيرة، ربما لأنني نشأت بين الكتب وباعتها. إلا أن هذه التخيلات الصبيانية كان مردّها الأساسي تحفة مصنوعة يدويا ومعروضة للبيع في أحد محلات حي أنسيلمو كلافيه خلف مبنى الحكومة العسكرية تماما. وكان هذا الغرض الذي يجذبني عبارة عن قلم حبر أسود سائل في غاية الروعة مزوّق بالزخارف الباهرة، ويتألق من خلف زجاج المحل كالمجوهرات التي تشع على التاج. وكنت أرى ذلك القلم أعجوبةً في حدّ ذاته، أراه أشبه بدوّامة فنية تهتاج بنسيج من الذهب والفضة متقن الحياكة ولا تضاهي بريقه سوى منارة الإسكندرية. وعندما كنت أخرج للنزهة مع والدي، لم يكن يهدأ لي بال إلا إذا أخذني لرؤية القلم الذي كان ملكًا لإمبراطور ما على حدّ قوله. وكنت في سرّي واثقا من أن تلك المعجزة قادرة على كتابة أي شيء، من رواية إلى موسوعة ورسائل ليست في حاجة إلى ساعي بريد. كنتُ بريئا إلى درجة الاعتقاد بأن أيّ رسالة تُكتب بذلك القلم سوف تصل إلى وجهتها لا محالة حتّى لو كانت الوجهة ذلك المكان البعيد حيث توجد أمي مثلما يزعم والدي.

وذات يوم قررنا أن ندخل المحل لنكتشف أن القلم من أفخر النوعيات بلا منازع، مونتبلانك مينسترستوك النادر، وصاحبه، على ذمة البائع، فيكتور هوغو تحديدا. أخبرنا بأن من هذا القلم الذهبي تدفقت رواية «البؤساء».

«تماما كما تنبثق مياه الفيشي الكتالونية من ينابيع الكالداس» أضاف.

قال لنا إنه حصل عليه من أحد الباريسيين المولعين بجمع المقتنيات الفاخرة، بعدما تأكد من أنه أصلي.

«وهلا أعلمتنا بسعر هذا الينبوع العجيب من فضلك؟» سأله والدي.

جحظت عيناي عندما سمعت بالرقم ولكنني كنت قد همت حبا به وقُضي الأمر. ولعل البائع ظنّ أنه يتعامل مع اثنين من العلماء، فراح يمدنا بمعلومات لم نكن لنفهمها عن الخيوط المعدنية باهظة الثمن وأصباغ الشرق الأقصى، ثم أخذ يشرح لنا نظرية ثورية في عالم السدادات والأواني المستطرقة وعناصر أخرى من ذلك الفن التوتوني الغابر، الفنّ الذي يسمح لتلك الأعجوبة التقنية بأن تعبّر عن خطّها المذهل. والحق يقال إنّ البائع، ورغم مظهرنا البائس، ملأ القلم بالحبر وسمح لي بكتابة اسمي على الرّق. وهكذا افتتحتُ سيرتي الأدبية التي لا تقلّ أهمية عن سيرة فيكتور هوغو. وبعد أن لمّع تلك التحفة بقطعة قماش أعادها إلى عرشها المشرّف.

«ربما نعود لاحقا» غمغم والدي.

وحين خرجنا قال لي إنّ وضعنا الماديّ لا يسمح لنا بشراء القلم، فعائدات المكتبة تكاد لا تكفي معيشتنا ودفع أقساط المدرسة. وبذلك كان التأجيلُ مصيرَ قلم فيكتور هوغو العظيم. لم أنبس ببنت شفة لكن خيبة الأمل المريرة لاحت على وجهي.

«سنفعل هكذا» اقترح والدي «حين تشرع بالكتابة، نعود إلى هنا ونشتريه.»

«فلنفترضْ أنهم باعوه خلال هذا الوقت!»

«لن يشتريه أحد. كن مطمئنا. ولو حدث ذلك سنطلب من الدون فيديريكو أن يصنع لنا واحدا مشابها. أنت تعلم أنّ لذلك الرجل الموهوب يديْن سحريّتيْن، أليس كذلك؟»

كان الدون فيديريكو ساعاتي الحي وزبونا عرضيا لمكتبتنا وواحدا من أكثر الأشخاص لطفًا وتهذيبًا في غرب الكرة الأرضية. وكانت شهرته كحرفيّ ماهر تمتد من حي ريبيرا حتى سوق نينوت. كما كان ينعم بسمعة من نوع آخر، أقل شأنا بكثير، تعود إلى ولعه الذي لم يستطع كبته بالشبان شديدي العزم من البروليتاريا الرثة، وميوله التي تجنح به ليرتدي ثيابا كثياب المغنية إيستريلا كاسترو.

«وإن كان الدون فيديريكو منشغلا بما هو أهم من صناعة قلم؟»

تجهّم وجه والدي، ربما لأنه خشي أن تكون أقاويل الناس قد وصلت إلى أذنيّ البريئتين.

«الدون فيديريكو مُطّلع على كل المنتجات الألمانية، ولو أراد لَصَنَع لك سيارة فولكس فاجن أيضا. ثم إنّ لي فضولًا كبيرًا بمعرفة وجود أقلام الحبر السائل أصلًا خلال أيام فيكتور هوغو. هنالك الكثير من النصابين حولنا يا دانيال.»

تأثّرت باعتراضات والدي لأنه برّرها من زاوية تاريخية. إلاّ أنّني لم أعترض على فكرة أن يصنع الدون فيديريكو قلما مشابها رغم إيماني العميق بأسطورة القلم الأصلي. وكان الوقتُ ما يزال لديّ لمنافسة فيكتور هوغو. وكما أسلف والدي، فإن القلم العريق ظل لأعوام خلف زجاج المحل وكنا نذهب كي نراه كل صباح يوم سبت.

«ما يزال هناك» كنت أهتف مندهشا.

«ما يزال ينتظرك» كان والدي يجيبني. «كما لو أنه يعرف بأنه سيصبح ملكا لك في يوم من الأيّام وستكتب به رائعة أدبية.»

«أنا أريد أن أكتب رسالة لأمي كي لا تشعر بالوحدة.»

«أمك ليست وحدها يا دانيال» يرد والدي هادئ الأعصاب. «إنها برفقة الله وتعلم بأننا قريبان منها حتى لو لم نكن نراها.»

لقد كانت النظريةَ نفسَها للأب فيثنتي، وهو معلّمٌ يسوعيٌّ عجوز في مدرستي قادر على تفسير أي سرّ غامض في هذا الكون، من المذياع إلى ألم الأسنان، بذكر آيات من إنجيل متّى. ولكن هذه الحقائق لم تكن تقنعني جدا حين تخرج من فم والدي.

«ولماذا يريدها الله أن تكون عنده؟»

«لست أدري لماذا. سوف نسأله عن هذا إذا التقينا به يوما ما.»

تخليت عن فكرة الرسالة في نهاية المطاف، وفكرت أن لحظة تأليف الرائعة الأدبية قد حانت. أعارني والدي قلم رصاص ستيدلر2 ورحت أخربش به على أحد الدفاتر، نظرا إلى عدم وجود قلم حبر. وللمفارقة، كان بطلُ قصّتي قلمَ حبرٍ فاخرًا يشبه إلى حد بعيد ذاك الذي كان في المحل. وتعيش في القلم العجيب روح صاحبه السابق، وقد كان كاتبا مات بردا وجوعا. وحين وصل القلم إلى يد أحد المبتدئين، انصبت منه على الأوراق آخر مؤلفات الكاتب، تلك التي لم يستطع أن يتمّها وهو حيّ. لم أعد أذكر من أين اقتبست الفكرة، لكنها كانت الفكرة الأكثر لمعانا في حياتي كلها. ومع هذا، كان الفشل ينتظر جميع محاولاتي بتكوين شكل معين للقصة. كنت ضحية العجز في الإبداع، إذ استخدمت أسلوبا ومجازات شبيهة بدعايات حمّام الأقدام التي كنت أقرؤُها عند مواقف الترام. كنت ألقي اللوم على قلم الرصاص وأتوق إلى ذاك القلم الذي كان من شانه أن يحولني إلى كاتب كبير. وكان والدي يتابع جهودي بمزيج من الفخر والقلق.

«كيف حال قصتك يا دانيال؟»

«لا أعرف. لو اشتريت ذلك القلم لتغيّر كل شيء.»

كان يقول لي إنني أفكر كأديب في بداية عهده.

«عليك أن تستمر في الكتابة وحالما تجهز القصة سوف أشتري لك القلم.»

«هل تعدني بذلك؟»

فيجيبني بابتسامة. ولحسن حظه أن تطلعاتي الأدبية لم تدم وقتا طويلا واقتصرت على طموحات عامة، ولعل السبب يكمن في أنني اكتشفت لعب الأطفال التركيبية والمتنوعة في سوق لوس إنكانتيس وبأسعار تناسب ميزانيتنا. إنّ الشغف الذي يرافق الطفولة يشبه عاشقة غدارة ومتقلبة الأهواء، فسرعان ما احتلّني الولع بتركيب القوارب الصغيرة وكففت عن تذكير والدي بأن يصحبني لرؤية القلم وكفّ هو عن ذكره أيضا. ومن جهة أخرى نقشتُ في مخيلتي صورة عن أبي: رجل هزيل يلبس رداء قديما وطويلا وقبعة مستعملة اشتراها من حي كوندال بسبعة بيزيتا، ولا يستطيع أن يهدي ابنه قلما خارقا للعادة وعديم الجدوى بالمقابل.

في ذلك المساء كان ينتظرني وهو جالس في صالة الغداء بمزاجه المضطرب كالعادة.

«كدت أظن أنك تهت» قال. «جاء توماس آغويلار يبحث عنك. هل نسيت أنه كان بانتظارك اليوم؟»

«برسلوه رجل ثرثار» بررت تأخري. «حاولت عبثا أن أقول له بأنني مشغول وعليّ الرحيل.»

«يبدو مملا في بعض الأحيان، لكنه شخص رائع. لابد أنك جائع. لقد أحضرت مرسيديتاس قليلا من الحساء الذي أعدّته لأمها. يا لها من شابة طيبة حقا.»

جلسنا لنأكل من صدقات مرسيديتاس، ابنة جارتنا في الطابق الثالث. كان الجميع يتوقع أن تصبح هذه الفتاة راهبة أو قديسة، ولكنني رأيتها في أكثر من مناسبة وهي تخنق بقبلاتها بحّارا مخاتلا كان يرافقها حتى باب البناية أحيانا.

«أراك منشغل البال» قال والدي.

«ربما بسبب الرطوبة التي توسّع الدماغ كما يدّعي برسلوه.»

«لا أعتقد ذلك. ما الأمر يا دانيال؟»

«لا شيء. كنت أفكر في موضوع ما.»

«ما هو؟»

«كنت أفكر في الحرب.»

هز أبي برأسه وتابع طعامه. كان رجلا هادئا ولم يكن يتحدث في الماضي مع أنه يعيش على ذكرياته. وأنا نشأت على اقتناع بأن الكآبة التي رسّختها الحرب، إضافة إلى البؤس والآلام المكتومة، من الأشياء الطبيعية تماما كتعاقب الفصول. بل وكنت مقتنعا بأن التعاسة التي تقطر من الجدران تعبّر عن روح المدينة الجريحة. من إحدى مكائد الطفولة أنّك لا تفهم بالضرورة ما تعانيه، وحين تبلغ سن الرشد يفوت الأوان على مداواة جراحك. في ذلك المساء من الصيف، وفي غروبٍ برشلونيٍ لا يُوثق فيه، فكّرت بكلام كلارا عن مصرع والدها. كنت في ذهني البريء أتخيل الموت كأنه يدٌ لشخص مجهول ومباغت، كمندوب مبيعات يقتحم البيوت فيخطف الأمهات والمتسولين والجيران الطاعنين في السن كأنه في دورة يانصيب جهنمية. كم بذلت جهدا كي أتقبل فكرة أنّ الموت يمشي إلى جانبي، وله وجهُ رجلٍ وقلبٌ مُسَمّم بالحقد، وكيف يرتدي بزة أو سترة مطرية ويقف في الصف كي يدخل السينما ويتردد إلى البارات، ويتنزه في الصباح مع أولاده في حديقة ثويداديلا، فيما يغيّب شخصا ما عند المساء في إحدى زنازين قلعة مونتويك أو في حفرة جماعية دون شاهدة ولا جنازة. خطر في بالي أن هذا الكون الذي أعيش فيه قد لا يكون في النهاية سوى واجهة من ورق مقوى. كانت تلك السنوات تمضي ببطء ثقيل، بل إنّ نهاية الطفولة مثل القطارات الوطنية تصل عندما تصل.

أكلنا ذلك الحساء من بقايا الطعام مع قليل من الخبز، بينما كانت همهمات مسرحية إذاعية تصدر من نافذة الجيران المطلة على ساحة الكنيسة.

«وكيف كان لقاؤك مع الدون جوستابو؟»

«تعرفت إلى قريبته كلارا.»

«الفتاة العمياء؟ يقال إنها جميلة جدا.»

«ربّما. لم أنتبه إلى ذلك.»

«هذا أفضل.»

«غدا بعد المدرسة عليّ أن أذهب إليهم كي أقرأ عليها شيئا ما وأجالسها لبعض الوقت، إن سمحت لي بذلك.»

رنا إليّ والدي بنظرة تخفي تساؤلا عمّا إذا كان هو الذي يشيخ قبل الأوان أم أنّ ابنه يكبر بسرعة. قررت أن أغيّر الموضوع، فما خطر في بالي إلا ما كان يشتعل في سريرتي.

«هل صحيح أنهم أثناء الحرب كانوا يقتادون الناس إلى قلعة مونتويك ثم لا يُعرف مصير أي أحد منهم؟»

«هل أخبرك برسلوه بذلك؟» سأل بنبرة جدية.

«لا. بل صديقي توماس. يروي بعض القصص الغريبة بين الحين والآخر.»

هز والدي رأسه ببطء.

«في الحروب تحدث أشياء فظيعة للغاية يصعب شرحها يا دانيال. من الأفضل أحيانا ألاّ نحفر في الماضي.»

تنهد وأنهى حساءه على مضض فيما كنت أراقبه بصمت.

«طلبت مني والدتك، قبل أن تتوفى، بأن أعاهدها على عدم الحديث معك عن الحرب. ينبغي ألاّ أخبرك بأيّ شيء ممّا مضى.»

لم أعرف كيف أردّ عليه. رأيته يرفع عينيه إلى السماء كأنه يبحث عن شيء ما في الفراغ، نظرة توحي بسكوت والدتي الراضية عن كلامه.

«ربما أخطأت في أنني عاهدتها على ذلك. لا أدري.»

«لا يهمّ يا أبتي.»

«بل إنه يهمّ يا دانيال. كل شيء يتغير بعد الحرب، وصحيح أن الكثير من الناس دخلوا إلى تلك القلعة ولم يخرجوا منها أبدا.»

تلاقت نظراتنا لوهلة ثم نهض والدي عن الطاولة وذهب إلى غرفته وقد جرحته أظفار النسيان الذي امتدّ طويلا. نظّفت الطاولة وغسلت الأطباق على المغسلة الصغيرة في المطبخ. وعدت إلى الصالة، أطفأت الضوء وجلست على أريكة والدي القديمة حين هبّت نسائم خفيفة حرّكت الستائر. لم يغالبني النعاس ولم تكن لي رغبة في النوم، فأطللت من الشرفة ونظرت صوب أضواء بويرتا دل آنخل (باب الملاك). هنالك ملامح رجل ثابتة في سياق من الظل. كان لمعان جمرة السيجارة ينعكس في عينيه، ويرتدي لباسًا غامقًا وإحدى يديه في جيب السترة والأخرى تحمل السيجارة التي ترسم شبكة من الدخان المائل إلى الزرقة على جانبٍ من وجهه. كان يراقبني وقد حجبه ارتداد الضوء، وظلّ واقفا حوالي الدقيقة على قدميه وهو يدخّن ويركّز نظراته عليّ. وما إن دقت نواقيس الكاتدرائية منذرة بمنتصف الليل حتى ثنى رأسه بخفة وأومأ بتحية تلمّح بابتسامة خفية. وددت أن أبادله التحية لكنني كنتُ متسمّرا من الخوف. وبينما كان الرجل يبتعد رأيت أنه كان يعرج قليلا. فضاقت أنفاسي وتصبب العرق البارد على جبيني. كنت قد قرأت توصيفا لمشهد مثل هذا في رواية «ظل الريح»: يخرج البطل إلى الشرفة كل ليلة عند منتصف الليل، ويلاحظ أنه مراقب من رجل مجهول يدخن في الظلام وعيناه تلمعان كجمرتين. يبقى الرجل هناك قليلا ويده اليمنى في جيب سترته السوداء، ثم يغادر وهو يعرج. قد تكون الشخصية الغامضة، في المشهد الذي عشته حقا، واحدا من المسرنمين لا غير، أمّا في رواية كاراكس فكان الرجل المجهول هو الشيطان.

2021/06/22 · 383 مشاهدة · 2754 كلمة
نادي الروايات - 2025