وضع إسحاق على كتفيّ غطاءين خفيفين وعرض عليّ مشروبا ساخنا له طعم الشوكولاطة وسائل الراتافيا الروحي.
«كنت تحدّثني عن كاراكس…»
«ليس في جعبتي الكثير لأرويه. أول شخص أخبرني عنه يدعى طوني كابيستاني، الناشر، منذ عشرين عاما أي منذ أن كانت دار النشر على قيد الحياة. كلما عاد كابيستاني من رحلة إلى لندن أو باريس أو فيينا، كان يأتي لزيارتي لندردش قليلا. ترمّلنا في الوقت نفسه تقريبا وكان هو يشتكي من أننا غدونا أزواجا للكتب. أنا زوج الكتب القديمة وهو زوج الكتب الحديثة. كنا صديقين وفيين. ذات مرة أخبرني بأنه حصل بأبخس الأثمان على حقوق نشر روايات أحدهم ويدعى خوليان كاراكس، برشلوني يقيم في باريس. أعتقد أن هذا حدث بين عامي 1928 و1929. وكان كاراكس، على ما يبدو، يعزف في الليل على البيانو في أحد بيوت الدعارة في حيّ بيجال الباريسي، وفي النهار يكتب الروايات في عليّة متردية الحال في حي سان جيرمان. باريس هي المدينة الوحيدة في العالم التي يعدّ فيها الموت جوعا مفخرة للفنانين والأدباء. أصدر كاراكس في فرنسا روايتين منيتا بفشل كبير من الناحية التجارية. وكان كاراكس في باريس شخصية مهمة لكنها مغمورة بسبب بخل كابيستاني.»
«هل كان كاراكس يكتب بالإسبانية أم بالفرنسية؟»
«ومن يدري. من الوارد أنه كان يجيد الاثنتين معا. أمه فرنسية، معلمة موسيقى على ما أظن، وهو انتقل للعيش في باريس منذ أن بلغ التاسعة عشرة أو العشرين من عمره. كانت المخطوطات تصل إلى دار النشر بالإسبانية، لا فرق إن كانت مترجمة أو أصلية. فاللغة التي كان كابيستاني يفضلّها هي لغة النقود، وما تبقّى لا أهمية له عنده. توهم أنه قادر على بيع آلاف النسخ في السوق الإسبانية.»
«وما الذي حصل؟»
قطّب إسحاق جبينه وصبّ لي قدحا آخر من ذلك المشروب المنشط.
«أكثر رواياته مبيعا «المنزل الأحمر». ربما وصلت إلى حدود التسعين نسخة.»
«واستمر في نشر رواياته رغم أنها خاسرة؟»
«تماما ولست أدري السبب. لم يكن كابيستاني رومانسيا حتما لكنه كأي إنسان تحيطه الأسرار بالغموض… بين 1928 و 1936 نشر له ثماني روايات وفي الواقع كان كابيستاني ينمّي رأسماله بالكتيبات الدينية والروايات العاطفية المسلسلة التي تثير غريزة المراهقات وتحقق نسبة مبيعات باهظة في الأكشاك كقصة البطلة فيوليتا لافلور الريفية. أما كتب كاراكس فكان ينشرها بهدف المتعة المحضة وتفنيدا لنظريات داروين.»
«وما الذي حلّ بالسيد كابيستاني؟»
تنهد إسحاق رافعا أبصاره نحو السماء. «كالعادة، أخذ تقدّم العمر نصيبا من حياته. أصابه المرض وعانى من بعض المشاكل الاقتصادية. عام 1936 حلّ ابنه الأكبر محلّه في إدارة الدار، لكنه كان واحدا من أولئك الذين لا يعرفون قراءة شعار الملابس الداخلية، فأفلست المؤسسة في أقل من عام. وشاءت الأقدار، لحسن الحظ، أنّ السيّد كابيستاني لا يشاهد كيف يبذّر ورثتُه شقاء عمره وكيف تدمّر الحرب بلاده. لقي حتفه بجلطة في ليلة عيد جميع القديسين حينما كان يدخن سيجار الكوهيبا وعلى حضنه فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها. وكان ابنه من طينة أخرى، لا يضاهيه أحد في الحماقة والعنجهية. قبل كل شيء، حاول أن يبيع بقايا لوائح الكتب لتحويلها إلى مادة السيلولوز أو شيء ما من هذا القبيل. فجاءه صديقه الذي يتفوق عليه بالغطرسة إذ لديه فيلا في كالديتاس وسيارة بوغاتي، وأقنعه أنّ الروايات المصورة وكتاب «كفاحي» لهتلر قد تباع كالخبز، وهكذا سيكون في حاجة لكميات كبرى من السيلولوز ليرضي الطلبات.»
«وبعد؟»
«لم يحصل على الوقت ليحقق ذلك المشروع. ذات يوم تقدم إليه رجل ما وعرض عليه عرضا سخيا. أراد أن يشتري كل روايات كاراكس التي لم تصدر في الأسواق وعرض أن يدفع ثلاثة أضعاف قيمتها.»
«لا تكملْ. لكي يحرقها.» غمغمت.
ابتسم إسحاق مستغربا. «أجل. ليس صحيحا أنك لا تعرف عنه شيئا إذن.»
«من هو هذا الرجل؟»
«رجل يدعى أوبرت أو كوبرت، لا أذكر بدقة.»
«لايين كوبرت؟»
«هل تعرفه؟»
«إنه اسم إحدى شخصيات «ظل الريح»، آخر رواية كتبها كاراكس.»
قوّس إسحاق حاجبيه. «شخصية خيالية؟»
«في الرواية، لايين كوبرت هو الاسم الذي يستخدمه الشيطان» قلت.
«أرى أنه استعراضي بما فيه الكفاية. أيًا يكن، لا يمكن أن ننكر أن لديه حس فكاهة ملحوظ» أكد إسحاق.
تذكرت لقاءي الأخير مع ذلك المجهول ولم أستطع أن أجد فيه أية سمة بارزة، لكنني لم أشأ أن أناقض إسحاق.
«ذلك الرجل، كوبرت، أو أيا كان اسمه، هل كان وجهه محروقا أو مشوها؟» سألته.
صوّب إسحاق إليّ نظرة بين الهزل وعدم الاطمئنان. «ليس عندي أدنى فكرة عن هذا. الشخص الذي نقل إليّ القصة لم يره في حياته ولم يتعرف عليه أبدا لأن ابن كابيستاني في اليوم اللاحق أخبر السكرتيرة بالعرض. لم أسمع قط بوجوه محروقة. ذلك الرجل يبدو حقا أنه خارج من صفحات إحدى الروايات العاطفية المسلسلة.»
طأطأت رأسي محاولا إثارة الشفقة. «وكيف انتهت القصة؟ هل باع ابن الناشر الكتب لكوبرت؟» سألته.
«أراد ذلك الأحمق المغرور أن يتحايل. طلب سعرا أكبر من ذلك الذي عرضه كوبرت فرفض الأخير. بعد عدة أيام أثناء الليل أضرمت النيران في مستودع دار النشر في بويبلو نويفو حتى جذوره. ومجانا.»
تنهدت. «وما الذي حل بكتب كاراكس؟ هل أحرقت جميعها؟»
«تقريبا كلها. لحسن الحظ أنّ سكرتيرة كابيستاني، عندما عرفت بالعرض، اتبعت حدسها وسحبت من المستودع نسخة عن كل رواية لكاراكس بمبادرة منها. كانت هي التي ظلت على تواصل مع الكاتب، ومع مرور الأيام ولدت بينهما صداقة ودية. اسمها نوريا ولعلها الوحيدة في دار النشر، إن لم تكن في برشلونة كلها، من قرأ روايات كاراكس. لكن نوريا هاوية للقضايا الخاسرة. كانت في طفولتها تجلب إلى البيت حيوانات تائهة. ثم راحت تتبنى مؤلفين حلّت عليهم اللعنة، ربما لأن والدها أراد أن يكون مثلهم ولم يفلح في ذلك أبدا.»
«تتكلم عنها وكأنك تعرفها.»
أرخى إسحاق ابتسامته الشيطانية.
«أكثر مما تتوقع. إنها ابنتي.»
تملكتني الدهشة وحملتني بعيدا.
«حسب علمي، عاد كاراكس إلى برشلونة عام 1936. ثمّت من يدّعي بأنه مات هنا. هل ما يزال لديه أقارب في المدينة؟ هل بوسع أحد أن يمدّني ببعض المعلومات؟» سألته.
«أظن أنه بلا أقارب. وأعتقد أنّ والدَيْ كاراكس انفصلا منذ زمان بعيد. غادرت أمه إلى أمريكا الجنوبية وتزوجت من رجل آخر هناك. وعلى حد علمي أن خوليان قطع اتصاله بوالده منذ أن سافر إلى باريس.»
«لماذا؟»
«وما أدراني؟ يروق لبعض الناس أن تتعقد حياتهم زيادة عن تعقيداتها الأساسية.»
«هل تعرف إن كان ما يزال حيا؟»
«أتمنى ذلك من كل قلبي، فهو أصغر مني عمرا. وأنا أخرج نادرا ولم أعد أقرأ صفحة الوفيات منذ سنين، لأن الذين تعرفهم يموتون كميتة الذباب وهذا ما يشعرك بالأسى. والحق يقال إن كاراكس هي كنية الأم، أمّا والده فيُدعى فورتوني. وكلّ ما أعرف عنه أنه كان صاحب محل لبيع القبعات في روندا دي سان أنطونيو ولم يكن على وفاق مع ابنه.»
«أليس واردا أن كاراكس استعاد علاقته مع ابنتك نوريا عند عودته إلى برشلونة، مادام تربطه بها صداقة ودية وله مشاكل عائلية مع والده؟»
أطلق إسحاق ضحكة مريرة. «لعلني لست مخولا للإجابة عن هذا. فالبنات لا يطلعن آباءهن على بعض الأمور. أعرف أن نوريا ذهبت إلى باريس ذات مرة عام 1932 أو 1933 لتتابع شؤون كابيستاني ونزلت ضيفة عند كاراكس مدة أسبوعين. وهذا ما عرفته من كابيستاني، لأنها أخبرتني أنها نزلت في فندق ما. في تلك الفترة كانت ابنتي بكرا، ولا شكّ أن كاراكس وقع في شرك الغرام بها. نوريا من النساء اللواتي يُصعق المرءُ بحبّهن من النظرة الأولى.»
«هل تقصد أنهما كانا عاشقين؟»
«تعجبك الروايات العاطفية إذن، ها؟ لم أقحم أنفي في حياة نوريا أبدا، ربما لأن حياتي أيضا، والحق يقال، لم تكن منزّهة عن الأخطاء. إن شاءت لك الأيام أن ترزقك بِابنَةٍ، وهي نعمة لا أتمناها لأحد كائنا من كان، وبما أن المنطق يفرض عليها أن تحطم قلبك عاجلا أم آجلا، ماذا كنت أقول؟ نعم، في الخلاصة، إن رزقت بابنةٍ في يوم ما فسوف تقسّم الرجال تلقائيا إلى صنفين: العاشق القوي من جهة وجميع الآخرين من جهة أخرى. من ينكر ذلك يكون كاذبا وهو على علم بأنه يكذب. لدي الانطباع بأن كاراكس كان من الصنف الأول، ورغم هذا سواء كان عبقريا أم مجرد أبله مسكين فإنني لطالما اعتبرته صعلوكا مشاكسا.»
«ربما كنت مخطئا.»
«لا تشعرْ بالإهانة فأنت ما تزال شابا في مقتبل العمر وخبرتك بالنساء توازي خبرتي في صنع حلوى اللوز.»
«هذا صحيح أيضا» اقتنعت. «وماذا حلّ بالنسخ التي أخذتها ابنتك من المستودع؟»
«إنها هنا.»
«هنا؟!»
«ومن أين جاء الكتاب الذي اخترته عندما أتيت مع أبيك، برأيك؟»
«لم أفهم.»
«المسألة بسيطة. ذات ليلة، إثر احتراق مستودع كابيستاني، جاءت ابنتي نوريا إلى هنا. كانت متوترة الأعصاب، وقالت إن ذلك الشخص، كوبرت، كان يلاحقها لهوسه الخطير بجمع تلك الكتب ومن ثم إحراقها. ففكرت نوريا بأن تُخبّئ روايات كاراكس هنا. دخلت إلى القاعة الكبرى واختفت في دهاليز تلك المتاهة كما لو أرادت أن تدفن كنزا ما. ولم أسألها أين أخفتها ولم تخبرني هي بذلك. قبل أن تنصرف وعدتني بالعودة لاسترداد تلك الكتب ما إن تلتقي ثانية بكاراكس. تولد لدي الانطباع حينها بأنها ما تزال تعشق ذلك الرجل، وسألتها إن كانت قد رأته أو تلقت أخباره في الآونة الأخيرة. فأجابتني بأنها لم تسمع عنه شيئا منذ أشهر، أي منذ أن أرسل إليها تصحيح مخطوط الرواية الأخيرة عمليا. لا أعرف إن كانت صادقة أم لا، لكنني متأكد من أنها لم تتلق أي خبر عنه منذ ذلك اليوم وأن الكتب بقيت هنا ليلهو بها الغبار ليس إلا.»
«هل تعتقد بأن ظروف ابنتك حاليا تسمح لها بالحديث عن تلك القصة؟»
«إن كان الأمر يقتصر على مجرد الحديث فأعتقد أنها مستعدة لذلك. لكنني أتساءل إن كان لديها ما تقول أكثر مما رويت لك أنا. لقد مرّ زمان طويل، وأعترف لك بأن علاقتي بها مجمدة منذ حين. نلتقي مرة واحدة في الشهر، نتناول الغداء بالقرب من هنا ثم تغادر هكذا كما أتت. لقد تزوجت منذ عدة سنوات شابا لطيفا، يعمل كصحفي. وهو متهور بعض الشيء، والحق يقال، من أولئك الصحفيين الذين يقحمون أنفسهم في المصاعب من أجل السياسة، لكنه كان كريما جدا. تزوجت زواجا مدنيا دون أن تدعو أحدا. ووصلني الخبر بعد شهر كامل. زوجها يدعى ميغيل أو شيئًا ما من هذا القبيل. أفترض أنها ليست فخورة بوالدها ولا ألومها على ذلك. لقد تغيرت كثيرا في هذه الأيام. تصوّرْ أنها تعلمت الحياكة ولم تعُد ترتدي مثل سيمون دو بوفوار. ولا أستغرب إن عرفتُ بأنني أصبحت جدّا. إنها تعمل في المنزل، تترجم من الفرنسية والإيطالية. ومن يدري ممن ورثت هذه الموهبة، ليس مني بالتأكيد. حسنا سوف أعطيك عنوانها ولكن من المحبّذ ألا تقول لها بأنّني أرسلتك.»
لطّخ إسحاق ورقة من جريدة ببعض الكلمات وأعطاني إياها.
«أشكرك. لعلّها تتذكر شيئا ما…»
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيه. «في طفولتها كانت تتذكر كل شيء. ثم إنّ الأطفال يكبرون ويصبح من الصعب معرفة ما يفكّرون فيه ويشعرون به. وربما من الإنصاف أن تجري الأمور هكذا. لا تناقشْها في الشؤون التي أخبرتك بها، مفهوم؟»
«كن مطمئنا يا سيدي. هل تعتقد أنها ما تزال تفكر في كاراكس؟»
أخذ إسحاق نفسا عميقا وأخفض أنظاره. «كيف لي أن أعرف هذا؟ إنني لا أعلم إن كانت مغرمة به حقا أم لا. إن الحب شأن حميمٌ لا يُباح بسرّه لأحد، ونوريا الآن امرأة متزوجة. عندما كنت في عمرك، كانت لي عشيقة تدعى تيريزا باوداس، تخيط المآزر لمنسوجات سانتا ماريا في شارع كوميرثو. كانت تبلغ من العمر ستة عشر عاما وتصغرني بسنتين، وكانت قصة حبي الأولى. لا تحدّقْ إليّ هكذا، إني أعلم أنكم أيها الشباب لا تصدقون أن كبار السن عرفوا الحب في شبابهم. كان والد تيريزيتا يبيع الجليد في سوق بورني وكان أخرس منذ ولادته. ليس بوسعك أن تتخيل كيف أحاطني الخوف يوم طلبت يد ابنته وهو يحدّق في عينيّ لخمس دقائق طويلة، حاملا بيده المثقب. كنت أوفر المال لسنتين كي أشتري الخواتم وانتكست حالة تيريزيتا الصحية. أصابتها عدوى السل أثناء العمل على ما يبدو وتوفيت بعد ستة أشهر. مازلت أذكر عويل والدها الأخرس خلال الجنازة في مقبرة بويبلو نويفو.»
صمت إسحاق، ولم أجرُؤ حتى على التقاط أنفاسي. وبعد هنيهة رفع بصره وابتسم في وجهي.
«كأننا نتحدث عن أمر جرى قبل خمسمائة عام. ولكن بصراحة لا يمر عليّ يوم دون أن أفكر في تيريزيتا وأتذكر نزهاتنا بين أطلال المعرض الدولي لعام 1888 وكيف كانت تسخر مني عندما ألقي عليها الشعر الذي ألّفته في مستودع صيدلية عمي ليوبولدو. أذكر حتى وجه غجرية قرأت كفّينا عند شاطئ بوجاتيل وأكدت بأننا لن نفترق أبدا. كانت محقة من زاوية معينة. ماذا يسعني أن أقول؟ أجل، أعتقد أن نوريا ما تزال تفكر في كاراكس ولهذا لن أستطيع أن أغفر له ما حييت. مازلت صغيرا لتعرف أن هذا العذاب يترك جرحا لا يندمل. وإن أردت رأيي فإن كاراكس رجل غاو وإنه قد أخذ قلب ابنتي وحمله معه إلى القبر أو إلى الجحيم. أطلب منك معروفا واحدا: إن استطعت أن تلتقي بنوريا وتكلمت معها أعلمْني كيف تقضي أيامها وإن كانت سعيدة… أو سامحت والدها.»
قبيل مطلع الفجر، دخلت مقبرة الكتب المنسية للمرة الثانية وبيدي المصباح. كنت أتخيل أنّ ابنة إسحاق كانت تمشي في نفس الممرات التي ليست لها نهاية، ويدفعها المقصد نفسه الذي يدفعني الآن: حماية الكتاب. في البداية حسبت أنني أقدر على تذكّر الدرب الذي سلكته في ذلك الصباح مع والدي، وقد أمسك بيدي واقتادني إلى ذلك المكان الغامض، ولكنني سلّمت باستحالة التوجّه الصحيح في عقدة تلك الممرات المتداخلة. عاندتُ على سَلك الدرب نفسه لثلاث مرات، مدعيا بأنني أعرفه كما أعرف راحة يدي، فإذا بي أعود إلى نقطة الانطلاق حيث كان إسحاق ينتظرني وهو يبتسم مستهزئا.
«هل تعتقد أنك ستعثر على الطريق ولو بعد حين؟» سأل.
«طبعا.»
«بوسعك الاستعانة بحيلة ما.»
«أية حيلة؟»
«يبدو لي أن دماغك متكلس يا صغيري. فكّرْ بالمينوتور6 مثلا!»
استغرق الأمر معي دقائق حتى فهمت ما يصبو إليه. أخرج إسحاق سكينا صغيرا من جيبه وأعطاني إياه.
«أحدثْ خدشا كلما دخلت في ممر ما، أو علامة لا يفهمها إلا أنت. فهذه الأخشاب عتيقة ومليئة بالثقوب والنقوش التي لا يلاحظها إلا من كان يبحث عنها.»
اتبعت نصيحته وانطلقت مجددا صوب مركز البناء. وكلما غيرت اتجاهي نقشت حرف الكاف على حواف الرفوف الموجودة عند تقاطع الممرات. وبعد عشرين دقيقة، في باطن المبنى، حددت المكان الذي سأدفن فيه الرواية. على يميني لاحظت وجود سلسلة طويلة من المجلدات عن تحويل الملكيات بإشراف القدير خوفيانوس والتي كانت ستعمي عيون الشكاكين حسب رأيي. غيرت مكان بعض تلك المجلدات وفحصت الكتب في السلسلة الثانية. فوق سرير من الغبار كانت عدة مسرحيات لموارتين وطبعة فاخرة لكوريال غويلفا مستلقية بجانب «رسالة في اللاهوت والسياسة» لسبينوزا. وفي النهاية أدخلت كتاب كاراكس بين نشرات الدعاوى القضائية وبعض روايات خوان فاليرا، أنطولوجيا الشعر «سجل الذهب» والذي قررت أن أبعده كي أكسب المساحة. ودّعت الكتاب بتحية خاصة ثم أرجعت أعمال خوفيانوس على الرف كي أغطي الكتاب من الوراء.
وعدت أدراجي متبعا العلامات التي نقشتها. وبينما كنت أتقدم في ذلك الظلام انقضّ عليّ إحساس بالإحباط. إن كنت حقا قد اكتشفت عالما بأكمله في كتاب واحد، فكم ابتلع الإهمال من تلك العوالم التي تحتويها هذه المقبرة؟ شعرت أنني مطوّق بملايين الصفحات وآلاف الأرواح والأكوان الهائمة تتساقط في لجّة هاويةٍ سحيقةٍ لا قرار لها، بينما يسهو الجنس البشري في الخارج مغرورا بحكمته وهو يتأرجح على شفا حفرة من العدم والنسيان.
عدت إلى المنزل عند الفجر. فتحت الباب بهدوء ودخلت دون أن أنير الأضواء. نظرت من المدخل إلى صالة الغداء ورأيت المائدة المجهزة للعشاء احتفالا بيوم ميلادي. مازال قالب الحلوى ينتظر من يقصّه، وأدوات الطعام تنتظر من يستخدمها. كان والدي جالسا على الأريكة وينظر من النافذة. مازال مستيقظا بثيابه الأنيقة، وبين أصابعه سيجارة ترسل خيوط الدخان بكسل شديد. لم أره يدخّن منذ سنين طويلة.
«صباح الخير» همس بينما كان يُطفئ السيجارة في منفضة تغصّ بأعقاب السجائر التي لم يدخن إلا ربعها.
رنوت إليه دون أن أجيبه. كانت غشاوة من الأسى تغطّي ناظريه.
«اتصلت بك كلارا أكثر من مرة بعد خروجك بساعتين مساء أمس» قال. «كان القلق جليا في صوتها. وأوصت بأن تتصل بها مهما كان الوقت متأخرا.»
«لست أنوي سماع صوتها ولا رؤية وجهها» صرّحت.
اكتفى والدي بهزّ رأسه صامتا. واستلقيت على كرسي أنظر إلى الأرض.
«أين كنت؟»
«أتسكّع هنا وهناك.»
«أرهقني الخوف عليك.»
لم يكن يعاتبني، بل كان في صوته ما يشبه التعب الشديد.
«أعلم. ويؤسفني هذا.»
«ما الذي جرى لوجهك؟»
«تزحلقت على الرصيف المبلل ووقعت.»
«لابدّ أن لذاك الرصيف يد طاحنة. علينا أن نداوي جراحك.»
«لم يحدث شيء. لا أشعر بالألم» كذبت. «أريد أن أنام وحسب، فلم أعد أستطيع الوقوف على قدميّ.»
«هلا فتحت هديتك قبل أن تغفو على الأقل؟!» قال أبي.
أشار إلى العلبة الأنيقة التي كان قد وضعها على المائدة مساء أمس. ترددت قليلا ثم أمسكت بالعلبة تنازلا لنظرته المفعمة بالمودّة. عاينت ثقلها وأعطيته إياها دون أن أتكلف عناء فتحها.
«ربما من الأفضل أن تعيدها من حيث أتيت بها. فأنا لا أستحق الهدايا.»
«الناس يتبادلون الهدايا حبا بذلك، وليس لأن أحدهم يستحقها والآخر لا» قال. «ثم إنني لم أعد أستطيع إرجاعها. افتحها.»
نزعت الغلاف الرفيع تحت ضوء الصباح الشاحب. كانت العلبة خشبية منقوشة ومتألقة بحواف مذهبة. فتحتها فأصدرت رنينا محببا يشبه رنين معادن الساعة الأصيلة. وفي الداخل المبطّن بالمخمل الأزرق، كان قلم مونتبلانك مينسرترستوك لفيكتور هوغو يغفو بكل بهائه وضيائه كاللؤلؤ المكنون. أمسكته وأمعنت النظر فيه تحت انعكاس الضوء. قرأت اسمي محفورا على ملقط الغطاء الذهبي:
دانيال سيمبيري 1953.
نظرت إلى والدي حين انتزعني الذهول من فتنة الصدمة. لم أره سعيدا كما كان تلك اللحظة. نهض عن أريكته وعانقني فلم أقوَ على نطق أية كلمة وأوكلت للصمت والدهشة أمر مشاعري الجياشة.