ريد (2)

في زمنٍ ظهر فيه كائنٌ شيطانيٌّ عملاق، وامتلأت الدنيا ضجيجًا وشائعات عنه لمدّة طويلة،

كانت تحدث في أرجاء القارّة أشياء خفيّة وغامضة لم ينتبه لها الناس بعد.

أمور قد يراها البعض تافهة، لكنها بالنسبة لمن صادفوها كانت نقطة تحوّل حاسمة قد تغيّر مسار المستقبل.

كانت حركات دقيقة، تُلصَق ببعضها كرقع لسدّ فجوات السبب والنتيجة.

وكانت تلك الصدفة أول ما وقع في القصر الإمبراطوري.

"…ما هذا؟"

في قصر اللؤلؤ،

كانت "إيديث" ترتّب غرفة الأمير الخالية – كعادتها – حين لمحَت عند قدميها كرة صغيرة تتدحرج.

كانت حجرَ روحٍ فارغًا تمامًا.

"والآن وأنا أتذكّر… أظنّ أن الأمير موريس كان يحمل هذا معه أحيانًا…"

لم يكن بوسعها فهم كيف انتهى أحد متاع الأمير على الأرض هكذا، لكنها لم تُطِل التفكير،

بل التقطت الكرة على الفور.

"سأحملها معي وأستفسر من سموّه."

لم يساورها القلق من لمس غرض للأمير بلا إذن،

فالشخص الذي تخدمه لم يكن من أولئك المتزمّتين عديمي المرونة.

يكفي ما حدث من قبل؛

حين استخدمت عربة القصر الملكي بلا إذن، لم يغضب الأمير موريس، بل أثنى عليها بشدّة ومنحها مكافأة ضخمة،

تكفيها لتعيش أعوامًا دون عمل، مكتفية بالأكل والراحة.

لكنها فكّرت:

"مع ذلك، لا ينبغي أن أتوقف عن العمل. عليّ الاهتمام بماكس، كما أن لعبة رمي الصحون بين الحين والآخر ممتعة."

وأخذت تدندن بلحنٍ وهي تضع حجر الروح في جيب مئزرها.

***

صدفة صغيرة أخرى وجدت طريقها إلى كاتبة مسرحيات.

"الأستاذة سوربون! عملك الأخير حقق نجاحًا باهرًا! الآن في أوساط المجتمع المخملي في العاصمة، صار من المألوف إعادة مشاهدة «أمبروسيا برج الرأس»! أنتِ حقًا تملكين موهبة منحها لكِ الرب!"

قال مدير دار الأوبرا بحماس، رافعًا صوته،

لكن الكاتبة الحسّاسة السمع قطّبت حاجبيها فجأة.

"كفاك مجاملة فارغة. ماذا تريد مني هذه المرّة؟"

"مجاملة؟! كل كلمة أقولها صادقة! لكن… ألا يجدر بنا أن نبدأ العمل على المسرحية التالية؟ سأوفّر لكِ كل ما تحتاجينه!"

"ماذا؟ بالكاد عرضنا المسرحية الجديدة، وها أنت تثرثر عن العمل القادم؟ يا رجل، أظنّك تستخفّ كثيرًا بعذاب الإبداع!"

ارتبك المدير أمام اعتراضها الحاد.

"لك… لكن أستاذة… «أمبروسيا برج الرؤوس» في النهاية مستوحاة من أغنية قديمة تداولها شعراء قبرص…"

"آه، اصمت! إن لم يكن تحويل أغنية عتيقة إلى مسرحية من أربعة فصول عملًا إبداعيًّا، فما الذي يمكن أن نسمّيه إبداعًا إذن؟!"

ثم رفعت يديها بسرعة متساوية، وأشارت بأصبعيها نحو جانبي رأسه، وهي تنفجر غضبًا:

"ثم كم مرّة قلت لك، حين تأتي إلى منزلي أصلح فرق شعرك! النظر إلى فرق شعرك المائل ذاك يُخلّ بتوازن الكون، حتى إن الإلهام الذي يزورني يفرّ هلعًا!"

"ماذا…؟"

كانت حقًا امرأة تجيد النقد في غير محلّه،

لكن المدير كتم غضبه بصعوبة،

فالأستاذة سوربون هي أشهر كاتبة في شارع بَرتران، وأي عمل يحمل اسمها سينجح، حتى لو كُتبت حواراته بقدمين لا بقلم.

أما عيوبها الشخصية، فهي – في نظره – الثمن المقابل لعبقريتها المبهرة.

"انتظري قليلًا، أستاذة… سأصلح شعري حالًا، ثم نكمل الحديث عن العمل المقبل."

واندفع إلى المرآة ليضبط فرق شعره إلى 5:5 بدقة—

طَقطَق!

سقط كتاب على الأرض فجأة، مُحدثًا صوتًا مكتومًا.

"هاه؟ ما الذي حدث فجأة؟"

لم تهب أي ريح، فلماذا سقط كتاب كان موضوعًا بإحكام؟

أسرعت الكاتبة تلتقطه وتعيده إلى مكانه،

فمجرد خروج شيء عن تناظرها المرسوم يثير في صدرها ضيقًا شديدًا، يكاد يقلب أحشاءها.

لكن عينها وقعت على العنوان فجأة:

تحفة من روائع الرومانسية الاوروتونية التي سادت القارّة يومًا.

"أغنية الدمية… هه."

عملٌ لا بأس به، وإن عدّلت قليلاً في بنائه ونهايته فقد يتحوّل إلى قصة ذات خاتمة دائرية بديعة.

"ربما أقتبس هذه المرة من الأدب الكلاسيكي… سيكون إنجازه أسرع بكثير من كتابة عمل جديد بالكامل."

وعلى كلماتها العفوية، أشرق وجه مدير الأوبرا ابتهاجًا.

***

وفي مكان آخر، واجه أحد الشبّان تلك الصدفة الصغيرة بدوره.

"لقد وصلنا أخيرًا إلى ريجينا، يا سيد كينيث. إن واصلنا إلى نهر بريز وركبنا القارب، سنصل إلى قبرص بسلام."

"أحسنت."

كان هذا الشاب كينيث ديغوري، الذي أودع السجن بتهمة إخفاء وحش، ومحاولة قتل أحد زملائه، إضافةً إلى الاشتباه في قتله اثنين من خدمه.

لكن بفضل نفوذ جده الجبار، انتهى كل ذلك إلى تبرئته، واعتُبرت جرائمه "حوادث طارئة ناجمة عن ضعف مؤقت في قواه العقلية".

وهكذا، بعدما دفع كينيث كفالة ضخمة ليخرج من السجن إثر تخفيف كبير في مدة العقوبة، كان الآن في طريقه للهروب سرًّا إلى منطقة أخرى، متجنبًا أعين شخصيات العاصمة الإمبراطورية.

"ولكن… هل أنت واثق حقًا من الأمر يا سيدي؟ كان الكاردينال ديغوري في الأصل يتمنى أن تتوجه إلى الأناضول الهادئة."

"وماذا عساي أن أفعل في حصون ملاك الأراضي الرجعيين تلك؟ أنا ذاهب إلى الشمال. فالسيد الحكيم كان دائمًا يقول إن كل أسرار القارة تتجمع هناك في الشمال الخشن والحر."

رفع الشاب نظره بعينين حالِمتين شاردتين لبرهة، ثم استفاق فجأة والتفت إلى مرافقه.

"على كل حال، هناك شيء أردت سؤالك عنه منذ قليل. رأيت هذا يطير في الشوارع هنا وهناك، ما هو بالضبط؟"

كان في يد كينيث ديغوري منشور صغير.

"هذا…؟"

"لقد طار بفعل الريح ودخل في يدي مباشرة. أحسست وكأن أسرار العالم تدعوني إليها بكل سرور."

ضيق المرافق عينيه متفحصًا المنشور. لم يكن مطبوعًا بحروف رسمية، بل مكتوبًا بخط رديء على ورقة منسوخة:

"أسرار المستقبل التي ينقلها السيد الحكيم.

القارة على وشك مواجهة ألسنة جحيم مرعبة لا مفر منها!

اسمعوا! وحده المستيقظ سيفتح باب الخلاص المتلألئ!"

أومأ المرافق برأسه.

"آه، إنها حكاية الحكيم المجنون."

"حكيم؟" قال كينيث، وقد انتبه لأمر بدا مألوفًا له.

"نعم. إنه شخص مختل يزعم منذ سنوات أنه رأى الجحيم الذي أعده الله. ويبدو أنه الآن يقيم قرب مقاطعة المركيز فينسو هربًا من محاكم التفتيش. وبما أنه صار يوزع منشورات منظمة كهذه، فلا بد أن أتباعه قد ازدادوا عددًا."

راح كينيث يحدق في المنشور وهو غارق في التفكير، ثم بعد لحظات نطق فجأة بجملة غير متوقعة:

"اسمع، الرحلة إلى قبرص ملغاة. هيا بنا أولًا إلى مقاطعة المركيز بينيسيو."

"…ماذا؟"

ارتبك المرافق من هذا القرار المفاجئ، لكن الشاب ابتسم ابتسامة مستقيمة كاشفًا عن صف أسنانه البيضاء.

"أليس هذا شخصًا قضى وقتًا طويلًا يستعد للجحيم؟ لا شك أن عقله وبحثه سيكونان في غاية العمق، بل وربما بات قريبًا من أسرار العالم."

بعيدًا عن العاصمة الإمبراطورية، لم يكن بيت دوق أسين ليستثنى من مثل هذه الصدف الصغيرة.

"أليست هذه أول حفلة منذ زمن طويل؟ سيدتي… عفوًا، جلالة الإمبراطورة. هذه أول حفلة تحضرينها منذ عودتك، أليس كذلك؟"

كانت وصيفات الإمبراطورة إليزابيث يسرّحن شعرها، يحاولن جاهدات تحسين مزاجها عبر الأحاديث المرحة، لكن ملامحها بدت متبرمة على غير رغبة منها.

"سمعنا أن ملاك الأراضي من الأناضول سيحضرون أيضًا هذه المرة. حين يرون جمالك يا سيدتي إليزابيث، لا بد أنهم سينبهرون لدرجة يفقدون فيها توازنهم!"

"……."

قهقهات الوصيفات الخافتة سرعان ما أثقلها الصمت، إذ لم يتغير التعبير الجاد الجامد على وجه الإمبراطورة.

"بالمناسبة… سيدتي إليزابيث، يبدو أن زينة ملابسك اليوم بسيطة بعض الشيء. لا تتناسب ألوانها مع الحُلي الذهبية المعتادة التي ترتدينها، أليس لدينا هنا أي حُلي أخرى تناسبها؟"

وبينما كانت إحدى الوصيفات تبحث في صندوق المجوهرات، تدحرج فجأة إلى يدها قطعة صغيرة: بروش بسيط مرصع بكريستال أبيض كالثلج، لم تره من قبل.

"يا للعجب! منذ متى وهذا في الصندوق؟ سيدتي إليزابيث! أظنه مناسب تمامًا!"

ومن دون أن تنتظر الإذن، ثبتت البروش على معطف الإمبراطورة. لكنها سرعان ما لاحظت الوجوه الشاحبة لبقية الوصيفات، ففتحت عينيها بدهشة.

"…هاه؟"

'توقفي! أزيليه فورًا!'

'لماذا؟'

أشارت زميلاتها بملامح متشنجة وهم يحرّكون شفاههم بصمت:

'هذا… من نفايات السيدة إليزابيث.'

'نفايات… ها؟!'

كانت "نفايات الإمبراطورة" هي الأشياء التي تُركت على حالها تتدحرج في الغرفة، لكن إذا تجرأ أحد على لمسها دون إذن، نزل عليه غضبها فورًا.

حين أدركت الوصيفة الأمر، التفتت مرتجفة تتوقع صرخة عقاب، لكن…

"……."

على غير المتوقع، لم تقل الإمبراطورة شيئًا، بل أدارت رأسها بفتور وأغمضت عينيها.

عندها ترددت الوصيفة، لا تدري إن كانت تزيل البروش أم تتركه، لكنها قررت الانسحاب مسرعة.

***

حتى القصر المنعزل في ركن أسين لم يسلم من هذه المصادفات المتزامنة.

فبعد أن أرسل كايين تابعه المخلص رودريغو في مهمة، وصلته بعد قليل أنباء عاجلة من روحه.

"…أمسك به الحرس؟"

لماذا؟

بعد أن جمع كايين شذرات الأخبار التي نقلتها الروح المتقطعة، فهم أخيرًا السبب: رودريغو كان قد حصل على سم نادر من "هوكشي" بناءً على تعليمات كايين، لكن في طريق عودته انقطع حبل الكيس فسقطت القارورة على الأرض، لتقع مصادفة في عين أحد الحراس المارين.

"ما هذا الحظ السيئ؟ أيعقل أن يحدث أمر كهذا؟"

رودريغو هو الروح الوحيدة التي يحتفظ كايين بسيطرة كاملة عليها، ولذا كان عليه أن يجد طريقة لإخراجه من السجن، مما يعني صداعًا جديدًا.

"لقد خرب الأمر تمامًا… ماذا سأفعل حين يأتي أبي؟"

وبينما يفكر، أخذ الصبي يعبث بلا مبالاة بلوحة الشطرنج التي تراكم عليها الغبار منذ زمن.

***

حين يبدأ أحدهم في لفت انتباهك يوميًا فجأة بعد أن كان وجوده عاديًا، فهذا أيضًا يمكن اعتباره أثرًا من آثار عبث الصدف.

هذا ما حدث مع لومييه، نائبة قائد فرسان القديس مارسيا وكبيرة محققي محاكم التفتيش، إذ وجدت نفسها منذ مدة لا تستطيع صرف نظرها عن القديسة الصغيرة التي ترافقهم على مضض.

"أمر القائد في المقدمة بالتوقف قليلًا. أوقفوا المسير وانتظروا!"

"انتظار!"

"انتظار!"

حين نقل أحد الفرسان الأمر مسرعًا، التفتت لومييه إلى من معها من المحققين وأعطت تعليماتها:

"توقيت مناسب. لا يوجد جدول عاجل الآن، استريحوا كما تشاؤون."

أومأت القديسة سيسلي التي كانت بجوارها، وقفزت بخفة من على حصانها.

ورغم أن منصبها الرسمي يساوي منصب لومييه، إلا أن تصرفاتها كانت دومًا خاضعة لتوجيهات لومييه بشكل كامل، وهو ما كان مفاجئًا للأخيرة التي توقعت نزاعًا طفوليًا بينها وبين الأميرة الصغيرة.

"عجبًا، لا يبدو عليها الإرهاق أبدًا."

شعرت لومييه بالإعجاب في سرها، إذ حتى المحققون المتمرسون كانوا يلهثون من المسير الطويل، بينما الفتاة تحافظ على وضعية مثالية دون أدنى خلل، وكأنها مخلوق كامل الصنع من كريستال نقي.

وبينما كانت لوميير ، محققة محاكم التفتيش، تحدق شاردة في القديسة الصغيرة، إذا بتلك الأخيرة تمشي بخطوات سريعة نحو مقدمة الموكب. وهناك، وكأن الأمر كان مرتبًا مسبقًا، التقت بالأمير لوغان القادم من الأمام.

وكما هي الدماء لا تكذب، فقد كان الأمير هو الآخر متأنق المظهر، كأنه لوحة مرسومة.

"أخي لوغان."

"أهلاً، سيسلي. هل تريدين الصلاة معي؟"

"حسنًا."

وهكذا، ضمّ الشقيقان أيديهما معًا ، وأغمضا أعينهما في نفس المكان.

"آه…!"

في تلك اللحظة، لم تستطع لوميير إلا أن تشك في عينيها.

هل كان مجرد وهم؟ لكنها أحست وكأن هالة مقدسة متلألئة تنبعث من الشقيقين وهما يصلّيان.

"أيها ... العظيم، احفظ أبناءك."

"وتفضل بالعناية بأخي موريس حتى يشفى سريعًا."

وصل إلى مسامعها ترتيل الشقيقين الهادئ.

ولسبب ما، شعرت لوميير بيقين داخلي: إن كان الحاكم، الناظر إلى جميع الكائنات، يطلّ في هذه اللحظة على العالم اسفله، فلا شك أنه الآن يثبت نظره عليهما فقط!

في هذه اللحظة، كانت القديسة الصغيرة والأمير لوغان يقفان حقًا في مركز دوران العالم.

"لا، ما هذه الأفكار الغريبة التي تراودني الآن…؟"

أفاقت لومييه فجأة، وهزّت رأسها بخفة.

قهقهة خفيفة—!

أكان ذلك محض خيال؟ بدا لها وكأنها سمعت همسات ضحكات أطفال أبرياء بالقرب من أذنها.

2025/08/10 · 0 مشاهدة · 1687 كلمة
نادي الروايات - 2025