دالمرج الأخضر يمتد مد البصر، نسائم الرياح الرقيقة راحت تراقص أوراق الشجر في رفق، الطيور حلقت في السماء وقد جعلت زقزقاتها تطرب أي مستمع ولهان، السلام كان شعار هذه الطبيعة الخلابة، لا شيء يدل على شر أو دمار، لكن كما قيل فإن دوام الحال من المحال.

من اللامكان ظهرت تلك النيران الأرجوانية، بحجم قبضة اليد، في البداية راحت تدور حول نفسها في بطئ ولكن أيضا في تسارع مستمر، فجأة توقفت عن الحركة لثوان لم تطل قبل أن تتمدد بغتة لتنفجر في دوي مكتوم مطيحة بكل ما حولها ومخلفة فجوة قد زال أي أثر للحياة فيها.

الأغبرة ارتفعت و انتشرت لثوان قبل أن تخمد وتسكن وأما الفجوة ففي وسطها قد وقف في شمم، خصلات شعره البيضاء تطايرت بلا انتظام، اللهب يحيط به دون أن يؤذيه أو حتى يثير اهتمامه، أدار رأسه في برود فيما تمتد يده اليمنى مزيحة بعض الشعيرات المتمردة عن مجال بصره

" إذا هذا هو العالم بعد ألف عام حقا لا يبدو مكانا سيئا وإن لم أكن أحبه كثيرا "

خرجت الكلمات من فمه بلا اهتمام حقيقي، لم يكن يشغل باله سوى موضوع واحد لا غير، الإنتقام، من أجله تحمل تلك العزلة القاسية في ذلك الفراغ، جميع من تم إرسالهم فقدوا عقولهم أو ابتلعهم ذلك المنفى الإجباري دون رحمة، ما عداه، رغبته وإرادته التي يمكن وصفها بالأسطورية كانت سبب بقائه حيا في ذاك المكان.

صبر طويلا وتحمل ما لا يطيق البشر على تحمله، لكنه الآن حر ولسوف يسخر كل لحظة ألم تعرض لها ليذيقهم إياها.

ابتسامة متوعدة تراصت على شفتيه وهو يتخيل منظر أعدائه بنظراتهم اليائسة وصرخاتهم حينما تلتهمم نيرانه، كان قد أقسم في نفسه، لن يرحم أي شخص حتى لو كانوا نساء، شيوخا أو حتى أطفالا.

هنا تذكر أمرا أزال سعادته محولا إياها إلى ضيق

" لندع كل هذه الخواطر السعيدة جانبا، صحيح أن تمكنت من الهرب ولكن حقيقة أن ألف عام قد مضت لن تتغير، بالتأكيد أجيال قد مضت وجميعهم قد أصبحوا دون شك من الأموات "

زفر في غضب فيما توسعت دائرة اللهب الأرجواني وكأنها تجسد مشاعره على أرض الواقع، الحشائش تيبست قبل أن تتفتت لتحمل الرياح غبارها بعيدا، كل ما تلمسه تلك النيران أصبح أثرا بعد عين، الدائرة راحت تتسع حتى بلغ قطرها ما يقارب التسعة أمتار.

في النهاية عاد الإرتياح إلى وجهه وهو يهمس في شماتة

" لا بأس ربما ليس ما كنت أمله ولكن على الأغلب لهم نسل من أصلابهم، ما دام الأجداد قد ذهبوا فلا بأس بأن يتحمل الأحفاد المسؤولية "

بدا أن هذه الفكرة العجيبة قد أزالت جل همه

" مهما استغرق الأمر فلن أتوقف حتى أثأر منهم جميعا ولو احتجت إلى ألف عام أخرى "

فرقع أصابع كفيه في حماس وهو يهم بالمضي قدما نحو الأفق .

" مر زمن طويل "

من خلفه ارتفعت، مجبرة إياه على التوقف والإستدارة في حدة، مهما مر الزمن وتغيرت الفصول لا يمكن أن ينسى هذا الصوت وتلك اللهجة، شريط الذكريات راح يعمل تلقائيا عارضا له من أعمق نقطة في داخله، عشرات الصور ظهرت واختفت أمام بصره خلال ثوان.

الأعين الأربعة تقابلت والمشاعر تضاربت، طرف حمل من الخزي والحرج أمثال ما يملأ الأخر من كره وبغض

" بالفعل كانت مدة طويلة "

تمتم الحاصد في برود اختلط بالمقت وهو يتأمل ما تركت فرشاة الدهر على وجه محدثه، لم ينجح تماما في كتم الدهشة التي تولدت داخله لكنه لم يظهرها على ملامحه قالها ليصمت بعدها ماسحا الواقف أمامه ببصره، قامته القصيرة كانت أبرز سماته طبعا بعد بشرته الخضراء المتغضنة، التشققات والجروج بدت جلية على أذنيه الطويلتين، اليدان الهزيلتان المنتهيتان بعدد من المخالب السوداء، فكه العريض فيما أنيابه الأربعة البارزة قد اصفرت لتطابق ثيابه البنية المهترئة والتي كانت أقرب إلى الأسمال البالية، عصا خشبية لم تكن في حال أفضل هي ما يستند عليها في مشيه البطئ

" أعرف أن الغيلان تعيش أضعاف ما يفعل البشر ولكن صدقا لم أتوقع أنك ما زلت حيا يا ماهول "

تحدث ذو الشعر الأبيض سامحا لابتسامته الساخرة بأن تعاود الظهور من جديد ظل الغول القصير يقترب من الحاصد في بطئ وصمت حتى لم يبقى بينهما سوى بضع خطوات، هنا أفلت ماهول عصاه ليسقط على ركبتيه وهو يهتف من بين دموعه في فرح

" حقا أنا سعيد لأن أقابلك من جديد "

زالت الابتسامة الساخرة ليحل محلها الغضب ولا شيء سواه " توقف عن الحديث وكأننا صديقان "

صاح في قسوة لكن الأخر انحنى حتى كاد رأسه يلامس الأرض وهتف من جديد ولكن بلهجة نادمة حزينة هذه المرة

" أعرف أن هذا لا يساوي شيئا ولكن بكل ما في قلبي ونفسي أنا حقا آسف جدا "

ظهر الإشمئزاز على وجه الحاصد فيما شد على قبضتيه

" آسف!، وفي ماذا يفيدني إعتذارك هذا الآن؟، هو حتى لا يساوي الخرق البالية التي ترتديها "

تحدث ماهول وكأنه لم يسمع

" أدرك ذلك، منذ ذلك اليوم والندم والعار يقتلني على ما فعلت، وثقت بأنك ستعود يوما لهذا لم أبقي وسيلة تساعدني على أن أظل حيا إلا واستخدمتها، شكرا للرب لم أخشى شيئا مثل أن أموت قبل أن ألتقيك "

رفع ذو الشعر الأبيض حاجبه في استخفاف وهو يفرقع إصبعيه لتتحرك ألسنة اللهب محيظة بالغول القصير في إحكام

" ولسوء حظك فإنك لن تبقى طويلا بعد هذا اللقاء "

جلس ماهول على ركبتيه وتحدث في لهجة امتلأت صدقا

" أعرف ذلك وأنا أستحقه حتما، أقدم حياتي لك بطيب خاطر ولكن أرجوك دع الأخرين وشأنهم "

لم يعلق الرجل بل اكتفى بأن عقد ذراعيه أمام صدره في لا مبالة لم تمنع الغول من أن يواصل

" كلنا مجموعة من الأوغاد، أتفق معك في ذلك ولكن البقية قد أصبحوا جميعا تحت التراب، أعرفك جيدا وأدرك بأنك ستوجه إنتقامك نحو نسلهم وهؤلاء حقا لا دخل لهم فيما حصل " "

ربما ولكن كونهم يحملون دم أولائك السفلة في عروقهم سبب كاف لإبادتهم بالنسبة لي "

" أرجوك، أعد التفكير، لو كان الحراس أحياء لما اعترضت ولكن أحفادهم لم يفعلوا أي شيء سيء لك حتى تسعى خلفهم "

" ماهول ، إن كنت تزعم أنك تعرفني حق المعرفة فلابد من أن الجواب معروف لديك ، لست أبالي بكون هؤلاء الأحفاد لم يكونوا قد ولدوا بعد، إبادة نسل أولائك الخونة هي انتقامِ ولن أحيد عنه أبدا "

كانت لهجته القوية إيذانا بإنهاء باب النقاش، أسقط في يد الغول وهو ينظر إليه في أسى " لقد تغيرت كثيرا "

" عفوا؟، غدرتم بي ثم نفيتموني إلى ذلك الفراغ الموحش بلا رحمة ثم تقول بأن تغيرت؟ ، هذه مزحة سخيفة أيها الأحمق "

خيم الصمت بينهما فيما دائرة اللهب تضيق شيئا فشيئا حتى أن ماهول راح يتعرق بلا توقف

" توقعت ذلك، لا أستطيع لومك ولكن عشت على أمل ولو ضئيل بأنك ستعيد التفكير "

" ما أفكر به هو الطريقة التي ستضمن للجميع أكبر قدر ممكن من الألم والعذاب "

أتاه الرد الصادم على الفور، سالت الدموع في غزارة من عيني ماهول لكن بدا من الواضح أن العفو ليس في قاموس الحاصد اليوم، في النهاية وبعدما كادت النيران تطبق عليه مد الغول يده ذات الأنايب إلى جيب داخل ثيابه ليخرج منه حقيبة جلدية صغيرة قذفها نحو الحاصد والذي تلقفها في بساطة وإن بدا عدم الفهم جليا على وجهه

" لا أعرف إن كان ما أفعله الآن صحيحا أم لا ولكن أرى في وضوح أن الظلام قد تلبسك وأنك لن تتوانى عن سفك أنهار الدماء كي تصل إلى إنتقامك، هذه البطاقات دليلك وستساعدك في الوصول إلى الأحفاد "

ظهر الشك والريبة على وجه ذي الشعر الأبيض فيما أحنى الغول رأسه في خزي

" وهل تعتقد بأن سأصدق هذه المسرحية السخيفة؟ ما هو الفخ الذي تحاول إيقاعي فيه هذه المرة أيها الكاذب ؟ "

" يعلم الرب بأن قلبي يبكي دما على هذه الخطوة ولكن أنا أشتري الأرواح البريئة التي ستقضي عليها في طريق إنتقامك، بهذه سيكون الوصول إلى أهدافك أسرع وبالتالي عددا أقل من الضحايا الأبرياء في رحلتك المظلمة في الثأر "

ظل الحاصد يرمقه في ريبة وشك هو واثق أن من ماهول لن يساعده هكذا خصوصا وهو يكره سفك الدماء، هناك هدف خفي من هذا التصرف وهو غير قادر على معرفته بعد

" هل تعتقد بأن خدعتك ستنطلي علي ؟ ، بطاقاتك هذه ستقودني إلى أشخاص عاديين ليس لهم علاقة بالموضوع وأنت تأمل بأن لن أمسهم بسوء، أليس كذلك؟، عبثا تفعل لو صدقت هراءك هذا فإن سأقتل من ستدلني عليه البطاقة حتى لو عرفت يقينا بأن لا دخل له ، هل ما زلت مصرا على هذا السخف ؟ "

" أقسم لك أن لا خدعة في الأمر، لقد انتشروا في جميع الأنحاء والبلدان والبحث عنهم سيتغرق منك الكثيرمن الوقت والجهد ولعلمك العديد من هؤلاء الأحفاد قد ورثوا قوا كبيرة ولن يكونوا خصما سهلا كما تعتقد "

ابتسامة وحشية ابتسمت على وجه الحاصد خلعت قلب ماهول وهو يجيب

" هكذا أفضل، كلما كان الطريق أصعب أصبح للنصر طعم ألذ "

" لقد تملكك الشر للأسف "

همس الغول وقد فقد القدرة على مواصلة الحديث

" شكرا على هديتك، والآن وداعا "

فرقع بإصبعيه من جديد لتندفع النيران الأرجوانية نحو ماهول لتلتهمه دون رحمة، ووسط الصرخات الهائلة المتألمة التي انطلقت وقف الحاصد يتأمل المشهد وعلى وجهه ابتسامة متشفية. لم يمضي الكثير من الوقت حتى تراجعت قوة الصرخات تمهيدا لأن تخفت قبل أن تختفي تماما، هنا رفع ذو الشعر الأبيض اصبعه لتنطفئ ألسنة اللهب على الفور فيما لم يبقى من الغول سوى كومة من الرماد سرعان ما تطايرت في كل مكان مع هبوب الرياح، مزق الحاصد الحقيبة الجلدية ليتأمل مجموعة البطاقات، بين الثلاثين والأربعين كان عددها، بدت له أكبر من بطاقات اللعب العادية، على خلفيتها نقشت زخارف عديدة ومختلفة لكن جميعها تشابهت بكون السواد قد غطى وجه البطاقة فما عاد أحد بقادر على تميز الصورة.

وضعها الرجل في جيبه قبل أن يلقي نظرة خاوية على المكان الذي كانت فيه كومة الرماد قبل أن تتطاير ليهتف بلهجة باردة " وداعا يا مكن كنت صديقي في أحد الأيام "

وفيما كان يسير مبتعدا راحت النشوة تتصاعد داخله دون هوادة، لقد حقق أول انتقام له في سلسلته، هو يدرك جيدا أن هذه الرحلة ستكون طويلة وستأخذ ربما منه المتبقي من عمره ولكنه قد عزم أمره، سيمضي في طريق الإنتقام حتى النهاية، وفيما راحت ابتسامته تتسع لم يكن أحد يدرك بعد مقدار الأسى والدمار الذي سينشره هذا الرجل في طريقه نحو الإنتقام .

نهاية الفصل

( استفسار بسيط للقراء الأعزاء هل تريدون الفصول بطول يتراوح بين 1200 إلى 1600 كلمة أم أنكم تفضلوا أقصر )

2019/05/06 · 559 مشاهدة · 1628 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024