في رشاقة وخفة تحرك ذاك الغزال الصغير خلف أمه بسيقانه الرفيعة وجسده الضئيل، محاولا قدر الإمكان ألا يبتعد عنها كثيرا وسط الحشائش الكشيفة والتي لا يقل ارتفاعها عن نصف متر.

رحلتهما القصيرة انتهت بوصولهما إلى حافة النهر العملاق، وبينما يتقدمان ليرويا ضمأهما لم يدر بخلدهما أي شيء عن تلك العينين الصفراوين المتابعتين لهما في اهتمام قبل أن تبدأ بالتحرك نحوهما بلا صوت تقريبا.

رفعت الغزالة الأم رأسها مديرة إياه في عدة اتجاهات لثوان، لم ترى ما يسوء فعادت إلى الإرتشاف الهادئ وهي غير مدركة بأن الخطر أصبح على بعد بضع أقدام منهما.

حدث كل شيء بغتة، انشق سطح الماء دون مقدمات ليندفع نحوهما، بطول ثلاثة أمتار، تمساح داكن اللون بعكس أسنانه البيضاء اللامعة تحت ضوء الشمس، بدا من المستحيل على الأم وصغيرها تجنب الموت القادم نحوهما.

فتح الزاحف فكه عن آخره ممنيا النفس بالوجبة الدسمة التي حصل عليها، ولكن وقبل أن يطبق على الصغير ارتطمت به تلك الكرة السوداء والتي انطلقت من بين الحشائش قربهم، لم تكد تفعل حتى انتفض جسد الوحش ليتحول بعدها إلى رماد مبعثر، أسرع الحيوانان في الهرب وهما لا يصدقان نجاتهما في حين ارتفع الصوت المتذمر قبل أن يبرز الرأس ذي الملامح المتضايقة من بين الزرع

" تستحق ذلك لإفسادك قيلولتي أيها الأحمق "

تمطط في كسل وهو ينهض واقفا فيما ينفض الأغبرة عن ثيابه

" مضى لي يومان وأنا أسير دون أن أجد أي تجمع بشري، ترى أين أنا الآن ؟ "

همس بينما يتقدم في خطوات هادئة من حافة النهر، جلس على ركبته ليتأمل انعكاس وجهه على سطح الماء، أمسك خصيلات من شعره الأبيض

" ربما لا يناسبني هذا اللون "

ولكن وقبل أن ينغمس في أفكاره أكثر، شعر بالهواء حوله يتحرك في قوة، الأغبرة انتشرت حتى اضطر لحماية وجهه بذراعيه، زئير هائل دوى من فوقه فرفع رأسه في تساؤل، على بعد عشرات من الأمتار في الأعلى رأه، كان طوله لا يقل عن عشرين قدما، الأجنحة السوداء القوية الضخمة، الجسد الذي يتأرجح لون جلده بين الأرجواني والأزرق الداكن، عيناه الحمراوان راحتا تبرقان في شغف، الفك القوي الممتلئ بالأنياب القاطعة بالإضافة إلى المخالب الحادة في نهاية طرفيه العلويين، الظيل الطويل المغلف بطبقة حرشفية قاسية، من جديد زئير كاف لخلع أقوى القلوب وأشجعها.

في صمت تبادلا النظرات وقد بدا أن الزمن قد توقف لوهلة، الوحش الطائر يزيد من سرعة رفرفة أجنحته وقد تعمد توجيه موجة الرياح الناتجة باتجاه ذي الشعر الأبيض والذي تلقى الهدية في بساطة ودون أن يتراجع قدر أنمله، باغت هذا الأمر الوحش ليندفع هابطا على مسافة قصيرة من الرجل هازا الأرض و مثيرا موجة تضاغطية هائلة لكنها من جديد لم تنجح في زحزحة الأخر من مكانه.

" مثير للإهتمام "

الصوت الحيواني المفزع والمتناسق مع مظهر الشرس للمخلوق الطائرفيما التزم الأخر الصمت

" منذ مدة طويلة لم أجد أي بشري يحاول الوقوف أمامي، جميعهم ينهارون ويستسلمون أو يحاولون الهرب، في النهاية لا فرق بين طعمهم"

ابتسم في سخرية كاشفا عن أنيابه التي لم تزل بقايا الدماء واللحم من وجبته السابقة بادية عليها تنهد الحاصد في برود قبل أن يستدير مبتعدا وهو يقول

" ليس لدي وقت للعبث معك يا هذا، اذهب وابحث عن بشري أخر يلعب معك "

صدمت الكلمات الجرئية غريمه والذي اتسعت عيناه في عدم تصديق وهو يتابع الرجل الراحل في بساطة، لثوان لم يتحرك وقد ألجمه الموقف، لكن ذلك لم يطل قبل أن تشتعل نيران الغضب في نفسه ليزأر من جديد ويضرب الأرض في عنف وهو يصرخ

" إنسان تافه يحاول السخرية مني أنا بلاكوس؟، لن أعطيك رحمة قتلك قبل إلتهامك بل سأتناول أطرافك واحدة واحدة وأنت على قيد الحياة "

لم يبدو أن الحاصد قد سمعه بل واصل سيره لتنفجر براكين الغضب أكثر ويندفع الوحش نحوه في سرعة

" أحمق "

خرجت من فم ذي الشعر الأبيض مقرونة بتلك البسمة الساخرة وهي يمل برأسه نحو الوحش الغاضب الذي تجمد في مكانه قبل أن يرتطم بالأرض في شدة

" ما الذي حدث ؟ "

خرجت من فم بلاكوس مذعورا وهو عاجز عن التحرك، لم ينتبه إلا والحاصد يقف أمامه وعلى وجهه ارتسمت أسوء شماتة شاهدها في حياته، فرقع خصمه إصبعيه في بساطة لتظهر أسفل الوحش دائرة من النجوم السباعية توسعت حتى أحاطت بهما

" هل اعتقدت أن لم ألاحظ أنك كنت تتبعني منذ فترة يا هذا؟ ، ليكن هذا درسك الأخير في هذه الحياة، كان بإمكاني قتلك منذ البداية بمجرد حركة واحدة ولكن أحتاج لبعض المعرفة لهذا لم أفعل، والآن أجب على سؤالي إن أردت ألا يطول العذاب

" كان يتحدث فيما عيناه تبرقان في وحشية أثارت رعب بلاكوس ودفعته للتساؤل عن كون أيهما هو الوحش ؟ " ما هي أقرب بلدة أو مدينة من هنا ؟ "

" ولماذا علي أن أخبرك ؟ "

حاول الوحش أن يبدو قويا غير مبال وهو يحاول عبثا التملص ضحك الحاصد في شخرية قبل أن يضيف

" معذرة يبدو بأن لم أستخدم الأسلوب الصحيح"

أنهى حديثه وهو يشير بسبابته نحو جناح بلاكوس الأسود، فجأة ارتفعت الصرخات المتألمة من الوحش الممدد أرضا وهي يشاهد جناحه يسحق دون رحمة، كان الألم فظيعا لا يطاق لكنه حاول إحتماله

" هذا يؤلم قليلا لا أكثر "

" كم هذا لطيف، الصغير يحاول أن يتصرف مثل الكبار"

لم يكد ينهي كلماته حتى عادت صيحات الألم مع تحظم الجناح الثاني دون تردد لهث بلاكوس وهو يسعى جاهدا للسيطرة على الألم، لكن تطورالأمر ليشمل طرفيه السفليين أنهى كل محاولة للمقاومة ودفعته لأن يهتف بصوت مبحوح

" هذا يكفي أرجوك، أقرب بلدة تبعد مسيرة نصف يوم من السير باتجاه الشرق، نعم هي صغيرة ولكن فيها العديد من الخدمات "

" ما اسمها ؟ "

" رانك، بلدة رانك "

بدى أن الإجابة قد باغتت الحاصد الذي ارتسمت الدهشة على وجهه للحظات مع سماعه للاسم لكنه سرعان ما سيطر على ردة فعله وهو يتمتم

" يالها من صدفة عجيبة "

" صدفة؟! "

تساءل بلاكوس في قلق لكن ذي الشعر الأبيض سرعان ما عاد إلى ابتسامته وهو يجيب

" لا تقلق ليس بالموضوع المهم وبالذات لك "

بعض لحظات من الصمت خرج الصوت المترجي

" الآن أجبت على سؤالك فدعني أذهب "

صفق الحاصد بكفيه مرة واحدة لتندفع من الأرض مجموعة كبيرة من السلاسل الحديدية أحاطت بجسد بلاكوس مثبتة إياه بشكل أكبر فيما تحولت الأرض أسفله إلى ما يشبه السائل الأسود

" شكرا لك، والآن سينتهي كل شيء "

" لكنك وعدت ! "

" وعدت بإنهاء عذابك لا إطلاق سراحك "

اتسعت عينا الوحش في صدمة ولكن وقبل أن يهتف بأي شيء، جذبته السلاسل بغتة إلى داخل السائل الأسود، صرخة أخيرة انطلقت من حلقة قبل أن يختفي تماما وإلى الأبد، أما الحاصد فقد استدار باتجاه الشرق

" حسنا، يبدو بأن سأنفذ وعدي أولا قبل أن أن أبدأ إنتقامي "

همس في خفوت فيما الذكريات تندفع في رأسه مع الكثير من المشاعر، الألم، الغضب،وحتى الكره، العديد من الوجوه ظهرت و اختفت من أمامه لتضاعف ضيقه أكثر

*************************************

المكان : بلدة رانك، من أسرة لاكارث

الوقت: الثامنة مساء

" هذا أفضل ما يمكن"

خرجت هذه الكلمات مقرونة بضحكة واسعة من فم ذلك الرجل القصير القامة والجسد المكتنز، تأمل تلك العينين الأثمتين والفم الصغير القابع أسفل ذلك الشارب الرمادي الكث والذي راح يداعبه بيده اليسرى فيما انشغلت يده الأخرى في حمل كوب من الشراب الفاخر، استدار مواجها الثلاثة الجاسين والذين كانوا هم جميع المتواجدين معه في قاعة الجلوس الفخمة.

ابتسم أولهم والذي كان شاب كستنائي الشعر، نحيل الجسد وذي قوام ممشوق، في نهاية العقد الثاني من العمر في شماتة وهو يضع كفه على وجنته اليمنى

" كانت فكرة خبيثة يا أبي، ضربنا عصفورين بحجر، تخلصنا من ذلك الرجل وألقينا السبب على تلك الحادثة "

تحدثت المرأة ذات الشعر الطويل الأشقر والمنسدل على كتفيها في نعومة و المسترخية على المقعد المجاور له

" كان أفضل يوم في حياتي "

" عزيزتي آنا هل هذه الطريقة المناسبة للحديث عمن كان زوجك "

في سخرية شارك الرجل الثالث في الحديث وهو يمسح على صلعته في هدوء مطت شفتيها في احتقار وهي تجيب

" كف عن السخف يا سيد آلن، تعرف جيدا أن والدي هو من أجبرني على الزواج من ذلك الشخص الرجعي وصاحب الأفكار الساذجة وإلا ما كنت لأفعل أبدا، لهذا لم أتردد في مشاركتكم حينما صارحتموني بفكرتكم "

ضحك الرجال الثلاثة وكأنهم استمعوا لنكتة مسلية قبل أن يضيف صاحب الشارب

" تمثيلك دور المرأة المنهارة والحزينة على زوجها الفقيد ساهم في تصديق الكثيرين كون الأمر مجرد حادث لا أكثر، براعتك في التمثيل يا سيدتي تثير الإعجاب "

عبثت في شعرها في نوع من الكبر وهي تمنحهم ابتسامة واثقة دون أن تكلف نفسها الرد

" حسنا، ماهي خطتنا التالية ؟ "

" علينا التمهل، السيدة ستواصل القيام بما تفقنا عليه من لعب دور المكلومة للفترة القادمة في حين ننشغل نحن بسحب الأملاك الخاصة، الأموال وحتى الأراضي في بطء شديد وبعد ستة أشهر نغادر جميعا هذا المكان المقفر وقد إغتنينا لنعيش في إحدى المدن الكبرى في نعيم مدى العمر"

هز الثلاثة الأخرون رؤوسهم في تأييد وهم يبتسمون وقد تخيلوا هذا النعيم الذي تحدث عنه السيد لاكارث.

" لو رأيتم ملامحه حينما فهم كل شيء وهو في لحظاته الأخيرة، صدقا لقد شعرت بالأسى عليه "

تحدث الأصلع في استخفاف لينفجر الأربعة ضاحكين هذه المرة وهم يجهلون أن الأمر لم ينتهي بعد

نهاية الفصل

2019/05/09 · 500 مشاهدة · 1444 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024