" هذه هي رانك إذا "

تمتم الحاصد وهو يتأمل البلدة الهادئة من مكان وقوفه فوق إحدى التلال المطلة عليها، بين عدد من المرتفعات البسيطة تمددت رانك على المساحة المسطحة، المنازل ذات الأسقف المصنوعة من القرميد الأحمر، الشوارع المرصوفة بالحجارة البنية الباهتة، حتما لم تكن كبيرة ولكنها في نفس الوقت ليست بالصغيرة أيضا.

ابتسامة باهتة ارتسمت على محياه وهو يهبط التل نحو الطريق المعبد

" من يصدق أن مثل هذا الأمر يحدث في بلدة هادئة "

همس بالعبارة فيما كان يضع أولى خطواته على الطريق الصغير والذي لم يكن فارغا، عدد من العربات التي تجرها الأحصنة كانت بين الغدو والرواح، القرويون المثابرون انشغلوا في حرث أراضيهم في همة وجد، الكل يتحرك في نشاط ، راقبهم بأعين خالية وهو يسير في خطوات هادئة لا أثر للعجلة فيها.

" ألم يجدوا السيد بلانس بعد ؟ "

اخترقت العبارة المتوترة سمعه مثيرة إهتمامه، أدار رأسه ليلاحظ مجموعة من الناس قد وقفوا على جانب الطريق، وجوههم القلقة دلت في وصوح على أن ما يتناقشون فيه ليس بالأمر الهين، انحنى متظاهرا بفحص حذائه تاركا لأذنيه التقاط ما تستطيع

" كيف هذا؟ ، القصة لا تصدق، لم نسمع بأي وحش بري قد هاجم أحدا بالقرب من البلدة طوال العشرة أعوام الماضية، هل أنت واثق مما تقول "

لهجة الشك بدت واضحة جدا في كلامه، مما دفع الأخر بأن يهتف وهو يلوح بيده وكأنه يدافع عن قضية خاسرة

" صدقوني هذا ما قالته السيدة زوجته للحراس، هم تفقدوا المكان ووجدوا بقايا الدماء تلطخه بالإضافة إلى أثار لأقدام أحد القطط البرية، صحيح أنهم لم يعودوا يعيشون بالقرب من هنا ولكننا ما نزال نراهم مرة كل بضعة أعوام بالذات في فترة بداية الربيع كالوقت الآن "

ظل عدم الإقتناع على وجوه الجميع ليتنهد في ضيق قبل أن يتابع

" أعرف أنكم غير مقتنعين ولكن هذا ما حدث "

هتفت إحدى النساء

" ومنذ متى تخطف القطط البرية الجثث، هي بالعادة تلتهمها مباشرة وتترك البافي بعدما تشبع، هذا أمر غريب "

أيدها العديد في قولها، في تلك اللحظة تنبه الحاصد أن نظرات عدد منهم قد تركزت عليه فيما الهمسات والهمهمات تصاعدت ولكنه لم يتوتر بل اكتفى بخلع حذائه وقلب محتوياته فيما هتف في سخط

" تبا لهذا الحصى الذي لا يجيد شيئا مثل التسلل إلى الأحذية وجرح الأقدام "

ختم كلامه وهو يعيد الفردة إلى قدمه قبل أن يعاود السير في بساطة، تقدم بضعة أمتار قبل أن يتوقف ويستديرنحو الواقفين في حذر ليجدهم قد عاودا التركيز في نقاشهم، ابتسم وهو يمضي قدما ويقول

" شيء مثير، القصة القديمة تعيد نفسها لكن لا داع للتسرع لما لا أستغل الفرصة للحصول على بعض المعلومات فأنا في حاجة إليها "

راح يصفر من بين شفتيه مصدرا لحنا قديما لطالما أحبه حتى بدا لمن يراه كشخص رائق البال بلا أي مشكلات، لم يطل الطريق به حتى وصل إلى بوابة خشبية صغيرة اصطف الناس في صفوف أمامها فيماتراص على جانبيها عدد من الرجال الذين دلت دروعهم والسيوف المتدلية من أحزمة خصورهم على كونهم حراسا، لفت انتباهه تلك الراية المغروزة خلفهم بالعلم الأرزق التي تحمله، نمز مذهب كان الشعار المرسوم عليها وعلى صدور الحراس، بحث في ذاكرته ولكنها لم تسعفه، يبدو بأن الألف عام من السجن تركت الكثير من التغير حتى على مستوى الدول والبلدان.

تنهد وقد أدرك أنه يفتقد إلى المعلومات عن العصر الجديد ولربي هي نقطة ضعف لا يوجد ما قد يؤدي إلى هلاكه مثلها، وقف في دوره بين الصفوف وهو يستمع إلى الحراس الذين يفحصون أوراق الواقفين قبل أن يسمحوا لهم بالدخول، انعقد حاجباه وقد أدرك أنه سيكون في مشكلة لكونه لا يحمل أي شيء يثبت هويته ولكن على عكس ما اعتقد اشتعل التحدي داخله، وحينما حان دوره

" اسمك، وسبب قدومك للبلدة ؟ "

مضت لحظات قبل أن يجيب

" فاليس زيكس، لا شيء خاص فقط أنا في رحلة وكانت هي أقرب بلدة في خط سيري من أجل الحصول على بعض الراحة"

لم يجد صعوبة في اختلاق الاسم، طبعا لم يكن حقيقا ولكن فاليس ريكس الأصلي بالتأكيد هو تحت التراب الآن ولن يعترض

" فاليس! اسم غريب، من أين أتيت ؟ "

سأل الحارس وه يضيق عينيه

" من مكان بعيد جدا أشك حتى أنك تعرفه "

لم ترق الإجابة للحارس لكنه قرر تجاهل الموضوع واكتفى بأن مد يده وهو يقول

" أوراقك من فضلك "

" للأسف أضعتها منذ مدة في حادث ولم أجد فرصة لاستصدار غيرها "

" هذا مثير للإهتمام "

هتف الحارس فيما الشك يتضاعف في ملامحه قبل أن يهتف "

اسم مجهول وبلا أوراق أو أمتعه، يبدو بأنك محتاج إلى تفسير هذا أيها السيد "

لم يكد يتم حديثه حتى تحرك عدد من الرجال المسلحين ليحيطوا بالحاصد فيما بدأ الناس بالحديث وبدا أن التوتر قد ساد

" هي قصة طويلة "

" لا تخف سنستمع إليك فلدينا كل الوقت "

أجاب الرجل فيما راح المحاصرون يقتربون حتى أوشكوا على إمساكه و ..

" ما الذي يجري هنا ؟ "

انطلق هذا الهتاف بشكل مفاجأ لكنه أجبر الحراس على التوقف والاستدارة نحو مصدره، الدرع الذي كان يرتديه على صدره بدا بلونه الأسود مختلفا عن باق الحرس، قامته الطويلة بدت واضحة، الوجه القسيم والذي تركت الحياة على بشرته القمحية عددا من الندوب التي زادته قوة وهيبة، العينان البنيتان المشعتان قوة وشكيمة، شحب وجه الحارس الذي انتقل فورا من الجلوس إلى الإنتصاب والاحترام, تقدم صاحب الدرع الأسود وهو يعاود السؤال في اهتمام

" ما كل هذه الضجة يا شارو؟ "

هتف شارو في سرعة محاولا شرح ما حصل بشكل مختصر ولكنه لم يكد ينتهي حتى صرخ الرجل في وجه

" أيها الأحمق، كم مرة علي أن أشرح لك معنى أن تكون من الفرسان؟ ، هدفنا هو تثبيت الأمن ولكن مع احترام كامل للناس، توقف عن التصرف وكأنك تحقق في جريمة "

" ولكن يا .. "

" بدون لكن، هل وجهه من قوائم المطلوبين لدينا ؟ "

هز شارو رأسه نافيا في نوع من الخزي ليهتف القائد في حسم

" إذا هذا كل شيء ولا معنى لكل ما يجري "

أنهى كلماته وهو يلتفت إلى الحاصد الذي ظل يتابع في صمت

" أعتذر عما بدر في حقك يا سيدي و أرجو أن لا يكون ما حدث قد ضايقك كثيرا؟ "

ابتسم الحاصد وهو يهز رأسه بالنفي ليواصل الرجل

" لا أقصد الإساءة ولكن هل لك أن تخبرنا عما جرى لك فقد نستيطع المساعدة ؟ "

" ليس هناك الكثير، العربة التي كنت أسافر فيها قد تعرضت لحادث لهجوم مؤسف من بعض قطاع الطرق، هلك البقية ولكن تمكنت من النجاة وإن كان الثمن أن قد فقدت كل ما أملك، مال، أوراقي وحتى أمتعتي "

أنهى حديثه وهو يمثل الأسى على وجهه في حين تحدث القائد في عجلة

" هل رأيت المهاجمين؟، هل كان أي منهم يرتدي أربطة سوداء على ذراعه ؟ "

تظاهر ذو الشعر الأبيض وكأنه يتذكر قبل أن يصيح بغتة

" أجل، أجل، عدد منهم كان كذلك، ترى هل تعرفهم ؟ "

تمتم القائد في سخط

" أوغاد القبعات السود ما زالوا في غيهم، لن أتركهم دون عقاب

" استدار نحو رجاله وهتف "

أرسلوا لقواتنا المتواجدة في المناطق القريبة للإستعداد للتحرك نحو الوادي، يبدو بأنه رغم الحملة السابقة ما يزال هؤلاء اللصوص بحاجة إلى درس أخير، هذه المرة لن نرحمهم، هل كلامي واضح ؟ "

صاح الحراس في قوة قبل أن يتحرك عدد منهم لتنفيذ أوامره في حين عادت العينان الغاضبتان باتجاه الحاصد

" سيدي، استرح واطمئن، لن يمضي ما حدث لك وللأخرين دون عقاب رادع، كن واثقا من ذلك، بالنسبة لأوراقك فيمكنك زيارة قاعة البلدة غدا، سأتحدث مع المسؤول فيها ويمكنهم إصدار أوراق بديلة لك، يمكنك الإستراحة في نزل الورقة الزرقاء، هو نظيف ورخيص وبالنسبة للنفقات فخذ هذه لعلها تعوضك شيئا مما فقدته "

ختم كلماته وهو يناول الحاصد حقيبة جلدية صغيرة لم يكد يمسكها الأخير حتى بدا رنين القطع المعدنية داخلها واضحا

" ما أطلبه منك هو أن تبقى في البلدة حتى أعود فسأحتاج شهادتك ضد من سنوقف بالإضافة إلى معرفة أمتعتك إن كنا محظوظين "

هز الحاصد رأسه في موافقة، منحه القائد ابتسامة مشجعة قبل أن يسرع بالإنصراف مع عدد من الجنود

" القائد أليكس يبالغ كثيرا، لم نعثر على السيد بلان بعد والآن يسعى لحملة تأديب ضد بعض الأوغاد، هذا كثير "

" لن يتغير أبدا، حس العدالة الذي لديه لا يمكن إيقافه "

وصلت الهمهمات إلى أذن ذي الشعر الأبيض مما دفعه إلى الإبتسام في تلقائية وهو يهمس

" الحمقى أمثاله موجودون في كل العصور على ما يبدو "

لم تشغله المسرحية السخيفة التي جرت، كل ما يهمه الآن أن موضوع إفتقاده إلى الأوراق الشخصية والمال قد تم حله في ضربة واحدة، ياله من حظ.

توقف عن السير للحظة فيما أعاد عقله دراسة ما جرى، هل هو فقط محظوظ، أم أن الأمر أكبر مما يبدو؟ ضايقه الخاطر الأخير فهز رأسه سعيا في طرده قبل أن يعاود المضي في طريقه ولكن الشك لديه لم يتوقف، راح يحاول إشغال عقله بالتفكير في أمور أخرى ذات أولوية أكبر

" أحتاج إلى المعرفة، المعلومات هي ما ينقصني، واضح أن التغير في الألف عام كان كبيرا وأنا الذي توقعت أن حرب السنوات العشرة هي أقصى ما حدث"

أخرس نفسه عن الكلام وهو يتأمل رانك لأول مرة، يمكنك رؤية الناس يملؤون الطرقات، ليس البشر فحسب بل هناك العديد من الأجناس الأخرى، الجنيات، الأقزام وحتى الرجال السحالي يتحركون في بساطة ويختلطون بالناس ابتسامة هادئة وجدت طريقها إلى شفتيه، لو فكر أحد بمثل هذا المشهد قبل قرون لتم وصفه بالمخرف، يبدو بأن التغير ليس دائما للأسوأ.

لم يستطيع تميز ذلك حينما ألقى نظرة على البلدة من بعيد ولكنه الآن حينما يمشي وسط شوارعها يستيطع أن يقول بثقة أن هذه البلدة جيدة التنظيم، البيوت المتناسقة تراصت على جانبي الطريق وقد كان حسن الإهتمام باديا عليها، النباتات الخضراء والأشجار زرعت في العديد من الأماكن مانحة المكان غطاء أخضر لا بأس به، قنوات المياه وتصريفها بنيت في عناية لتعطي شكلا جماليا، كما أن النظافة موجودة بقوة، على الرغم من طول الطريق الذي قطعه لم يجد أبدا قطع المهملات والقمامة ملقاة في إهمال حتى أوعية جمع الفضلات و بقايا الأطعمة متوفرة.

" هذه البلدة ينتظرها مستقبل مشرق إن استمرت في هذا المسار"

وجد نفسه يتمتم لا إراديا، دهش للحظاات قبل أن يهز رأسه في استغراب، بدت له المنطقة التي يسير فيها الآن أشبه بسوق البلدة، المحال التجارية تراصت على جانبي الطريق عارضة أنواعا مختلفة من البضائع والمنتجات، الزحام تضاعف ليصل إلى مرحلة الأمواج البشرية، نجح في العبور ولكن بعد وقت لا بأس به.

في النهاية وصل إلى منطقة خالية من المباني، الأرض كسيت بالأخضر متخذة شكلا بيضاويا فيما حفت الأشجار الأطراف لتعطي رونقا لطيفا للمكان، المقاعد الخشبية المريحة توزعت في عناية، يمكنك رؤية الأسر المنتشرة هنا وهناك فيما الأطفال يركضون في سعادة. بالوسط بالضبط رأى نافورة مياة بيضاء اللون تشكل فوقها قوس مطر صغير، الطيور بأنواعها تحط من أجل شربة سريعة من الماء المتلأليء من بعيد، ألقى جسده على أقرب مقعد خشبي فيما ترك لرأسه تأمل السماء الصافية، شعور غريب ينتابه ولكنه لم يتعجب، حينما تبقى سجينا بمفردك لألف من الأعوام في مكان لا يوجد فيه سوى درجات السواد، تبقى رؤية هذه المناظر بالأمر العجيب.

أغلق عينيه في صمت حتى بدا لمن يراه أنه يسترخي براحة بال لكن هذا لم يكن سوى أكبر بعد عن الحقيقة.

الظلام يحيط به من جديد ولكن على عكس السابق لم يتوتر أو يتحرك بل ظل في مكانه عاقد الذراعين وكأنه ينتظر، كم مضى من الوقت؟ ، لا معنى للزمن في هذا الموقع، صوت الخطوات الهادئ ارتفع من خلفه، استدار في بطئ لتسقط عيناه على القادم.

2019/05/11 · 524 مشاهدة · 1806 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024