الفصل 2: مضى وقتٌ طويل، أيها الأوغاد (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حلم.
بشكلٍ أكثر تحديداً.
كانت ذكرى عن ماضٍ أقدم.
ذكرى أتمنّى أنَّها لن تعود مرّةً أخرى.
بيئة حالكة السواد، عالم من الفراغ.
إذا نظرت لوقت طويل، ستشعر بإنعدام الإحساس.
الإحساس بالوقت، الإحساس بالبيئة، الإحساس بالذات.
تدريجيًّا.... سيختفي منطق المرء، و لن يبقى في عقله سوى الجنون.
لن يبقى في عقل المرء سوى العالم حالك السواد.
في النهاية، لن يصيب عقله سوى الأنكسار، و يصبح دمية خالية من الإرادة.
كانت طفلة صغيرة تجلس في الظلام الدَّامِس، واضِعةً رأسها على ركبتيها.
في الصمت الذي لا ينتهي، يمكن سماع صوت شهيق متقطِّع.
مصدر الصوت لم يكن سوى الفتاة الصغيرة.
ملابس رثَّة، جسد هزيل من شدة الجوع، و مع ذلك، لم يكن من الممكن إخفاء اللون الفريد لشعرها الأبيض.
مع تدفق السائل الشفاف من عينيها، يمكن رؤية لون العيون الفريد.
مزيج بين البنفسجي و الأزرق، و الأكثر غرابة هو إختلاط الإثنين ببعضهما البعض.
الشعر الأبيض الجميل كان يتدفق نحو خصرها.
بدت كما لو أنّها تبكي.
في الظلام القاتم، لم يكن هناك أحد بجوار الفتاة.
حتّى مع بكائها، لم يواسيها أحد.
أنا خائفة.
إستمر الصمت لفترة، و ما تمّ سماعه بين الحينةِ و الأخرى، لم يكن سوى صوت شهيق الفتاة بينما تحاول كبح دموعها.
كان ذلك عندما ...
هاهاهاها...!
صوت ضحكةٍ كسر الصمت، لا، لقد كان صوت ضحكاتٍ جماعية.
كاهاهاهاها...!
صوت مشوه يزعج السمع.
هدير الضحكات كان كصوتٍ خارج من أعماق الجحيم.
غطّت الفتاة أذنيها بينما كانت ترتجف خوفاً.
لقد بدأ مرّة أخرى.
قامت الفتاة بالرثاء لنفسها، مُتمَنِّيَةً إنتهاء هذا الكابوس.
و للأسف، لم يقتصر الأمر على ذلك فقط.
بدأ العالم يضيئ بنورٍ مشؤوم.
ظهرت وجوهٌ مخيفة في الظلام، مع إبتسامة عريضة — مضيئةً بلونٍ دموي، تشبه الهلال.
أنار ضوء وجوههم المشؤوم البيئة بشكلٍ كئيب.
- هاهاهاها! لما تقاومين للحياة؟ تريدين تقديم منفعة للعالم؟ إذاً قومي بالإختفاء! آنى لمخلوق بشع مثلك طلب العيش؟ كاهاهاها!
صوتٌ هزّ العالم بادياً كالهدير خرج.
كاهاهاها!
أصوات الضحك المشؤومة ملأت الأركان.
- كافحي! هيا! قومي بالكفاح! تمامًا كالحشرة التي أنتِ عليها! تنتظرين الهلاكَ الذي سيحل عليكِ، نهاية قصتك البائسة... اااه~ إنه يجلب الفرح على قلبي!
- الحقوق؟ آنى لبشعة مثلك المطالبة بحق العيش؟ هيهيهي! كواهاها! هاهاهاها—!!
مع رنين الضحكات، بدأت سلسلة من الكلمات تملأ الأنحاء.
كان الأمر كاللعنة.
دفنت الفتاة الصغيرة رأسها بين قدميها أعمق، بحثاً عن مهرب من هذا الكابوس.
‟... أرجوكم.. توقّفوا "
صوتها الجميل خرج كالهمس، بالكاد يمكن سماعه.
صوت طفلة نقية، لم يتم تلويثها بمظالم العيش بعد.
في هذا العالم، لم يعطيها أيٌّ من الوجوه الضاحكة إعتباراً.
إرتجف جسدها بلا حسيب ولا رقيب.
صوت الضحكات يعلوا، اللعنات زادت و لم تخبوا.
- فتاةٌ صغيرة ملعونة~ لعنتها مخيفة مجنونة♪~!
فتاةٌ صغيرة ملعونة~ لعنتها مخيفة مجنونة ♪~!
- لما المقاومة لما العويل ~ يمكنك الموت فقط و الرحيل ~!
فتاةٌ صغيرة ملعونة ~لعنتها مخيفة مجنونة!
- لماذا البؤس لِمَا المعاناة، يتوقف التوسل، تتوقف المناجاة! هاهاهاها!
كانت وجوه الشياطين تدور حول الفتاة كمجموعة تلعب، يضحكون و ينشِدون أغنية.
الأمر كإجتماع الأشخاص حول الساحرة و يستعدون للقيام بإحراقها.
مع إقترابهم، خافت الطفلة الصغيرة و حاولت الوقوف.
جسدها بالكاد تحرك، و تعثّرت، حتّى مع هذا، مدفوعة بالخوف، قامت بالهروب.
بدأت الفتاة الصغيرة بالجري في الظلام القاتم.
لا يهم كم من مسافة قطعت، لم تلاحظ نهاية الأفق الأسود.
مهما مضى من زمان، لم تصل لأي مكان.
لم تستطع رؤية أي شيئٍ أمامها.
لم يوجد سوى فراغ لا نهاية له عبر الأفق.
في هذا الفراغ الأبدي، الجنون و الهوس سيبتلع الذات.
لقد كان ذلك الخوف.
مرّ الوقت و هي تواصل الرّكض، لكن مهما إبتعدت، صوت الضحك لم ينقص.
على العكسِ من ذلك، بدا كما لو أنّه زاد.
حتّى مع ذلك، واصلت الركض بكلّ قوتها.
كانت سرعتها تتناقص بسرعة.
جسدها مبلل بالعرق، سواء من التعب أو الخوف.
تعثرت الفتاة بينما تسقط الدموع من عينيها، لكنّها صرّت على أسنانها و وقفت.
جسدها مليئ بالجراح، تدفّق الدم من ركبتيها.
كم مرّة ركضت بالفعل؟
كانت تركض لوقتٍ غير معروف، بلا إحساس بالإتجاه أو الهدف.
قامت بالركض فقط، على أمل الحصول على شيئٍ ما.
سقَطَت و تعثَّرت، في بعض الأحيان بالدوار شعَرَت.
في أحيانٍ أخرى أحسّت بالرغبة في تقيؤ ما في جسدها.
و لكن ماذا سيخرج من جسدها الهزيل، و الذي كان بلا طعام أو مأكل لفترة طويلة؟
حتّى لو أرادت ذلك، لم يكن من الممكن لها تقيؤ أي شيء.
جسدها أصبح شاحباً بالفعل.
لكن مع كل هذا... لم تتوقف الفتاة.
لم تقم بلوم الظروف، أو الإستسلام ببساطة.
مهما كانت عدد المرّات التي وقعت بها، نهضَت مرّةً ثانية.
هذه المرّة لم تكن إستثناءً.
بشهقة قوية، كما لو كانت تجمع الهواء عبر رئتيها، واصلت الجري.
هي لن تتوقف.
كان لأنه أمامها، رأت نوراً ساطع.
في كثيرٍ من الأحيان، عند مواجهة الفراغ و الوحدة، عند مواجهة اليأس، ذكائنا و قوتنا لن تكفي.
هناك أوقات كتلك حيث لا يمكن رؤية نور في الأفق، و لن تجد الحل مهمل قمت بالتفكير.
و رغم كونه يبدوا غريبًا، فقد كان الأمل و الإرادة فقط من يمكنهما جعل المرء يستمر.
الإرادة هي ما يجعلك تقوم بإختراع الأمل وسط اليأس، و جلب إجابة جديدة، عندما لا تجد الحل.
في الوقت الحالي، كان ما يدفع الفتاة للجري شيئٌ لا يكون إرادة، شيئٌ لا يكون مقاربًا للأمل.
اليأس، و الخوف العميق.
لقد كانت يائسة للهروب، حتّى لو عنى ذلك إنهيار جسدها.
الهوس، التوقعات، خيبات الأمل، غريزة البقاء.
بكاهِلٍ مُثقل بوزن لا يمكنها حمله، هربت الفتاة من يأسها.
واصَلَت الطفلة الركض فقط.
أي مكان غير هذا المكان، حتّى لو كان في المجهول، فهو أفضل.
أقنعت ذاتها بهذا، في خضم صراعها الأبدي مع خيبتها.
- سأصل، فقط القليل!.
مثابرتها كانت مثيرة للإعجاب حقاً.
النور، شيئاً فشيئاً، بدأ يقترب.
الجهود لا تخذل المرء أبداً.
و هذه الفتاة، تستحق المكافأة على جهودها.
مع ذلك، هناك أشياءٌ حتمية في العالم.
تماماً في اللحظة الّتي كادت أن تدخل فيه عبر ذاك النور الساطع.
إختفاء.
أمام عينيها اللامعتين، أمام نضالها اليائس، إختفى النور.
كان الأمر كما لو أنَّ العالم سخِر من جهودها.
كيهياها! كواهاها! هاهاهاها—!!
بادرت الوجوه الّتي لاحقتها سابقاً — بعد إختفائها المؤقت، في الظهور.
كما لو أنهم رأو شيئاً مثيراً للشفقة، ضحكوا كالمجانين بدويٍّ مخيف.
لا... لا، أرجوكم لا!.
كانت أعين الفتاة مليئة باليأس.
الخوف، الإرتباك، خيبة الأمل و الإرهاق.
مشاعر عديدة يمكن رؤيتها في عيونها الجميلة.
لقد وصل جسدها لحدوده بالفعل منذ وقتٍ طويل.
سقطَت على الأرض بحسرة.
عضّت شفتيها، الدموع جعلت بصرها ضَبَابِيًّا.
مع الدماء الّتي غطت جسدها، تم تجسيد لوحة للوحة فنيّة مأساوية.
عبر العالم المظلم في الفراغ و الأفق، مكان واحد كان مضائًا بلون أحمر دموي.
وجوه غريبة ذات إبتسامات متشققة كالهلال يمكن رؤيتها.
كانت الوجوه تطير حول شخص ما كالجماهير.
شعر أبيض كالثلج، ملابس رثَّة، جسد مجروح بشدة.
الدماء تتقطر عبر الجسد، منطقة الصدر إلى وسط الجسد حمراء.
الأذرع كانت مشوهة، الأظافر بالكاد متمسكة بجلد الفتاة، و يمكن رؤية الإلتهاب و اللحم المتعفن.
كل ذلك، و ناهيك عن الأقدام التي كانت محترقة في بعض أجزاءها.
بعض الأماكن في الأذرع و الأقدام متقرِّحة، تكشف عن العظام البيضاء.
العيون مميزة اللون ضبابية، الدموع تتساقط من محجر العينين لدرجة الجفاف.
لم يعد من الممكن لها البكاء حتّى.
تمت تغطية المنطقة بمزيج، بين الأحمر النقي، و الأسود القاتم.
الدم يغطي المكان بالكامل، و الوجوه الحمراء كانت تندمج مع الظلال.
مع تسليط الضوء على الفتاة، يمكن رؤية تعابيرها بوضوح.
و كان ذلك التعبير هو ببساطة …. خيبة أمل.
مع إندماج الوجوه المشوهة مع الفراغ، كان مصدر الضوء الوحيد يخفت شيئًا — فشيئًا.
بدأ الضوء يختفي مع شكل الفتاة في الظلام.
تراجعت للخلف خوفًا من الظلمة، غير راغبة في الوقوع نحو الألم.
لا مزيد، لا، لا أريد الألم، لا أريد، لا أريد، لا أريد لا أريد!!
تراجعت بصعوبة، اليأس يتملكها.
لكن لم تتحقق رغبتها، كانت الظلال تتسلل نحو قلبها بالفعل.
شكلها كان بائسًا — كما لو كان العالم يسدل الستار عن قصتها.
و لم يكن ذلك سوى، مجرد قصة أخرى في هذا العالم.
قصة فتاة صغيرة، حيث تم الكشف عن لوحة فنية تجعل المرء يدرك قساواة هذا العالم.
و لو كان هذا كابوساً، ألم ترغب في الإستيقاظ؟
أن تستيقظ منه بسرعة، لقد كانت أمنية لم تتحقق.
و للأسف — بالنسبة لها، كما لو أنَّ دلوًا من الماء البارد سقط عليها بعد الشعور بالدفء، لم ينتهي قط.
مهما مرّ الوقت و جرى، بدا الأمر كمرور الأبدية.
الدلالة الوحيدة على إحساسها بالعالم ، لم يكن سوى شعور الألم و الجوع المستمر، في هذا المكان الذي كان بؤسها.
- شخصٌ ما.
مع تزايد الضحكات الشيطانية صمتًا و سوادًا، ظهرت أيدي سوداء من داخل الظلمة و قامت بإمساكها.
حاولَت إبعاد الأيدي، لكن لم تستطع لمسهم، بينما الأيدي يمكنهم ذلك.
تغطيها بالكامل، تزحف الفتاة في محاولة للهرب، لكن ذلك غير مهم.
مهما حاولت الهروب، إلتصقت بها الأيدي كالظلال التي تلحق بالمرء و تلازمه طول حياته.
- أرجوكم أنقذوني!.
توسّلت الفتاة و حاولت المقاومة، لكن لم يكن أي شيئٍ نافعاً.
في مواجهة الظلام، الهروب و طلب المساعدة لا فائدة منه.
لطالما كان الهروب شيئًا عقيمًا.
الشيئُ الوحيد الذي يمكن للمرء فعله هو قبول الحقائق و مواجهتها.
كانت هذه أخر مرّة توسلّت الفتاة الصغيرة بشأن شيئٍ ما.
في ذاكرتها الضبابية، تلك هي أخر مرّة طلبت فيها المساعدة.
لم تقم بذلك بعدها مرّة أخرى.
إختفى جسد الفتاة في الظلام.
بقيت عيونها الجميلة فقط واضحة، ببريق غريب يسيطر عليهم.
يمضي الوقت بينما يعيش المرء، و يتعلم.
كان الأمر نفسه بالنسبة لها.
العيون المشرقة كانت تبدوا باهتة.
لا شيء موجود.
كلّ ما تمّ رؤيته هي عينان معلّقتان في الهواء.
بارد.
تلك العينان المُشَوَّبتان ببرودة صامتة.
لقد أشعرت المرء بخوفٍ عميق.
مرّ الوقت، و ما كان شيئٌ يتغيّر سوى العيون المعلّقة.
في السابق، كانت تشعر بمظالم العالم و تحاول عدم قبوله.
غضب، خوف، كراهية.
مرورًا بالتجارب، يذهب المرء للقمة، أو لأسفل.
حتّى لو لم يرغب الإنسان في ذلك، فهو سيتغير.
سواء كان بمبادرة منه، أو من قِبلِ الظروف الخارجية.
سيتم تغييره بلا شك.
بعد هذا، ماذا بقي للفتاة الصغيرة؟.
لم يبقى سوى البرودة و اللامبالاة.
عيونها البراقة كانت تضيء برتابة.
عيون فقدت كلّ الأمل بشأن العالم.
مرّ الوقت نحو الأمام بلا رحمة، و إندثرت الأيدي السوداء عن المنطقة المحيطة.
ظهر جسد الفتاة، و كان تعبيرها لا مبالي.
لم تتم رؤية الفتاة الصغيرة بأي مكان.
كان كما لو أنَّ السنين مضت بها و جرت.
على عكس الملابس الرثَّة سابقًا، فقد كانت التغييرات جَلِيَّة.
ملابس أنيقة تتناسب مع العيون الفريدة من نوعها، الشعر الأبيض كبياض الثلج، و بشرة مشرقة تم الإعتناء بها.
على عكس الجسد الهزيل في السنين المبكرة، فقد كانت حالتها الصحية مذهلة بحق.
في صغرها، لقد كانت ترتجف و تبكي.
الفتاة الصغيرة كانت تبكي وحيدة حتّى تجف دموعها.
حاولت مساعدة الأخرين، على أمل أن يرد لها أحدٌ الجميل يومًا ما.
كانت تضيء عالم الأخرين، على أمل أن ينقذها أحد كما في القصص الخيالية، و يكون نورها.
و للأسف، لم يأتي أحد.
التوسل، الترجي و التمنِّي، ترجَّت المساعدة من أيّ أحد ، لكن كان إستقبال الجميع لها بارداً.
في بعض الأحيان، مهما ناجى المرء و إستجدى، مهما إعتقد أن نية الشخص الأخر غير خبيثة، فلن يلقى سوى أذانٍ صماء.
لقد كان العالم مثل هذا، في كثيرٍ من الأحيان، لن يساعدك أحد.
لم يكن الجميع طيبين، و أكثرهم في الواقع ليسوا سوى منافقين.
بسيط و لا يحتاج للشرح.
حقيقة واضحة — من الصعب قبولها.
إنه كالإدراك الذي بزغ في ذهنها.
لقد قبلت بهدوء تلك الحقيقة و لم تدحضها.
البكاء و الإستجداء لن يغيِّر أي شيء.
أصوات البكاء و الشهقات بدأت تخف.
لم يتِمّ سماع أي صوت بعدها.
سواء كان صوت البكاء، أصوات الضحك أو الكلمات، أو حتّى الوجوه المشوَّبة بالشيطانية.
لقد إختفوا جميعًا بالفعل.
في مرحلة بلوغها، كانت تقف وحيدة.
تراقب الفراغ القاتم بلامبالاة.
رغم أن التعاون مع الأخرين له فوائده، فقد كان ذلك مسألة إختيار.
عندما يصبح وجود الأخرين ضروريًا للشخص، فهذا يعني الإعتماد عليهم.
الإعتماد على الأخرين هو دليلٌ على الضعف.
العالم مليئ بالخيانة و الخداع، لذلك لا تثق في أحد بسهولة.
الفتاة في منتصف الظلام تمشي ببطئ.
لم يكن هناك أحد معها، سواء كانت السخرية أو ضحك الأخرين، فقد إعتادت عليهم منذ زمنٍ طويل.
إخدع أعدائك قبل أن يخدعوك، و إطعنهم قبل أن يطعنوك.
بالنسبة لي ....
- هكذا فقط سأنجوا.
في مراحل عيشها، كانت يائسة للهروب من الظلام، أرادت شخصاً ما بجانبها.
هل هي بحاجة لوجود أحد الأن؟
لقد كانت تسير في الظلام وحيدة.
هي لم تقم بإعطاء إجابة، و فضَّلَت الصمت.
لم تدع أحداً يلامس قلبها.
و ما كان يدفعها للمضي قدُمًا مجهولاً.
تمشي نحو الأمام بصمت، تثابر دائمًا و تكافح.
لم ترغب في أن تفهم الأخرين.
و في نفس الوقت .... لم ترغب في أن يفهمها أحد.
هكذا عاشت الفتاة.
و هذا ما فهمته من الحياة.
كراك!.
في الظلام بينما تسير للمجهول، تمّ سماع صوت إنكسار الزجاج.
لقد كان الظلام يتبدّد.
إنكسر العالم المظلم.
كما لو كان سراباً، بدء العالم يختفي شيئاً فشيئاً.
لكن حتّى مع ذلك، مشت الفتاة بتعبير فارغ.
لم يكن أيٌ ممّا حدث من شأنها.
تحطّم!.
تدمّر العالم تماماً و سطع بنورٍ ساطع.
و قبل أن تعرف، شعرت بالدفئ يملأ جسدها.
ــــ※ ※ ※
إستيقاظ.
فتحت فتاةٌ ذات شعرٍ فضي لامع عينيها ببطئ.
شعرت بالضبابية عندما حاولت أن تستفيق، كان العالم غير واضح.
كان هناك شعورٌ بالبلل على خدّها.
عندما رفعت جسدها للجلوس، لاحظت أنّها كانت وحيدة.
لم يكن هناك أحد.
‟... هل كنتُ أبكي؟ "
لمست الفتاة وجهها للتحقق، و لامس سائل شفّاف أصابعها.
كان الشعور بارداً.
لقد كانت بطبيعة الحال دموعها.
بقيت شاردة الذهن لفترة.
لماذا رأيت هذا مرّة أخرى؟.
حلم عن ماضٍ بعيد.
لا، بالأحرى، لقد كان كابوساً.
كابوسٌ لم ترد أن تراه مرّةً ثانية.
بلا وعيٍ أو إدراك من العقل، يبدأ الجسد بالإرتجاف قليلاً.
أنا ...
ذكرياتٌ مريرة ومضت في الذهن.
ألم الماضي، كراهية، إزدراء و خوف.
كانت مجموعة من العواطف الكئيبة، ندوبٌ لن تزول أبدَ الدّهر.
بالكاد تمَّ تذكّر أي ذكرة إيجابية.
لا أريد المرور بذلك مرّة أخرى.
عضّت شفتيها لمحاولة إبقاء الوضوح حاضراً.
‟ لن أكون هكذا مثيرة للشفقة كما الماضي "
لم أعد ضعيفة.
لن أهرب بعد الأن.
في هذا العالم، الضعيف لن ينجوا.
عالم حيث يمكن للجميع الخداع.
عالم حيث يمكن لأي شخص أن يصبح مجنونًا.
عالم حيث يمكن لأي شخص أن يكون حليفًا، حيث يمكن لأي شخص أن يصبح عدوًا.
الشخص الأكثر موثوقية لم يكن سوى نفسك.
ثق بنفسك أكثر من الجميع، ثق بقوتك الخاصة أكثر من الجميع.
هكذا كيف سيصبح المرء أقوى.
لا تنسي أبدًا.
الأقوى فقط من يفوز، الأكثر مثابرة، الأكثر تطرُّفًا، و الأكثر إستعدادًا.
في هذه الحياة المجنونة، يجب على المرء أن يكون أكثر جنونًا.
كانت نظرتها حازمة، إنزلقت قطرة من الدم الطازج عبر شفتيها.
قامت بذلك لإبقاء وضوحها حاضراً.
حاولت الفتاة إستعادة رباطة جأشها، مع مرور الوقت، بدء جسدها المرتجف سابقاً في الهدوء.
مسحت الدم على شفتيها بمنديل أخرجته من سترتها.
بعد أن إستعادت عقلانيتها بالكامل، بدأت تلاحظ البيئة.
كان حجاب الظلام لا يزال يغطي العالم.
هل نمتُ كلّ هذه المدّة؟.
يبدو أنّها نامت أطول مِمّا تعتقد.
لا يبدو كمنتصف اللّيل، كان العالم مضيئاً بعض الشيء.
‟ يبدو أنّه مُقتبِلُ الفجر "
بعد المراقبة لبعض الوقت، قامت بالنهوض و مدّدت جسدها المتصلّب.
سقوط.
سقط شيئٌ ما بإنسيابية من على جسدها نحو الأرض.
ربّما بسبب شرودها، لم تلاحظ الشيئ الساقط حتّى وقوفها.
معطف طويل أسود اللّون.
لقد كان نوعاً من الثياب هي على دراية به.
ليليث كرونوس، القائدة الحكيمة، ذات القلب الفولاذي، الثعلبة الماكرة، لقد عرفت بعدّةِ ألقاب.
لم يقترب منها أي شابٍّ من قبل في حياتها لهذه الدرجة.
و تلك الفتاة كانت مغطّاة بمعطفِ شابٍّ يافع أثناءِ نومِها.
لقد خذلت حذرها حقّاً، ماذا لو كان يملك نوايا سيئة تجاهها؟.
لم تكن الفتاة الشابّة و النائمة بقادرة على فعل أي شيئ في مثل ذلك الموقف.
لكن لا يوجد شيئٌ مثل ‟ماذا لو" في هذا العالم.
‟ مصدر الدفئ السابق، لا تقل لي ..."
هزّت رأسها لإبعاد الأفكار المشتتة من ذهنها.
لا يمكنها الأن سوى حمل المعطف و شكر الفتى لاحقاً.
‟ في الواقع، إن فعلتُ هذا بتلك الطريقة فربّما... "
ومضت الأفكار و بدأت التروس داخل عقلها بالإشتغال.
‟ فوفوفو ~"
تردّد صدى ضحكة لطيفة و خبيثة في القاعة الفارغة.
كان وجهها تُشوِّبه إبتسامة تشبه الثعلب.
بتذكّرِ العاصفة و الحلم، بدأت ليليث في البحث بهدوء عن بقعة لتجميع و ترتيب أفكارها المعقّدة.
بينما لم تلاحظ، يبدوا أنهم في خضم نومها قد خرجوا من العاصفة بالفعل.
كان هناك بعض الخدوش في السفينة، لكن لحسن الحظِّ لا أضرار شديدة.
ربّما هذا يعني أنّ باقي الرحلة سيكون أمناً.
‟♪هم~ هم~ همهم~♪ "
سمعت صوت همهمة لطيف يخرجها من أفكارها، حاولت تحديد إتجاه الصوت و وجَّهَها ذلك نحو الشخص الواقف في مقدّمة السفينة.
تجاهلته سابقاً بإعتباره مجرّدَ شخصٍ أخر حاول البحث عن السكينة في الصباح.
لكنّها الأن إستطاعت تحديد مظهره من مسافتها الحالية.
'... إنه ذاك الفتى!'
لسببٍ أو لأخر، تحمّست الفتاة الشابة بعض الشيء عند تحديد مظهره.
كانت ستبحث عنه لاحقاً للإستفسار عن شيئٍ ما، لكنّها لم تتوقع لُقياهُ هنا.
هل ذلك من محاسن الصِدف أم مساوئِها؟ هي لم تفكر في ذلك كثيراً.
فكّرت في ما يجب عليها فعله و كيفية الإستجابة للفتى لبعض الوقت في صمت.
من دون أن تدرك، كانت شمس الصباح قد أشرقت بالفعل.
بالعودة للوقت الحاضر.
كان ذلك كلّ ما حدث بالنسبة لليليث، بالطبع، لم تضع في حسبانها إنجراف حديثها مع الفتى ليون نحو إتجاهٍ غريب.
بعد أن ضحك الإثنان من القلب للقلب، حدّقا في بعضهما بشراسة قليلاً من دون كلمة واحدة.
و هكذا تماماً، حلّ الصمت على جهتهما.
قبل أن يكسره ليون.
‟... سيدتي الشابة-"
‟ أعتقد أنّ علينا التوقف عن هذا الأن؟ "
قالت ليليث بإبتسامة صادقة.
‟ من بعدكِ أولاً "
ردّ عليها بنفس التعبير.
‟تسك، لم تنطلي عليه! "
فكّرت في صمت بينما شخرت ببرود داخلياً.
‟ على أي حال، من الغريب أنّ أحداً لم يصل بعد "
حدّق ليون في الأفق، و على وجه التحديد، كان نظره مسلّطاً على الجزيرة التّي باتت واضحة تماماً.
ضخمة، مهيبة، عملاقة، شاسعة، سمِّها كما شئت، لكن لن تقول عنها صغيرة بأي حال من الأحوال.
‟ ماذا تقصد؟ "
‟ أعني فرق الإستطلاع "
‟ هذا قصدك؟ بالتفكير في الأمر، أنت محق"
من المفترض أنّهم قاموا بطلب إستغاثة في الأمس، كان من المفترض أن يصلوا بالفعل الأن.
كان هناك شيئٌ ما في غير محلّه، هل إصطدموا بمشكلة غير متوقعة؟ أم أنَّ الأخبار لم تصلهم؟.
‟ هوهوهو~، ماذا لدينا هنا، هل فكّرتم بالأمر بالفعل~؟ "
ما بدى كصوتٍ عجوز مستمتع بشيئٍ ما خرج.
تفاجأت ليليث بعض الشيء داخلياً، لكِنّها لم تظهر أياً من مظاهر الإرتباك على وجهها.
‟ يو، خرجتَ أخيراً؟ "
كما لو لم يكن متفاجئاً، خرجت كلمات ليون بطبيعيّة.
منذ متى هذا العجوز هنا؟ وجهه لم يظهر مثل هذا التسائل.
'أوه؟ أنظروا إلى هذا الشّقي؟' فكّر الرجل العجوز، هل تمّت قرءاة نواياه؟ مستحيل.
‟ يوهوهوهو، يبدو أنه تمّت ملاحظة هذا العجوز~ "
‟ من الصعب عدم الملاحظة عندما يتربّص عليك رجلٌ عجوز منذ الفجر، أليس كذلك؟ "
إبتسم العجوز بمرارة كما لو تمّ كشفه.
'هذا الشّقي! من يتربّص عليك، هاه؟! '
‟ كانت القشعريرة التي تسير عبر جسدي مخيفة حقاً، ليس إمرأة أو فتاةً شابّة من تراقب هذا السيد الشاب الوسيم، بل عجوز إنتهت صلاحيّته؟ ماذا إرتكبت هذه النفس الصالحة في الحياة للحصول على هذا؟ "
كان صوته كشخصٍ عاش مظالم الحياة جامّة.
الدموع إغرورقت بينما يقوم بمسحها.
حتّى أفضلُ الممثلين في الإمبراطورية سينحنون له إحتراماً بعرضٍ كهذا، أداءٌ يستحق الإعجاب!.
'إنه مزعج عندما يقوم بها لي، لكن من المنعش رؤية هذا على إنسيٍّ أخر!'
فكرت ليليث مستمتعة.
من الممتع دائماً رؤية مصيبة شخصٍ أخر.
لكن العجوز لم تكن له نفس الفكرة.
‟يا إبن العاهرة..! كان هذا العجوز سيتكرّم عليك بحضوره الموقر، لكنّك تقول منتهي الصلاحية؟! هاه؟! "
كان يريد التقدم لصفع وجهه لكن أمسكت به ليليث.
‟ سيدي، توقف، يجب أن تكون هادئاً! "
‟ أتركيني! صفعة واحدة! لا إثنتين! لو أعطيتني لحظات لأصفعه ثلاث مرّاتٍ فقط! "
لماذا يستمرُّ العدد بالإزدياد؟.
‟ هاه؟! موقّر؟! من؟! لو قال لي أحدٌ أنّك متسول لصدّقته بالفعل! و أنت تقول لي تكرمني بحضورك؟! موقّر مؤخرتي! "
حتّى هو تقدّم لركل مؤخرة العجوز.
وجدت الفتاة الشابّة نفسها بينهما و تمنعهما من العراك.
ألا تملكان أيّ خجل؟ أنظروا، النّاس يحدّقون بنا بغرابة بالفعل.
ترك ذلك الشقي جانباً، ألست في عمر جدي، أيها العجوز؟ على الأقل إحترم عمرك!.
تسائلت ليليث للحظة مع وريد ظاهر على صدغها ماذا سيكون مصير هذه المحادثة الغريبة.
بجدّية! توقف أيها العجوز! و أنت أيها الشقي أخرس فمك اللعين هذا!.
بعد كرٍّ و فر بين العجوز و الفتى ليون، هدئت الأجواء قليلاً.
‟ احم، مهم، أسف على إظهار مثل هذا المظهر، سيدتي الشابة "
‟... لا بأس، لا بأس، كلّنا نرتكب الأخطاء، لا خجل من مراقبة الناس في الفجر "
‟ هذا صحيـ- هاه؟! "
قالت الفتاة الشابّة بينما تضحك برقّة، مظهرها الساحر سيجعل قلب الشباب ينبض بعنف.
لكن في عين العجوز، كان مظهرها كالجلّاد المستعد لجلده.
لماذا كان عليك الضرب في النقطة الحساسة!.
لم أكن كذلك! إستمعي للناس قبل إعطاء حكمك أيتها السيدة الشابّة!.
أنا مظلوم، كله بسبب ذلك الشقي اللعين!.
'هذا لأنّك أفزعتني من قبل، هيهيهي~'
لم تقل أيّ كلام، لكن تعابيرها حكت عن شعورها.
طهّر ليون حلقه و سعل لجذب الإنتباه.
‟ مهم، احم، لا تقلق، أنا أسامحك أيها العجوز، فجزءٌ من الخطأ يقع عليّ أيضاً "
صدم العجوز داخلياً، لقد إعتقد أنه شقيٌ سليط اللسان، لكن ربّما أخطأ الحكم عليه؟.
في اللحظة الّتي كان سيشكره لتفهُّمه...
‟ لولا كوني وسيماً لهذه الدرجة لم يكن أيٌ من هذا ليحدث، لذلك أتحمّل بعض اللون "
كان يجب عليك فتح فمك، أيها اللقيط، هاه؟!.
إنسى ما قلت، هذا الشّقي إبن عاهرة!.
تفهُّم؟! هاه؟! تباً لتفهّمك و مسامحتك!
كاد يتقيئ العجوز الدم من الغضب!.
‟ على أيّ حال، بصرف النظر عن هذا، سيدي، أعتقد أنّك من وحدة الإنقاذ، أليس كذلك؟ "
لعدم الرّغبة في إستمرار المحادثة غير المجدية و مشاهدة معركة قبيحة بين رجلٍ عجوز و فتى شاب، سارعت ليليث و دخلت في صلب الموضوع.
أخيراً! أحدٌ ما هنا يعرف ما هي الأخلاق! شكراً لك سيدتي الشابّة.
‟... هذا صحيح، لقد وصلنا قبل ثلاث ساعات، لحسن الحظِّ أنَّ السفينة كانت قد خرجت من العاصفة بالفعل عند وصولنا "
‟ هذا يفسّر الكثير، لكن لا يشرح سبب التلصّصَ علي، ناهيك عن الحديث معنا "
إنه ليس تلصّص، إنها مراقبة، بصفتي رئيس وحدة الإنقاذ، يمكنني مراقبة الناجين، ألا يستطيع دماغك اللعين هذا فهم الأمر؟!.
رغم أنّه صرّح بالأمر داخلياً فقط، لكنه كان يبتسم من الخارج ببشاشة كجدٍّ يعلّم حفيده.
‟ كان السبب في البداية هو الحديث مع السيدة الشابّة، كنّا نريد شكرها، لكن تلقينا خبر كونها نائمة، لذلك إنتظرنا حتّى إستيقاظها"
-هيه، ما رأيك، أيها الشّقي؟ أنت لن تستفزّني هذه المرّة!.
-تسك تسك، أياً كان.
تواصل العجوز و الفتى بصرياً كما لو يقولان لبعضهما شيئاً من هذا القبيل.
'لكن فكّر في الأم، على ماذا يشركها هذا العجوز الخرف؟'فكّر ليون بينما يحدّق في ليليث.
كما لو لاحظت نظراته، إبتسمت ليليث له كما لو أنّها لن تخبره بشيئ.
-حاول المعرفة بنفسك، أيها الشّقي.
إنزعج ليون من الداخل لكنه رد الابتسامة الودية بمثلها.
تباً لكِ، أيتها اللعينة.
‟ يمكن تخمين الباقي إلى حدٍّ ما "
خرج صوت ليليث بطبيعية، كما لو أنّها فهمت النقطة الرئيسية.
‟ ربّما خرج هذا العجوز و رأني في مقتبِلِ الفجر مرتاح البال، لذلك تمّت إثارة فضوله بشأني، لكنّه لم يرد الظهور بمظهر غريب لذلك بقي يراقبني "
أكمل ليون ما أرادت ليليث قوله، يمكن حتّى لشخصٍ الإعتقاد أنهما تشاورا قبل تنظيم هذا الحديث.
‟ بعد أن حسم أمره بالبقاء متربِّصاً، بقي يراقب، بعدها خرجت أنا، كان يريد الحديث معي، لكن بعد ذلك رأني مسرعة للحديث مع السيد الشاب ليون "
كان الموقف بتلك البساطة، ربّما هناك بعض النقاط التي لم يتم ذكرها، لكن هذا هو لبُّ الأمر.
تفاجأ العجوز بسرعة البديهة التي أظهرها هذا الصغيران.
'هذا يستحق التطلع إليه، أليس كذلك؟' فكّر مبتسماً.
‟ و هكذا ها نحن هنا، ربّما ما أخّره هو محاولة تهدئة الناس المستيقظين "
أخر صوتٍ خرج هو لليون.
‟ هل نحن محقّان؟ "
نظرا إليه بنفس الوقت، و عندما أراد الإجابة.
‟ نعم، نحن محقّان "
‟ من المستحيل أن لا يكون هذا هو الجواب "
أومأ كلّ منهما للأخر كما لو أنهما راضيين عن جوابهما.
... حسنا، ربّما يستحق التطلّع، صحيح؟.
هل فات الأوان على الندم؟.
نظر إلى السماء بدموع ساقطة من عينيه، فكّر في مدى حماقته لبدء محادثة مع هذان الشقيّان.