1 - الفصل 1: مضى وقتّ طويل، أيها الأوغاد (1)

الفصل الأول: مضى وقت طويل، أيها الأوغاد (1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنقيط~، تنقيط~، تنقيط~!.

قطرات المطر الباقية نزلت كما أصدرت صوتاً خفيفًا و هي تصطدم بالأرضية الخشبيّة.

ظهرت خطوطٌ مِن ضوء الشمس بين ثناية الحجاب الذي يغطي السماء المُنقشِعة.

السماء المظلمة و الملبّدة بالغيوم، شيئاً فشيئاً، بدأت تضيئ بلونِ شمس الصباح.

الأمواج الهائجة في ظلامِ الليل بدأت تتراخى و تتباطأ في وتيرتها الوحشية.

كما لو أن العاصفة الكارثية قبل ساعات مضت كانت مجرد سراب، سطعت شمس الصباح بجوٍ سلمي.

نسيم الرياح الهادئ هبط بلطف على مقدّمة السفينة العائمة في البحر.

كانت أجواءً جميلة جعلتك ترغب بالإستمتاع بهدوء فترة شروق الشمس.

رغم ذلك، لم يجرؤ أيٌّ مِن الركاب على الولوج على سطح السفينة الضخمة.

كان منظراً غير معتاد رؤيةُ سفينة بتلك الضخامة و الفخامة فارغة على السطح.

بدت للنّاظر كما لو أنها مهجورة.

سووش~.

تحرّك نسيم الريح كما لو أنّه الهائم الوحيد هناك.

بالطبع، كان لكلّ شيئٍ في الحياة إستثناء.

كما لو كان يكسر صمت الأصوات البشرية، همهم صبيٌ بسلمية و هو يجلس في مقدمة السفينة.

راقب الأماكن المحيطة كما لو يستمتع بالمناظر الطبيعية.

الأمواج ضربت بهدوء سطح السفينة السفلي.

يمكن سماع نسيم الرياح اللطيف، بدى مثل تهويدة في الصباح.

ضوء الشمس القرمزي لامس بشرته برقّة.

كان في العادة سيرغب بالنوم في مِثلِ هذه الأجواء.

بالطبع، كانت مجرّدَ فِكرة، لم يكن سينفذها بما أنه إقترب من وجهته.

ليس بعيداً في أفق البحر، يمكن رؤية منظرٍ غامض لجزيرةٍ ما.

كان ضوء الصباح الذي أشرق بكلّ مجده يضيئ البحر و العالم، ظهر شكلُ الجزيرة، و لو كان بغير وضوح.

لكن مع الإقتراب شيئاً فشيئاً، كان مظهرها يتلمّسُ الوضوح.

بعد الإنغماس في أفكاره لبعض الوقت، شعر الفتى بوجودٍ ما يقترب من خلفِه.

قرّر تجاهله و ركّزَ أفكاره نحو الجزيرة التّي باتت تلوح في الأفق.

بالطبع، لا تجري الرياح دائماً بما تشتهي السفن.

" … عفواً "

سمع صوتً أنثوياً لطيفاً يناديه، كان صوتها هادئاً بشكلٍ غريب.

شعر الفتى أنهُ لا يتناسب مع مسافرٍ تلبّسه الذعر و القلق، رغم أنه تجاهل إلى حدٍّ ما محيطه، لكنه على دراية بالعقلية الحالية للمسافرين.

بعد العاصفة الكارثية الفارطة، بعد أن كادت تودي بحياتهم، ففي الصباح الباكر، مِن شبه المستحيل إستعادتهم هدوئهم بسرعة.

في الأحوال الطبيعية، سينطبق مثل هذا الحكم فقط على الناس العاديين و المعتادين على الحياة المسالمة.

" … مرحباً؟ "

رد التحية بينما يحوّل نظره نحو الزائر غير المتوقع.

كانت فتاةً جميلة.

لم يستطع وصفها سوى بتلك الكلمة، أي وصف زائد عن الحاجة لم تكن منه فائدة.

الجمال دائماً يكمن في البساطة، و تلك الفتاة كانت جميلة ليقارنها مع الحوريات في المحيطات الشرقية.

شعرٌ أبيض فضِّي طويل يلمع تحت ضوء الشمس.

كانت لديها رموش برّاقة بشكل ساحر، ناهيك عن بشرتها البيضاء النقيّة.

لكن السِمة الأكثر لفتاً للإنتباه هي العينان.

كان للفتى نصيبه العادل من التجوال في العالم، لذلك رأى عدداً لا بأس به من الناس.

سواء كانوا مجرد أناسً عاديين أم إستثنائيين، فقد كان لكلٍّ منهم سمى مُميّزة عن الأخرين.

حتّى أنه سمع عن أنصاف البشر الغريبي الأشكال، لم تكن قصص تزاوج البشر و الوحوش غير شائعة، لكنها بالطبع لم تكن أيضاً شائعة كثيراً.

ربما تعيش حياتك كاملة و لن تلتقي مع أحدهم، و ربما ستعيش حتّى تراه.

الأمر يعتمد على حظك في الحياة.

هذه الفتاة لا تبدو نصف بشرية، رغم أنهم ليسوا شائعين، فأنصاف البشر لهم سمات واضحة تؤكد على أشكالهم.

سواء كانت الأذان الطويلة، أو الذيل، و حتى العيون الحادة و الأنياب الظاهرة قليلاً في الفم.

لقد كانوا شعباً عاش بين حافّة هوية البشر و الوحوش.

على أي حال، هذه أول مرّة يلتقي فيها بشخصٍ له عيون مختلطة اللون.

نعم، كان لعينيها سمى فريدة جعلتها تبرز، آلا و هي عينيها ذات اللون المختلط.

كان اللون الأرجواني يتداخل في عينيها كما لو يشكلان مجالاً فريداً.

في كلّ مرّةٍ تغلق عينيها و تفتحهما، تضيئ العيون كما لو كانت أحجاراً برّاقة.

لقد كانت هناك برودة غريبة في تلك العيون، عكس الإبتسامة الدافئة للفتاة الشابة.

لم يمُرّ سوى نفسٍ من الزمن عندما نظّم الفتى أفكاره الداخلية.

" سيدتي الشابّة، كيف يمكنني مساعدتكِ؟ "

إستجاب الصبي للشابة الواقفة أمامه بإبتسامة ترحيبية في المقابل أيضاً و لم يظهر إرتباكه.

ليس الوقت المناسب لتحليل شخصٍ قابله للتو بعمق.

ربما يكون كلّ ما فكر فيه مجرّد هراء، أو ربّما ليس كذلك.

لقد كانت تلك مجرّد عادة مكتسبة له عبر السنين.

" تسرّني رؤيتك سيدي الشاب، لو سمحت لي، هل لي برفقتك لباقي الرحلة؟ "

تفاجأت الفتاة داخلياً من إستجابته، رغم ذلك، كانت خارجياً تبدو كما لو أنّها تبدء محادثة روتينية مع أحد الأصدقاء.

' رفقة؟ هيهيهي يا له من هراء'، شمّ الفتى داخلياً ببرود لكنه لم يقل شيئاً.

بدى كما لو كان يفكّر في ما لو سيوافق أم لا.

"… بالتأكيد، لا ضرر في الدردشة قليلاً بما أننا على وشك الوصول "

كما لو أنّ هذا كل ما سيقوله، قام بلفتة صامتة لحثّها على الحديث.

" … كانت هذه العاصفة غير متوقّعة حقاً، لقد خِفتُ من فقدان حياتي الصغيرة "

"اوه؟ أنا أيضاً، لقد كنتُ أرتجف بإستمرار، إعتقدت أن رحلتي ستنتهي هنا "

رغم قولهما هذا، لم يفقد وجهيهما الإبتسامة المصطنعة، من يراهما سيعتقد أنهما لم ينجوا مِن كارثة، بل كانا في عطلة مريحة.

بدء النّاسُ العالقون بالأسفلِ بالخروج شيئاً فشيئاً، لن يمضي الكثير من الوقت قبل أن يمتلئ المكان.

" يبدو أنّهم تأكدوا من أنّ المكان أصبح أمناً"

قال الفتى بينما يحدّق في الحشد.

كان هناك الذين يضحكون لتخفيف مخاوفهم، و كان هناك من يبكون في أحضان أصدقائهم أو عائلاتهم.

هناك أيضاً ما يبدو كالحرّاس و الخدم لبعض الشبّان و الشابّات.

" أعتقد أنه يمكننا الطمأنة الأن "

وضعت الفتاة يدها بلطف على فمها و هي تضحك برقّة.

كان الذين بقوا وحدهم نادرين بشكل كبير، ذلك شيئٌ طبيعي، فالوجهة التي تصبوا لها السفينة بيئة لا يدخلها المرء سوى مرّة واحدة في العمر.

البيئة المحيطة مليئة بشكل كبير باليافعين و أهاليهم و الحراس و الخدم.

ناهيك عن محاولة تركهم وحدهم، لم يستطع أهالي هؤلاء الأطفال ضمان سلامتهم، لذلك ذهبوا معهم بطبيعة الحال.

هناك من كانوا شاكرين لكونهم قد أتوا لطمأنةِ أطفالهم، و هناك أيضاً من كانوا عكس ذلك تماماً.

بعد المراقبة بصمت لفترة، أعاد الفتى الشاب نظرهُ للسيدة الشابّة.

" أوه، أين أخلاقي، نسيت سؤال السيد الشاب عن إسمه، هلّا تتكرم بإخبار هذه الصغيرة به؟ "

" لقد كنت مذعوراً لدرجة أنني تناسيت الأمر، هل لي بتقديم نفسي إعتذاراً، يا سيدتي الشابة؟ "

قام بإنحناءة مؤدّبة بينما يظهر إبتسامة إعتذارية.

بدى أسفاً حقاً، لكن لسببٍ ما، كان أسلوبه يشعر المرء بالإستفزاز.

إرتجفت شفتي الفتاة الشابة قليلاً و شعرت لسببٍ ما بالأنزعاج.

"… تفضّل"

" إسم هذا الفتى عديم الخبرة هو ليون، ليون إيفينيوس، هلّا تكرّمتِ على الشاب الصغير بإسمك، سيدتي الشابّة؟ "

'… لكنني متأكدة من قولي إسمي من قبل؟'

ظهرت عروقٌ طفيفة على جبهتها من السؤال السخيف، لكنها أخفت إنزعاجها بإبتسامة لطيفة.

" هذه الصغيرة هي ليليث، ليليث كرونوس، سررت بالتعرف عليك، سيدي الشاب ليون "

كانت المحادثة جافّة و مملّة، سواء كانت بدايتهما للحديث أم ردودهما، فقد أتت على الفور، كما لو كانوا دمى مبرمجة على الأمر.

إتّخذ الحديث منحى كوميدي إلى حدٍّ ما، و بدأت منافسة غير معلنة لمعرفة من يستطيع الحديث بطريقة مملة و مؤدبة أكثر.

' تأكدت شكوكي …'بينما تستمرُّ المحادثة الودّية و العرضية، فكّر الإثنان بصمت.

' هذا الشخص لن يستسلم!'

" امم، سيدي الشاب ليون، أعتقد أننا نقوم بشيئٍ غبي، الأ تعتقد ذلك؟ "

'هل سيلتقط الطعم؟'نظرت نحو ليون بنظرة خفية بينما تبتسم.

" أنتِ محقة، سيدتي الشابّة ليليث "

إبتسم الإثنان بمرارة في وجوه بعضهما، قبل أن ينفجرا بالضحك.

بالنسبة للفتاة الشابة ليليث، في العادة ربّما لن تظهر مثل هذا السلوك في العلن و لن تبدأ حتّى هذه المحادثة مع ليون.

لكن في خضم مثل الكارثة الفارطة، رغم أنّها حافظت على رباطةِ جأشها جيداً، إلّا أن ظلال الخوف من الموت تسلّلت نحو قلبها و بدأت في الذعر.

في خضم محاولة تهديئ نفسها، بعد إنتهاء العاصفة الهوجاء و الوحشية، خرجت في الفجر عندما كانت البيئة مظلمة بعض الشيء.

لكنها تفاجأت برؤية شخص سبقها في الفكرة، و على عكسها هي، بدى ذلك الشخص مرتاحاً و يحمل أجواءً سلمية.

كان شكله من تلك المسافة غير واضحاً بعض الشيء.

تجاهلته و فكّرت في العاصفة، كانت تشعر بالخوف، هذه الحادثة ذكرّتها بمدى تفاهتها و عدم أهميتها مقارنة بالطبيعة، كانت مجرّد عاصفة واحدة، لكنها شعرت أنها ستموت بأي لحظة.

ـــ※ ※ ※

ـــــــــــــ

لقد كان إنجازً بالفعلِ محافظتها على عقلانيتها في مثل هذا الموقف، رغم ذلك، في أعماق نفسها أرادت أن تشتكي و تصرخ مثل الأخرين لتخفيف خوفها.

أرادت البكاء بلا خجل، أرادت شخصاً يواسيها، أرادت شخصاً تتكئ عليه و يقول لها أنّ كل شيئٍ بخير.

لكن للأسف، كانت الإجابة الوحيدة الّتي تلقتها هي الرياح الباردة الّتي ضربت جسدها.

رغم مخاوفها، فهي لم تفقد عقلانيتها، كان يجب أن يكون هناك شخصٌ يهدئ الركّاب، و هي قد أخذت ذلك على عاتقها، كانت فوائد ذلك كثيرة.

سواء للتقرب من العائلات المرموقة، أم لتعزيز صورتها أمام الأخرين، أو حتّى لجعلهم مدينين لها، يمكن تعديد الكثير من المصالح في الأمر.

ليليث لم تكن قديسة الصلاح، و لم تهتم بمساعدة الأخرين بدون سبب، لكن تأدية ذلك الدور من حينٍ لأخر يدُرُّ عليها بالفوائد.

حتّى مع مثل هذا السبب كمبرّر لفعلتها، ما زالت مرهقة من ذلك، لا يهم كم هي قوية، فقد كانت مجرّدَ فتاةٍ شابّة مقبلة على الحياة، ناهيك عن كونه ينطوي على حياتها أو موتها، أخفت عن الناس ذلك، لكنها كانت متوترة.

حاولت قيادة الركّاب للتجمع في منطقة واحدة و إغلاق أنفسهم في أكثر الأماكن أماناً داخل السفينة.

لحسن الحظِّ أنّ السفينة ضخمة ليطلق عليها باخرة حتّى، و تلك كانت ميزة مفيدة، لو ركبت ليليث على سفينة متوسطة أو قارب، لكانت الأمواج قد جرفتها منذ وقتٍ طويل.

لا يهم كمِّية الطاقة السحرية التي تملكها أو مدى قوتها، أمام قوةِ الطبيعة فمجرّد عاصفة أو كارثة طبيعية تكفي لسحقها مئات المرات.

كانت هناك بعض المعارضات لأوامرها، لكن تمّ قمعها بسرعة بعد كشفِ هويتها.

حتّى أنّ هناك ثلّة من الأشخاص الذين حافظوا على رباطةِ جأشهم حتّى في خِضمِ تلك الكارثة.

قام هؤلاء الأشخاص بقيادة ليليث بتنظيم الرُكّاب و جعلهم يحضرون جميع ممتلكاتهم و أمتعتهم إلى قاعة المناسبات، بما أنها كانت الأكثر ضخامة، فقد تجمّعوا فيها.

كانت فكرتها أنه يجب تركيز كلّ وزن السفينة في مكانٍ واحد لتقليل إحتمال الإنجراف، حتّى و لو قليلاً، لحسن الحظِّ أنّ قاعة المناسبات كانت في وسطِ السفينة الضخمة.

قامت أيضاً بأمر أعضاءِ الطاقم بإنزالِ الأشرعة و التركيز على التجديف يدويًا مع التيّار.

كان العمل صعباً و قال البعض أنهم ربّما ينحرفون عن وجهتهم، لكنها هزّت رأسها فقط على مثلِ تلك الأفكار.

لم تكن هناك فائدة من مثل تلك الأفكار، إن ماتوا، فكلّ قلقهم سيختفي، لكن آمالِهم و أحلامهم ستندثر معه أيضاً.

طالما بقوا على قيد الحياة، فيمكنهم القلق بشأن ضياعهم و وجهتهم كما يشاؤون.

كان يجب أن تكون هناك مجموعة في السطح تقوم بجرف مياه الأمطار و الأمواج بعيداً عن السفينة، و كان يجب أيضاً إغلاق جميع النوافذ لمنع تسرُّبِ المياه للداخل.

أمرت مجموعة طاقم الإصلاح بالبحث عن أي تشققات أو تصدّع و إصلاحهِ على الفور، أمّا الطاقم الطبّي فيجب عليه البحث عن أي مصابين أو الذينَ يُعانون من مشاكل مع البحر و معالجتهم فوراً.

بعد قول كلّ ما يجب قوله، وعدت أنّ كلّ من يؤدّي عمله جيداً، ستتم مكافأته بسخاء من قبلِ عائلتها.

بالطبع، لم تكن الوحيدة، إتّحد النبلاء و أعطوا وعوداً لمكافأة من يعمل على إنقاذهم، بالطبع، كان ذلك بعد تحريض منها و تحت قيادتها.

كلُّ ذلك حتّى لا تنتشر أي إضطرابات و صراعات داخلّية، لو حدث ذلك، لن تنقذهم أي خطّة عبقرية.

مصدر الألم الأكبر دائماً ما يأتي من الداخل.

بعد شرح كلّ شيء للرّكاب، لم يتوانى أحد في التنفيذ بإخلاص و أغدق عليها الجميع بالمجالات.

كانت قائدة حكيمة حقاً.

كان هناك أيضاً جانبٌ أخر من خطّتها البسيطة لم تخبر بهِ أحد، ألا و هو أنّ إنشغال الركاب بشيئٍ ما سيجعلهم يتناسون خوفهم و ذعرهم الأولّي.

بالطبع، شملها ذلك أيضاً.

يجب أن يكون هناك أمل للنجاة، و إنشغالهم في محاولة البقاء على قيد الحياة هو أملهم.

طالما هناك هدف، فهناك وسيلة…!.

على الأقل، أرادوا تصديق ذلك، أي وسيلة، حتى لو بشكلٍ أعلى قليلاً، فقد أرادوا فعل كلّ ما يتطلّبه الأمر للنجاة.

مع مثل هذه الأفكار، وجّهت ليليث النّاس كلّ شخص نحو مهِمّته الخاصة، شيئاً فشيئاً، بدأت القاعة الضخمة و الصاخبة سابقاً في الغُدوِّ هادئة.

كانت ليليث قد أمرت حرّاسها و خدمها بالذهاب و المساعدة، أراد بعضهم البقاء لكنها رفضتهم قائلة أنها تحتاج لبعض الرّاحة.

تناقصَ عدد الناس و لم يبقى سوى شخصين فقط، و بطبيعة الحال، أحدهما كانت ليليث، الأخر كان فتى شابّاً في مقتبل عمرها تقريباً، من مظهره فقط، بدى في نفس عمرها.

لم يكن لذلك الفتى أي مبادرة، سواء كان لمساعدة الأخرين أم قيادتهم، لم يقم بأي شيء، بقي هادئاً و لم يصدر منه صوت.

لا، في الواقع، لم يستطع إصدار أي صوت.

فالشخص النائم في العادة لا يصدر عنه أي حديث.

و في مثل هذه اللحظة، إعتقاداً منها أن أي شخصٍ في مثل هذه الكارثة لن يتوانى و سيفعل أي شيئٍ للنجاة، لم تضع في ذهنها أنّ أحداً ما سينام.

لم تكن تلك مجرّد أفكارها، أي شخص في هذا الموقف كان سيحاول النجاة، كانت تلك مجرّد فِطرة سليمة.

لكن يبدو أنّ هذا الفتى اليافع لا تنطبِق عليه تلك الفطرة السليمة، كان نائماً بسلمية متجاهلاً الفوضى و العاصفة الهوجاء و الكارثية.

في العادة لن تدّخر ليليث نظرة حتّى لمشاهدة هذا الشيء المثير للإهتمام، لكن بعد القيام بكل ما يمكنها فعله، لم يعد هناك ما تشغل ذهنها به، لذلك بلا وعي حدّقت في الشخصِ النائم.

شعرت لسببٍ ما بالهدوء و الراحة بعد التحديقِ في الفتى، كان شكله النائم غير المنزعج بالعالم مليئاً بالسكينة.

نائماً وحيداً بلا رفقة، يتنفّس بلطف مع تعبير مطمئن.

بدلاً من مظهر شخصٍ جاهل لا يدرك مصيبته، بدى كما لو أنه واثقٌ أنّ لا شيء سيحدث.

على عكس كلّ شخصٍ أخر، لم يقم بمحاولةِ النجاة بيأسٍ أو سارع بالجري، قام فقط بلفتة بسيطة.

نام بسلام بعيداً عن ضجيج البيئة الخارجية.

غير مُتّصلٍ بالعالم، كما لو أنّه يعيش بعالمه الخاص، مليئ بالسلام و الطمأنينة.

لم تكن الكارثة الحالِيّة من شأنه، فأياً كان ما سيحصل، فقد حدث بالفعل.

كان هذا الفتى تنضج منه أجواء كهذه، هذا ما أحسّت به بصدق.

سواء كان لأنها متوترة، أو بسبب الشعور بالوحدة مِن البيئة المحيطة، أو ربما لأنها فقط مرهقة.

لأي سبب من الأسباب، جرّت قدميها بلا وعي أقرب فأرقب إلى الفتى.

كان البشر مخلوقاتٍ إجتماعية بطبعهم، كانت طبيعة الخوف مِن الوحدة شيئاً فِطرياً بالنسبة لهم.

بينما أعطت نفسها عذراً كهذا، جلست في الكرسي المواجه لكرسي الفتى الشاب النائم.

كانت الطاولة النائم فيها الفتى تحتوي على أربعِ كراسي، في البيئة الصامتة، نظرت ليليث بهدوء نحو الصبيّ الذي يتنفّس بسلمية.

لو حاول أحدهم قتله، هل سيبقى هكذا أم سيستجيب؟.

فكّرت بصمت بشيئٍ عشوائي، حتّى هي عرفت مدى حماقةِ تفكيرها.

على أي حال، لم تتوقع ليليث في يومٍ مِن الأيامِ أنّ مثل هذا الشيئ سيحدث لها.

هي، ليليث كرونوس، لم تعتقد أنه ستتم تهدئتها بسبب لفتة من شخصٍ أخر في حياتها كاملة.

ربما كانت هناك العديد من العوامل المساهمة في الأمر، لكن لا ينفي ذلك أنه سبب رئيسي في هدوئها.

ربّما هذا الولد الغافل عن فعلته قام بما لم يقم به أحدٌ من قبل.

بصرف النّظر عن أفكارها الداخلية التي بدأت في الولوج للنرجسية، كانت تفقد قوّتها الجسدية ببطئ.

بدء وعيها يميل نحو النعاس شيئاً فشيئاً.

بدأت ترتسم على وجهها إبتسامة طفيفة، و إن كان بلا وعي.

تمتمت بصوتٍ خافت بشيئٍ أثار فضولها.

"… كيف تستطيع حتّى البقاء غير منزعج من ما يحصل؟ "

تدفّقت كلماتها الأخيرة ببطئ قبل أن تغُطّ في نومٍ عميق.

"… أنا … أحسدك حقاً "

مازال لديها جبل من الأعمال للقيام به، سيتعين عليها إراحة و تهدئة رعاياها.

سيتعيّن عليها بناء علاقاتٍ مشتركة مع العائلات المرموقة هنا.

ناهيك عن فرصة للراحة، ربّما سيستغرقها الأمر بضعة أيامٍ بلا راحة.

سواء كان كتابة التقارير، وضع خطط عمل لفتح قنوات دخلٍ تجارية.

عليها حتّى فتح شبكة جواسيس و توسيع نطاق معلوماتها أكثر.

هذه المرّة فقط، ربّما هذه المرّة فقط، مثل هذا الفتى، تستطيع النوم بسلام.

لن تفكّر في أي شيء، فقط لننام بسلام، هي تستحقُّ ذلك على الأقل، صحيح؟.

عاصفة هوجاء و أمواجٌ عاتية، صراخ النّاس في محاولة النجاة، كان يبدو الأمر كقصّة خيالية، لكنه واقع قاسي بالنسبة لمن عاشه.

أقلّ ما يقال عن الموقف أنّه صاخب.

لكن في خِضمِ هذه الضجّة و صرخاتِ البشر الحيوية، عميقاً في السفينة التي تجُرّها الأمواج، كانت هناك قاعة هادئة.

كان الصوت الوحيد الذي يمكن سماعه هو صوت الأمواج و البرق الذي هدر في السماء بين الحين و الأخر.

على عكس كلّ مكانٍ أخر في السفينة، و ربما في محيط العاصفة بأكلمه، قد يكون هذا المكان هو الأكثر سلمية.

و في هذه البيئة المسالمة، نام صبيٌ و فتاة في مواجهة بعضهما بينما يعتري وجهيهما تعابير الهدوء و الإرتياح.

2024/05/11 · 141 مشاهدة · 2641 كلمة
نادي الروايات - 2025