الفصل 2:مضى وقتٌ طويل، أيها الأوغاد (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حلم.
بشكلٍ أكثر تحديداً.
كانت ذكرة عن ماضٍ أقدم.
ذكرة أتمنّى أنَّها لن تعود مرّةً أخرى.
العالم قاتم.
كانت طفلة صغيرة تجلس في الظلام الدامس، واضعةً رأسها على ركبتيها.
بدت كما لو أنّها تبكي.
في الظلام القاتم، لم يكن هناك أحد بجوار الفتاة.
حتّى مع بكائها، لم يواسيها أحد.
-أنا خائفة.
إستمر الصمت لفترة، و ما تمّ سماعه بين الحينةِ و الأخرى، لم يكن سوى صوت شهيق الفتاة الصّغيرة بينما تحاول كبح دموعها.
كان ذلك عندما …
كيهاهاهاها…!
صوت ضحكة كسر الصمت، لا، لقد كان صوت ضحكٍ جماعي.
كياهاهاهاها…!
هدير الضحكات كان كصوتٍ خارج من أعماق الجحيم.
غطّت الفتاة أذنيها بينما إرتجفت خوفاً.
-لقد بدء مرّة أخرى.
رثت الفتاة لنفسها و تمنّت إنتهاء هذا الكابوس.
للأسف، لم يقتصر الأمر على هذا فقط.
بدء العالم يضيئ بنورٍ مشؤوم.
ظهرت وجوهٌ مخيفة في الظلام، مع إبتسامة مضيئة بلونٍ دموي، بسمة مشوّهة من الجانب للجانب، كما لو ترسم الهلال.
أنار ضوء وجوههم المشؤوم البيئة بشكلٍ كئيب.
-ملعونة! لا تقومين سوى بلعن الأخرين!
صوتٌ هزّ العالم بادياً كالهدير خرج.
-كاهاهاها! آهاهاهاها!.
أصوات الضحك المشؤومة ملأت الأركان.
-كيف وجودٌ بائس مثلك بقي على قيد الحياة؟!.
-بؤسٌ مثلك ما كان يجب أن يوجد قطْ!.
- إستحقاق الحياة للبشر! ليس أنتِ! أأيّتها الساحرة!.
مع رنين الضحكات، بدأت سلسلة من الكلمات تملأ الأنحاء.
كان الأمر كاللعنة.
دفنت الفتاة الصغيرة رأسها بين رِجليها أعمق، بحثاً عن مهرب من هذا الكابوس.
‟… أرجوكم.. توقّفوا ”
صوتها خرج كالهمس، بالكاد يمكن سماعه.
و لم يعرها أيٌ من الوجوه الضاحكة إعتباراً.
إرتجف جسدها بلا حسيب ولا رقيب.
علا صوت الضحكات، زادت الشتائم كما لو كانت تلعنها.
بدأت الفتاة الصغيرة بالجري في الظلام القاتم.
لا يهم كم من مسافة قطعت، لأنه مهما مضى من زمان، لم تصل لأي مكان.
لم تستطع رؤية أي شيئٍ أمامها.
لم يوجد سوى فراغ لا نهاية له عبر الأفق.
الفراغ الأبدي يبتلع الذات.
لقد كان ذلك الخوف.
مرّ الوقت و هي تواصل الرّكض، و مهما إبتعدت، صوت الضحك لم ينقص.
على العكسِ من ذلك، بدى كما لو أنّه زاد.
لكن حتّى مع ذلك، واصلت الجري بكلّ قوتها.
كانت سرعتها تتناقص بسرعة.
جسدها مبلل بالعرق، سواء من التعب أو الخوف.
تعثرت الفتاة بينما تسقط الدموع من عينيها، لكنّها صرّت على أسنانها و وقفت.
جسدها مليئ بالجراح، تدفّق الدم من ركبتيها.
كم مرّة جرحت بالفعل؟ كانت تركض لوقتٍ غير معروف.
سقطت، تعثّرت، و في بعض الأحيان شعرت بالدوار، في أحيانٍ أخرى أحسّت بالرغبة في التقيؤ.
جسدها أصبح شاحباً بالفعل.
لكن مهما كانت عدد المرّات التي وقعت بها، نهضت مرّةً ثانية.
هذه المرّة لم تكن إستثناءً.
بشهقة قوية، كما لو كانت تجمع الهواء عبر رئتيها، واصلت الجري.
هي لن تتوقف.
كان لأنه أمامها، رأت نوراً ساطع.
في كثيرٍ من الأحيان، عند مواجهة الفراغ و الوحدة، كان الأمل و الإرادة فقط من يمكنهما جعل المرء يستمر.
في الوقت الحالي، ما دفع الفتاة للجري شيئٌ أعمق.
اليأس.
الخوف و الرّعب من الأخرين، ما قالوه لها، ما فعلوه لها، كانت تريد الهرب منه.
كلّما مرَّ الوقت،أصبحت يائسة أكثر للهرب ، حتّى لو عنى ذلك إنهيار جسدها.
واصلت الركض فقط.
-سأصل! فقط القليل!.
مثابرتها كانت مثيرة للإعجاب حقاً.
النور، شيئاً فشيئاً، بدء يقترب.
الجهود لا تخذل المرء أبداً.
هذه الفتاة الصّغيرة، رغم مصاعبها و ضعفها، ثابرت و إجتهدت عبر المظالم، لم تفقد نفسها أبداً.
وعود الماضي كانت تثقل على كاهلها، لهذا لا يمكن الإستسلام.
من يجتهد يستحق ثمار جهوده، حتّى هي تستحق المكافأة على جهودها.
مع ذلك، هناك أشياءٌ حتمية في العالم.
تماماً في اللحظة الّتي كادت أن تدخل فيه عبر ذاك النور الساطع.
إختفاء.
أمام عينيها اللامعتين، أمام نضالها اليائس و العاجز، إختفى النور.
كان الأمر كما لو أنَّ العالم سخِر من جهودها.
-كيهيهاياهاها! كاهاهاهاها!!
بادرت الوجوه الّتي لاحقتها سابقاً في الظهور.
كما لو أنهم رأو شيئاً مثيراً للشفقة، ضحكوا كالمجانين بدويٍّ مخيف.
-لا… لا، أرجوكم لا!.
كانت أعين الفتاة مليئة باليأس، الخوف، الإرتباك، و خيبة الأمل.
أكثر من أيّ شيئ أخر، لقد كانت مرهقة.
مشاعر عديدة يمكن رؤيتها في أعين الفتاة.
لقد وصل جسدها لحدوده بالفعل منذ وقتٍ طويل.
سقطت على الأرض بحسرة.
عضّت شفتيها، الدموع جعلت عينيها ضبابِيّتان.
مع الدماء الّتي غطت جسدها، كوّنت صورة مثالية للوحة فنيّة مأساوية.
لو كان كابوساً، تمنّت أن تستيقظ منه بسرعة.
إستجابة لمطالبها، كما لو أنَّ دلواً من الماء البارد سقط عليها، لم ينتهي هذا قط، العالم القاتم لم يختفي.
إستمرَّ الألم و لم يتلاشى، هكذا كان العالم، أنت ستعاني دائماً.
مهما مرّ الوقت و جرى، بدى الأمر كمرور الأبدية.
الدلالة الوحيدة على إحساسها بالعالم المظلم هو صوت الضحك و الإنتقاد الّذي سمعته مهما أغلقت أذنيها.
كان جسدها يصاب بالكدمات من اللّامكان.
-شخصٌ ما.
مع تزايد الضحكات الشيطانية، ظهرت أيدي سوداء من داخل الظلمة و قامت بإمساكها.
-أرجوكم أنقذوني!.
توسّلت الفتاة و حاولت المقاومة، لكن لم يكن أي شيئٍ نافعاً.
الأيدي القاتمة إزدادت و تمسّكت بها بقوّة في كلّ مرَّة تقاوم بها.
في مواجهة الظلام، الهروب و طلب المساعدة دائماً ما كان شيئاً عقيماً.
الشيئ الوحيد الذي يمكن للمرء فعله هو قبوله.
كانت هذه أخر مرّة توسلّت الفتاة الصغيرة بشأن شيئٍ ما.
في ذكراها، تلك هي أخر مرّة طلبت فيها المساعدة.
لم تقم بذلك بعدها مرّة أخرى.
إختفى جسد الفتاة في الظلام.
كلّ ما تمّ رؤيته هي عينان معلّقتان في الهواء.
بارد.
كانت تلك العينان مشوّبتان ببرودة أشعرت المرء بخوفٍ عميق.
مرّ الوقت، و ما كان شيئٌ يتغيّر سوى العيون المعلّقة.
غضب، خوف، كراهية.
كانت تلك العواطف في السابق كلّ ما ملأت به العينان.
ما الذي بقى؟.
لم يبقى سوى البرودة و اللامبالاة.
عيونٌ فارغة خائبة و خاوية، عيونٌ فقدت القدرة على الحلم.
كما لو فقدت كلّ الأمل بشأن العالم.
مرّ الوقت، و إندثرت الأيدي السوداء عن المنطقة المحيطة.
ظهر جسد الفتاة، و كان تعبيرها لا مبالي.
لم تتم رؤية الفتاة الصغيرة بأي مكان.
كان كما لو أنَّ السنين مضت بها و جرت.
في الصغر، لقد كانت ترتجف و تبكي.
بكت حتّى جفّت دموعها، لم يأتي أحد.
إستَجْدتْ و رجت المساعدة من أيّ أحد ، لكن إستقبال الجميع لها كان بارداً.
في بعض الأحيان، مهما ناجى المرء و إستجدى الأخربن، فلن يقابلوه سوى بأذانٍ صمّاء.
لقد كان العالم مثل هذا، في كثيرٍ من الأحيان، لن يساعدك أحد.
بسيط و لا يحتاج للشرح.
حقيقة واضحة من الصعب قبولها.
إنه كالإدراك الذي بزغ في ذهنها.
لقد قبلت بهدوء تلك الحقيقة و لم تدحضها.
البكاء و الإستجداء لن يغيّر أي شيء.
أصوات البكاء و الشهقات بدأت تخف.
لم يتِمّ سماع أي صوت بعدها.
سواء كان صوت البكاء، أصوات الضحك أو الكلمات، أو حتّى الوجوه المشوَّبة و الشيطانية.
لقد إختفوا جميعاً بالفعل.
في الكبر، كانت تقف وحيدة.
تحدق في الفراغ القاتم.
الإعتماد على الأخرين هو دليلٌ على الضعف.
العالم مليئ بالخيانة و الخداع، لذلك لا تثق في أحد.
مشت الفتاة في منتصف الظلام ببطئ.
لم يكن هناك أحد معها، سواء كانت السخرية أو ضحك الأخرين، فقد إعتادت عليهم منذ زمنٍ طويل.
إخدع الناس قبل أن يخدعوك، و إطعنهم قبل أن يطعنوك.
-هكذا فقط سأنجوا.
في السابق، كانت يائسة للهروب من الظلام، أرادت شخصاً ما بجانبها.
لكن الأن؟ لقد كانت تسير في الظلام وحيدة.
لم تدع أحداً يلامس قلبها.
هكذا عاشت الفتاة.
و هذا ما فهمته من الحياة.
تشقّق!.
في الظلام بينما تسير للمجهول، تمّ سماع صوت إنكسار الزجاج.
لقد كان الظلام يتبدّد.
إنكسر العالم المظلم.
كما لو كان سراباً، بدء العالم يختفي شيئاً فشيئاً.
لكن حتّى مع ذلك، مشت الفتاة بتعبير فارغ.
لم يكن أيٌّ ممّا حدث من شأنها.
تحطّم!.
تدمّر العالم تماماً و سطع بنورٍ ساطع.
و قبل أن تعرف، شعرت بالدفئ يملأ جسدها.
ــــ※ ※ ※
إستيقاظ.
فتحت فتاةٌ ذات شعرٍ فضي لامع عينيها ببطئ.
شعرت بالضبابية عندما حاولت أن تستفيق، كان العالم غير واضح.
كان هناك شعورٌ بالبلل على خدّها.
عندما رفعت جسدها للجلوس، لاحظت أنّها كانت وحيدة.
لم يكن هناك أحد.
‟… هل كنتُ أبكي؟ ”
لمست الفتاة وجهها للتحقق، و لامس سائل شفّاف أصابعها.
كان الشعور بارداً.
إنَّها بطبيعة الحال دموع.
بقيت شاردة الذهن لفترة.
لماذا رأيت هذا مرّة أخرى؟.
حلم عن ماضٍ بعيد.
لا، بالأحرى، لقد كان كابوساً.
كابوسٌ لم ترد أن تراه مرّةً ثانية.
بلا وعيٍ منها، بدء جسدها يرتجف قليلاً.
أنا …
ذكرياتٌ مريرة ومضت في الذهن.
ألم الماضي، كراهية، إزدراء و خوف.
كانت مجموعة من العواطف الكئيبة، ندوبٌ لن تزول أبدَ الدّهر.
بالكاد تمَّ تذكّر أي ذكرة إيجابية.
لا أريد المرور بذلك مرّة أخرى.
عضّت شفتيها لمحاولة لجعل وضوحها حاضراً.
‟ لن أكون هكذا مثيرة للشفقة كما الماضي ”
لم أعد ضعيفة.
لن أهرب بعد الأن.
لن أثق بأحد.
كانت نظرتها حازمة، إنزلقت قطرة من الدم الطازج عبر شفتيها.
قامت بذلك ليبقى ذهنها صافيًا.
حاولت الفتاة إستعادة رباطة جأشها، مع مرور الوقت، بدء جسدها المرتجف سابقاً في الهدوء.
مسحت الدم على شفتيها بمنديل أخرجته من سترتها.
بعد أن إستعادت عقلانيتها بالكامل، بدأت تلاحظ البيئة.
كان حجاب الظلام لا يزال يغطي العالم.
هل نمتُ كلّ هذه المدّة؟.
يبدو أنّها نامت أطول مِمّا تعتقد.
لا يبدو كمنتصف اللّيل، كان العالم مضيئاً بعض الشيء.
‟ يبدو أنّه مُقتبِلُ الفجر ”
بعد المراقبة لبعض الوقت، قامت بالنهوض و مدّدت جسدها المتصلّب.
سقوط.
سقط شيئٌ ما بإنسيابية من على جسدها نحو الأرض.
ربّما بسبب شرودها، لم تلاحظ الشيئ الساقط حتّى وقوفها.
معطف طويل أسود اللّون.
لقد كان نوعاً من الثياب هي على دراية به.
ليليث كرونوس، القائدة الحكيمة، ذات القلب الفولاذي، الثعلبة الماكرة، لقد عرفت بعدّةِ ألقاب.
لم يقترب منها أي شابٍّ من قبل في حياتها لهذه الدرجة.
و تلك الفتاة كانت مغطّاة بمعطفِ شابٍّ يافع أثناءِ نومِها.
لقد خذلت حذرها حقّاً، ماذا لو كان يملك نوايا سيئة تجاهها؟.
لم تكن الفتاة الشابّة و النائمة بقادرة على فعل أي شيئ في مثل ذلك الموقف.
لكن لا يوجد شيئٌ مثل ‟ماذا لو” في هذا العالم.
‟ مصدر الدفئ السابق، لا تقل لي …”
هزّت رأسها لإبعاد الأفكار المشتتة من ذهنها.
لا يمكنها الأن سوى حمل المعطف و شكر الفتى لاحقاً.
‟ في الواقع، إن فعلتُ هذا بتلك الطريقة فربّما… ”
ومضت الأفكار و بدأت التروس داخل عقلها بالإشتغال.
‟ فوفوفو ~”
تردّد صدى ضحكة لطيفة و خبيثة في القاعة الفارغة.
كان وجهها تُشوِّبه إبتسامة تشبه الثعلب.
بتذكّرِ العاصفة و الحلم، بدأت ليليث في البحث بهدوء عن بقعة لتجميع و ترتيب أفكارها المعقّدة.
بينما لم تلاحظ، يبدوا أنهم في خضم نومها قد خرجوا من العاصفة بالفعل.
كان هناك بعض الخدوش في السفينة، لكن لحسن الحظِّ لا أضرار شديدة.
ربّما هذا يعني أنّ باقي الرحلة سيكون أمناً.
‟♪هم~ هم~ همهم~♪ ”
سمعت صوت همهمة لطيف يخرجها من أفكارها، حاولت تحديد إتجاه الصوت و وجَّهَها ذلك نحو الشخص الواقف في مقدّمة السفينة.
تجاهلته سابقاً بإعتباره مجرّدَ شخصٍ أخر حاول البحث عن السكينة في الصباح.
لكنّها الأن إستطاعت تحديد مظهره من مسافتها الحالية.
'… إنه ذاك الفتى!'
لسببٍ أو لأخر، تحمّست الفتاة الشابة بعض الشيء عند تحديد مظهره.
كانت ستبحث عنه لاحقاً للإستفسار عن شيئٍ ما، لكنّها لم تتوقع لُقياهُ هنا.
هل ذلك من محاسن الصِدف أم مساوئِها؟ هي لم تفكر في ذلك كثيراً.
فكّرت في ما يجب عليها فعله و كيفية الإستجابة للفتى لبعض الوقت في صمت.
من دون أن تدرك، كانت شمس الصباح قد أشرقت بالفعل.
بالعودة للوقت الحاضر.
كان ذلك كلّ ما حدث بالنسبة لليليث، بالطبع، لم تضع في حسبانها إنجراف حديثها مع الفتى ليون نحو إتجاهٍ غريب.
بعد أن ضحك الإثنان من القلب للقلب، حدّقا في بعضهما بشراسة قليلاً من دون كلمة واحدة.
و هكذا تماماً، حلّ الصمت على جهتهما.
قبل أن يكسره ليون.
‟… سيدتي الشابة-”
‟ أعتقد أنّ علينا التوقف عن هذا الأن؟ ”
قالت ليليث بإبتسامة صادقة.
‟ من بعدكِ أولاً ”
ردّ عليها بنفس التعبير.
‟تسك، لم تنطلي عليه! ”
فكّرت في صمت بينما شخرت ببرود داخلياً.
‟ على أي حال، من الغريب أنّ أحداً لم يصل بعد ”
حدّق ليون في الأفق، و على وجه التحديد، كان نظره مسلّطاً على الجزيرة التّي باتت واضحة تماماً.
ضخمة، مهيبة، عملاقة، شاسعة، سمِّها كما شئت، لكن لن تقول عنها صغيرة بأي حال من الأحوال.
‟ ماذا تقصد؟ ”
‟ أعني فرق الإستطلاع ”
‟ هذا قصدك؟ بالتفكير في الأمر، أنت محق”
من المفترض أنّهم قاموا بطلب إستغاثة في الأمس، كان من المفترض أن يصلوا بالفعل الأن.
كان هناك شيئٌ ما في غير محلّه، هل إصطدموا بمشكلة غير متوقعة؟ أم أنَّ الأخبار لم تصلهم؟.
‟ هوهوهو~، ماذا لدينا هنا، هل فكّرتم بالأمر بالفعل~؟ ”
ما بدى كصوتٍ عجوز مستمتع بشيئٍ ما خرج.
تفاجأت ليليث بعض الشيء داخلياً، لكِنّها لم تظهر أياً من مظاهر الإرتباك على وجهها.
‟ يو، خرجتَ أخيراً؟ ”
كما لو لم يكن متفاجئاً، خرجت كلمات ليون بطبيعيّة.
منذ متى هذا العجوز هنا؟ وجهه لم يظهر مثل هذا التسائل.
'أوه؟ أنظروا إلى هذا الشّقي؟' فكّر الرجل العجوز، هل تمّت قرءاة نواياه؟ مستحيل.
‟ يوهوهو، يبدو أنه تمّت ملاحظة هذا العجوز~ ”
‟ من الصعب عدم الملاحظة عندما يتربّص عليك رجلٌ عجوز منذ الفجر، أليس كذلك؟ ”
إبتسم العجوز بمرارة كما لو تمّ كشفه.
'هذا الشّقي! من يتربّص عليك، هاه؟! '
‟ كانت القشعريرة التي تسير عبر جسدي مخيفة حقاً، ليس إمرأة أو فتاةً شابّة من تراقب هذا السيد الشاب الوسيم، بل عجوز إنتهت صلاحيّته؟ ماذا إرتكبت هذه النفس الصالحة في الحياة للحصول على هذا؟ ”
كان صوته كشخصٍ عاش مظالم الحياة جامّة.
الدموع إغرورقت بينما يقوم بمسحها.
حتّى أفضلُ الممثلين في الإمبراطورية سينحنون له إحتراماً بعرضٍ كهذا، أداءٌ يستحق الإعجاب!.
'إنه مزعج عندما يقوم بها لي، لكن من المنعش رؤية هذا على إنسيٍّ أخر!'
فكرت ليليث مستمتعة.
من الممتع دائماً رؤية مصيبة شخصٍ أخر.
لكن العجوز لم تكن له نفس الفكرة.
‟يا إبن العاهرة..! كان هذا العجوز سيتكرّم عليك بحضوره الموقر، لكنّك تقول منتهي الصلاحية؟! هاه؟! ”
كان يريد التقدم لصفع وجهه لكن أمسكت به ليليث.
‟ سيدي، توقف، يجب أن تكون هادئاً! ”
‟ أتركيني! صفعة واحدة! لا! إثنتين! لو أعطيتني لحظات لأصفعه ثلاث مرّاتٍ فقط! ”
لماذا يستمرُّ العدد بالإزدياد؟.
‟ هاه؟! موقّر؟! من؟! لو قال لي أحدٌ أنّك متسول لصدّقته بالفعل! و أنت تقول لي تكرمني بحضورك؟! موقّر مؤخرتي! ”
حتّى هو تقدّم لركل مؤخرة العجوز.
وجدت الفتاة الشابّة نفسها بينهما و تمنعهما من العراك.
ألا تملكان أيّ خجل؟ أنظروا، النّاس يحدّقون بنا بغرابة بالفعل.
ترك ذلك الشقي جانباً، ألست في عمر جدي، أيها العجوز؟ على الأقل إحترم عمرك!.
تسائلت ليليث للحظة مع وريد ظاهر على صدغها ماذا سيكون مصير هذه المحادثة الغريبة.
بجدّية! توقف أيها العجوز! و أنت أيها الشقي أخرس فمك اللعين هذا!.
بعد كرٍّ و فر بين العجوز و الفتى ليون، هدئت الأجواء قليلاً.
‟ احم، مهم، أسف على إظهار مثل هذا المظهر، سيدتي الشابة ”
‟… لا بأس، لا بأس، كلّنا نرتكب الأخطاء، لا خجل من مراقبة الناس في الفجر ”
‟ هذا صحيـ- هاه؟! ”
قالت الفتاة الشابّة بينما تضحك برقّة، مظهرها الساحر سيجعل قلب الشباب ينبض بعنف.
لكن في عين العجوز، كان مظهرها كالجلّاد المستعد لجلده.
لماذا كان عليك الضرب في النقطة الحساسة!.
لم أكن كذلك! إستمعي للناس قبل إعطاء حكمك أيتها السيدة الشابّة!.
أنا مظلوم، كله بسبب ذلك الشقي اللعين!.
'هذا لأنّك أفزعتني من قبل، هيهيهي~'
لم تقل أيّ كلام، لكن تعابيرها حكت عن شعورها.
طهّر ليون حلقه و سعل لجذب الإنتباه.
‟ مهم، احم، لا تقلق، أنا أسامحك أيها العجوز، فجزءٌ من الخطأ يقع عليّ أيضاً ”
صدم العجوز داخلياً، لقد إعتقد أنه شقيٌ سليط اللسان كما كان دائماً، لكن ربّما أخطأ الحكم عليه؟.
في اللحظة الّتي كان سيشكره لتفهُّمه…
‟ لولا كوني وسيماً لهذه الدرجة لم يكن أيٌ من هذا ليحدث، لذلك أتحمّل بعض اللوم ”
كان يجب عليك فتح فمك هذا، أيها اللقيط، هاه؟!.
إنسى ما قلت، هذا الشّقي إبن عاهرة!.
تفهُّم؟! هاه؟! تباً لتفهّمك و مسامحتك!
كاد يتقيئ العجوز الدم من الغضب!.
‟ على أيّ حال، بصرف النظر عن هذا، سيدي، أعتقد أنّك من وحدة الإنقاذ، أليس كذلك؟ ”
لعدم الرّغبة في إستمرار المحادثة غير المجدية و مشاهدة معركة قبيحة بين رجلٍ عجوز و فتى شاب، سارعت ليليث و دخلت في صلب الموضوع.
أخيراً! أحدٌ ما هنا يعرف ما هي الأخلاق! شكراً لك سيدتي الشابّة.
‟… هذا صحيح، لقد وصلنا قبل ثلاث ساعات، لحسن الحظِّ أنَّ السفينة كانت قد خرجت من العاصفة بالفعل عند وصولنا ”
‟ هذا يفسّر الكثير، لكن لا يشرح سبب التلصّص علي، ناهيك عن الحديث معنا ”
إنه ليس تلصّص، إنها مراقبة، بصفتي رئيس وحدة الإنقاذ، يمكنني مراقبة الناجين، ألا يستطيع دماغك اللعين هذا فهم الأمر؟!.
رغم أنّه صرّح بالأمر داخلياً فقط، لكنه كان يبتسم من الخارج ببشاشة كجدٍّ يعلّم حفيده.
‟ كان السبب في البداية هو الحديث مع السيدة الشابّة، كنّا نريد شكرها، لكن تلقينا خبر كونها نائمة، لذلك إنتظرنا حتّى إستيقاظها”
-هيه، ما رأيك، أيها الشّقي؟ أنت لن تستفزّني هذه المرّة!.
-تسك تسك، أياً كان.
تواصل العجوز و الفتى بصرياً كما لو يقولان لبعضهما شيئاً من هذا القبيل.
'لكن فكّر في الأمر، في ماذا يُشرِكها هذا العجوز الخرف؟ شكر؟ أشكُّ بهذا'.
فكّر ليون بينما يحدّق في ليليث.
كما لو لاحظت نظراته، إبتسمت ليليث له كما لو أنّها لن تخبره بشيئ.
-حاول المعرفة بنفسك، أيها الشّقي.
إنزعج ليون من الداخل لكنه رد الابتسامة الودية بمثلها.
-تباً لكِ، أيتها اللعينة.
‟ يمكن تخمين الباقي إلى حدٍّ ما ”
خرج صوت ليليث بطبيعية، كما لو أنّها فهمت النقطة الرئيسية.
‟ ربّما خرج هذا العجوز و رأني في مقتبِلِ الفجر مرتاح البال، لذلك تمّت إثارة فضوله بشأني، لكنّه لم يرد الظهور بمظهر غريب لذلك بقي يراقبني ”
أكمل ليون ما أرادت ليليث قوله، يمكن حتّى لشخصٍ الإعتقاد أنهما تشاورا قبل تنظيم هذا الحديث.
‟ بعد أن حسم أمره بالبقاء متربِّصاً، بقي يراقب، بعدها خرجت أنا، كان يريد الحديث معي، لكن بعد ذلك رأني مسرعة للحديث مع السيد الشاب ليون ”
كان الموقف بتلك البساطة، ربّما هناك بعض النقاط التي لم يتم ذكرها، لكن هذا هو لبُّ الأمر.
تفاجأ العجوز بسرعة البديهة التي أظهرها هذا الصغيران.
'هذا يستحق التطلع إليه، أليس كذلك؟' فكّر مبتسماً.
‟ و هكذا ها نحن هنا، ربّما ما أخّره هو محاولة تهدئة الناس المستيقظين ”
أخر صوتٍ خرج هو لليون.
‟ هل نحن محقّان؟ ”
نظرا إليه بنفس الوقت، و عندما أراد الإجابة.
‟ نعم، نحن محقّان ”
‟ من المستحيل أن لا يكون هذا هو الجواب ”
أومأ كلّ منهما للأخر كما لو أنهما راضيين عن جوابهما.
… حسنا، ربّما يستحق التطلّع، صحيح؟.
هل فات الأوان على الندم؟.
نظر إلى السماء بدموع ساقطة من عينيه، فكّر في مدى حماقته لبدء محادثة مع هذان الشقيّان.