الفصل 7: الحياة ليست عادلة دائمًا، لكن هذا ليس عذرًا (1).
ـــــــــــــــــــــــــــ
- كانت حياتي دائماً مليئة بالتّقلّبات، هكذا فقط كيف يمكنني وصفها.
عيونٌ حادّة.
منذ الصغر، إشتهر فرناندو في عائلته بعيونه الحادّة و التي تشبه عيون حيوانٍ مفترس.
حتّى مزاجه كان يتشابه مع عيونه، متعجرف، حازم و قاسي.
بسبب سلوكه ذاك منذ صغره، شبّهه العديد من الخدم برئيس الأسرة.
بالنسبة لشخص ولد في عائلة الكونت نيكولا و ترعرع فيها، فقد كانت مثل هذه الأقاويل كافية لجعله يطير في السماء فرحًا.
بعد أن فقد أي شكلٍ من أشكال حنان الأم، كانت تلك التّوافه البسيطة شيئًا جديدًا بالنسبة له.
عند الولادة.
بعد ولادته بقليل، كانت والدته قد سقطت في غيبوبة أبدية، و لم تفتح عينيها بعد.
رغم زعم العديد من النّاس بموتها، إلّا أنَّ الكونت لم ييأس منها أبداً.
لسببٍ ما، لم يسمح رئيس العائلة لفرناندو أبداً برؤية والدته.
في عمر السادسة.
تلقّى معاملة باردة من والده البيولوجي، كان يقسوا عليه في التدريب كثيراً و يضغط عليه أكثر من ما يمكن لفتى في عمره تحمّله.
تلك التعاليم القاسية أجبرته على النضوج أسرع مقارنةً بأقرانه.
رغم هذا، لم بعرف لما عامله بهذا البرود.
و هكذا إستمرّت الأيام بالمرور.
في سنّ التاسعة.
مع تقدّمه في العمر، مهما بذل من جهد، كان رئيس العائلة يأمر بزيادة شدّة تعليمه، حتّى أنَّ المعلّمين أنفسهم أشفقوا عليه.
لكن ماذا يمكنهم فعله؟ لقد إنصاعوا للأوامر بقلب مرير.
بعد ثلاث سنين من العذاب النفسي و الجسدي، عرف الفتى الصغير ما كان يؤرّقه ليلاً و نهاراً.
لماذا كان والده قاسيًا، و لماذا لم يُسمح له بمقابلة الأم؟.
نميمة.
كانت هناك شائعات بين الخدم جعلته يدرك الحقيقة.
زوجة رئيس العائلة سقطت في نومٍ عميق بعد ولادة فرناندو ببضعة أيّام.
كان الجميع يعلم مدى حبِّ رئيس الأسرة لزوجته، لذلك كانت تلك ندبة مؤلمة لقلبه.
بدى كما لو أنَّ اللورد يمنع عمداً وصول أي كلماتٍ للفتى الصغير بشأن القضيّة.
مع ذلك، كان الأمر بلا جدوة.
يمكن للشخص منع النّاس من الحديث علنًا، لكن النميمة لا يمكن وقفها.
بعد سماعه لكونه هو السَّبب في سقوطها بنومٍ أبدي، لم يسعه سوى الشعور بالحزن العميق.
والدته دخلت غيبوبة لا يمكن الإستيقاظ منها بسبب ولادته هو.
معاملة والده الباردة أصبحت منطقيّة، كيف يمكنه تحمّل مثل هذا الواقع القاسي؟.
كان من الغريب أنَّه لم يتبرّأ منه بالفعل أو يتخلّص منه.
لعنة عائلة نيكولا.
كانت هذه التّسمية التي سمّى بها نفسه.
ملعون، كان النّاس يتفادونه في بعض الأحيان، و عندما يتحدّث معهم، شعر كما لو أنَّهم خائفون.
لفتىً صغير العمر، كانت هذه المعاملة كافية لإغراقه بالحزن.
و مع الوقت، حتّى بعد إظهار حزنه العميق، لم تختلف تصرّفات الكونت.
بدى الأمر كما لو أنَّه يهتمُّ فقط بمجد العائلة.
كان إبنه أداةً لزيادة أمجاد الأسرة.
لقد فقد في الولادة أمّه.
و عندما كبر في العمر فقد والده.
هذا ما إعتقده بعمق و فهمه.
في سنِّ الثالثة عشرة.
تغيّر الفتى الصغير و كبر في العمر.
لكن لم يكن سنّه فقط من نضج، لقد أصبح أقوى و أذكى، حتّى أنَّه أظهر سلوكًا أكثر برودة و قسوة.
لم يعد يتعامل مع النّاس كالسَّابق.
الفتى الصّغير الباكي في سريره إختفى بالفعل.
وعد نفسه أنَّه لن يكون مثيراً للشفقة مرّة أخرى.
الأمر الغريب الوحيد هو أنَّ سلوك الكونت تغيّر قليلاً، و لم يعد يضغط عليه كما كان من قبل.
رغم ذلك، هو لم يهتم، كان همّه الوحيد هو تطوير نفسه ليمسك بزمام الأسرة.
ذلك هو الشيئ الوحيد الذي حفّزه لتحمّل أيّام القسوة السابقة.
أصبح هذا هو الهدف الوحيد لحياته، و المعنى من وجوده.
تماماً كما أراد والده.
في يومٍ من الأيّام، بعد رجوع أخته الكبرى من حملة إبادة للوحوش في الجانب الشرقي من المقاطعة.
ليونا نيكولا.
كانت تلك الفتاة هي ما يسمّى بأخته الكبرى، لقد كانت أكبر منه بعامين، لم يكبر الإثنان في ظلّ عائلة واحدة.
لقد كبرت تلك الفتاة في قصر عائلة والدتها.
كانت تأتي من حينٍ لأخر لتعتني به، لقد شعر بخجلٍ غريب في الماضي عندما تهتمُّ به.
قيل أنَّها قد أظهرت سلوكًا يستحقّ إسم عائلة نيكولا بقيادتها المبهرة لهم ضدّ جحافل الوحوش.
كانت عبقريّة تستحقّ الإعجاب بكلّ تأكيد.
لم يكن ذلك ما أثار فيه العجب، بل شيئًا أخر.
كان يرى والده مبتسمًا لأول مرّة.
' … ماذا؟'
في ذلك اليوم إنهار عالمه.
رئيس العائلة الذي لم يهتمّ بشيئٍ سوى مجدها.
والده الذي عرفه أكثر من الجميع، عرف لأي مدى يتمادى لتحقيق ما يريد، و كان يعرف بعمق كم أحبّ الأسرة.
ليس كأفراد، بل كجمع، كانت الأسرة أكبر همِّ رئيس العائلة.
كان يراه يبتسم إبتسامة خادعة في كثيرٍ من الأحيان.
هل رأه يومًا يبتسم بصدق؟.
كان ردُّ الفتى دائماً هزّ رأسه بالنّفي.
منذ يوم ولادته لم يرى ذلك يحدث أبداً.
صاحب الحديد المنصهر بدل الدم يجري في عروقه، يمكنه إظهار مثل هذه التعابير؟.
للأسف، لم يهمَّ كم مرّة فرك عينيه، كان الحدث أمامه واقعة لا تختفي.
إبتسامة بشوشة، صوتٌ ودّي خرج من فم الكونت.
كان الأمر سخيفًا لدرجة إعتقاده أنَّ الشخص أمامه ليس والده.
عند رؤية المشهد الدافئ أمامه لوالده بينما يحيّي أخته الكبرى، شعر الفتى بالضياع.
لم يعد يعرف ماذا كانت الحقيقة و الخيال بعد الأن.
- لماذا لم تبتسم لي هكذا من قبل؟.
كانت تلك الفكرة تسيطر على كيانه، لقد إعتقد أنَّه قد تخطّى الأمر، لكن لم يتغيّر شيئ.
كان الفتى الحزين لفقدان أمّه و أبيه مازال باقيًا.
في ذلك اليوم، أخر بقايا الماضي تلاشت.
ما بقي من قلبه المكسور قد تحطّم لأشلاء.
هويّته —— كإبن والده أو كأخٍ أصغر —— قد إختفت بالفعل.
كانت الكراهية نحو أخته الكبرى تتشكّل بلا وعي داخل قلبه.
-لماذا هي، و ليس أنا؟ هل هذا يعني أنَّ نضالي لا فائدة منه؟ لا! أنا سأصبح رئيس العائلة، لا يهم ماذا!.
الحزن الباقي قد إختفى، كان مصدر قلقه هو أن تمسك الأخت الكبرى بزمام العائلة.
بما أنَّها قد نشأت بالحب الأسري، فقد كان من حقّه أن يتمنّى هذا، أليس كذلك؟.
كان سيصبح رئيس العائلة بأي ثمن.
نقش عهده في أعماق عظامه و وعد نفسه بفعل أيّ شيئٍ ليحقّقه.
بسبب ذلك، أصبح لديه هوسٌ كبير بإثبات نفسه، كان مجد العائلة فقط ما في عقله.
كلّ محاولات أخته للتّقرّب منه بائت بالفشل.
في ذهنه، كانت حسن النيّة تلك غير مرغوبة.
بدء الفتى الشّاب يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى نسخة من والده.
في سنِّ الخامسة عشرة.
في العامين الماضيين، أصبح الفتى يكدّس الإنجازات شيئًا فشيئًا.
إنجاز بعد إنجاز، عمل وراء عمل.
لم يكن هناك يومٌ واحد للرّاحة.
كان قد سمع في وقتٍ ما عن شجار وقع بين رئيس الأسرة و أخته، لكنّه لم يهتمّ أبداً.
-ما لم يهدّد ذلك سلامة الأسرة، فالأمر ليس من شأني.
كان متأكداً من ذلك بعمق.
كان شبح الماضي يطارده كلّ يوم.
الكوابيس أكلته ببطئ.
كان ملاذه الوحيد هو ثناء الأخرين عليه عندما ينجز شيئًا ما.
أصبح التمثيل و فهم عقليّات النّاس لعبته.
لذلك عرف كيف يختار الجوانب الأفضل بالنّسبة له.
في السابعة عشرة.
بعد مضيّ السنين، كان والده، لسببٍ ما، يبدو حزينًا، أخته التي تكبره بعامين قد ذهبت لأكاديمية كان صيتها قد ذاع في شمال الأرض و جنوبها بالفعل.
- هذا جيّد، هكذا يمكنني الإمساك بالأسرة بشكلٍ أفضل مع غيابها.
كانت تلك الأخبار بشرى سارّة له.
الأن يمكنه أن يقترب خطوة أخرى نحو ما أراده.
حلمه الذي دفنه بعمق في قلبه سيتحقّق بعد أن يصبح رئيس الأسرة.
كان ذلك جيدًا، عندما إستيقظ مبكّراً بمثل هذه التطلّعات العالية، سمع خبراً هزّ كيانه بالكامل.
- رغم أنَّك أظهرت أداءً ممتازاً في السنين الماضية، إلاّ أنَّ ما يثبت قيمة الشخص هي القوّة، لذلك سأرسلك إلى الأكاديمية التي ذهبت إليها أختك، لا تخيّب أملي.
في كثيرٍ من الأحيان، لا يسري العالم كما يريد الإنسان.
هذا ما فهمه الفتى منذ بداية الصباح.
كان يريد الإعتراض، كان يريد إلقاء نوبة غضب و الإحتجاج بقول أنَّه لا يحتاج لشيئ غير مفيد مثل االأكاديمية.
لكن لم يستطع، كلّ ما بناه سيتدمّر إن فعل هذا.
و هكذا، وافق على الأمر بقلبٍ مرير.
لكن لم يكن هذا هو الأسوء.
النّاس هم مخلوقاتٌ يضعون الفروقات و المقارنات في كلّ شيئ.
كان الأمر سواء قوّة الفرد نفسه.
كانت الإمبراطوريّة قد وضعت أسلوبًا للتمييز بين الموهوب و العادي.
ألا و هو نظام مرتبة المواهب.
كانت ينقسم ذاك النّظام لأربعة مراتب.
موهبة من الدرجة د، و قد كانت هي الأدنى، لو كنت من عامّة الناس أو لم تملك ثروة، فمصيرك أن تكون مجرّد جنديٍّ عادي على الأكثر.
موهبة من الدّرجة ج، كانت تلك المرتبة هي معظم ما حصل عليه النّاس، كان لهم بعض الأمل في تقوية أنفسهم و الحصول على الدّعم، لكن مازال يتمُّ تجاهلهم في حالاتٍ كثيرة.
موهبة من الدّرجة ب، كانوا تنانينًا بين التّنانين، لم يكن قول أنَّ الأبطال كانوا مواهب كتلك على الأقل من قبيل المبالغة.
و أخيراً، أقصى نوع من المواهب، موهبة عالية تكسر معنويّات أي شخص أمامها.
كان ذاك النّوع من المواهب مذهلاً بحق.
ألا و هي الموهبة من الدّرجة أ.
كانت نسبة إمتلاك موهبة كهذه ضئيلة.
إنّها من النّوع الذي يضمن مستقبلك حالما تمتلكها.
بالنسبة للفتى الشّاب فرناندو، كان يأمل في موهبة من الدّرجة ب، و في أسوء الأحوال، ج.
لكنّ الواقع القاسي كان مؤلمًا دائماً.
كما قال المثل، المصائب لا تأتي فُرادى.
موهبة من الدّرجة د.
عندما عامله الحميع كغريب، تحمّل الفتى ذلك.
عندما عرف مصيره كالفتى الملعون، تقدّم و لم يستسلم.
حتّى عندما إبتعدت عنه عائلته، لم يتوانى الفتى في بذله لجهده.
كان ذلك لتحقيق حلمه الوحيد.
لقد تحمّل كثيراً، لقد ضحّى بالكثير في حياته.
ضحّى بوقت حياته، عندما كان الأكفال في عمره يلعبون و يضحكون مع أهاليهم، ثابر بشدِّ أسنانه ليتحسّن و لو قليلاً.
لقد ضحّى بعواطفه، و علاقته بعائلته، في بعض الأحيان كانت تأتيه أفكارٌ للتصالح مع أخته.
لكن هزّ رأسه، لا يمكن أن تسامحه على أيّ حال، لذلك كان الأمر عقيمًا.
في المقام الأول، لم يكن للفتى خبرة في العلاقات الأُسريّة، كان نوع المكان الذي تربّى فيه مليئًا بالمكائد و الصراعات.
تحمّل كثيراً حقًّا.
لكن العالم لعب مزحةً عليه.
أسوء نوعٍ من المواهب.
لقد كان الفتى ذكيًّا.
في خبرة القتال و القوّة المحضة، يمكنه القول بثقة أنَّه من الدّرجة الأولى.
تعلّم فنَّ السيف حتّى تشقّقت يديه.
كان يكسر حدوده في كلّ مرّة، فقدان الوعي أثناء التدرّب كان شائعًا جدًّا.
تعلّم كلّ ما يمكنه تعلّمه بالفعل.
أصبح دماغه كماكينة لتخزين المعلومات.
كان متأكّدًا أنَّه لم يهمل يومًا من التدريب أبداً.
مع ذلك.
- لماذا؟ لماذا موهبتي ضئيلة؟ هل تقول لي أنَّ كلّ جهدي كان هبائًا؟.
كانت المشكلة الأكبر هي أخته.
لقد أُنعمت بموهبة من الدّرجة ب.
كان الأمر كمزحة لا يمكن تصديقها.
حتّى الشخص المبارك بالسعادة لن يكون له مثل هذا الحظ، أليس كذلك؟.
للأسف، كان الواقع غير القابل للتصديق يحدث أمام عينيه.
شعر كما لو أنَّه يرى وجه رئيس العائلة خائب الأمل.
- أنت أكبر خيبة في تاريخ الأسرة.
يمكنه سماعه يقول هذا بالفعل.
هدفه في غُدوِّه رئيس الأسرة أصبح غير مرئي.
لعنة عائلة نيكولا، خيبة الأمل الأكبر في تاريخها.
كان هذا الإسم يلاحقه منذ الصّغر.
تحت الريّاح الباردة، كان يتجوّل في اللّيل بكأٓبة.
ذكريات كفاح الفتى الشّاب ومضت.
مضى وقتٌ طويل منذ أخر مرّة بقي فيها وحده هكذا.
كان الثّلج يتساقط عليه بلطف.
منذ الولادة، كانت حياته هكذا.
هل كان هناك يومٌ سهل في حياته؟.
لقد كان كلُّ يوم نفسه.
كافح للبقاء على قيد الحياة دائماً.
عبر تعاليم عائلته القاسية، محاولات الإختطاف التي تعرّض لها.
حتّى أنَّه تعرّض لمحاولات إغتيال أكثر من أيّ أحد في الأسرة.
رغم ذلك قد نجا.
لكن العالم لم يتسامح معه يومًا.
مثل اللّعنة التي هو عليها.
كما الشتاء الأبدي في قلبه.
لم يشعر بالدفئ أبداً.
عواطف تمّ كبحها لسنين خرجت أخيراً.
شعورٌ بارد إخترق خدّه.
رؤيته كانت ضبابيّة.
لقد كان أوّل يومٍ دراسي له، لكنَّه أحسَّ به كما لو كان الأخير.
سنينٌ من التضحيات و بذل الجهود ذهبت أدراج الرّيح.
صرّ على أسنانه كلّ يوم لعين، كلّ يومٍ لعين جاهد في صمت!.
- هل مصيري كلعنة حقيقة؟ … هل تقول لي أنَّي لا أستحق العيش؟.
تدفّقت الدموع كالشلّال.
تحت ضوء القمر، بكى الفتى كما لم يبكي من قبل.
ظهره الذي كان يفرده بفخر من قبل لم يعد يمكن رؤيته.
كان الظّهر المنحني لشخصٍ فاقد الأمل فقط ما بقى.
بعد أعوامٍ من بذل التّضحيات، حان وقتُ الإستسلام أخيراً.
كان عقله مستعدًا للتّوقف بعد عناءٍ طويل.
في جنح الليل تحت ضوء القمر.
المكان بارد جداً.
رسم الثلج الساقط مظهرًا كئيبًا.
- إنَّه مكانٌ مناسبٌ حقًّا.
بمثل هذا الفكر، أسقط جسده بهدوء في البحيرة القريبة.
كان من غير الغريب وجود أنهارٍ أو بحيرات في هذه الجزيرة نظرًا لحجمها.
بدلاً من إنهاء حياته بشعور الدّم الدافئ على جسده، ناسبه هذا أكثر.
الموت تحت برد الماء القارس في الشّتاء.
كانت تلك فكرته لإعطاء خاتمة لحياته.
مرَّ الوقت ببطئ.
إحتضن نفسه في المياه الجليديّة كما أغلق عينيه.
حان وقتُ إنهاء كلّ شيئ.
أراد ذلك حقًّا، أراد إنهاء معاناته هنا.
رغم هذا.
لم تسر الأمور في معظم الأحيان كما رغبنا بها نحن.
لأنَّه، على عكس رغباته، كان جسده يتحرّك من تلقاء نفسه.
كان كذلك في كلّ مرّة.
مهما بكى، مهما أراد التّوقّف، رفض جسده ذلك و أبى.
و هذه المرَّة لم تكن مختلفة.
- أنا أريد التّوقف، لقد إستسلمتُ بالفعل، لماذا إذاً أنت تقاوم؟.
قاوم و حرّك جسده البارد.
بغضِّ النظر عن أفكاره، سبح بجسده نحو السطح.
كاد يفقد وعيه، لكن صرَّ على أسنانه.
للأسف، ربّما لأنَّه متعب نفسيًّا، أو لأنَّ الوقت الذي أمضاه في المياه جعله أضعف، كان وعيه يتلاشى.
كان وجهه يتخلّله الذّعر.
بغضِّ النظر عن رغبة المخلوق بالموت، فغريزة البقاء لم تكن شيئًا يمكن التّخلّي عنه بسهولة.
فقد وجهه علامات المقاومة، قبضتيه إرتخت ببطئ.
بدأت البرودة تخلّل جسده المحتضر.
كان سيموت حقًّا، لكن على عكس المرَّة السابقة، فقد كان هذا رغمًا عنه.
فقد وعيه بينما يقاوم للسباحة.
لقد إختار إنهاء حياته بنفسه، لكن خوفه من الموت جعله يكافح، رغم ذلك فقد القوّة للمقاومة، و طفى جسد اللّاواعي في المياه الباردة.
لقد كان أحمق، و قد بقى يعيش كالأحمق.
هكذا إنتهت حياته المثيرة للشفقة.
أو كذلك إعتقد.
شعر جسده لسببٍ ما بالدّفئ.
كان فاقدًا للوعي، كما لو كان نائمًا.
هذا الشعور …
كان شيئًا لم يعرفه من قبل.
دفئٌ يغطّي جسدك بلطف.
كما لو كان أحدٌ ما يحتضنك.
دافئ، لطيف، مريح.
مضى وقتٌ طويل، لكن الدفئ لم يزل.
ذلك الدفئ لم يتخلّى عنه.
كما لو كان خائفًا من فقدانه.
لم يكن ذلك شعورًا سيّئًا.
هكذا شعر الفتى في منامه.
‟ سعال … سعال … ااه ”
فتح الفتى عينيه بقوّة بينما يسعل.
عيناه تحدّقان في السماء.
بعد السّعال لبعض الوقت، بقي الفتى صامتًا يحدّق في الأفق.
كان ذهنه مليئًا بالتّعقيد.
- كيف نجوت؟.
كان هذا سؤالاً لا يمكن حلَّه للأسف.
في الأفق البعيد، لا أحد يمكن رؤيته.
كان وحيدًا في المنطقة.
هزَّ رأسه ليجعل ذهنه أكثر وضوحًا.
لا فائدة من التّفكير في الأمر، فهو لن يعرف الجواب.
‟ … يبدو أنَّه الفجر بالفعل ”
كان يتنفّس بصعوبة، لكنَّه حاول تنظيم تنفّسه قدر الإمكان.
وقف بجسده الضّعيف بينما يترنَّح.
لا وقت للرّاحة أو التّفكير في الأشياء غير الضّروريّة.
مشى بشكلٍ مثير للشفقة نحو سيفه.
حمل.
حمل الفتى سيفه في مقتبل الفجر.
كان الأمر غريبًا.
شعر ذهنه بالوضوح أكثر من العادة.
عواطفٌ جديدة تخلّلت الفتى.
بعد الكفاح في موقف الحياة و الموت، إختلف شيئٌ ما بعض الشيئ.
جسده الأن ضعيف بكلّ تأكيد.
لكن كيف يصف ذلك …
‟ أشعر كما لو أنَّني يمكنني القيام بأيِّ شيئ ”
يبدو أنَّ المقولة التي حكت أنَّ الإنسان يولد من جديد بعد تجربة موقف حياة أو موت لأوّل مرّة صحيح؟.
على أيّ حال، فصل سيفه عن الغمد.
الأرجل متباعدة، الأكتاف مفرودة، الظّهر مشدود.
وقف الفتى الشّابُّ حاملاً سيفه كما لو كانت عادة.
لم يكن في ذهنه أيّ شيئ.
رغبته في إثبات نفسه، صراع السلطة في عائلته، و كلّ آلامه.
لم يكن أيٌّ من ذلك حاضرًا.
فقط السيف بين يديه دخل مجال بصره.
تلويحة واحدة.
ضعيفٌ للغاية.
مظهر رثّ ظهر من التّلويحة.
كانت الوضعيّة مثيرة للشفقة، تعثّر الفتى بينما سقط على الأرضِ الباردة.
كانت تلويحة واحدة كافية لشعوره بالإستنزاف.
الأدرينالين الذي ساعده للكفاح سابقًا قد إنتهى تأثيره بالفعل.
أصبح القيام بتلويحة أخرى أكثر صعوبة.
بالرّغم من كلّ شيئ، لم تترك يده المرتعشة السيف أبداً.
‟ … ها … هاها … هاهاها ”
مع صوت التّنهّدات، خرجت ضحكة ضعيفة من فمه.
فرناندو، لأول مرّة منذ وقتٍ طويل، شعر بعاطفة عميقة.
يمكن القول أنَّها أسوء تلويحة بالسيف قام بها منذ الولادة.
و مع ذلك.
كان لديه إبتسامة من الأذن إلى الأذن على وجهه.
كان يتنفّس بقوّة، لكنَّه لم يخفّف ضحكته.
بهجة لم يشعر بها من قبل إخترقت كيانه بالكامل.
لقد لوّح بسيفه دائمًا، هل شعر بهذه ابهجة من قبل؟.
من أجل السّلطة التي يصبوا لها، من أجل أحلامه و أماله، في لحظات يأسه و أحزانه.
لقد ضرب بسيفه دائمًا، لكنّه شعر في كلِّ مرَّة بأنَّ شيئًا ما ناقصًا.
الأن عرف الفتى ما كان ينقصه.
‟ لم أضع قلبي في السّيف، على الأكثر، كان مجرّد أداة ”
لقد صقل سيفه لأفاقٍ عالية، لكنّه شعر دائمًا بالفراغ و الوحدة.
جاء الإدراك على الفتى.
تدرّب بالسيف منذ سنّ الرّابعة، لكن لم يبلغ من الأهلية ما يجعله يقول بفخر أنَّه سيّاف.
كان ذلك إعتقاده دومًا.
و الأن، تشكّل الجواب في عقله ببطئ.
إرادة.
كان يضع إحباطاته و تطلّعاته في كلِّ مرَّة لوَّح بالسيف، لكن لم تُشعِره أيّ تلويحة بالقوّة.
في بعض الأحيان، أحسَّ أنَّ الأمر بلا معنى.
مثل الضّائع بلا سبيل، لا وجهة أو طريق، كانت كلِّ أساليب السّيف خاصّته كذلك.
أشاد به الكثير بكونه سيّافًا عبقريًّا، لكنه شعر بالنقص فقط.
من كان يتوقّع؟ كان أسوء يومٍ في حياته هو ما جعله يعرف إجابته.
لقد إعتقد في كثيرٍ من الأحيان أنَّ حياته ليست عادلة، كان ذلك إيمانه الرّاسخ.
لقد كان أحمق لتفكيره ذاك.
حاولَ الوقوف مرّة أخرى.
كان شكله مثيرًا للشفقة في محاولته للوقوف.
لم يهتم، الوقوف و التّلويح مرّةً ثانية هو ما جال في ذهنه.
وقف بينما يلتقط أنفاسه.
رجل واحدة للأمام، الأذرع مفرودة للأمام.
رفع سيفه لأعلى بينما يغلق عينيه.
كان يرى العالم بلونٍ أسود، و في بعض الأحيان أبيض اللون، لكن هذا لم يكن كلّ شيئ.
في المقام الأول، العالم لم يكن شيئًا يمكن الحكم عليه بمثل هذه الطّريقة المثيرة للشفقة.
كان ذلك تحيّزًا لا معنى له.
لا يهم كم كان العالم غير عادلاً، فليس كلّ شيئٍ سيئًا دائمًا.
سواء قبلت تلك الحقيقة أم لا، فذلك هو ما يهم حقًّا.
يمكن إعتبار المبالغة في تقدير الذّات عجرفة، لأنّها تجعلك تعتقد أنَّ كلّ شيئٍ في العالم موجودٌ من أجلك.
لكن هذا ليس كلّ شيء.
في الجانب الأخر، المبالغة في تحقير الذّات أيضاً هو تعجرف أيضاً.
لأنَّك تعتقد أنَّ كلّ شيئٍ في العالم ضدَّك.
كان فرناندو متعجرفًا لمدّة طويلة.
و ذلك سينتهي اليوم.
عرف ما نقص سيفه.
و قد كانت تلك هي الإرادة.
في ماذا يضع السّيف أرادته؟.
هل ذلك للتّفوق؟.
هل هو للحماية؟.
أم للقتل؟.
لم يكن أيٌّ من ذلك بالشَّيئ المهم.
مهما كانت تلك الإرادة، واحدة تكفي.
ليس هناك حاجة لأن تكون مذهلة، لا حاجة لأن تكون نبيلة.
طالما هي إرادة، فالأمر بخير
مدى قناعة المرء بتلك الإرادة، و لأيِّ مدى هو مستعدٌّ للسير بها.
كان ذلك ما حدّد طريق المرء.
فتح عينيه بهدوء.
بريقٌ حاد.
أشعَّت عيناه ببريقٍ ساطع، كان سبب تميّزه بعيونه ظاهرًا للعيان.
أشعرت عيونه الشّخص أنَّه أمام مخلوقٍ مفترس.
التّلويحة الثّانية.
أضاء سيفه بنورٍ فضّي كما نزل لأسفل.
كان يبدو بطيئًا، لكنّه لم يكن بطيئًا، كان يبدو سريعًا، لكن شعر من يراه أنَّه ليس كذلك.
كتدفّق الوقت.
مضى بثبات، بنفس الوتيرة دائمًا.
سوويش!.
كما لو كان يقطع الرّيح.
ذهول.
سقط السّيف من يدي الفتى.
كانت عيناه واسعة و فمه مفتوحٌ على مصراعيه.
لم يصدّق ما قدر رأته عيناه.
‟ إنه … شعورٌ مختلفٌ كلّيًّا! ”
هذا القطع للأسفل كان جديدًا.
لقد لوّحَ بسيفه مرّاتٍ لا تحصى في حياته، لكنّ هذه التّلويحة مختلفة عن جميع ما قام به في فترة عمره بأكملها!.
' … هل أنا الأن حقًّا؟'
شعورٌ منعش أثلج صدره.
كان هناك شيئٌ ساخن على خدّه.
أنفه شعر بالإنسداد.
حاول الفتى كبح الشّعور المتصاعد بقوّة.
لكن لم يزل مهما قام بكبحه.
‟ أنا حقًّا … ”
بكى مرّاتٍ عديدة في حياته و شعر صدره بالضّيق حتّى سئم منه بالفعل.
لكن هذه المرَّة أشعرته بالإختلاف.
شعور جديد كلِّيًّا، رغم ذلك، لم يكن سيئًا.
على العكس من ذلك، كان دافئًا.
‟ يوشَّااااااا!! ”
صرخة من القلب.
‟ آاااااااه! لقد فعلتــها حقـَّــاً”
في إنجرافه مع الشّعور الجديد، صرخ الفتى كما لو كان يخرج كلّ ما بقلبه.
مع دموعه متدفّقة، صرخ الفتى نحو السماء بينما ينهار نحو الأرض.
لم يشعر بالألم، فقط شعور الإنجاز هو ما ملأ قلبه و غطّى جسده.
هاه؟ ماذا؟ سنينُ الكفاح ضاعت هباءً؟.
هيهيهيهي! ضاعت مؤخرتي!.
كان الفتى يضحك على نفسه بسخرية.
هو يعرف، لم يحلَّ مشكلته مع والده أو أخته، هو لم يصبح رئيس الأسرة أو يحقّق حلمه.
كان ذلك صحيح، هذا صحيح و لكن …
‟ لا يمكنني سوى أن أبتسم ”
شعور الفرحة لم يفارقه مهما حاول التّفكير بعقلانية.
وقف مرّة أخرى.
لا فائدة من محاولة البقاء ساكنًا، العقل يعمل بشكلٍ أفضل عندما يتحرَّك الجسد.
أعاد الفتى تعديل وضعيّته.
السيف لأعلى.
أنزل سيفه.
التّلويحة الثالثة.
السيف الأن لأسفل.
‟ … هذا ليس هو ”
أظهر الفتى الشّاب عبوسًا طفيفًا.
إنَّه ليس نفسه.
الشعور السّابق كان أكثر سلاسة، أكثر إنسيابيّة.
التّلويحة السابقة أشعرته كما لو كان يقطع الفراغ.
لم يشعر بأي مقاومة.
لكن الأن كان الأمر مختلفًا قليلاً.
رغم أنَّه ليس كما كان في تلويحاته السابقة، إلاّ أنَّه لا يقارن بتلويحته تلك.
لنحاول مرّة أخرى.
رفع سيفه لأعلى قبل أن ينزله لأسفل.
التّلويحة الرابعة.
زاد عبوس الفتى.
ليس هو أيضاً.
حاول مرّة أخرى.
و باء ذلك بالفشل مرّة أخرى.
في فجر يومٍ بارد، كان الجميع نائمًا، ربما القليل قد بدء يومه الأن.
لكن بالنسبة لفتىً واقف أمام بحيرة هادئة، فقد كان مستيقظًا و نشيطًا بالفعل.
أمامنا طريقٌ طويل لقطعه.
كان يلوِّحُ بسيفه بشغف.
لم يكن يعرف كم مرّة قطع الهواء بسيفه بالفعل، لكنَّه لم يهتم.
شغل عقله بالسيف بين يديه و تلويحاته فقط.
بدء العالم بالإنشقاق.
كان العالم من حوله يتلاشى ببطئ.
رغم ذلك، إستمرَّ بما يفعله كما لو كان ممسوس.
‟ قد تنتهي حياتي قبل بلوغه، لكن إن وصلت لذلك مرّة أخرى! ”
هذا الشّعور المذهل.
أنا سأعمل ساعيًا لبلوغه!.
من دون إدراك الفتى، كان لديه حلم جديد يصبوا إليه بجانب حلم طفولته.
و هو مستعد للعمل من أجله مهما كلَّف الأمر.
إنكسر العالم تمامًا مع إستمراره في تلويحه بسيفه