الفصل 187: أُخذ أسيرًا
-------
كانت ذراعا آدم ترتجفان.
لقد مضى أكثر من نصف ساعة منذ بدأت المعركة، ومع ذلك استمرت الوحوش بالتدفق. لم تتناقص أعدادها — بل كانت تزداد.
أمام عينيه مباشرة، شاهد رفاقه يسقطون. واحدًا تلو الآخر، جنوده — الرجال الذين تدرب معهم، وضحك معهم، ونزف معهم — سقطوا وصمتوا إلى الأبد.
المدينة التي كانت تعج بالحياة، والتي ازدهرت مؤخرًا بفضل طريق تجاري جديد، أصبحت الآن أنقاضًا — مقبرة غارقة بالدماء والدخان.
ومع ذلك، لم تكن المدينة فارغة.
كان آدم هو الإنسان الوحيد الذي ما زال واقفًا، لكن عدد السكان لم ينقص. بل تغيّر فحسب.
لقد أحاطوا به.
كائنات لا تنتمي إلى هذا العالم — جلودها تتوهج باللون الأحمر كالمعدن المصهور، مخالبها طويلة ومسننة، وعيونها متوحشة جائعة. أنيابها مكشوفة، ترتجف من شدة التوق إلى تمزيق اللحم. وكان وجودها وحده ينضح بشيء واحد: توق إلى الدم البشري.
كان آدم يمسك بشظيته — زوج من الهراوات البالية — بشدة حتى تحولت مفاصله إلى اللون الأبيض. كانت آخر ما يربطه بالأمل. لو أسقطها، لما عاش ثانية أخرى.
لم يكن يريد أن يموت.
ليس بعد.
ليس قبل أن يقضي بضع سنوات هادئة مع زوجته. ليس قبل أن يرى ابنته تسير نحو المذبح، متألقة بالسعادة.
لكن، مهما حاول التمسك بالأمل، كان جزء منه يعرف الحقيقة بالفعل.
لن يخرج حيًا من هذا.
هؤلاء الشياطين — رغم أنهم من الرتب الدنيا — تجاوز عددهم الألف. وحتى لو تمكّن من اختراق صفوفهم، من الفرار… فإلى أي مدى يمكنه أن يهرب حقًا؟ كم من الوقت قبل أن يُسحب مرة أخرى ويُمزّق إربًا؟
«وحتى لو خرجت… سيموت آخرون مكاني.»
لم تكن هذه مجرد مذبحة.
كانت فخًا. كمينًا محكمًا صُمّم لغرض واحد — هو.
"أنتَ إنسان عنيد"، جاء الصوت — ناعمًا، أنثويًا، ومليئًا بالسخرية.
أدار آدم رأسه ببطء ونظر للأعلى.
كانت شيطانة تحلق فوقه، جناحاها الداكنان ينبسطان بتكاسل، يرفرفان بالكاد لإبقائها في الهواء. عيناها الحمراوان التقتا بعينيه بنظرة مفعمة بالتهكم الخبيث.
لم يرتجف.
"نحن لا نتجدد كالديدان"، قال، ناظرًا إلى عينيها بثبات. "لهذا نتدرّب. لهذا نتحمّل."
لم يكن في صوته أي خوف.
لم يُدرّب على الركوع أمام الوحوش.
بل دُرّب على محوهم.
ابتسمت الشيطانة، وكانت أنيابها تلمع وهي تحوم بعيدًا عن متناول يده.
"أعجب حقًا بقدرتك على التهريف في وجه الموت"، قالت بسخرية. "أتظن أن استفزازك لي سيغضبني؟"
رفع آدم حاجبه، وانفرج طرف شفتيه بابتسامة مرهقة.
"ألستِ غاضبة؟" قال. "إذا… فأنتِ قبيحة بشكل طبيعي إذن؟"
تشققت إبتسامتها.
وفي غمضة عين، اختفت — وظهرت أمامه مباشرة، ووجهها مشوّه بالغضب. وقبل أن يتمكن حتى من إدراك الحركة، كانت يدها تطوّق عنقه، ترفعه عن الأرض كما يُرفع دمية قماشية.
"غاه—!" اختنق آدم، وساقاه تتدليان، ورؤيته تهتز. قبضته تشدّدت على الهراوتين، ولوّح بيأس، ضاربًا يدها.
دوّى صوت طقطقة حادّ — لكن الضربة لم تترك سوى خدش بالكاد يُرى على بشرتها القرمزية.
لم ترتجف حتى.
بل إن هذا الخدش الصغير جعلها أكثر غضبًا. شدّت قبضتها.
جسد آدم بدأ يرفس ويتلوّى — كان الهواء يتلاشى. وفي تلك اللحظة، علم.
لقد نجح إستفزازه لها.
ربما ليس بالطريقة التي أرادها — لكنه أصابها في مقتل.
جذبته نحوها حتى كادت وجوههما أن تلتقي، فزمجرت الشيطانة، بصوت منخفض ومسموم:
"اعتبر نفسك محظوظًا لأنني أريدك حيًا. وإلا، لكنت الآن جثة هامدة."
تجمّد جسد آدم.
حيًّا.
لقد أرادته حيًّا.
ضربه الإدراك بقوة—وبسرعة.
فاليري.
لا بد أنها هي.
قبض على فكه، و إستجمع آدم آخر ذرة من قوته. كانت يداه ترتجفان، لكنه جمع شظيته وهو يصب طاقته الروحية فيها.
لم يعد هناك مهرب، وبدلًا من أن يُستخدم طُعمًا لابنته، فضّل آدم أن ينهي حياته هنا والآن.
رفع عصيّه، عازمًا على كسرها باصطدامهما.
استنشق نفسًا حادًّا، ولكن—
ضحك!
ضربة حادة على عنقه. مفاجئة. دقيقة. وحشية.
مال العالم من حوله.
وغمره الظلام قبل أن تلتقي العصيّ.
أمسكت الشيطانة بجسده المرتخي قبل أن يسقط، وأطلقت ضحكة ناعمة شريرة.
"الآن قيمتك…" تمتمت، وهي تُبعد خصلة شعر عن وجهها، "سيحددها كيف سيتعامل أحباؤك الثمينون مع غيابك."
استدارت نحو أحد الشياطين الأدنى مرتبة—مخلوق أحدب، يزمجر، ذو عمود فقري ملتوي وعيون باهتة.
ولوّحت بإصبعها نحو صدره.
تأوه المخلوق، وصدره يغرغر بألم، لكنه لم يجزع حين بدأت الرموز المتوهجة تحترق على جلده—رسالة تخبرهم أين يمكن أن يجدوه.
ابتسمت الشيطانة، وعيناها تلمعان بلذة سادية.
"هذا،" همست، "سيكون ممتعًا جدًا."
°°°°°°°°°°
"ممم…"
تحركت آفيريس، تتمتم بخفة بينما بدأت وعيها يعود ببطء. شعرت بدفء غير معتاد، محاطة بإحساس غريب من الراحة—مع أنها علمت منذ اللحظة الأولى أن هذا ليس سريرها.
ثم تفتحت عيناها.
"آه!" انتفضت جالسة، محررة نفسها من الذراعين اللتين كانتا تحتضنانها.
أفزع حركتها المفاجئة كل من في الغرفة.
اتسعت عيناها—ليس من الخوف، بل من عدوانية حادة مشتعلة—وهي تحدق في أوستن.
"لا تظن أنني سامحتك!" صرخت، مشيرة إليه بإصبع مرتجف، تحاول أن تبدو غاضبة بقدر ما تستطيع.
رمش أوستن نحوها، وزفر تنهيدة ناعمة عاجزة.
"لا أظن شيئًا،" قال بلطف. "كنتِ تبدين متعبة… لذا حملتك أختك الكبرى."
"أي أخت كبرى؟!" ردت عليه، عاقدة ذراعيها وهي تدير ظهرها له بإستهزاء. "أنت لا تعني لي شيئًا!"
ولكن ما إن جالت بنظرها عبر الغرفة، حتى تجمدت.
كانت فاليري جالسة هناك، هادئة ومتزنة.
"مرحبًا، آفي،" قالت فاليري بابتسامة صغيرة. "لقد مر وقت طويل، أليس كذلك؟"
وقفت آفيريس مصدومة. فُغر فمها قليلًا وهي تكافح للعثور على كلمات.
"أأنتِ ما زلتِ… معه؟" سألت أخيرًا، وصوتها مملوء بالدهشة. "حتى بعد ما فعله بك؟"
مقارنة بآفيريس، كانت فاليري قد عانت أكثر بكثير.
أوستن قد صرخ على آفيريس مرة واحدة فقط—قال أشياء ما كان عليه قولها، نعم. لكن مع فاليري… لقد فعل ما هو أسوأ من مجرد رفع صوته.
لقد أقصاها.
يومًا بعد يوم، تجاهلها. دفعها بعيدًا. وأهانها بصمت أشد من أي كلمات.
لم يكن انفجارًا واحدًا.
بل كان تعذيبًا بطيئًا، هادئًا.
ومع ذلك… ها هي.
ما زالت بجانبه.
نهضت فاليري من مقعدها واقتربت ببطء من آفيريس، خطواتها هادئة، مقصودة. وضعت يديها بلطف على كتفي الفتاة المرتجفتين، لتثبّتها في مكانها.
وبصوت ناعم كالهمس، قالت:
"أنتِ محقة. لقد عاملني بشكل سيء… أسوأ مما توقعت يومًا. وأتخيل فقط كم آلَمكِ ذلك أيضًا."
لم تكن كلماتها درامية—بل صادقة. دافئة. متفهمة.
"أعلم كيف شعرتِ،" تابعت، وعيناها لطيفتان. "لأننا… كلانا نحبه أكثر من أي شخص آخر، أليس كذلك؟"
ارتعشت حواجب آفيريس. وشفاهها انطبقت في خط رفيع، وأدارت وجهها بعيدًا.
لم تُجب.
لكن عينيها—تلك العينان العنيدتان المتصارعتان—كانتا تلمعان. والغضب الذي كافحت بشدة لتتمسك به بدأ يتسرب من بين الشقوق.
كانت تحبه. وذلك ما جعل كل شيء يؤلم أكثر.
ابتسمت فاليري بلطف وكفّت على خد آفيريس، موجّهة إياها لتنظر إليها من جديد.
"لكن أليس من حق الجميع فرصة ثانية؟" قالت بهدوء. "لقد ارتكب خطأً. مؤلمًا. ولكن إن لم نمنحه حتى الفرصة ليُصلح الأمور… ألن يكون ذلك ظلمًا أيضًا؟"
لم ترد آفيريس مباشرة.
لكن تنفسها هدأ.
وعيناها ارتجفتا.
كانت تنهار—وتحت ذلك الغضب كان قلب يتوق للمغفرة.
زفر أوستن وقال، "حسنًا، فلنذهب ونتناول العشاء. لم نأكل شيئًا منذ الصباح." كان يعلم أن إجبارها على اتخاذ قرار فورًا سيكون ظالمًا، لذا قرر أن يمنحها بعض الوقت.
أومأت فاليري مبتسمة قبل أن تدعو آفيريس، "فلنذهب؟"
لكن، "لن أخرج. لمجرد أنك تعتذر لا يعني أنني سأغير قلبي فجأة." ابتعدت عن فاليري وجلست على سريرها، وظهرها لهم.
وبصوت ثقيل قالت، " غادروا كلكم. "
نظرت فاليري إلى سيدها بنظرة قلقة، لكن أوستن لم يظهر عليه أي انزعاج.
جلس مجددًا على الأريكة، وقال للخادم، "سيباستيان، من فضلك، أحضر طعام الجميع إلى هنا. سنتناول عشاء عائلي هنا. "
إرتجفت آفيريس و إستدارت تنظر إليه بشفاه متفرقة.
إبتسمت فاليري بسعادة. لقد مر وقت منذ أن إجتمعوا على مائدة واحدة.
إبتسم سيباستيان بدفء وهو ينحني قليلًا وقال، " كما تأمر، سيدي. "
وأخيرًا، كانت العائلة تلتئم من جديد.