في ليلةٍ بلا قمر، حيث لم يكن يُسمع سوى صرير الرياح التي تمرّ بين جدران دار الأيتام القديمة، كان الطفل رايزل يحبس أنفاسه خلف بابٍ موارب. تنفّسه كان خفيفًا كأنفاس طير مذعور، ويداه المرتجفتان تمسكان بالحقيبة الصغيرة التي خبأ فيها قطعة خبزٍ يابس، وعلبة صدئة فيها قطعة من قماش قديم، كان يغطي بها رأسه في الشتاء.
لم يكن دار الأيتام ذاك مكانًا للرحمة. لم يكن مأوىً بل سجنًا لأطفالٍ لا ذنب لهم سوى أن الحياة لفظتهم في سنٍّ مبكرة. المديرة كانت لا ترى فيهم سوى أدوات، أيدي عاملة صغيرة، وعقابها كان قاسيًا لا يعرف العدل. ضربة واحدة على يدها حولت ظهر رايزل ذات يوم إلى خرائط من الكدمات… كل ذلك لأنه ترك غبارًا على نافذة.
ومنذ ذلك اليوم، عرف رايزل أن البقاء هنا يعني موتًا بطيئًا، فقرر الهرب… مهما كلّفه الأمر.
خرج في منتصف الليل، والأنفاس نائمة، والقمر غائب، وحدها عزيمته كانت حاضرة. تسلّق النوافذ بخفة القط، سقط على الأرض وكتم ألمه بين أسنانه، ثم ركض. لم يتوقف ليرى وراءه، لم يفكر بما قد يحدث لو أمسكوه… كان الجري بالنسبة له صلاة، ووجهته الوحيدة: "بعيدًا".
لكنه لم يكن يعلم أن أقدامه ستقوده إلى شيءٍ أشد ظلامًا من دار الأيتام.
---
وقف أمام مبنى ضخم، مهجور. مصنع دمى قديم، لا نوافذ فيه ولا ضوء، فقط اسم باهت منقوش على مدخله: "نَسَجُ الأحلام". ابتلع ريقه، وقلبه يضرب صدره كطبول الحرب. قال لنفسه:
"مصنع دمى؟ إنه مخيف… لكنني لن أعود."
دخل بخطى بطيئة، والغبار يتراقص في الهواء كأنّه يهمس له بأسرار قديمة. كان المصنع مليئًا بالدمى. ولكنها لم تكن دمى عادية… كانت عيونها تشع بلون غريب، بعضها مبتور الأطراف، وأخرى تتدلّى من السقف بحبال كالمشانق، كأنها جثث صامتة تنتظر أن تفتح عينيها.
في الزاوية، رأى دمية لها عينان حمراوان، وذراع واحدة. للحظة، شعر بأنها تتنفس… تتنفس! بل رآها تنظر إليه. تجمد الدم في عروقه.
ركض رايزل، كمن يهرب من حلمٍ أحياه بنفسه. فتح بابًا صدئًا وركض إلى الداخل. كان المكان مظلمًا، ساكنًا… وفي منتصف الغرفة، كتابٌ قديم مغطى بالغبار.
اقترب منه. عنوانه كان مكتوبًا بزخرفة نار:
"سيد النار".
فتحه، وتصفّح أول صفحة. كانت قصة عن شاب أراد أن يصبح ملك الجليد… لكنه غيّر هدفه حين خانَه شقيقه، فاختار النار ليحرق كل شيء.
قبل أن يقلب الصفحة التالية… سمع الصوت.
صوت غريب، عميق، وكأنه يصدر من حلقٍ بلا جسد:
"مرحبًا بك، أيها الطفل… هل تريد دمية؟"
ثم… الظلام.
---
فتح عينيه على ضوء ناعم. السقف مزخرف، والستائر حريرية، والوسادة تحت رأسه كانت أثمن من كل ما رآه في حياته. اقتربت منه خادمة بملابس ملكية، وهمست بخوف:
"سيدي… هل أنتم بخير؟"
تعلقت عينا رايزل بها، ثم قال بصوتٍ مرتجف:
"مَن أنا؟"
صمتت الخادمة للحظة، ثم أجابت:
"أنت هو الأمير الثاني لمملكة لينيار... رايزل فالنتين."
شهق رايزل، وعيناه تتسعان. لكن الصدمة الكبرى لم تكن في كونه أميرًا… بل في اسمه.
فالنتين… الاسم الذي كان بطل القصة في "سيد النار" يحمله.
وهو يعلم من قاتل البطل في تلك القصة…
أخوه، الأمير الأول… لوكاس فالنتين.
---
جلس رايزل أمام المرآة في ليلته الأولى في القصر، يحدق في وجهٍ لا يعرفه، في اسمٍ لا يخصه، وفي قدرٍ يُعاد له.
قال بصوت خافت:
"كنت أبحث عن الحرية… فوجدت نفسي في قصةٍ ليست قصتي. لكن هذه المرة…"
نهض
، واقترب من النافذة، نظر إلى السماء.
"...هذه المرة، سأكتبها بيدي."