كان الضباب يلف الكهف بصمتٍ قاتم، والهدوء الذي أعقب رسالة الإمبراطور زاد من توتر الأجواء.
جلس الأربعة بالقرب من نيران صغيرة أشعلها ريمبر باستخدام سحره، يحدّقون في الجدران المتجمدة أو في اللاشيء.
لوكاس كان واقفًا قرب مدخل النفق، يراقب الظلال بخفة، يده على قبضته كأنه يتوقّع هجومًا في كل لحظة.
ريـمبر كان جالسًا مقابل الجدار، ذيله ملتفٌّ حول قدميه، وعيناه تراقبان النيران دون رمشة.
أما رايزل، فكان جالسًا يلفّ ركبتيه بذراعيه، وقد بدا شارد الذهن، يفكر… في الإمبراطور، في إيزيك، في نفسه.
لكن فجأة—
"أوووه لاااا… بطنيييي!!"
صرخ سيفاريل فجأة وسقط على الأرض، ممسكًا ببطنه.
نظر الجميع نحوه بصدمة، ظنّوا أنه تسمم أو أصابه شيء.
قال بنبرة درامية وهو يتقلّب على الصخور:
"سوف أموت قبل أن أصل القصر… من الجوع… من الظلم… من الصقيع… من تجاهل والدي!!"
كتم رايزل ضحكته، تغطّى فمه بيده بسرعة، لكن كتفيه كانا يرتجفان بقوة.
قال سيفاريل وهو يمد ذراعيه للسماء:
"أيتها الأرواح المقدسة، لماذا أنا الوحيد الجميل الذي يُعذّب؟! لماذا ليس رايزل؟ هو أمير أيضاً!!"
ضحك رايزل رغماً عنه، بصوت خافت.
أما ريمبر فقد عضّ على شفتيه محاولًا أن يبقى صامتًا، لكن خنق ضحكة خرجت كـ"غغغغ" عميقة.
حتى لوكاس، الذي بدا كتمثال منذ لحظة، قطب حاجبيه وقال:
"إذا لم تغلق فمك، سيجذبنا الوحش التالي برائحة سخافتك."
ردّ عليه سيفاريل بسرعة وهو ينقلب على جانبه الآخر:
"لو جاء الوحش سأطعمه كرامتي… لأنها الشيء الوحيد الذي تبقّى لدي!"
ضحك رايزل هذه المرة بوضوح، ورفع رأسه نحو لوكاس:
"أتعرف؟ أحيانًا أفكر أن المهمة الحقيقية… هي أن ننجو من سيفاريل نفسه، لا من الوحوش."
ابتسم لوكاس خفيفة دون أن يعلّق، وواصل مراقبة الظلال، لكن التوتر في عينيه… خفّ قليلاً.
خلال لحظات، دوّى صوت حوافر الخيول فوق الجليد، واختلط مع صليل دروع الفرسان.
انبثق الضوء السحري الأزرق من البوابة الملكية التي فُتحت في عمق الكهف، وخرج منها قرابة عشرين فارسًا بزيّ إمبراطوري ثقيل، يتقدّمهم قائد طويل ذو عباءة سوداء وأزرار فضية.
توقّفوا جميعًا ما إن أبصروا الأولاد الأربعة واقفين، والضباب يلفّهم كستارٍ درامي.
لكنّ أنظارهم لم تتعلّق بأحد كما تعلّقت بـ... التنين.
على كتف رايزل، جلس ريمبر بهدوء، يلفّ ذيله حول رقبته وكأنّه وشاحٌ أرجوانيّ حَيّ، وعيناه الزرقاوتان المائلة للارجواني تراقبان الفرسان.
ارتفعت همسات خافتة بين الجنود:
> "هل هذا... تنين؟"
"تنين صغير... على كتف الأمير؟"
تقدّم أحد الفرسان خطوةً للأمام، لكن قبل أن يفتح فمه...
قال رايزل بنبرة حادة باردة، وعيناه الكريستاليتان تشعّان:
> "هذا تنيني... ريمبر."
"لا تمسّوه."
توقّف الجميع، كأن الزمن تجمّد في المكان.
أومأ القائد باحترام، ثم انحنى قليلاً:
> "كما تأمر، سموّ الأمير."
في تلك اللحظة، ركض سيفاريل بسرعة، وأمسك بكمّ رايزل بتوسل:
> "أرجوك رايزل!! فلتدعني أذهب معك! أنا أعدك أن أكون مفيدًا! أعدك ألا أكون عبئًا!"
نظر إليه رايزل بصمت، ثم أنزل نظره إلى السيف الذي يحمله سيفاريل بين يديه.
قال بهدوء، ونبرته حاسمة رغم نعومتها:
> "همم… ربما."
"لكن… إذا عدتَ إلى مملكة ليفيان، فلتُعد هذا السيف إلى والدك."
شهق سيفاريل، ثم رفع السيف أمامه بانضباطٍ غريب وقال بجدية مدهشة:
> "أقسم أنني سأُعيده بيدي... بعد أن أصبح شخصًا يستحق حمله."
ابتسم ريمبر وهو على كتف رايزل:
> "هذه أول مرة تتحدث فيها وكأنك بطل حقيقي."
ضحك سيفاريل فورًا وقال وهو يعدّل شعره:
> "هيييه؟ دائمًا كنت بطلاً أيها التنين الغبي! فقط تحتاجون لأن تروني في المعركة... حين لا أهرب."
ضحك الجنود بخفّة، لكن سرعان ما خفّت ضحكاتهم حين التفت رايزل نحوهم بنظرة جدّية مرة أخرى، وقال:
> "هيا... لنعد إلى القصر."
وانطلقت القافلة الملكية عبر البوابة، تتقدّمها خطى رايزل الصامتة، وعلى كتفه... كان التنين يراقب السماء.
صوت عجلات العربة الخشبية وهي تتشقلب فوق الحصى الثلجيّ كان كل ما يُسمع، إلا من أنفاس متعبة، وصمت ثقيل، ورائحة المعركة التي لا تزال عالقة في ملابسهم المتسخة.
جلس الأربعة في المقصورة الخلفية للعربة الملكية، والتي، رغم زخارفها الذهبية، لم تكن دافئة كما ظنّ رايزل.
اتكأ رايزل في الزاوية، عبس وجهه وهو ينفض قطعة طين مجمّدة من ردائه:
> "سُحقًا… كل هذا القتال، كل هذا البرد، وكل هذه المغامرة… ولم نفعل شيئًا مفيدًا!"
ثم التفت نحو لوكاس، الذي كان جالسًا بصمت عند النافذة، يراقب الأشجار تمرّ عبر الزجاج المتّسخ، ملامحه ساكنة كتمثال.
> "هل تنوي أن تظل صامتًا حتى نصل؟ على الأقل أخبرني… هل كنا مجرد حمقى؟"
لم يرد لوكاس، فقط رمش ببطء.
سيفاريل، من جهته، كان يحاول نزع علكة جليدية علقت بحذائه، وهو يتذمّر:
> "آآه… حتى العربة فيها برد! لا أحد يقدّر معاناة شاب وسيم مثلي، ملابسي تلطخت، وشعري… يا إلهي شعري!!"
ريـمبر، المتكوّر على ركبة رايزل، قال وهو يفتح إحدى عينيه بتثاقل:
> "كفّوا عن الشكوى… التنين الوحيد هنا لم يقل شيئًا، وأنتم تشكون كأنكم أبناء فلاّحين."
ردّ عليه رايزل وهو يزيح خصلة من شعره المتجمد:
> "بل نحن أبناء الإمبراطور، ومهما كنا، فنحن الآن مجرد أولاد بثياب قذرة ويدين متجمدتين."
سيفاريل صرخ:
> "أنا أريد حوض استحمام، وليس القصر!"
ضحك رايزل أخيرًا، ونظر إلى لوكاس مجددًا:
> "هيا، قل شيئًا يا ابن الملك، أتعجبك هذه الرحلة المجيدة؟"
أخيرًا، رد لوكاس بهدوء، دون أن يلتفت:
> "على الأقل، لم يمت أحد."
ساد الصمت لثوانٍ.
ثم قال ريمبر وهو يتثاءب:
> "نقطة منطقية... وإن كانت مملة."
...
كان الغروب يلفّ أروقة القصر الملكي حين توقفت العربة أمام البوابة الشرقية.
ترجّل الفرسان أولًا، فتقدموا باحترام، ثم فُتحت أبواب العربة لتظهر وجوهٌ متعبة، وأجسادٌ صغيرة ترتجف من البرد، وملابس... لا تليق أبدًا بأمراء.
نزل رايزل أولًا، وغطاء الرأس قد التصق بشعره من الثلج الذائب، وبقع الطين تلوّن عباءته الملكية القديمة. تبعه سيفاريل وهو يئن:
> "هل نحن في قصر أم مزرعة؟ أين الاستقبال الملكي؟ أين الحرس؟ أين الورود؟ أين المدافئ؟!"
ريـمبر قفز من كتف رايزل إلى الأرض، يهز جناحيه الصغيرين، ويتمتم:
> "آه... رائحة البشر تملأ المكان من جديد… كم أكره العطر الملكي!"
أما لوكاس، فقد نزل بهدوء، وأغلق باب العربة خلفه دون أن ينبس بكلمة.
لم يكن هناك صفّ من المستشارين، ولا أبواق تعلن عودتهم، ولا حتى الإمبراطور.
فقط اثنتان.
من قلب الممر الملكي، اندفعت خادمتان شابتان بركض متسارع، عباءتاهما ترفرفان خلفهما، ووجهيهما متوردان من الدموع والركض
سيليا كانت أول من صرخ:
> "راااااايـــزل!!!"
ولحقت بها كومي:
> "كنتُ أعلم أنك لا تزال حيًّا! لم نصدّق أنهم قالوا إنك فُقدت في الجبال!!"
قبل أن يدرك الأمر، كانت الاثنتان قد احتضنتاه معًا، رغم برودة جسده ووساخة ملابسه.
قالت سيليا باكية وهي تتفحّص وجهه:
> "أنت بخير…… أنت بخير!"
أما كومي فصفقت بخفة وقالت مبتسمة:
> "لكن... شكلك مثير للشفقة! أي نوع من المغامرات كانت هذه؟ هل تسلّلت إلى مستنقع؟!"
ضحك رايزل بخفة، وهو يرفع حاجبيه:
> "أوه، لا تسأليني... تنين، سيف مسروق، أمير متجمد، ووحش من الرتبة A، هذا فقط ما في الأمر."
ثم نظر خلفه إلى لوكاس وسيفاريل وقال:
> "وأصدقاء مملوؤون بالأوساخ."
قالت كومي وهي ترفع أنفها:
> "كلّكم إلى الحمّام، حالًا! قبل أن ترى الإمبراطور أو أي أحد!"
نظر لوكاس إلى الممر بصمت، ثم قال بهدوء وهو يتقدّم:
> "لا حاجة لرؤية أحد."
فهمت سيليا المعنى، وخفّت ضحكتها، ثم التفتت إلى رايزل وهمست:
> "هو لم يستقبلكم، أليس كذلك؟"
أومأ رايزل بهدوء، ثم قال وهو يمضي خلف لوكاس:
> "لا بأس... لا شيء تغيّر."
وبينما كانوا يعبرون الرواق، والضوء البرتقالي يعكس ظلالهم فوق الأرض اللامعة، نظر ريمبر إليهم وقال:
> "إذا كان هذا هو القصر... فأنا أفضّل كهف الضباب."
وبينما كانوا يسيرون في ممرات القصر الطويلة، خلفهم آثار موحلة وبقع ماء ذائب من الثلج، تنفّس رايزل بعمق، ثم نظر إلى يديه المتسختين، وعباءته الممزقة، وهمس في نفسه بوجهٍ عابس:
> "سُحقًا... التحالف مع إيزيك فاشل... اللعنة."
كان يمشي خلف سيليا وكومي، اللتين توقفتا فجأة، وبدأتا تتبادلان نظرات خفية، تحاولان جاهدتين كتمان ردود فعلهما.
كومي وضعت كمّها على أنفها وهمست:
> "آه... هل هذه... رائحة مغامرة؟ أم رائحة مقبرة جماعية؟"
سيليا رمشت بعينيها وهي تبتعد خطوة للخلف:
> "لا... لا، هذا أسوأ من الرائحة التي شممناها عندما تسلل طائر ميت إلى المطبخ الملكي!"
سيفاريل التفت إليهما وقال بفخر:
> "أنا أطلقت تعويذة دفاعية من وحل التنين... ربما هي السبب."
ردت كومي بسرعة:
> "آه! إذًا فلتبقى تعويذتك في حفرتك التالية! لأن أنفي لن يتحمّل واحدة أخرى!"
رايزل عضّ على شفته محاولًا كتم ضحكة، بينما قال ريـمبر وهو يسير على أربع بجانبه:
> "أنتم أيها البشر... تتهربون من الرائحة وكأنكم لم تُخلقوا منها. التنين يفتخر برائحته بعد القتال!"
لوكاس تجاهل الجميع، تابع طريقه بصمت، لكنه تمتم بصوت خافت:
> "الحقيقة أن الرائحة... لا بأس بها. تدل على أننا نجونا."
نظرت إليه كومي بصدمة:
> "هل أنت بخير؟ أم فقدت حاسة الشم في الجبل؟!"
سيليا رفعت ذيل تنورتها وهي تقفز بعيدًا عن نقطة موحلة سقطت من حذاء رايزل:
> "كف
كان الضباب يلف الكهف بصمتٍ قاتم، والهدوء الذي أعقب رسالة الإمبراطور زاد من توتر الأجواء.
جلس الأربعة بالقرب من نيران صغيرة أشعلها ريمبر باستخدام سحره، يحدّقون في الجدران المتجمدة أو في اللاشيء.
لوكاس كان واقفًا قرب مدخل النفق، يراقب الظلال بخفة، يده على قبضته كأنه يتوقّع هجومًا في كل لحظة.
ريـمبر كان جالسًا مقابل الجدار، ذيله ملتفٌّ حول قدميه، وعيناه تراقبان النيران دون رمشة.
أما رايزل، فكان جالسًا يلفّ ركبتيه بذراعيه، وقد بدا شارد الذهن، يفكر… في الإمبراطور، في إيزيك، في نفسه.
لكن فجأة—
"أوووه لاااا… بطنيييي!!"
صرخ سيفاريل فجأة وسقط على الأرض، ممسكًا ببطنه.
نظر الجميع نحوه بصدمة، ظنّوا أنه تسمم أو أصابه شيء.
قال بنبرة درامية وهو يتقلّب على الصخور:
"سوف أموت قبل أن أصل القصر… من الجوع… من الظلم… من الصقيع… من تجاهل والدي!!"
كتم رايزل ضحكته، تغطّى فمه بيده بسرعة، لكن كتفيه كانا يرتجفان بقوة.
قال سيفاريل وهو يمد ذراعيه للسماء:
"أيتها الأرواح المقدسة، لماذا أنا الوحيد الجميل الذي يُعذّب؟! لماذا ليس رايزل؟ هو أمير أيضاً!!"
ضحك رايزل رغماً عنه، بصوت خافت.
أما ريمبر فقد عضّ على شفتيه محاولًا أن يبقى صامتًا، لكن خنق ضحكة خرجت كـ"غغغغ" عميقة.
حتى لوكاس، الذي بدا كتمثال منذ لحظة، قطب حاجبيه وقال:
"إذا لم تغلق فمك، سيجذبنا الوحش التالي برائحة سخافتك."
ردّ عليه سيفاريل بسرعة وهو ينقلب على جانبه الآخر:
"لو جاء الوحش سأطعمه كرامتي… لأنها الشيء الوحيد الذي تبقّى لدي!"
ضحك رايزل هذه المرة بوضوح، ورفع رأسه نحو لوكاس:
"أتعرف؟ أحيانًا أفكر أن المهمة الحقيقية… هي أن ننجو من سيفاريل نفسه، لا من الوحوش."
ابتسم لوكاس خفيفة دون أن يعلّق، وواصل مراقبة الظلال، لكن التوتر في عينيه… خفّ قليلاً.
خلال لحظات، دوّى صوت حوافر الخيول فوق الجليد، واختلط مع صليل دروع الفرسان.
انبثق الضوء السحري الأزرق من البوابة الملكية التي فُتحت في عمق الكهف، وخرج منها قرابة عشرين فارسًا بزيّ إمبراطوري ثقيل، يتقدّمهم قائد طويل ذو عباءة سوداء وأزرار فضية.
توقّفوا جميعًا ما إن أبصروا الأولاد الأربعة واقفين، والضباب يلفّهم كستارٍ درامي.
لكنّ أنظارهم لم تتعلّق بأحد كما تعلّقت بـ... التنين.
على كتف رايزل، جلس ريمبر بهدوء، يلفّ ذيله حول رقبته وكأنّه وشاحٌ أرجوانيّ حَيّ، وعيناه الذهبيّتان تراقبان الفرسان.
ارتفعت همسات خافتة بين الجنود:
> "هل هذا... تنين؟"
"تنين صغير... على كتف الأمير؟"
تقدّم أحد الفرسان خطوةً للأمام، لكن قبل أن يفتح فمه...
قال رايزل بنبرة حادة باردة، وعيناه الكريستاليتان تشعّان:
> "هذا تنيني... ريمبر."
"لا تمسّوه."
توقّف الجميع، كأن الزمن تجمّد في المكان.
أومأ القائد باحترام، ثم انحنى قليلاً:
> "كما تأمر، سموّ الأمير."
في تلك اللحظة، ركض سيفاريل بسرعة، وأمسك بكمّ رايزل بتوسل:
> "أرجوك رايزل!! فلتدعني أذهب معك! أنا أعدك أن أكون مفيدًا! أعدك ألا أكون عبئًا!"
نظر إليه رايزل بصمت، ثم أنزل نظره إلى السيف الذي يحمله سيفاريل بين يديه.
قال بهدوء، ونبرته حاسمة رغم نعومتها:
> "همم… ربما."
"لكن… إذا عدتَ إلى مملكة ليفيان، فلتُعد هذا السيف إلى والدك."
شهق سيفاريل، ثم رفع السيف أمامه بانضباطٍ غريب وقال بجدية مدهشة:
> "أقسم أنني سأُعيده بيدي... بعد أن أصبح شخصًا يستحق حمله."
ابتسم ريمبر وهو على كتف رايزل:
> "هذه أول مرة تتحدث فيها وكأنك بطل حقيقي."
ضحك سيفاريل فورًا وقال وهو يعدّل شعره:
> "هيييه؟ دائمًا كنت بطلاً أيها التنين الغبي! فقط تحتاجون لأن تروني في المعركة... حين لا أهرب."
ضحك الجنود بخفّة، لكن سرعان ما خفّت ضحكاتهم حين التفت رايزل نحوهم بنظرة جدّية مرة أخرى، وقال:
> "هيا... لنعد إلى القصر."
وانطلقت القافلة الملكية عبر البوابة، تتقدّمها خطى رايزل الصامتة، وعلى كتفه... كان التنين يراقب السماء.
صوت عجلات العربة الخشبية وهي تتشقلب فوق الحصى الثلجيّ كان كل ما يُسمع، إلا من أنفاس متعبة، وصمت ثقيل، ورائحة المعركة التي لا تزال عالقة في ملابسهم المتسخة.
جلس الأربعة في المقصورة الخلفية للعربة الملكية، والتي، رغم زخارفها الذهبية، لم تكن دافئة كما ظنّ رايزل.
اتكأ رايزل في الزاوية، عبس وجهه وهو ينفض قطعة طين مجمّدة من ردائه:
> "سُحقًا… كل هذا القتال، كل هذا البرد، وكل هذه المغامرة… ولم نفعل شيئًا مفيدًا!"
ثم التفت نحو لوكاس، الذي كان جالسًا بصمت عند النافذة، يراقب الأشجار تمرّ عبر الزجاج المتّسخ، ملامحه ساكنة كتمثال.
> "هل تنوي أن تظل صامتًا حتى نصل؟ على الأقل أخبرني… هل كنا مجرد حمقى؟"
لم يرد لوكاس، فقط رمش ببطء.
سيفاريل، من جهته، كان يحاول نزع علكة جليدية علقت بحذائه، وهو يتذمّر:
> "آآه… حتى العربة فيها برد! لا أحد يقدّر معاناة شاب وسيم مثلي، ملابسي تلطخت، وشعري… يا إلهي شعري!!"
ريـمبر، المتكوّر على ركبة رايزل، قال وهو يفتح إحدى عينيه بتثاقل:
> "كفّوا عن الشكوى… التنين الوحيد هنا لم يقل شيئًا، وأنتم تشكون كأنكم أبناء فلاّحين."
ردّ عليه رايزل وهو يزيح خصلة من شعره المتجمد:
> "بل نحن أبناء الإمبراطور، ومهما كنا، فنحن الآن مجرد أولاد بثياب قذرة ويدين متجمدتين."
سيفاريل صرخ:
> "أنا أريد حوض استحمام، وليس القصر!"
ضحك رايزل أخيرًا، ونظر إلى لوكاس مجددًا:
> "هيا، قل شيئًا يا ابن الملك، أتعجبك هذه الرحلة المجيدة؟"
أخيرًا، رد لوكاس بهدوء، دون أن يلتفت:
> "على الأقل، لم يمت أحد."
ساد الصمت لثوانٍ.
ثم قال ريمبر وهو يتثاءب:
> "نقطة منطقية... وإن كانت مملة."
...
كان الغروب يلفّ أروقة القصر الملكي حين توقفت العربة أمام البوابة الشرقية.
ترجّل الفرسان أولًا، فتقدموا باحترام، ثم فُتحت أبواب العربة لتظهر وجوهٌ متعبة، وأجسادٌ صغيرة ترتجف من البرد، وملابس... لا تليق أبدًا بأمراء.
نزل رايزل أولًا، وغطاء الرأس قد التصق بشعره من الثلج الذائب، وبقع الطين تلوّن عباءته الملكية القديمة. تبعه سيفاريل وهو يئن:
> "هل نحن في قصر أم مزرعة؟ أين الاستقبال الملكي؟ أين الحرس؟ أين الورود؟ أين المدافئ؟!"
ريـمبر قفز من كتف رايزل إلى الأرض، يهز جناحيه الصغيرين، ويتمتم:
> "آه... رائحة البشر تملأ المكان من جديد… كم أكره العطر الملكي!"
أما لوكاس، فقد نزل بهدوء، وأغلق باب العربة خلفه دون أن ينبس بكلمة.
لم يكن هناك صفّ من المستشارين، ولا أبواق تعلن عودتهم، ولا حتى الإمبراطور.
فقط اثنتان.
من قلب الممر الملكي، اندفعت خادمتان شابتان بركض متسارع، عباءتاهما ترفرفان خلفهما، ووجهيهما متوردان من الدموع والركض
سيليا كانت أول من صرخ:
> "راااااايـــزل!!!"
ولحقت بها كومي:
> "كنتُ أعلم أنك لا تزال حيًّا! لم نصدّق أنهم قالوا إنك فُقدت في الجبال!!"
قبل أن يدرك الأمر، كانت الاثنتان قد احتضنتاه معًا، رغم برودة جسده ووساخة ملابسه.
قالت سيليا باكية وهي تتفحّص وجهه:
> "أنت بخير…… أنت بخير!"
أما كومي فصفقت بخفة وقالت مبتسمة:
> "لكن... شكلك مثير للشفقة! أي نوع من المغامرات كانت هذه؟ هل تسلّلت إلى مستنقع؟!"
ضحك رايزل بخفة، وهو يرفع حاجبيه:
> "أوه، لا تسأليني... تنين، سيف مسروق، أمير متجمد، ووحش من الرتبة A، هذا فقط ما في الأمر."
ثم نظر خلفه إلى لوكاس وسيفاريل وقال:
> "وأصدقاء مملوؤون بالأوساخ."
قالت كومي وهي ترفع أنفها:
> "كلّكم إلى الحمّام، حالًا! قبل أن ترى الإمبراطور أو أي أحد!"
نظر لوكاس إلى الممر بصمت، ثم قال بهدوء وهو يتقدّم:
> "لا حاجة لرؤية أحد."
فهمت سيليا المعنى، وخفّت ضحكتها، ثم التفتت إلى رايزل وهمست:
> "هو لم يستقبلكم، أليس كذلك؟"
أومأ رايزل بهدوء، ثم قال وهو يمضي خلف لوكاس:
> "لا بأس... لا شيء تغيّر."
وبينما كانوا يعبرون الرواق، والضوء البرتقالي يعكس ظلالهم فوق الأرض اللامعة، نظر ريمبر إليهم وقال:
> "إذا كان هذا هو القصر... فأنا أفضّل كهف الضباب."
وبينما كانوا يسيرون في ممرات القصر الطويلة، خلفهم آثار موحلة وبقع ماء ذائب من الثلج، تنفّس رايزل بعمق، ثم نظر إلى يديه المتسختين، وعباءته الممزقة، وهمس في نفسه بوجهٍ عابس:
> "سُحقًا... التحالف مع إيزيك فاشل... اللعنة."
كان يمشي خلف سيليا وكومي، اللتين توقفتا فجأة، وبدأتا تتبادلان نظرات خفية، تحاولان جاهدتين كتمان ردود فعلهما.
كومي وضعت كمّها على أنفها وهمست:
> "آه... هل هذه... رائحة مغامرة؟ أم رائحة مقبرة جماعية؟"
سيليا رمشت بعينيها وهي تبتعد خطوة للخلف:
> "لا... لا، هذا أسوأ من الرائحة التي شممناها عندما تسلل طائر ميت إلى المطبخ الملكي!"
سيفاريل التفت إليهما وقال بفخر:
> "أنا أطلقت تعويذة دفاعية من وحل التنين... ربما هي السبب."
ردت كومي بسرعة:
> "آه! إذًا فلتبقى تعويذتك في حفرتك التالية! لأن أنفي لن يتحمّل واحدة أخرى!"
رايزل عضّ على شفته محاولًا كتم ضحكة، بينما قال ريـمبر وهو يسير على أربع بجانبه:
> "أنتم أيها البشر... تتهربون من الرائحة وكأنكم لم تُخلقوا منها. التنين يفتخر برائحته بعد القتال!"
لوكاس تجاهل الجميع، تابع طريقه بصمت، لكنه تمتم بصوت خافت:
> "الحقيقة أن الرائحة... لا بأس بها. تدل على أننا نجونا."
نظرت إليه كومي بصدمة:
> "هل أنت بخير؟ أم فقدت حاسة الشم في الجبل؟!"
سيليا رفعت ذيل تنورتها وهي تقفز بعيدًا عن نقطة موحلة سقطت من حذاء رايزل:
> "
كفى كلامًا! إلى الحمام الملكي! الآن! وسأرمي ملابسكم في النار بنفسي!"
رايزل، بابتسامة ساخرة وهو ينظر إلى بقعة سوداء على كمه:
> "أحسنتِ، كومي... أخيرًا أمر ملكي يُنفَّذ بحماس."
ضحكت كومي وقالت:
> "ما عُدتَ أميرًا يا رايزل، بل... جرذ مغامرات!"
ضحك ريمبر عاليًا:
> "جرذ ومعه تنين... يبدو وكأنها بداية رواية عظيمة."
ى كلامًا! إلى الحمام الملكي! الآن! وسأرمي ملابسكم في النار بنفسي!"
رايزل، بابتسامة ساخرة وهو ينظر إلى بقعة سوداء على كمه:
> "أحسنتِ، كومي... أخيرًا أمر ملكي يُنفَّذ بحماس."
ضحكت كومي وقالت:
> "ما عُدتَ أميرًا يا رايزل، بل... جرذ مغامرات!"
ضحك ريمبر عاليًا:
> "جرذ ومعه تنين... يبدو وكأنها بداية عظيمة."
وبعد ساعاتٍ من العودة، وبعد أن اغتسل الأولاد جميعهم وأُزيلت عنهم طبقات الطين والثلج والتعب، خُبِّر رايزل أن اجتماعًا قد عُقد في القاعة العليا.
لكن قبل أن يُستدعى، كان الاجتماع الإمبراطوري في ذروته.
قصر لينيار العظيم، في قاعته البيضاوية المزينة بأعلام الممالك الفرعية، كان مكتظًا بالنبلاء، والجنرالات، والسحرة الكبار.
كلُّ واحدٍ منهم يهمس في أذن الآخر، والحديث يدور عن الحدود الشمالية، وعن ظهور الوحوش، وعن اختفاء الأمراء.
لكنهم جميعًا — وبلا استثناء — يصمتون كلما حرك الإمبراطور إيدور أصابعه بين خصلات شعره الأبيض الطويل، أو رمش بعينيه الأرجوانيتين اللتين تحملان جمود الملوك وقسوة القُدامى.
كان جالسًا على عرشه العالي، لا يعبّر، لا يصرخ، لا يُنذر… لكن كلماته، متى خرجت، تكون كالسيف في رقبة الجميع.
وفجأة… انفتحت أبواب القاعة الكبرى بصوتٍ رخيم.
لوكاس دخل وحده، بثياب نظيفة، لكن ملامحه كانت مشدودة.
انحنى أمام والده وقال بصوت خفيض:
> "جلالة الإمبراطور… لم أستطع أن أقوم بواجبي بالكامل، لم ننهِ المهمّ—"
لكن قبل أن يُكمل، قاطعه إيدور دون أن يرفع صوته، فقط همس بجملته، لكنها سُمعت كالرعد:
> "لكنك بالفعل… خسرت، أليس كذلك، يا لوكاس؟"
تجمّد الهواء. ابتلَع لوكاس ريقه ببطء، وأخفض عينيه.
قال إيدور بصوت هادئ، عميق، وبارد:
> "أريد رايزل أن يأتي هنا."
رفع لوكاس عينيه ببطء، كأن الاسم جمده من الداخل:
> "ر-رايزل؟… الآن؟"
هزّ إيدور رأسه ببطء، وأعاد خصلات من شعره خلف أذنه، ثم قال بصوته ذاته:
> "نعم… رايزل."
رفع لوكاس رأسه مترددًا، محاولًا إخفاء التوتر في صوته وهو يرد على والده:
> "ج-جلالتك... لا أعتقد أن رايزل سيفيدنا في شيء هنا الآن."
تبادل النبلاء الهمسات حول القاعة، همساتٌ مخلوطة بالشك والقلق، إذ بدأوا يدركون حجم الثقل الذي يحمله اسم رايزل.
ابتسم الإمبراطور إيدور ابتسامة باردة، وحرك يده بهدوء، لكن صوته كان مشتعلًا خلف ذلك الهدوء:
> "سمعتُ أيضًا أن لدى رايزل... تنين المانا."
"سيكون من الرائع أن نقوم بتجارب عليه."
توقف لحظة، ثم نظر إلى لوكاس بعينين كحادتين كالسيف، وقال بهدوء:
> "وأيضًا... وريث عائلة فالرون هنا."
"هل يمكنك توضيح ذلك، لوكاس؟"
"أخبرني بكل تفاصيل مهمتكم اللعينة."
عمّ الصمت، والأنظار كلها كانت مركزة على لوكاس، الذي شعر بثقل السؤال وكأنها سيوف معلقة فوق رأسه.