ابتلع لوكاس ريقه مجددًا، ثم تراجع خطوة للأمام وانحنى قليلًا، وقال بصوت منخفض لكنه واضح:
> "أثناء تقدمنا نحو الجبل الجليدي… هاجمتنا فتاة من الإلف، كانت سريعة وقوية، لم نتمكن من مجاراتها."
"اضطررنا للانفصال… ورايزل نجى منها، وأنا..تعرضت لمحاولة اغتيال وتمت إصابة كتفي وسقطت من الجرف"
ارتفعت بعض الهمسات في القاعة من النبلاء، بعضهم غطّى فمه بدهشة، والبعض الآخر تبادل النظرات الصامتة.
تابع لوكاس، محاولًا استعادة توازنه:
> "استغرقت وقتًا حتى أستعيد وعيي , بينما الغراب الخاص بي وجد اثرهم، وبعدها التقيت برايزل والآخرين… وقد واجهوا وحشًا من الدرجة A."
"قاتلناه… لكنه كان أقوى مما توقّعنا. استنزفنا كل طاقتنا تقريبًا."
"رايزل لم يكن مستعدًا، وسيفاريل لم يكن مدرّبًا كفاية,لذلك انسحبنا بطلبٍ مني."
كان صوت لوكاس متزنًا، لكن عينيه كانتا تراقبان ملامح الإمبراطور باهتمامٍ خفي.
رفع إيدور حاجبه قليلًا، ثم أنزل يده عن ذقنه، وتمتم بنبرة باردة، تخرج من فمه كأنها قدرٌ محتوم:
> "هممم..."
"ضعفاء للغاية."
انتشرت موجة من الهمسات في القاعة كأنها ريح تسري فوق حقول القش.
> "الأمير الأول قال إنهم قاتلوا وحشًا من الدرجة A؟"
"فتاة من الإلف؟ ما شأنهم هنا؟"
"تنين مانا...؟ من أين حصل عليه؟"
أما الإمبراطور، فقد ظلّ صامتًا، وعيناه لا تبتعدان عن وجه لوكاس.
ثم قال ببرودٍ لا يحمل أي عاطفة:
> "أرِدْ رايزل إلى هنا... فورًا."
في الجناح الشرقي من القصر، حيث كان رايزل جالسًا على أريكة حريرية يشرب كوبًا دافئًا من الأعشاب، دخل خادمان بهدوء وانحنيا أمامه.
قال أحدهما بصوت رسمي:
> "سموّ الأمير رايزل… جلالة الإمبراطور يطلب حضورك فورًا إلى قاعة العرش."
تجمّدت يده حول الكوب، وارتفعت عيناه الكريستاليتان نحو الخادم دون أن ينبس بكلمة.
ثم نطق داخله بصوت خافت:
> "هاه؟ أنا؟ الآن؟"
اعتدل في جلسته، ووضع الكوب بهدوء، بينما تدفّقت في صدره رعشة خفيفة.
أخفض نظره قليلًا، وتنهّد:
> "يجب عليّ… ألا أتوتّر."
ثم وقف، وسوّى ردائه الملكي الجديد الذي لم يعتد وزنه بعد، وضغط على صدره بيده ليثبّت دقات قلبه.
سار خلف الخادمين بخطى ثابتة، وفي كل خطوة ترددت في عقله أسئلة لا إجابة لها:
> "هل اكتشف شيئًا؟ هل يريد قتلي؟ أم اختبارًا؟ أم… تنيني؟"
لكنه رفع ذقنه أخيرًا، وقال لنفسه:
> "أنا رايزل… وليكن ما يكون."
وما إن وصل إلى أبواب قاعة العرش الكبرى، حتى وقف الحراس وفتحوا الأبواب ببطء، لتنفجر في وجهه أضواء المشاعل، وهمسات النبلاء، ونظرات الإمبراطور إيدور... الجامدة.
عبر رايزل بوابة القاعة، حتى انقطعت الأصوات دفعة واحدة، وكأن العالم سُحب من خلف ظهره.
خطى خطواته الأولى بثبات، لكنه شعر بثقل كل عين في القاعة تتفحّصه: النبلاء، السحرة، كبار القادة… والعرش المرتفع الذي جلس عليه ذلك الرجل ذو الشعر الأبيض الطويل، والعينين الأرجوانيتين اللتين لا تعرفان الرحمة.
إيدور لم يتحدث فور دخوله، فقط… حدّق به، ثم، وببطء، ارتسمت على شفتيه ابتسامة.
ليست ابتسامة ترحيب، ولا سخرية، بل شيءٌ... غامض.
ثم قال بصوتٍ هادئ، عميق، لكنه يحمل شرارةً في نهايته:
> "رايزل..."
"سمعتُ أن هناك أشياء مثيرة للاهتمام قد حصلت."
أسند ذقنه على كفّه وهو ينظر مباشرة في عيني رايزل:
> "أريد أن أعلم… كيف نجوت من تلك الإلف اللعينة؟"
ترددت الكلمات في القاعة كأنها صدى قادم من هاوية بعيدة.
رايزل، رغم اضطرابه الخفي، لم يبدِ توترًا. لكنه شعر بحرارة خلف عنقه، كأن العيون كلها تنتظر منه أن يتكلم.
وقف رايزل وسط القاعة، وتحت أنظار عشرات العيون المُترقبة، لم ينحنِ، لكنه وضع يده على صدره بأدب، ثم قال بثبات:
> "مولاي… نقطة ضعفها."
ارتفعت همسات النبلاء مجددًا، لكن صوت الإمبراطور ظلّ صامتًا للحظة.
اتّسعت عينا إيدور قليلاً — لا من الدهشة، بل من التقييم العميق.
أكمل رايزل، ونبرته مزيج بين الثقة والبرود:
> "قبل أن أُرسل للجبل الجليدي، سمعت من أحد الخدم أن تلك الإلف تُعرف بلقب: سيدة الخيوط وتأكل البشر."
سكت للحظة، ثم طأطأ رأسه قليلاً، وعاد يرفع عينيه الكريستاليتين نحو العرش وقال:
> "وخيوطها… هي نفسها نقطة ضعفها."
ساد صمت ثقيل، وكأن الهواء نفسه توقف عن الدوران في القاعة.
ثم قال أحد النبلاء الواقف عند الصفّ الثاني، وهو يهمس في أذن رفيقه:
> "هل يقصد أنها متصلة بسحرها مباشرة؟ إن قُطع الخيط...؟"
بينما الآخر تمتم بدهشة:
> "ذكاء حادّ... لمن يُقال إنه ابن الإمبراطور الثاني فحسب."
أما إيدور، فقد استعاد ابتسامته الغامضة، ثم قال بصوت لا يُعرف أهو مديحٌ أم اختبار:
> "مثير للاهتمام يا رايزل… حقًا."
أخذ الإمبراطور إيدور نفسًا عميقًا، ثم نظر إلى رايزل بنصف ابتسامة:
> "أخبرني أيضًا… كيف انتهى وريث فالرون إلى جانبك؟"
رفع رايزل حاجبه قليلًا، ثم أجاب:
> "لقد وجدناه بالصدفة في طريقنا إلى الشمال… لم يكن جزءًا من المهمة."
رمش إيدور ببطء، وكأنه يعيد الحسابات في عقله، ثم تمتم:
> "إذًا… عشوائية مزعجة."
ثم نظر مجددًا إلى رايزل وسأله:
> "وتنين المانا؟"
توقف رايزل للحظة، ثم نظر إلى الأرض، ثم أعاد عينيه إلى الإمبراطور:
> "اسمه ريمبر… لم يكن مخلوقًا قابلًا للترويض. لقد اختارني من تلقاء نفسه."
ضحك أحد النبلاء بسخرية من الخلف:
> "تنين يختار طفلًا؟ هذه أسطورة الأطفال النائمين!"
لكن قبل أن ينهي ضحكته، أطلق إيدور نظرةً خاطفة نحوه… فتجمّد النبيل في مكانه، خاف حتى من أن يبتلع ريقه.
قال الإمبراطور دون أن يغيّر نبرته:
> "ريمبر… هو تنين مانا حقيقي، أليس كذلك؟"
"هذا ليس امتلاكًا… بل عقد."
رد رايزل بحذر:
> "أعتقد أنه كذلك… لقد حماني أثناء المعركة، وفهم كلامي…"
قاطع إيدور حديثه، وقال:
> "ولم تكن مدربًا… لا سيفًا ولا سحرًا… ومع ذلك، خرجت حيًا."
توسعت ابتسامته قليلًا، لكنها لم تزد الدفء في الجو البارد:
> "مثير يا رايزل… حقًا مثير."
ثم رفع إصبعه قليلًا، ونظر نحو الخدم وقال:
> "أحضِروا التنين."
فتحت أبواب القاعة الثقيلة من جديد… لكن هذه المرة لم يكن القادم أميرًا أو نبيلًا.
سُمع صوت سلاسل خفيفة تُجرّ على الأرض الرخامية.
ظهر ريـمبر... عينيه المتوهجتين بالأزرق البنفسجي، وقشرته المعدنية الداكنة التي تعكس أضواء المشاعل كأنها نُحتت من ضوءٍ حيّ.
كان جسده مُكبَّلًا بسحر مُعقّد، وأربعة سحرة ملوكيين يُحيطون به من كل جهة، يتصبّب عرقهم وهم يحاولون فقط إبقائه تحت السيطرة.
رايزل اتّسعت عيناه، وخطى للأمام:
> "أوقفوا هذا... لا يجب تقييده! هو لا يؤذي أحدًا!"
لكن لم يستجب أحد.
صوت الإمبراطور فقط هو من انساب في القاعة، ببطء ونعومة… لكن كطعنة في الظلام:
> "هذا هو التنين… إذًا."
ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة… ليست ملكية، ولا حكيمة، بل شيء آخر.
ابتسامة شيطانية، حادة، طويلة، باردة.
> "مثيرٌ للغاية."
همساته اخترقت صدور النبلاء كأنها تعاويذ.
> "تنين مانا... حرّ الإرادة؟ متصلٌ بطفل؟ ويخترق قُوانا بهذا الشكل؟"
ثم نظر إلى ريمبر، الذي اكتفى بالتحديق فيه بعينين لا تنطفئان.
> "أتعلم، رايزل..."
"حين يُولد شيءٌ استثنائي في هذه الإمبراطورية… فإما أن يُصبح سلاحًا… أو يُمحى."
كان ريمبر لا يزال واقفًا، يتنفس ببطء، عيونه مشتعلة، بينما خيوط المانا تلتف حوله كأغلالٍ وهمية.
أما رايزل، فكان يراقب كل ذلك… وكل خلية في جسده تغلي.
شَــدَّ رايزل قبضته، وشفتاه تحركتا من تلقاء نفسها، بلا وعي منه:
> "…اللعنة."
الصوت خرج منخفضًا، لكنه كان كافيًا ليوقِف نبض القاعة.
استدار الجميع دفعة واحدة نحوه — حتى لوكاس، اتسعت حدقتاه وكأن الزمن توقّف عنده، بينما همس داخل نفسه:
> "رايزل… ما الذي فعلته؟!"
أما إيدور، فقد رفع رأسه من فوق راحته ببطء… وعيناه الأرجوانيتان تتوهجان كجمرٍ في ليلة ثلجية.
ثم قال بصوت ناعم، وكأنّه يسأل سؤالًا بريئًا:
> "هممم… رايزل؟"
"هل تشتم الإمبراطور؟"
سرت رجفة خفيفة بين بعض النبلاء، ومنهم من نزل ببصره، وآخرون بدؤوا يتراجعون خطوة دون وعي.
لكن رايزل، بعد ثوانٍ، ابتسم ابتسامة صغيرة جانبية، ورفع رأسه بثقة زائفة تخفي التوتر، وقال مقلدًا نبرة إيدور:
> "لا، مولاي… كنت ألعن تلك الإلف في داخلي."
"أليس هذا… مثيرًا للاهتمام أيضًا؟"
ارتفعت شهقة قصيرة بين بعض النبلاء، أحدهم كاد يبتلع لسانه، وآخر عض شفته وكأنّه يحاول ألّا يضحك أو يبكي.
أما لوكاس فوقف كالصنم، يحدّق برايزل وعيناه تقولان: "أرجوك لا تمُت…"
ثم...
ضحك الإمبراطور.
ولكنها لم تكن ضحكة بشرية، ولا عادية.
ضحكة منخفضة… عميقة… تتصاعد ببطء، كأنها صدى يتردد في أعماق قاعة حجرية منذ ألف عام.
> "هاهاه… هاهاههاه…"
كل من في القاعة صمتوا.
ضحك إيدور... وهو ينظر إلى رايزل وكأنّه يرى فيه شيئًا كان ينتظره منذ زمن بعيد.
> "رااااائع..."
ثم مالت رأسه قليلًا إلى الجانب، وقال بنبرة هادئة:
> "لم أتوقّع أن تكون نغمتك قريبة من نبرتي إلى هذا الحد... يبدو أن الدم لا يكذب."
استعاد إيدور رباطة جأشه في لحظة، وجفّف ضحكته بيده، ثم استدار ليواجه الجميع بوجهه الصارم الذي لا يرحم.
قال بصوت عميق، بارد كالجليد:
> "حسنًا، يا رايزل… أنت وذلك التنين ستبقون في زنزانة لمدة خمسة أيام."
"دون طعام، دون ماء، ودون أي شيء."
ابتسم ابتسامة قاسية، ثم أشار إلى أحد السحرة الملكيين، الذي أخرج جهازًا صغيرًا ينبعث منه ضوء أزرق باهت.
> "أما بالنسبة للتنين اللعين , فسنضع له 'ممتص السحر'."
"لن يكون قادرًا على إطلاق أي تعاويذ، ولن يتحرك بسهولة."
ثم نظر إلى رايزل بنظرة تخلو من أي تعاطف، وكأنها تحدٍّ:
> "ومن يصمد هو الفائز."
"أليس هذا ممتعًا، رايزل؟"
عمّ الصمت في القاعة، واختلطت الهمسات بحالة من الصدمة، فيما تحولت نظرات النبلاء بين التعجب والترقب.
ما إن أنهى إيدور كلماته — "ستبقون في زنزانة خمسة أيام دون طعام… والتنين بممتص سحر" — حتى دوّى صمتٌ ثقيل، كأن القاعة بأكملها شُلَّت.
انخفضت همسات النبلاء إلى وشوشات مكبوتة، وبدأت رؤوسهم تدنو إلى بعضهم البعض بخوف وتوتّر.
همس أحد النبلاء العجائز، وهو يرتجف:
> "خمسة أيام؟ دون طعام؟ وتنين مكبَّل؟ إنه يُجرّب الحدود..."
قال آخر وهو يضغط على مروحه الحريرية:
> "إنه اختباره الأول الجادّ… لكنه إمبراطور لا يعرف الرحمة."
وفي الصف الجانبي، شهق أحد السحرة الشباب:
> "تنين مانا في زنزانة… دون مانا؟ سيصبح مجرد هيكل يتنفس…"
لوكاس، الذي كان لا يزال واقفًا، اتّسعت عيناه، وأراد أن يتكلم… لكنه نظر إلى أبيه الإمبراطور، ورأى في عينيه نظرة تقول:
> "أي كلمة… وستلحق به."
فأخفض رأسه بصمت، وقبض يده.
أما رايزل، فلم يردّ بعد، فقط أخذ نفسًا ثقيلًا، ونظر إلى الخدم الذين تقدّموا نحوه ومعهم السلاسل الكريستالية وسوار الحجب السحري.
عيونه الكريستالية لم ترف، لكنه قال داخله:
> "خمسة أيام، ها…؟ لا بأس… لن تكسرني بسهولة، إيدور."
في اللحظة التي بدأ فيها الحرس الملكي يقتربون من رايزل وريمبر، وعندما كانت الأنفاس لا تزال مشدودة في القاعة…
— فُتِحَت أبواب العرش بصوتٍ ثقيل —
دوى وقع كعبيها في القاعة الرخامية بخطوات هادئة… رزينة… لكنها مشبعة بالثقة.
فيكتوريا، سيدة ستارك، ذات الشعر الأسود الطويل كالليل، والعيون الخضراء المتقدة بدهاء، دخلت القاعة بابتسامة خفيفة على وجهها، وكأنها تسخر من الجميع دون أن تتكلم.
تجمّدت عيون النبلاء نحوها.
> "فـ...فيكتوريا؟!"
> "لم تُستدعى…! كيف تجرؤ؟"
> "في منتصف اجتماع إمبراطوري؟"
كان الهمس يرتفع بينهم كصوت ريح مضطربة في أنفاق القصر.
أما إيدور، فقد مال برأسه قليلًا، وظهرت
في عينيه نظرة ضيق واضحة… لكنه لم يصرخ، فقط قال بنبرة باردة:
> "ألم أُصدر أمرًا واضحًا بعدم دخول أحد دون إذن؟"
ابتسمت فيكتوريا بهدوء، وانحنت انحناءة خفيفة فقط من عنقها، وقالت بصوت رقيق، لكنه يحمل تلك اللدغة المألوفة:
> "عذرًا يا جلالة الإمبراطور… لكنك تعرفني، لا أحب تفويت المشاهد المثيرة."
ثم وجهت نظرة جانبية حادة نحو رايزل، وابتسمت:
> "خصوصًا إن كان أبطالها صغار السن… لكنهم ناجون من الإلف."