كان الصباح لا يزال يتسلل بهدوء عبر النوافذ الطويلة، وأشعة الشمس تُلقي خطوطًا ذهبية على أرضية الغرفة الملكية.

فتح رايزل عينيه بتأفف، تمدّد فوق السرير وتمتم:

> "آه… كم أكره هذا اليوم…"

لكن طرقًا خفيفًا على الباب قطع أفكاره.

دخل شاب أشقر، أنيق الهيئة، نظرته باردة نوعًا ما. قال بنبرة خادمة محترفة:

> "صباح الخير، سمو الأمير الثاني. أنا فيون، خادمك الجديد."

جلس رايزل متفاجئًا، شعره مبعثر وصوته مبحوح:

> "هاه؟ من أنت؟"

كرر فيون بابتسامة خفيفة:

> "خادمك الجديد، سيدي."

تنهّد رايزل، ثم التفت إلى الأرض، حيث كان ريـمبر ملتفًا على نفسه مثل كرة من الضوء الأبيض.

أشار إليه وقال:

> "أخبر أحدهم أن يصنع سريرًا له."

رفع فيون حاجبًا:

> "لتنين المانا، سيدي؟"

أومأ رايزل دون أن يشرح:

> "أجل."

قال فيون بهدوء:

> "اليوم… هو موعد لقائكم الأول بالسيدة مارين ستارك."

شهق رايزل كأنه تلقى ركلة في صدره، ثم تمتم بامتعاض:

> "حسنًا إذن…"

لكن صوته الداخلي كان أكثر صدقًا:

> "سأجعل نفسي فوضويًا للغاية… سترفضني بالتأكيد."

وقف، وبدأ يتجه نحو ملابسه، بينما قال له فيون من خلفه:

> "سموك… يجب أن ترتدي ما يناسب هذا اللقاء."

غادر رايزل إلى الغرفة المجاورة، ارتدى ملابسه على عجل دون عناية، ثم حمل ريمبر النائم بلطف، وضعه على السرير الجديد الذي أعدّه أحد الخدم، وغطّاه بلحاف صغير.

عاد إلى فيون وقال بلهجة كسولة:

> "أين سنلتقي؟"

ردّ فيون:

> "في الحديقة الملكية، سموك."

ابتسم رايزل لنفسه، نظرة ساخرة في عينيه:

> "ارفضيني… أرجوكِ."

في الحديقة الملكية، كان النسيم يداعب الأشجار، والزهور تلمع بندى الصباح.

وكان هناك… فتاة صغيرة، ذات شعر أسود طويل، يصل خصرها، وعيون خضراء لامعة تُشبه الزمرد.

كانت ترتدي فستانًا أبيض هادئًا، مزينًا بأشرطة من الحرير الفضي.

وقف رايزل على بُعد خطوات منها، تنهد ثم قال:

> "مرحبًا."

انحنت الطفلة بلطف وأدب وقالت بصوت هادئ:

> "تحياتي لسمو الأمير الثاني."

تأملها رايزل، للحظة كاد يُصاب بالذهول من مظهرها المتوازن والجميل رغم صغر سنها.

لكنه قال ببرود:

> "تعلمين جيدًا أنني لا أريد الزواج منكِ."

في الخلف، كانت سيليا وكومي واقفتين مع باقي الخدم، ووجوههما تتلوّن بالغضب.

كادت كومي تصرخ:

> "أنت ترفض ملاكًا كهذا؟!"

بينما سيليا تمتمت من بين أسنانها:

> "اللعنة عليك يا رايزل… إنها أجمل من الأميرات!"

أما مارين… فابتسمت بهدوء، لم تتأثر إطلاقًا، وقالت:

> "لا بأس، سمو الأمير…"

ثم نظرت إلى الأزهار:

> "فالزواج لا يعني الحب دائمًا، أليس كذلك؟"

كانت كلماتها، رغم بساطتها، تملك طابعًا غريبًا… شيء أشبه بالحكمة المبكرة.

جلس رايزل على الكرسي المقابل لها، وقد تعمد أن يترك أزرار قميصه غير مرتبة وشعره مبعثرًا كما لو أنه خرج للتو من شجار.

أما مارين، فجلست برشاقة على الكرسي، ورفعت فنجان الشاي الصيني بلطف مريب، وشربت منه جرعة صغيرة… بهدوء يشبه وقار ملكة لا تناسب عمرها إطلاقًا.

كانت تنظر إلى الشاي دون أن تحرك حاجبيها.

رايزل عبس وقال:

> "ألغِ الزواج."

لم ترفع مارين عينيها حتى، فقط وضعت الفنجان بهدوء على الصحن، ثم نظرت إليه وأجابت بصوت هادئ:

> "لست أنا من قرر الزواج يا سمو الأمير… فلماذا تطلب مني إنهاءه؟"

رايزل شهق بخفة، لم يتوقع أن تكون ردودها بهذا البرود.

أما خلفهما، فقد كانت سيليا على وشك الانفجار، قبضت على يدها بشدة.

> "هذا الأحمق… إن رفضها مرة أخرى سأجعله يبتلع حذائي!!"

أما كومي، فتمتمت من جانبها وهي تنظر إلى جمال مارين:

> "هذه الطفلة أجمل من أي أميرة في القصر… ويجرؤ على قول 'ألغِ الزواج'؟!"

ومع ذلك، بقين واقفتين، تقاومان رغبتهما في الانفجار على الأمير الثاني.

قال رايزل بحدة:

> "أنا لا أحبكِ، ولا أريد أن أكون جزءًا من لعبة سياسية."

مارين، دون أن تهتز، رفعت عينيها نحوه، وابتسمت بخفة:

> "وأنا… لا أحبك أيضًا."

اتسعت عينا رايزل قليلًا، وتلعثم:

> "هاه؟"

قالت وهي تُمسك الفنجان مجددًا:

> "أنا هنا فقط لأن والدك يريد الذهب… وأختي تريد السلطة."

> "أما أنا؟ فأريد فقط أن أعيش بهدوء."

حدّق رايزل بها طويلًا، ثم انزلقت ابتسامة خفيفة على زاوية فمه.

> "إذن… لسنا مختلفين تمامًا."

شربت مارين رشفة أخرى من الشاي، ثم قالت بنبرة هادئة:

> "في النهاية، السياسة تحكم كل شيء… أليس كذلك؟"

رمش رايزل، مستغربًا من الكلمة، لكنه رد متماسكًا:

> "أجل… هي دائمًا خلف كل الكوارث."

ابتسمت مارين:

> "الزيجات الملكية، المعاهدات، حتى الحروب… كلها صفقات مغلفة بكلمات جميلة."

هز رايزل كتفيه وقال:

> "وأحيانًا… تكون الغاية منها فقط أن يبقى الأقوياء في الأعلى، والضعفاء في الأسفل."

أومأت مارين موافقة، ثم مالت قليلًا للأمام:

> "لكن هل رأيت يومًا أحدًا يغير مكانه؟"

قال رايزل مفكرًا:

> "الضعفاء؟... لا."

> "إلا إن انقلبوا."

ضحكت مارين بهدوء:

> "مثل الثوار؟"

قال رايزل وهو يرفع حاجبه:

> "الثوار يُعدمون."

ابتسمت مارين ووضعت فنجانها على الطاولة:

> "أو يُصبحون ملوكًا…"

ساد الصمت لوهلة، ثم قال رايزل فجأة:

> "أتعلمين؟ نحن نبدو كعجائز يتحدثون عن مصير العالم."

ردت مارين بابتسامة صغيرة:

> "على الأقل نحن لا نتحدث عن العرائس أو الجنود الخشبيين."

ثم أضافت وهي تمسك خصلة من شعرها وتعيدها خلف أذنها:

> "الزواج هو أسرع طريقة لتقييد شخص بشيء لا يريده، ومن ثم يُقال له: هذه مسؤوليتك."

قال رايزل بابتسامة خفيفة:

> "أجل… وأنا أكره المسؤوليات."

ردت مارين بهدوء ساخر:

> "وهكذا سمو الأمير… سيكون إمبراطورًا يومًا ما."

ضحك رايزل بصوت خافت، ثم نظر إلى الأزهار المتفتحة بجانبه وقال:

> "وأنتِ؟"

ردت مارين بعد تفكير:

> "أريد أن أكون شيئًا آخر… غير دمية يتم التلاعب بها باسم 'مستقبل المملكة'."

كان صوتهما ناضجًا أكثر مما يدركان، وكان الخدم الذين يسمعون الحوار يحدّقون بصدمة، حتى سيليا همست لكومي:

> "هؤلاء الأطفال… يتكلمون كما لو كانوا مجلس وزراء."

وكومي ردت عليها:

> "يا للسماء… إنهما يعلمان أكثر مما ينبغي."

كان رايزل لا يزال جالسًا على الكرسي في الحديقة الملكية، يراقب فنجانه نصف الفارغ، بينما مارين المقابلة له تشرب الشاي بهدوء تام، كأنها لا تزال تنتظر ردًا.

وقبل أن ينطق أحدهم بكلمة...

انفتح الباب الحجري بصوت حاد، ثم اندفع سيفاريل كالعاصفة:

"رايزللللل!!! أنت هنا إذًا؟!!!"

تجمد الجو... انسكب الشاي من فنجان مارين قليلًا، وضع رايزل يده على رأسه من شدة الإحراج وقال من بين أسنانه:

"...أرجوك لا الآن..."

اقترب سيفاريل، وألقى بنفسه بجانب رايزل على المقعد:

"كنت أبحث عنك! لماذا لم تخبرني أنك هنا؟! بالمناسبة… هل هذه الفتاة الجميلة هل هي مارين ستارك؟"

قالها وهو يلوّح لها، لترد مارين بهدوء ساخر:

"تشرفت بلقائك… السيد كارثة."

"هاه؟! ياااه، لقب جديد؟ أعجبني."

قال رايزل وهو يغمض عينيه:

"إنه يليق بك فعلًا."

ثم فجأة، قال سيفاريل وهو يتذكر:

"آه! هل تعلم، رايزل؟ بعد عشرة أيام فقط، سيكون هناك اجتماع لجميع ملوك وأمراء قارة فالين!!والدي سيكون هناك لذلك لا حاجة ان أفعل اي شيء .. أي انني سأبقى في القصر!"

رفع رايزل حاجبه وسأل ببطء:

"ماهي قارة فالين؟"

تجمدت مارين، ووضعت فنجانها بهدوء… بينما كان سيفاريل يحاول ألا ينفجر ضاحكًا، وأخيرًا لم يستطع فانهار على العشب ضاحكًا:

"هاهاهااااه! هل تمزح؟! أنت لا تعرف؟!"

قال رايزل بعصبية:

"لماذا؟! هل هي مهمة لهذه الدرجة؟!"

تقدّم الخادم فيون وانحنى:

"سموك… قارة فالين هي القارة التي نعيش فيها. تتألف من أربع ممالك رئيسية:

أولًا: مملكة لينيار، مملكتنا حيث يحكم الإمبراطور إيدور , مملكة السحر.

ثانيًا: ليفيان، مملكة السيوف والتكتيكات، حيث نشأ السيد سيفاريل.

ثالثًا: أسترين، مشهورة بفنونها المعمارية وهندستها المتفوقة.

رابعًا: ميفيا، مملكة القديسين، التي يُحكمها نظام صارم من النقاء الروحي والمعتقدات الدينية."

فتح رايزل فمه قليلًا، كأن معلومةً ضخمة سقطت على رأسه لتوها:

"أهااااه؟"

أكمل فيون:

"ويُعقد هذا الاجتماع مرة كل خمس سنوات، يتبادل فيه القادة الاستراتيجيات، ويعالجون النزاعات، ويعلنون التحالفات. هذه المرة، ستُقام الاستضافة في مملكة لينيار."

علق رايزل وهو يتنهد بشدة:

"هل أنا أمير... أم مجرد نبتة زُرعت في حديقة هذا القصر؟!"

ضحك سيفاريل مجددًا:

"أنت أمير مميز! لا يعرف حتى اسم قارته!"

قال رايزل:

"حسنًا… هذا محرج… لكن سأجعل هذا الاجتماع أول درس حقيقي لي، وسأتفوق عليكم جميعًا."

رفعت مارين حاجبها وقالت ببرود:

"سأحتفظ بتسجيل لهذا التصريح."

ابتسم سيفاريل بخبث:

"أنا أيضًا… سأطلب من الرسام أن يرسم تعبير وجهك حين تسمع كلمة ‘اجتماع مغلق’."

ثم انفجر الجميع بالضحك، حتى رايزل لم يستطع أن يمنع نفسه هذه المرة، وقال وهو يبتسم:

"حسنًا… يبدو أنني سأحتاج إلى خريطة قبل أن أبدأ."

جلس رايزل بصمت بينما النسيم يعبث بخصلات شعره الأبيض، ونظره شارد في فنجان الشاي الذي بردَ ولم يذق منه شيئًا.

قال في نفسه بنبرة عميقة، مشوبة بالحيرة:

«يجب عليّ أن أدرس الجغرافيا والتاريخ... لا أريد أن أكون شخصًا يُهان مثل حياتي الماضيه..»

ثم اعتدل فجأة، ونهض من على الكرسي بنشاط أربك الجالسين معه.

قال بصوت ثابت:

"فيون... اتبعني."

رفع سيفاريل ومارين رؤوسهم بدهشة، يراقبونه وهو يمشي بثقة، وفيون انحنى قليلًا ولحق به بهدوء.

بينما كانا يسيران في الممرات الهادئة المحاطة بالأزهار، قال رايزل وهو لا يلتفت:

"علّمني الجغرافيا والتاريخ."

توقف فيون للحظة، وكأن الكلمة صدمته، ثم قال بتردد:

"سموك؟... ظننت أنك لا تهتم بهذه المواد."

توقف رايزل عن المشي، وأدار رأسه بنظرة جادة لم يرَها فيون في وجهه من قبل، وقال بصوت هادئ لكنه حازم:

"في هذه العشرة أيام... أريد أن أتعلم. لا أريد أن أُهان مجددًا في اجتماع الملوك."

أومأ فيون بهدوء، ثم ابتسم قليلًا وقال:

"كما تأمر يا سمو الأمير... يبدو أن دروسي ستُثمر أخيرًا...ولكن سمو الامير ايزي—"

"لن يهتم..إنه يعلم جيدًا أنني في خضم شيء مهم .. وهو أيضا بالتأكيد يقوم ببناء نفسه"

استمر رايزل في المشي، بخطى أهدأ، لكنه يشعر لأول مرة بثقل اسمه... وبالرغبة الحقيقية في أن يكون جديرًا به.

في قاعة العرش الفخمة بمملكة ليفيان، كانت الأصوات ترتفع تارة وتخفت تارةً أخرى، لكن صوتًا واحدًا دوّى بغضب لا يمكن كتمه.

"مـاذاااااااا؟!!"

ضرب الدوق ﹺڤاريوس فـالرون يده على الطاولة الحجرية بقوة حتى اهتزت الصحون الفضية حوله، واهتزت معها لحية المستشار بجانبه.

كان وجهه محتقنًا، وشعره القرمزي الطويل متطايرًا حول كتفيه بينما عروقه تكاد تنفجر من شدة الغضب.

"ذلك الفتى الأهوج!! سـرق سيف رارديلا المقدس بينما كنت ثملًا!!! أتظن أن هذا أمرٌ عابر؟! لقد دنس إرث فالرون!!"

حاول أحد الفرسان التابعين تهدئته قائلًا:

"سيدي... الأمير سيفاريل لم يكن يقصد الإساءة، لقد..."

قاطعهم بصراخٍ أشبه بزئير:

"لم يكن يقصد؟! لقد أخذ سيفًا توارثته أجيالنا من الدم والنار والدموع!!"

ثم جلس فجأة، كأن التعب تسلل إلى عظامه، ووضع يده على رأسه وهو يقول:

"ومع من خرج؟ مع حفنة من الأطفال؟! الأمير الثاني من مملكة لينيار؟!وتنين مانا؟! هل أعيش في حلم؟"

لكن قبل أن يواصل، فُتح باب القاعة ودخلت امرأة بشعر أزرق طويل تنتمي لعائلة سالين... عائلة الحكمة والهدوء.

قالت بنبرة ناعمة هادئة، لكنها واثقة:

"الدوق فاريـوس... لا فائدة من الغضب الآن، فابنك قد فعل ما فعله، ويكفي أنه نجا وعاد حيًّا."

حدّق فيها طويلًا، ثم تمتم:

"سيعاقب... ولكن لاحقًا..."

ثم قال وهو ينظر إلى سيف رارديلا الغائب عن موضعه في الجدار:

"لن أترك ذلك الأحمق يحمل اسم فالرون بلا ثمن..."

لكن المرأة الزرقاء – لورينا سالين – ابتسمت بخفة وقالت:

"على الأقل... لن يشعر الاجتماع بالملل إن حضر سيفاريل."

وهكذا، بينما كانت المملكة تستعد لإرسال وفدها، بدأت الأسماء تُكتب... والأسرار تُخزن.

2025/06/25 · 3 مشاهدة · 1699 كلمة
نادي الروايات - 2025