— الليل في مملكة ليفيان، دائماً ما يأتي

بصمت مهيب.

السماء ملبّدة بغيومٍ أرجوانية تتخللها ومضات خافتة من البرق، وكأنها تشعر بالتوتر الذي يجتاح قارة فالين، ونسائم الرياح الباردة تتسلل بين أروقة القصور العالية.

في أحد القصور المعزولة، حيث لا يجرؤ الخدم على الاقتراب، كانت النافذة الطويلة مفتوحة على مصراعيها.

كان هناك... واقفًا بصمت.

لم يُسمع له صوت. لا تنفس، لا حركة.

شخص طويل القامة، يرتدي رداءً أرجوانيًا داكنًا تزينه تطريزات سوداء خفية تلمع تحت ضوء القمر، وعباءته تتمايل ببطء في الريح كأنها جزء من الظل.

شعره الأسود الطويل ينسدل بصمت خلف ظهره، وعيناه البنفسجيتان اللامعتان تنظران نحو الأفق البعيد... نحو مملكة لينيار.

لم ينبس ببنت شفة، لكنه كان كمن يرى شيئًا لا يراه غيره.

ثم، وبعد لحظة هدوء مطبقة... رفع يده برفق.

سُمع طنينٌ خافت، وارتجف الهواء حول أصابعه.

ثم ابتسم.

لكنها لم تكن ابتسامة دافئة... بل ابتسامة شخص يدرك تمامًا أن الأوان لم يحن بعد.

تمتم بصوت لا يسمعه سوى الريح:

"فالين... ستتغير."

ثم انسحب في الظلال.

---------

في غرفة الدراسة الصغيرة داخل القصر الملكي في مملكة لينيار، كان رايزل يجلس على مكتبه المتواضع، ينظر إلى مجموعة كتب ضخمة ترتص أمامه.

فتح الباب بهدوء فيون، الخادم المخلص، وهو يحمل كومة ضخمة من الكتب التي تكاد تسقط.

قال فيون بابتسامة خفيفة:

"سموك، جلبت لك عشرة كتب عن تاريخ مملكة لينيار."

رفع رايزل حاجبه بتعبير ساخر وقال:

"عشرة كتب؟! هل تعتقد أنني سأقرأهم كلهم دفعة واحدة؟"

ابتسم فيون وقال:

"لم أقل ذلك، فقط تأكدت أنك لن تفتقد المادة."

تنهّد رايزل ورفع يده ليأخذ أحد الكتب، بينما قال في نفسه:

"يبدو أن هذه العشرة أيام ستتطلب أكثر مما توقعت..."

وفي الخلفية، ريمبر يراقب الموقف وهو يضحك ساخرًا:

"حظًا موفقًا، يا أمير الكتب!"

----

كان رايزل جالسًا في زاوية الغرفة، يتحدى نفسه ويحاول استيعاب صفحات التاريخ التي أمامه، عيونه متعبة وحروف الكتب تلتف كدوامة في رأسه.

فجأة، دخل ريمبر التنين الصغير بخفة، ووقف خلفه مبتسمًا بابتسامة مشاكسة.

قال ريمبر بسخرية:

"هاه، ماذا تفعل يا أمير الكتب؟ هل أنت جاد حقًا في حفظ كل هذا التاريخ الممل؟"

رفع رايزل رأسه بحدة وهو يردّ:

"اصمت! هل نسيت؟ لو لم أكن هنا، كنت ستكون ميتًا في الزنزانة الآن. بفضل حضوري تدخلت فيكتوريا ونجوتَ."

ضحك ريمبر وقال مازحًا:

"معك حق... لكن الآن، فلتحفظ، لا وقت للكسل!"

بينما كان رايزل وريمبر يتبادلان المزاح، كان فيون يقف عند الباب بابتسامة خفية، يراقب بحذر هذا التبادل الطريف بين الأمير والتنين الصغير.

وفي الزاوية الأخرى، وقف سيفاريل متكئًا على الحائط، يبتسم بسخرية وهو يهمس لنفسه:

"هاه، يبدو أن الأمير الثاني بدأ فعلاً يتحمل ضغوط القصر... أو على الأقل يحاول."

ثم تقدم نحوهم وقال بنبرة مازحة:

"يا رايزل، لا تنسى أنك لست وحدك في هذا! أنا هنا أيضاً لأذكرك بأنك مدين لي بجلسة تدريب قاسية بعد الانتهاء من هذه الكتب."

ضحك ريمبر وقال:

"تدريب؟ لا أظن أن هذا الأمير سيستطيع التحمل طويلاً!"

ها هو المشهد بأسلوب مشوق وحيوي:

---

كان رايزل جالسًا بتركيز يحاول أن يخترق جبال الكلمات والتواريخ، لكنه لم يكن وحده في غرفة الدراسة.

ريمبر وسيفاريل كانا كالعادة فوضويين، يتبادلان المزاح ويرميان الكتب في كل الاتجاهات، وكأن الغرفة ملعب لهم.

صرخ رايزل بغضب وهو يرفع صوته:

"كفايه! اتركوني أركز من فضلكم! هل أنتم تحاولون قتلي؟!"

لكن الضجيج لم يتوقف، فانتفض رايزل غاضبًا وخرج من الغرفة مسرعًا، يتنفس بعمق محاولًا تهدئة نفسه.

وفي الممر، اصطدم فجأة بشخصٍ يقف أمامه.

كان لوكاس، وعلى خده علامة حمراء واضحة على شكل كف.

نظر رايزل بدهشة وسأل:

"هاه؟ ما هذه؟"

أغلق لوكاس يده على خده وهو يجيب بصوت منخفض يُكاد لا يُسمع:

"الامبراطورة... هي من فعلت ذلك."

ثم أضاف وهو يرمق رايزل بنظرة جدية:

"رايزل... تستدعيك الامبراطورة الآن."

ارتجف قلب رايزل، ووقف مصدومًا للحظة، قبل أن يحاول جمع نفسه .

سار رايزل بخطوات مترددة عبر الممر الطويل، حتى وصل إلى أبواب الجناح الإمبراطوري، وهناك فتحت الخادمات الأبواب بصمت، وأشار له أحد الحراس بالدخول.

دخل ببطء إلى القاعة المزخرفة، حيث كانت الإمبراطورة إليشا واقفة أمام مرآتها الذهبية، تمشط شعرها الأسود الطويل ببطء، بنظرة لا تعكس أي مشاعر.

قالت بصوتها العالي فجأة، دون أن تلتفت نحوه: "رايزل!! كان لوكاس سيكون قد اجتاز الجبل الجليدي لولاك أيها الأحمق!!"

تجمد رايزل في مكانه، ثم قال بتردد: "م-ما الذي تعنينه؟"

استدارت الإمبراطورة بسرعة، وعيناها مشتعلة بالغضب. تقدمت نحوه كالعاصفة، ورفعت يدها محاولة صفعه.

لكنه تفاداها في اللحظة الأخيرة بخفة، خطوة واحدة للوراء فقط، كانت كافية ليفقد توازنه عاطفيًا.

صرخت إليشا، وجهها مشوه بالغضب: "اللعنة على والدتك!! تلك العاهرة الضعيفة التي كان يجب أن لا تنجب!!"

ضاقت عينا رايزل، لكنه لم يردّ، فقط همس: "اهدئي… لم أفعل شيئًا، ولن أفعل."

لكن صمته لم يطفئ نيرانها، بل زادها اشتعالًا.

صرخت من أعماقها: "أتريد مني قتلك الآن؟! لن يهتم أحد! لن يلاحظ أحد! لا أحد يهتم بك أصلاً! فيكتوريا اللعينة على الأقل تريدك، وأنا... أنا وافقت على عقد الزواج فقط لأتخلص منك!!"

ثم بدأت برمي أدوات التجميل من على المنضدة، زجاجات العطور والتحف الغالية تتكسر على الأرض، وتتناثر شظاياها حول قدمي رايزل المتجمد.

لم يتحرك، لم يتكلم، لم يصرخ.

وقف هناك، يتلقى عاصفة الكراهية بصمت، وقلبه يشتد انقباضًا كأن الحياة تُغرس فيه إبرة تلو الأخرى.

كان الصمت داخله أعمق من أن يُقال...

كان صوت الزجاج المتكسر لا يزال يتردد في الأرجاء حين التفتت الإمبراطورة إليشا مجددًا، أنفاسها متسارعة، وعيناها تحترقان بجنون غير مفسَّر.

يدها امتدت نحو منضدتها الفضية… وأمسكت شيئًا ببطء.

سكين.

راقبها رايزل، لم يفهم في البداية، بل شعر بجسده يرتجف دون سبب، حتى رآها تلتفت نحوه.

تقدمت نحوه بخطى متثاقلة، لكن عينيها تتقدان بجنون…

ثم صرخت: "كان يجب أن لا تولد!! كان يجب أن تُحبس مع والدتك!!"

صرخت الكلمات وهي تندفع نحوه فجأة، ممسكة بالسكين!

اتسعت عينا رايزل في لحظة، فزع مفاجئ، تراجع خطوة واحدة فقط، لكن ليس بالسرعة الكافية...

شعَر بحدّ المعدن يمرّ بسرعة قرب رقبته—

خطّ رفيع، ضئيل، لكنه كان كافيًا ليفتح الجلد.

قطرة دم واحدة… تبعتها أخرى.

رفع رايزل يده نحو عنقه ببطء، وشعر بالدفء يتسرب من الجرح الصغير.

اتسعت عينيه، ليس من الألم، بل من الصدمة…

ثم رفع رأسه نحو إليشا.

كانت عيونه مختلفة.

لم تكن صدمة، ولا خوفًا.

كانت نظرات حاقدة… خامدة، كالجمر في آخره…

نظرة من عاش كل عمره يُقارن، يُحتقر، يُطعن، وأخيرًا… يُذبح.

حدّق في الإمبراطورة، بصمت قاتل.

لم ينبس بكلمة. فقط نظر… وترك السكينة تتكلم بدلاً عنه.

ظلّت قطرات الدم تتساقط من رقبة رايزل، ببطء… كأن الوقت توقف.

رفع رأسه نحو إليشا، عينيه شبه ميتتين، لكن حقدًا غريبًا اشتعل فيهما، مزيج من غضب مكبوت منذ الطفولة.

قال بصوت منخفض، بارد، لكنه كالسيف: "تجاوزتِ حدودك… أيتها الإمبراطورة."

تجمد الجو في الغرفة. كلمات قليلة لكنها كافية لتشطر الصمت نصفين.

عينا إليشا اتسعتا بغضب، وانطلقت تصرخ بجنون: "اللعنة!! عليك وعلى والدتك الزهرية!! تلك العاهرة!! تلك القذرة!!"

تجمدت تعابير رايزل… ثم فغر فاهه قليلًا.

"…زهرية؟"

قالها في نفسه، مرتبكًا، مذهولًا.

"أهي تكره… اللون الزهري؟"

صورة غامضة لامرأة ذات شعر زهري مائل للبياض، تمسك بيد طفل… لمعت في عقله فجأة.

لكن لا وقت للذكريات.

رأى إليشا تندفع مرة أخرى نحو المنضدة، تبحث عن شيء آخر ربما أكثر فتكًا… وربما آخر ما يراه.

فجأة، اندفع رايزل نحو الباب!

فتح الباب بقوة، والحراس في الخارج حاولوا استيعاب ما حدث، لكن رايزل لم يتوقف.

ركض عبر الممرات…

يده تضغط على رقبته التي تنزف قليلًا، أنفاسه متقطعة، نبضه يتسارع…

"هربت منها… هذه المجنونة… إنها تكره والدتي التي لم اراها!… وتكرهني أيضا!…"

"لكن… لماذا اللون الزهري؟ ما علاقة الأمر بذلك؟!"

عشرات الأسئلة تنهال في رأسه…

لكنه يركض… يركض نحو مكان آمن. أي مكان بعيد عن تلك المرأة.

------

كان رايزل يجلس بصمت على الكرسي في غرفة سيليا، أنفاسه لا تزال سريعة بعض الشيء، ووجهه شاحب. بقعة الدم على رقبته بدأت تجف، لكن أثر الجرح ما زال واضحًا.

سيليا، بخفة وهدوء، جلست أمامه وأحضرت صندوق الإسعافات، ثم بدأت تنظف الجرح بلطف. لم يقل شيئًا، فقط كان ينظر للأسفل.

وضعت لزقة صغيرة بلون رمادي على الجرح، ثم قالت بصوت دافئ:

"لقد تجاوزت الإمبراطورة حدودها هذه المرة…"

سكتت قليلًا وهي تنظر إليه بنظرة تشبه الأم، ثم أكملت:

"لا تقلق، رايزل… هذا ليس خطأك."

رفع رايزل رأسه قليلًا، ونظر إليها…

نظرة طويلة، بلا كلمة.

تسللت إلى قلبه مشاعر غريبة…

دفء؟

هل هذا… الحنان؟

شيء لم يعرفه قط.

في حياته السابقة، لم يكن أحد يضع له لزقة جرح.

بل كانت مديرة الميتم تضربه وتتركه ينزف.

وفي حياته الحالية… هذا الجسد كان قدره الموت، لم يعرف أمّه، ولم يلمس يومًا معنى "الاهتمام".

فجأة شعر أن عينيه تبللت قليلًا، لكنه أخفى ذلك سريعًا وخفض رأسه.

قال بهمس:

"شكرًا… سيليا."

ابتسمت سيليا، ووضعت يدها على رأسه برقة.

"لا بأس، أنت الآن بخير… وهذا يكفيني."

تجمد جسده قليلًا تحت لمستها، وكأن شيئًا داخله انكسر بهدوء.

"هل هذا… ما يشعر به الناس… عندما يحبهم أحد؟"

لكنه لم يجب، فقط أغمض عينيه، مستمتعًا للحظة نادرة… بلحظة لم تطعنه الحياة فيها.

2025/06/25 · 3 مشاهدة · 1377 كلمة
نادي الروايات - 2025