في ركن بعيد من القاعة الفخمة، حيث الستائر الطويلة تخفي بعض الحواف المعتمة، دخل وفد مملكة أسترين.

— مملكة أسترين: مملكة البناء، والشمس، والأبراج التي تعانق السماء —

يقودهم شاب في حوالي السابعة عشرة، طويل القامة، شعره البني مربوط للخلف بعقدة بسيطة، وعيونه خضراء زمردية كالحقول الربيعية، خطواته واثقة كأنه بُني من حجارة أسترين نفسها، وملامحه الهادئة تخفي شيئًا أكبر من عمره.

اسمه: أليكس سترين، أمير مملكة أسترين الأول.

كان يرتدي معطفًا مميزًا بأزرار ذهبية، تتدلى منه شارة المملكة: صقر حجري يحلق فوق برجٍ شاهق.

دخل بهدوء لكنه لم يكن غير مرئي، بل كان حضوره ثقيلًا… عميقًا… والعديد من ممثلي الممالك التفتوا ينظرون إليه.

همس أحد النبلاء:

"أليكس سترين… ذلك الذي قيل إنه أعاد بناء ثلاث قرى محطمة بيده؟"

وردّ آخر:

"وقيل إنه يهندس ساحات القتال كما يبني المعابد، عقله حصن لا يُقهر."

جلس أليكس في مكانه المخصص، عينيه تتفقدان القاعة بهدوء، ثم سحب خريطة صغيرة وبدأ يراجعها… حتى كأن حضوره مشهد مهيب خافت الصوت.

⋯⋯⋯⋯⋯

وعلى الجهة الأخرى، بالقرب من الجدار المزخرف، دخل وفد مملكة ليفيان.

لكن لا أحد تجرأ أن يتحدث بصوتٍ عالٍ حينما مرّ شاب يرتدي عباءة سوداء طويلة، كانت خطواته بلا صوت، ملامحه غامضة، شعره أسود داكن كجناح غراب، وعيونه بلون البنفسج الداكن تكاد لا تُقرأ.

كان يرتدي قفازين من الجلد الأسود، لا يبتسم، ولا حتى ينظر لأحد، وكأن من حوله مجرد أشباح.

اسمه: راي ماركز مازياكي.

ورغم أنه لم يكن الوريث الأول للعائلة، إلا أن حضوره كان طاغيًا، يُخيف دون أن يهدد.

تبعته خادمته التي تضع غطاء رأس أسود، وأحد حرّاسه الشخصيين الذي يحمل على ظهره صندوقًا معدنيًا غامضًا، يقال إن فيه مخطوطات محظورة لا يُسمح بقراءتها إلا لعائلة مازياكي.

أحد النبلاء تمتم:

"لماذا أرسلت عائلة مازياكي ذلك الراي؟ أليسوا عادة لا يحضرون اجتماعات القارات؟"

وهمس آخر:

"هناك إشاعة... أنه مختار الإمبراطور، لحمل سرّهم في مجلس الظلال…"

ولكن الجميع عرفوا شيئًا واحدًا: لا يجب الاقتراب من عائلة مازياكي… مهما بدوا صامتين، فإنهم يسجلون كل شيء.

في تلك اللحظة… وعندما بدأ الهمس يخبو والأنظار تعود إلى أماكنها، دوّى صوت خطوات هادئة ولكنها متناسقة عبر مدخل القاعة الشمالي.

مملكة ميفيا: مملكة القديسين، الأرض المقدسة، صاحبة الهالات البيضاء والمعابد المشعة.

دخل ممثلو مملكة ميفيا بهدوء ووقار. كانت خطواتهم مدروسة كأنهم يسيرون على بلاط سماوي، ملابسهم البيضاء الحريرية تلمع ببساطة مطرزة بخيوط ذهبية وخضراء.

يقودهم شاب في السادسة عشرة من عمره، بشرته بيضاء كصفحات الكتب المقدسة، وعيناه بلون الزيتون الأخضر الباهت، تنبضان بنقاء غريب لا يُوصف.

شعره الفضيّ القصير بدا كأنه نثر من غبار النجوم.

اسمه: سيرين لافين، حامل لقب «اليد اليمنى للقديس الأعظم».

كان يرتدي رداءً أبيض بطبقة شفافة مرصعة بالأحجار الخضراء، وعلى صدره يلمع رمز مملكة ميفيا: زهرة يانعة يتفرع منها نورٌ سماوي.

من خلفه سارت فتاة في الخامسة عشرة، ملامحها هادئة، عيناها بندقيتان تميلان للذهبي، وشعرها الكتاني الطويل مربوط بشريط أخضر مقدس. كانت هي القديسة الصغرى: ميرا إيلين.

كان حضورهم صامتًا ولكن… كأن الهواء أصبح أنقى، وكأن من حولهم شعر بثقلٍ أخلاقيّ كبير. حتى النبلاء الأكثر تمردًا خفضوا أبصارهم حين مرّ وفد ميفيا بجانبهم.

همسات خفية في الزاوية:

"همم… هل هؤلاء هم الذين قالوا إنهم يستطيعون علاج لعنة الدم المقدس؟"

"الفتى… سيرين… قيل إنه طهّر قرية بأكملها من أثر الأرواح الغاضبة وهو في الثالثة عشر فقط…"

"أحذر أن تنظر في عينيه، يقال إنه يرى النوايا مباشرة."

ولكن رغم هالة النقاء… كانت هناك شيء ما… في طريقة نظر سيرين إلى الحضور. كأنه لا يثق بأحد.

أوقف سيرين خطواته فجأة، نظر إلى الجدار، ثم إلى منصة الإمبراطور… وتمتم:

"نورٌ ملوّثٌ يسكن هذا المكان… ولكنني سأكون شهوده."

ثم تابع طريقه، بخطوات قديس لا يساوم.

القاعة الآن تجمعت فيها ألوان العوالم المختلفة:

أسترين ببنائها، مازياكي بغموضها، ميفيا بقداستها… وليفيان بحدّ سيوفها وشغفها الصاخب.

ومع اقتراب لحظة دخول الإمبراطور، ساد صمت ثقيل، كأن الزمن نفسه ينتظر.

بعد أن دخل الإمبراطور إيدور القاعة وجلس على العرش، بدأ الحرس بتنظيم الحضور. النبلاء من الممالك الأربعة كانوا قد تجهّزوا، ووجوههم متوترة — فهذا أول اجتماع رسمي منذ خمس أعوام.

وقف لوكاس أولاً وقال بصوته الرسمي:

"اجتماع قارة فالين… سنبدأ الآن مناقشة أوضاع حدود الممالك الأربع، وتقييم التحالفات، والتهديدات القادمة من خارج القارة."

صمت بسيط، ثم تكلّم ممثل أسترين — اليكس أسترين:

"حدودنا مع لينيار آمنة حتى الآن، ولكن هناك نشاطًا زلزاليًا قرب الجبل الجليدي، نخشى أن يكون نذيرًا لتحوّل الطاقة القادمة."

أجاب ممثل لينيار، الأمير الأول لوكاس بنبرة حازمة:

"نحن نراقب الوضع عن قرب. جبل الجليد يدخل فترة نشاط كل قرن كما هو مسجّل في كتب السحرة القديمة. لكننا نؤكد: لا نية لنا في التوسّع، ونحثّ أسترين على عدم نشر أيّ شائعات…"

ابتسم ممثل ليفيان، الدوق فاريوس وقال:

"همم، الشائعات تكثر حين تُغلق لينيار بواباتها لثلاثة أشهر متتالية دون تفسير واضح…"

رايزل — الجالس قرب الإمبراطور متأخرًا بسبب دخوله المتأخر — تمتم بهدوء، لا يسمعه سوى إيزيك بجانبه:

"ممل. السياسة مملة."

همس له إيزيك، دون أن يحرّك وجهه:

"إنها أخطر مما تظن…"

ثم رفع ممثل مملكة إسترين تقريرًا وقال:

"نطالب بمراجعة الحدود الشمالية الشرقية، قرب أطلال عائلة سول، تلك المنطقة عائدة لنا منذ مئة عام."

أجابه لوكاس فورًا:

"أطلال سول محمية من قِبل قانون الظل المقدّس، وأي محاولة للاقتراب منها ستُعتبر إعلان حرب."

توتر الجو، وتبادل النبلاء النظرات، خصوصًا ممثلي سالين والبيون.

في الزاوية الخلفية، كان ممثل عائلة مازياكي يجلس بهدوء مخيف، وعيناه نصف مغمضتين.

وفي الجهة الأخرى، كانت النبيلات — نصفهن من أسترين وميفيا — ينظرن نحو لوكاس بحماسة، يتهامسن:

"هل رأيت ملامحه؟ كم عمره حتى الآن؟ إنه يشبه بطلاً من القصص القديمة!"

لكن لوكاس ظل ثابتًا، لا ينظر لأحد.

رفع الإمبراطور إيدور يده، وقال:

"كفى. لن نسمح بحرب باردة تبدأ من هذا المجلس. لينيار لن تتنازل عن شبر واحد من الأرض، كما أن أكاديمية السحر ومصادر الطاقة تحت حماية مباشرة من العائلة المالكة."

ثم نظر إلى رايزل، وقال فجأة:

"رايزل فالنتين… ما رأيك؟"

تفاجأ الجميع. طفل عمره ست سنوات يُسأل في اجتماع سياسي؟

رفع رايزل رأسه، ثم قال بصوت هادئ:

"أظن أن الأرض لا تعني شيئًا بدون من يحميها. من الأفضل أن نثبت حدودنا ونركز على من هم خارج القارة."

رد إيزيك من جانبه، وابتسامة ساخرة على شفتيه:

"كأنك تشير إلى كاييرا؟"

ضحك البعض من النبلاء، والبعض الآخر شحب وجهه.

لكن لوكاس فقط قال بهدوء:

"مثير للاهتمام…"

سادت لحظة من الصمت والتفكير بعد كلمات رايزل وإيزيك، وكان التوتر يزحف كالدخان في قاعة الاجتماعات الكبرى، عيون المندوبين تتبادل النظرات، وكل طرف يحسب كلماته القادمة.

حتى قال أحد ممثلي سالين بصوت هادئ:

"ولكن... أليس من الغريب أن لينيار لم تُرسل سوى أطفال لتمثيلها في هذا الاجتماع؟"

سعل أحد النبلاء بخفة وأردف:

"بالفعل، رغم وجود لوكاس، إلا أن… ولي عه—عفوًا الامير الثاني للينيار ما يزال صغيرًا فهو في سن الخامسة عشر , فهل تُدار سياسة القارة بأيدي الأطفال؟"

همهمات بدأت تنتشر، بعضها ساخر، وبعضها متوتر، وكان لوكاس قاب قوسين أو أدنى من الرد حتى…

انفتح باب القاعة بهدوء مفاجئ، ودخلت فيكتوريا — بهيبتها المعهودة، شعرها الداكن منسدل خلفها، وتاجها الذهبي يلمع تحت ضوء الثريات الكريستالية.

عندما خطت أول خطوة داخل القاعة… خيّم الصمت التام.

النبلاء يعرفونها. السياسيون المخضرمون يهابونها.

"…فيكتوريا؟!" تمتم أحد ممثلي البيون بدهشة.

همس رجل من فالرون لجانبه:

"ما الذي تفعله هنا؟ ألم تبتعد عن الاجتماعات منذ عشر سنوات؟"

"اللوردات المحترمون،" قالت فيكتوريا بابتسامة هادئة كأنها تمسك بخيوط المسرح، "أرجو المعذرة على تدخلي المتأخر... لكن بدا لي أن الأمور تنحرف نحو هراء دبلوماسي غير نافع."

كان صوتها مثل السكاكين المغلفة بالمخمل. ألقى إيدور نظرة سريعة عليها، متضايقًا، لكنه لم يمنعها من الحديث.

تقدمت ببطء، نظرت للخرائط الموضوعة أمامهم، وقالت:

"بخصوص أطلال سول، ألا تعلمون أن تلك المنطقة تمت إعادة تسجيلها قبل سبعة أعوام تحت مظلة ميثاق الجبل الجليدي؟ لدي الوثائق إن رغبتم، وهي موقعة من مندوب أسترين ذاته…"

أحد ممثلي أسترين احمرّ وجهه. حاول الرد، لكن فيكتوريا قاطعته وهي تلوّح بورقة:

"إن أردت التحقق، يمكننا قراءتها جميعًا. الآن."

همهمات، ارتباك. بدت فيكتوريا وكأنها قضت على أي نقاش متعلق بتلك الأرض خلال دقائق.

ثم التفتت نحو ممثلي البيون وقالت:

"أما أنتم… أتخافون من أطفال لينيار؟ أم من كونهم يملكون عقولًا أوضح من بعض رؤوس عائلاتكم؟"

كانت صادمة، عنيفة في تهذيبها، لكن أحدًا لم يستطع الرد.

ثم رفعت رأسها ونظرت إلى الإمبراطور إيدور:

"أقترح تأجيل قرار الحدود مؤقتًا، والتركيز على خطر السحر الأسود القادم من كاييرا، إذ وصلت تقارير بأن مملكة ميريل قد بدأت تحركات خفية قرب الساحل الشرقي."

ساد الهمس من جديد… حتى قال أحد ممثلي سالين:

"هذا مستحيل… ميريل لم تظهر نشاطًا منذ قرنين!"

قالت فيكتوريا بحدة:

"وهنا يكمن الخطر. العدو الصامت هو أخطر من المعلن."

ثم التفتت نحو رايزل، وقالت بنبرة أهدأ:

"ولن تكون لينيار ضعيفة، ما دام فيها من يعرف متى يصمت ومتى يتكلم."

وسط صخب النقاش المحتدم والجدال المتصاعد بين ممثلي الممالك، رفعت مارين ستارك يدها الصغيرة بثبات، وعيناها الخضراوان تتألقان بتركيز نقي.

"أعذروني، لدي—"

لكن قبل أن تكمل، قاطعها أحد نبلاء سالين بنبرة متعالية:

"عذرًا سمو السيدة، لكن حديث السياسة والأمن لا يليق بالأطفال."

وتبعته همهمة ضحك مكتوم من أحد ممثلي البيون:

"أحقًا نحن هنا لنستمع إلى وصايا فتاة لم تتجاوز العاشرة؟"

ارتجّت ملامح مارين قليلًا، لكنها لم تُخفض يدها. كانت مصرة، لكن هدوءها بدأ يتشقق.

وهنا…

ضربت فيكتوريا مروحتها الحريرية على الطاولة برقة مزيفة، لكنها أطلقت صوتًا صلبًا أوقف الهمسات كلها.

ثم نظرت إلى النبلاء، ابتسامتها ماكرة لكنها مرعبة:

"يبدو أن بعض الحاضرين يجهلون أن الدوقية التي تنتمي إليها مارين ستارك تدير وحدها نصف اقتصاد شمال فالين."

ارتفع حاجبا أحد ممثلي البيون، بينما تمتم ممثل فالرون: "نصف؟ مستحيل…"

واصلت فيكتوريا، صوتها هادئ لكن ينضح بالقوة:

"مارين قد تكون طفلة بنظركم، لكنها تمثل مصالح ستارك. وهذا يعني أن لكم الحق بالسكوت… والإنصات."

ساد الصمت فجأة.

نظرت مارين نحو فيكتوريا، ثم خفضت يدها ببطء، لم تتكلم.

لكن فيكتوريا نظرت إليها وقالت بلطفٍ مسموم:

"لكننا لن نعطيهم شرف الاستماع الآن، أليس كذلك عزيزتي؟"

أومأت مارين، وأجابت بابتسامة صغيرة:

"بالضبط يا فيكتوريا ستارك."

في اللحظة التي همّ فيها أحد نبلاء مازياكي بالرد، دوّت أصوات خِطى عالية فوق أرضية الرخام، وتسللت رعشة باردة في المكان…

انفتح الباب الكبير للقصر الملكي، ودخلت… الإمبراطورة إليشا.

رداؤها الأرجواني الطويل يجر خلفه صمتًا ثقيلًا، وتاجها الرفيع يهتز بخفة مع خطواتها البطيئة، كأنها عاصفة تخترق السكون. عيناها الأرجوانيتان كانتا تتوهجان بتوهّج الجليد والاحتقار، وكأنها ترى جميع الحاضرين كتلاً غير مرئية.

شهق بعض النبلاء… بعضهم تراجع قليلًا في جلسته، بينما تمتم آخرون:

"الإمبراطورة إليشا؟! ما الذي…"

"لم يكن من المفترض أن تحضر…"

"لكنها هنا؟!"

أما فيكتوريا، فقد شهقت في داخلها لكنها لم تُظهر ذلك… بل انحنت بخفة، وابتسامتها لم تختفِ، لكنها أصبحت أكثر… حذرًا.

أما الإمبراطور إيدور، ففتح عينيه بنفاد صبر وهمس:

"تلك المجنونة…"

إليشا وقفت أمام الطاولة الرئيسية، نظرت للجميع، ثم قالت بصوت بارد خالٍ من الحياة:

"أرى أن الاجتماع تحوّل إلى حلبة أطفال… وسوق نساء."

كان ذلك موجهًا مباشرة لفيكتوريا.

صمت مميت.

لكن فيكتوريا ردّت… بابتسامة.

"أهلاً بجلالتك… دائمًا تضيئين المكان… ولو بالسواد."

وهنا… اتسعت عينا مارين، وسيفاريل اختنق بالشاي، ورايزل همس لإيزيك:

"هذه كارثة…"

وسط الصمت المتوتر بعد اصطدام فيكتوريا بالإمبراطورة إليشا، رفع أحدهم يده بخفة... رجل في منتصف العمر، له هيبة عسكرية واضحة، وعينان حادتان بلون الكهرمان.

كان ذلك… فاريوس فالرون، رئيس عائلة فالرون، ووالد سيفاريل.

قال بصوته العميق الثابت وهو يراقب الجميع:

"دعونا لا نُشتّت الاجتماع بسجالات طفولية… هناك أمر أخطر بكثير يُلوّح في الأفق."

كل الأنظار توجهت نحوه، حتى الإمبراطور إيدور انحنى للأمام قليلًا باهتمام.

أكمل فاريوس ببطء:

"قارة كاييرا."

صمت.

ثم قال:

"نيرافيل وميريل، المملكتان اللتان لا تردان على أي رسائل ولا تشارك في أي اجتماع منذ سنوات… يظن الجميع أنهم مجرد أهل سحر مظلم... لكن هناك تحرّك غريب في الخفاء. أحد جواسيسي تحدث عن رجل يُدعى يوشي… يُلقب بـ 'ملك الخناجر'."

ارتفع همس خافت من بعض الحضور، وعبست إليشا قليلًا، بينما ضاق جفن إيدور باهتمام أكبر.

أكمل فاريوس وهو يضم يديه:

"رغم أن سلاحه مجرد خناجر… إلا أنه يُلقب بالملك لسبب. قالوا إنه يستطيع قتل سبعة رجال في لحظة واحدة دون أن يشعر أحد بوجوده."

مارين ابتلعت ريقها، وهمست:

"لكن... لماذا لم تتحرك كاييرا حتى الآن؟"

أجاب فاريوس ببطء:

"لهذا أخشى أن تحركهم التالي لن يكون 'معلنًا'… بل قاتلًا."

سكت لحظة، ثم قال بحدة:

"عليكم ألا تستهينوا بالقارة السوداء، خاصة حين تلتزم الصمت."

في زاوية القاعة، كان لوكاس واقفًا خلف الإمبراطور، كتفاه مشدودتان ووجهه معتدل كعادته، لكنه… كان يحدّق في فاريوس بعينين نصف مغمضتين. حين سمع اسم "يوشي" ولقبه "ملك الخناجر"، لم يظهر انزعاجًا… بل رفع حاجبه قليلًا فقط، ثم همس في نفسه:

"يوشي… اسم تردد في التقارير القديمة… يبدو أن زمن الأشباح بدأ في التحرك من جديد."

ثم وضع يده على غمد سيفه بخفة. لا أحد انتبه للحركة، لكنها كانت رد فعل غريزي… كما لو أن قلبه شعر بخطر قادم.

أما رايزل، فكان جالسًا على كرسيه، قد تأخر في الحضور لكن الآن كان حاضرًا بكامل تركيزه. عينيه الكرستاليتين اتسعتا قليلًا حين سمع اسم "قارة كاييرا"، ثم عقد حاجبيه وهمس لنفسه:

"ملك الخناجر؟ لا أصدق أن أحدًا بهذا اللقب يمكن أن يكون قويًا… لكن مملكة السحر الأسود لا تعبث."

ثم شعر بشعور غريب… خفيف، لكنه مألوف.

كأن شيئًا ما في كيانه يعرف هذا الاسم… أو يخشاه… من حياةٍ لم يَعِشها بعد.

أما إيزيك، رغم صِغر سنه، فقد كان جالسًا بجوار رايزل، وساقه الصغيرة تهتز قليلًا من التوتر، لكن عينيه الحمراوين كانتا ثاقبتين.

لم يتكلم… فقط دوّن الاسم على ورقة صغيرة أمامه.

"يوشي – كاييرا – ملك الخناجر – سلاحه غير مهم – قاتل صامت."

ثم خط تحتها بسطرٍ أحمر وكتب:

"هدف محتمل."

وهمس بصوت منخفض لم يسمعه إلا رايزل:

"رايزل… إنهم لا يعلمون شيئًا بعد. المنظمة التي ينتمي لها ذلك الرجل… ليست مهتمة فقط بقارة كاييرا. إنها تراقب فالين أيضاً."

رايزل التفت له، وقال ببطء:

"من أين لك هذا؟"

— قبل 10 سنوات، في مملكة نيرافيل، قارة كاييرا —

السماء رمادية، المطر قد توقف، لكن البرك الطينية كانت تملأ شوارع مملكة نيرافيل. وسط الشارع، كانت طفلة صغيرة، شعرها الأسود الطويل مغطى بالتراب، وملابسها ممزقة، تجلس بانكماش أمام مخبز قديم.

إنها فيكتوريا… من العائلة الملكية.

رغم دمها الملكي، كانت مكروهة. يقولون "من أجل مصلحتها"، لكن كل ما عرفته كان السلاسل والصراخ والتعذيب. السبب؟ أخوها، وريث العرش، أراد التخلص منها… فطردها من القصر عندما بلغت العاشرة من عمرها.

كانت تتسول في الشوارع، لكن لا أحد يعيرها اهتمامًا.

كل يوم، تمر على المخبز، تنظر من بعيد، وتحلم أن تتذوق قطعة واحدة من الخبز الساخن.

وفي أحد الأيام…

خرج رجل من أحد المتاجر المجاورة، نظر لها بازدراء وقال:

"أما زلتِ هنا؟! اغربي عن وجهي أيتها اللعينة! اذهبي إلى دار الأيتام!"

ثم ركلها في كتفها، فسقطت على الأرض.

بقيت على الأرض تبكي، تحاول كتم صوتها كما اعتادت في القصر.

لكن فجأة… فتح باب المخبز.

امرأة عجوز بشعر رمادي قصير، ووجه دافئ رغم التعب، خرجت. اسمها "سالي"، بائعة الخبز.

نظرت إلى الطفلة… ثم تنهدت وقالت بلطف وهي تنحني:

"أيتها الصغيرة، تعالي. إنهم لا يعرفون، لكنني أعرف الألم في عينيك."

فتحت ذراعيها.

ترددت فيكتوريا، ثم اندفعت نحوها… لأول مرة منذ سنين، احتضنها أحدهم.

في تلك الليلة، نامت فيكتوريا في المخبز، مغطاة ببطانية دافئة، وقطعة خبز دافئة بين يديها.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت تساعد سالي في المخبز… تكتشف العالم، وتخطط للعودة.

فيكتوريا لم تكن فتاة عادية.

بل كانت نواة عاصفة… تنتظر فقط أن تنمو.

في الزقاق المظلم من نيرافيل، كانت الأرض مكسوّة بالدماء، والدخان يرتفع من المخبز المحترق.

فيكتوريا وقفت هناك، صامتة، عيناها مفتوحتان على اتساعهما وهي تحدق بجسد "سالي" العجوز… المرأة الوحيدة التي منحتها دفئًا في هذا العالم القاسي.

المرتزقة غادروا، لا لشيء إلا لأنهم لم يروا فيها شيئًا يستحق القتل.

لكنهم بالفعل قتلوا كل ما بقي من نور في داخلها.

بدأت تركض…

قدماها تضربان الأرض الموحلة بقوة، تنفّسها متقطع، ودموعها تحرق وجنتيها.

«لماذا… لماذا يحدث هذا لي؟!»

«كل من أحبهم يموتون…»

«هل يمكنني أن أعيش… ولو لمرة واحدة… كإنسانة؟ فقط إنسانة؟»

«اريد العيش فقط..»

وفجأة…

لمعت أمامها بوابة سحرية، شكلها دائري، ألوانها أرجوانية وزرقاء، تتذبذب بهالة سحرية غريبة. لم تكن تعلم لمن تتبع، أو إلى أين تؤدي… لكن عقلها لم يعمل حينها.

تقدّمت بخطوة… ثم أخرى…

ومع آخر زفرة بكاء، دخلت البوابة.

…عندما فتحت عينيها، وجدت نفسها في أرض جديدة.

هواء بارد… نظيف… وهالة سحرية مألوفة تملأ المكان.

كانت في مملكة "لينيار".

نظرت إلى نفسها، ملابسها مكسوّة بالغبار، شعرها متشابك… قلبها لا يزال ثقيلًا، لكن قدماها لم تتوقفا.

وفجأة…

ظهر رجل أمامها، طويل القامة، شعره أسود كالليل، وعيناه خضراوان تشعّان حكمة وهدوءًا.

قال بهدوء:

"أنتِ… أتيتِ من تلك البوابة، أليس كذلك؟"

فيكتوريا تراجعت خطوة للوراء، عيناها ممتلئتان بالريبة.

لكنه ابتسم بتعب وقال:

"تشبهين ابنتي… كانت بعمر العاشرة حين رحلت. رحلت منذ خمس سنوات."

ثم اقترب خطوة ومدّ يده.

"تعالي. أنا لا أطلب شيئًا، فقط… عيشي. عيشي في دوقية ستارك، وادعي أنك ابنتي."

صمتٌ.

ثم…

أومأت فيكتوريا برأسها… ببطء.

— من هذه اللحظة، وُلدت "فيكتوريا ستارك" —

عاشت في دوقية ستارك، بين جدران من الكتب، والدروس، والدبلوماسية.

الدوق "آس ستارك" لم يكن حنونًا، لكنه لم يؤذِها قط، وكان يعاملها باحترام.

أما هي…

فلم تكن ترغب بالحب أو الحنان بعد الآن.

رغبت بالسلطة… بالعلم… بالقوة.

درست السياسة واللغة والتاريخ والقانون، حتى باتت تُلقّب بـ "أذكى فتاة في لينيار".

لكنها لم تنسَ أبدًا… تلك النيران، وتلك الليلة، وسالي.

{الوقت الحالي}

كان لوكاس واقفًا بجوار الإمبراطور إيدور، عينيه تراقبان كل شيء بدقة.

رايزل وإيزيك ، كان على وجهيهما التركيز... أو على الأقل محاولته.

وفي وسط ذلك الجدال الحاد، كانت فيكتوريا واقفة، عيناها شاردتان للحظة. كانت تستذكر مشاهد قديمة من ماضيها — نيرافيل، سالي، والدها بالتبني... وأس.

صوت خافت في رأسها همس:

«أنتِ لستِ واحدة منهم، تذكّري ذلك.»

«لكنكِ ستقودينهم…»

وفجأة —

صفّقت الإمبراطورة إليشا بحدة على الطاولة، قاطعةً أفكار الجميع.

"فيكتوريا ستارك."

صوتها حاد، يحمل في طياته تهديدًا مستترًا.

كل الأنظار اتجهت نحوها.

"بدلًا من أن تسرحي في أحلام اليقظه. لم لا تشاركينا رأيك بصفتك ممثلة دوقية ستارك؟"

فيكتوريا التفتت إليها ببطء، وابتسامة باردة ترتسم على شفتيها.

عينها مكر، وصوتها هادئ… لكن حاضرًا بقوة:

"بالطبع، جلالة الإمبراطورة."

ثم نظرت نحو الخريطة في وسط الطاولة.

"من الواضح أن التوتر بين ليفيان وأسترين متعلق بالمعبر الشرقي، خاصة بعد ظهور شقوق الطاقة مؤخرًا…"

"ولكن إذا سمحتم لي، فإن مملكة ميفيا تملك الحق الأكبر في تقديم عرض إعادة توزيع الطاقة القادمة من مناجم الكريستال، بدلًا من تمريرها دون مقابل إلى أطراف فالين."

صمتٌ ثقيل خيّم على القاعة.

النبلاء من ميفيا نظروا لها بإعجاب.

أمّا ممثلي ليفيان… فكان بعضهم قد عقد حاجبيه بضيق.

مارين، التي كانت تتابع الموقف بصمت، نظرت نحو فيكتوريا وقد تلاشت رغبتها في مقاطعة الحديث، إذ بات واضحًا أن هذا الاجتماع ليس ساحة للكلمات العشوائية.

إيزيك همس لرايزل، مغمغمًا:

"ذكية… أكثر مما توقعت."

رايزل، مغمغمًا بسخرية طفيفة:

"ليست فقط ذكية… إنها ماكرة، جدًا."

لكن الإمبراطورة إليشا لم تنتهِ بعد.

نظرت لفيكتوريا ببرود، ثم قالت:

"إننا لا نحتاج لمن يذكّرنا بمن يستحق… ومن لا يستحق."

ثم التفتت إلى الممالك الأخرى، وتابعت كلامها، محاولة السيطرة على الحوار مجددًا، لكن الحضور لم ينسوا ثقة فيكتوريا، ولا دهاء كلماتها.

وبينما كانت الإمبراطورة إليشا تحاول فرض سلطتها من جديد على الحاضرين، انطلقت كلمات حادّة من جهة ممثلي مملكة أسترين:

"كلامكِ يبدو متحيّزًا، جلالة الإمبراطورة. مملكة لينيار لا يمكنها الاستمرار في اعتبار نفسها مركز العالم!" قالها المندوب الأستريني: أليكس أسترين، الشاب ذو الشعر البني الفاتح والعينين الخضراء، بنبرةٍ باردة وابتسامة مستفزة.

سادت لحظة من الصمت.

لوكاس، الذي كان يقف خلف الإمبراطور إيدور، شهق بصمت ونظر نحوه سريعًا.

رايزل مال برأسه وهمس لإيزيك:

"حسنًا… بدأ العرض."

أليكس تابع، وقد نهض واقفًا:

"لطالما قدمت أسترين الدعم التقني والمعماري لكل ممالك فالين، لكن لم نرَ سوى التجاهل والتقليل من شأننا! تتحدثون عن توزيع الطاقة؟ مَن الذي قام ببناء الأبراج السحرية لتنظيم تلك الطاقة أصلًا؟ نحن!"

ثم نظر إلى فيكتوريا تحديدًا، بابتسامة متعمدة:

"أم أن السيدة فيكتوريا نسيت من قام بإعادة ترميم معهد آيرون السحري في لينيار؟"

قبل أن تجيب، نهض أحد ممثلي ليفيان — رجل في الثلاثين من العمر، من عائلة سالين، بشعره الأزرق الغامق — وقال بصوت واضح:

"إن أسترين تعرف كيف تبني… لكنها لا تعرف كيف تحمي ما تبنيه. أنتم بارعون في الحجارة، لكن وقت القتال، تبكون وتطلبون من فرسان ليفيان أن ينقذوكم."

وارتفعت الضوضاء فجأة.

ممثل أسترين ضرب الطاولة بقبضته، وقال:

"هل تتهمنا بالضعف؟!"

"بل أقول الحقيقة." ردّ ممثل ليفيان ببرود.

مارين التي كانت تراقب، تمتمت: "حقًا… مثل الأطفال."

أما فيكتوريا، فابتسمت ونظرت ناحية رايزل.

"ماذا ستفعل يا أمير؟" همست بسخرية.

رايزل وقف فجأة، ونظر إلى الجميع وقال بصوت نقيّ رغم صغره:

"أنتم… تتجادلون كأن لا وقت لدينا. في حين أن قارة كاييرا، كما ذُكر سابقًا، تتحرّك في الظل. أليست هذه هي اللحظة التي يفترض أن نتّحد فيها؟"

أصوات خافتة تعالت… بعضها إعجاب، وبعضها تهكّم.

لكن الإمبراطور إيدور اكتفى بأن قال بهدوء:

"صحيح. لا نحتاج إلى خلافات داخلية في وقت كهذا."

ثم التفت إلى فيكتوريا، وأشار لها أن تتابع الشرح الذي قاطعته إليشا قبل دقائق.

وبينما ساد التوتر في أرجاء القاعة، وقبل أن يتفجر جدال آخر بين ممثلي الممالك، نهضت فيكتوريا بهدوء، وسارت ببطء إلى منتصف القاعة، خطواتها الواثقة جعلت الجميع يصمت دون أن تطلب منهم ذلك.

قالت بصوت هادئ ولكنّه يحمل هيبة لاذعة:

"ممالك فالين… كم هو مؤسف أن يتحوّل هذا الاجتماع النادر إلى حلبة لصراخكم."

سكت الجميع، حتى الإمبراطورة إليشا مالت بجسدها للأمام تستمع.

"أن تتفاخر كل مملكة بميزاتها أمر مفهوم، ولكن… هل ستمنحنا الجبال حماية؟ هل ستنقذنا المباني من خناجر كاييرا؟ هل الفرسان وحدهم سيوقفون زحفهم؟ أم أن السحر سيوقف الدماء التي قد تُسفك؟"

صمت. وجميع الوجوه بدأت تتبدل.

تابعت فيكتوريا وهي تستدير بنظرها إلى الجميع:

"لن نكسب شيئًا من استعراض العضلات. هدفنا اليوم أن نناقش كيف نحمي بعضنا، لا أن نثبت مَن الأفضل. إذا لم نصل لاتفاق واضح، ستتحول فالين إلى وجبة دسمة على مائدة كاييرا."

ثم التفتت إلى الإمبراطور إيدور وقالت بانحناءة بسيطة:

"جلالة الإمبراطور، أقترح أن يتم تقسيم نقاط التعاون بين الممالك حسب تخصص كل واحدة… مع ضمان أن يكون لكل مملكة يد في القرار. لا مركزية في السياسة، بل مشاركة كاملة."

كان هذا اقتراحًا نادرًا في قوته ومكره في الوقت ذاته: فهو يمنح كل مملكة وزنها، ولكنه يجعل من لينيار شريكة في كل قرار… بطريقة خفية، دون أن تفرض نفسها صراحة.

الإمبراطور إيدور أومأ بهدوء.

النبيلات تمتمن ببعض الكلمات الإعجاب.

حتى ممثلي ليفيان وأسترين نظروا لبعضهم البعض ثم أومأوا ببطء.

رايزل تمتم وهو ينظر لفيكتوريا:

"هذه المرأة… ماكرة أكثر مما توقعت."

وهمس إيزيك له:

"سياسية عبقرية، ومخيفة في الوقت ذاته."

أما لوكاس… فكان يراقبها بعينيه الهادئتين، لكنه قال في نفسه:

"أشعر وكأنها ليست من هذا العالم..."

بعد لحظات من الصمت عقب اقتراح فيكتوريا، بدأ الجميع يتبادل النظرات، ثم بدأت رؤوس ممثلي الممالك تهتز ببطء موافقة. تكلم ممثل أسترين، "أليكس استرين"، وهو يعدل ياقة ردائه المصنوع من حرير أزرق فخم:

"أقترح أن تتولى أسترين تنظيم شؤون البناء والتحصينات الدفاعية، فنحن الأفضل في ذلك."

ثم تبعته ممثلة ميفيا، "ليورا"، بصوتها الهادئ:

"ولن تتردد ميفيا في تقديم الدعم الاقتصادي، وسنمدّ الممالك الأخرى بالكريستال النقي لتعزيز حواجز السحر."

أما ممثل ليفيان، "سيد فاريوس فالرون"، فقال بثقة وهو يضغط على نصل سيفه:

"ونحن سنتكفل بتوزيع الحماية العسكرية وتنسيق انتشار الفرسان في أي تهديد محتمل."

التفت الجميع إلى لوكاس، الذي وقف بهدوء ممثلاً لينيار وقال:

"لينيار، بصفتها المستضيفة… ستنسق الأمور السياسية والعسكرية بين الجميع، وسنفتح أكاديميتنا لمن أراد دراسة السحر المتقدم."

هنا، أومأ الإمبراطور إيدور ببطء، ثم نهض من مكانه وقال:

"تم الاتفاق. التحالف الجديد بين ممالك فالين قائم الآن، وسيُسمّى ‘مجلس الفجر الرباعي’. فليكن أول فجر ضد ظلمة كاييرا."

وانتهى الاجتماع… ولكن الهواء لا زال مثقلاً بالمخاوف.

وقبل أن يغادروا القاعة، أعلنت فيكتوريا مجددًا:

"الاجتماع الرسمي قد انتهى، لكننا نوصي ببقاء ممثلي الممالك في لينيار لمدة خمسة أيام للراحة… والتنسيق التفصيلي."

أُعدَّ القصر الملكي الخاص بالضيوف لاستقبالهم. مبنى ضخم، تحيط به حدائق مسحورة ونوافير تُضيء ليلاً، وفي داخله أجنحة فاخرة تناسب مكانة الملوك والفرسان والقديسين والسحرة.

خرج ممثلو الممالك واحدًا تلو الآخر، وكل منهم غارق في أفكاره. البعض متفائل، البعض قلق، والبعض… كان يخطط في صمت.

خلف الأروقة، تمتم فاريوس:

"خمسة أيام كافية لنكتشف من معنا… ومن ضدنا."

وفي ظلال النافذة العالية، كانت فيكتوريا تنظر القمر وتهمس بصوت ثابت:

"الامور تسير كما أريد"

في تلك الليلة، بعد انتهاء الاجتماع، كان القصر الملكي للضيوف يعجّ بالصمت المتوتر... لكن في أحد الأجنحة الخاصة بعائلة فالرون، كان هناك عاصفةٌ صغيرة تُولد.

سيفاريل، ابن فاريوس، كان يجلس على الكرسي بيدين متشابكتين، وعينين تائهتين في الأرض. سيفه الخشبي متكئ على الجدار، وقد ظهر عليه بعض الكسر من شدة التدريب.

ثم انفتح الباب بقوة.

"سيفاريل!" دوّى صوت فاريوس.

رفع الفتى رأسه ببطء، ثم وقف سريعًا في محاولة يائسة لتعديل مظهره.

"أ-أبي…"

تقدّم فاريوس بخطوات غاضبة، مع أن وجهه كان لا يزال يحمل صرامة الفارس، لكن عينيه كأنهما تشتعلان:

"أخبرني، يا وريث فالرون العزيز… منذ متى يسرق وريث العائلة سيف رارديلا من خزانة الأسرة؟!"

سيفاريل بلع ريقه: "كنت أريد فقط… أن أجرب شعور حمله… ولو مرة واحدة…"

فجأة، رفع فاريوس يده وصفعه على كتفه صفعة قوية جعلته يترنّح.

"أهذا ما تريده؟ أن تموت لأنك تظن أن المجد يُنال بالسرقة؟ ذلك السيف لا يُحمل إلا من قبل من يستحقه! لم تكتمل بعد حتى هيئة دمك الخامسة!!"

سيفاريل عضّ شفته، وحاول حبس دموعه.

"أنا أتدرّب يوميًا… أبذل كل جهدي… ألا ترى ذلك؟"

فاريوس بصوت صارم:

"الجهد وحده لا يكفي… ما فعلته أهان اسم فالرون أمام أعين من راقبونا اليوم… كنت تبتسم، تركض كالأحمق، وتتحدث في القاعة بلا إذن، والآن تسرق؟"

"أنا آسف…" قالها سيفاريل أخيرًا وهو يُخفض رأسه.

ثم… صمت فاريوس للحظة. انحنى أمام ابنه وقال بصوت منخفض وهو يمد يده:

"سيف رارديلا لا يُمنح… بل يُنتزع. فإن أردته يوماً… أوقفني بنفسك."

ثم استدار وخرج، مغلقًا الباب خلفه، بينما سيفاريل ظل واقفًا هناك، وقلبه يتقلب بين الإحباط والإصرار.

ثم تمتم بصوت بالكاد يُسمع:

"سأصبح قويًا… أقوى حتى منك يا أبي… وسأنتزع كل شيء بيدي."

(القصر الملكي - غرفة رايزل)

كان رايزل مستلقيًا على السجادة العريضة في جناحه الملكيّ، وقد نثرت حوله الكتب والوثائق التي أُجبر على قراءتها خلال الأيام الماضية. مدّ يده ببطء نحو أحد الكتب، ثم تراجع عن ذلك، وأسند رأسه على كفّه وهمس بتعب:

"رأسي... لا أستطيع التفكير... ما هذا الجنون؟ كيف لهم أن يقضوا حياتهم كلها في نقاش الحدود والسيادة والضرائب والمناجم؟! أهذه هي حياة النبلاء؟!"

ثم نظر نحو النافذة، حيث كانت الشمس تميل نحو الغروب، وصوت العصافير يختلط بضوضاء الجنود في الساحة السفلية.

"كل ذلك الاجتماع السياسي لم أفهم منه إلا أنهم جميعًا... لا يثقون ببعضهم. تحالفات مشروطة، ونظرات محذّرة، وكلمات مغلّفة بالسم. حتى أنني شعرت للحظة أنّ ابتسامة فيكتوريا كانت خنجرًا مغروسًا في صدر الإمبراطورة."

تنهّد بعمق، وأغمض عينيه للحظة، فسمع صوتًا مألوفًا.

"أتنهار؟ بعد كل ما حفظته؟" قال ريمبر وهو جالس على الطاولة، يلوّح بذيله بخفة.

فتح رايزل عينيه بتعب، وقال:

"أنا مرهق... السياسة قتلت دماغي. لو وضعتني مع وحش من الدرجة A الآن، لهان الأمر عليّ."

ضحك ريمبر بخفة، ثم قفز نحو حافة السرير.

"هل تريد أن أُراجع معك ما فهمته؟"

"لا، شكراً... أريد فقط أن أستلقي وأتظاهر أنني لست وريثًا، ولا أميرًا، ولا حتى إنسانًا."

سكت للحظة، ثم أضاف:

"خمسة أيام... فقط خمسة أيام وسيرحلون جميعهم... أرجوكِ يا قارة فالين، لا يحدث شيء مجنون خلال هذه المدة."

وفي تلك اللحظة، ارتفع صوت خافت من الممر خارج الغرفة — كان فيون يناديه لحضور مأدبة مسائية تجمع جميع الممثلين مرة أخرى...

ووجه رايزل؟ كان أشبه بمن دُعي للمقصلة.

2025/06/26 · 3 مشاهدة · 4258 كلمة
نادي الروايات - 2025