لم يغمض لرايزل جفن في تلك الليلة. رغم نعومة الوسائد، ورائحة اللافندر التي ملأت الغرفة، ودفء الأغطية المطرّزة بخيوط الذهب… إلا أن شيئًا في داخله كان يرتجف. ليس بردًا، بل شعورًا غريبًا يُشبه كونه دمية وُضعت في مشهد لا يفهمه.

جلس أمام المرآة الطويلة، يحدق في وجهٍ ناعم، بشعر فضيّ قصير وعينين بلون الثلج الذائب. بدا كأنه خرج من لوحةٍ فنية. لا تشبه ملامحه الطفل الهارب من دار الأيتام، المتّسخ، الجائع، المرتجف.

بل الأغرب… أن هذا الوجه، كان يحمل ملامح قصة قرأها لتوه.

> "رايزل فالنتين… الأمير الثاني لمملكة لينيار…"

قالها لنفسه أكثر من مرة، ولم تصدّق أذنه وقعها.

"لكنني لستُ أميرًا. أنا مجرد… لا أحد."

مع شروق الشمس، دخلت الخادمة ذات العينين الخضراوين ثانية، تتقدّمها وصيفتان صغيرتان تحملان ملابس ملكية فاخرة.

قالت بانحناءة:

"جلالة الملكة تريد رؤيتك، سمو الأمير. أرجو أن تُسرع، فقد تأخّرت كثيرًا عن الإفطار."

لم يُجب رايزل. وقف بهدوء وسمح لهنّ بإلباسه، كأنه تمثال. ارتدى معطفًا أبيض مطرّزًا بحراشف ذهبية، وسروالاً كريميًا أنيقًا، وعلّقن له وشاحًا أزرق على كتفه الأيسر، حيث شعار العائلة المالكة: شمسٌ ونصلٌ يقطع ظلًّا.

نزل الدرجات بخطى مترددة، يحاول حفظ شكل البلاط، عسى أن يعينه على الهرب لاحقًا. لكنه حين دخل قاعة الطعام، توقّف كل شيء.

كانت هناك.

امرأة شديدة الجمال، بشعرٍ داكن مرفوع في تاجٍ من الفضة، ترتدي ثوبًا ملكيًا أنيقًا، وفي عينيها… لا شيء.

مجرد برودة من زجاجٍ ناعم.

قالت بصوت هادئ:

"أخيرًا، قررت الاستيقاظ."

انحنى الحرس له بإجلال، ثم جلس على الطاولة أمامها، محاطًا بأطباق فاخرة لم يرَ مثلها من قبل. لكنه لم يأكل.

قالت المرأة:

"أتعرف من أنا؟"

هزّ رأسه نفيًا، فقالت بهدوء:

"أنا والدتك. الملكة إليديا."

كاد يختنق بلقمة الهواء، لكنه تماسَك وقال:

"...لكنّي لا أتذكّر شيئًا."

ارتفع حاجب الملكة قليلًا، ثم تناولت فنجانها وقالت ببرود:

"لا بأس. تلك الضربة في رأسك من السقوط ربما كانت أقوى مما نظن. الطبيب قال إنك ستستعيد ذاكرتك تدريجيًا… وإلا، فسنعيد تعليمك كل شيء."

سكتت لحظة، ثم أردفت:

"لقد اختفيت لمدة أسبوع. حرس القصر فتّشوا المدينة ولم يجدوك. كنا نظن أنك…"

لم تُكمل.

لكن ما أرعب رايزل، لم يكن فقدان الذاكرة المزعوم، بل حقيقة أن أحدًا لم يبحث عنه بصدق. لا ألم في نبرة الملكة، ولا قلق في عينيها

تمامًا كما في القصة

بعد الإفطار…

اقتادوه إلى الجناح الملكي. حيث يتعلم الأمراء القراءة، فن المبارزة، وتاريخ المملكة.

لكنه لم يكن معلمًا… بل طفل آخر ينتظره.

كان أطول منه بسنة أو اثنتين، بشعرٍ أسود داكن كالحبر، وعينين بنفسجيتين كجمرة ليل. وجهه منحوت بدقة، لكنه بارد كالرخام.

"هذا أخوك الأكبر، الأمير الأول، لوكاس فالنتين."

قالها كبير المربين، ثم أشار لهما بالجلوس معًا.

لكنّ الجلوس بجانب لوكاس، كان كمن يجلس بجانب تمثال قاتل.

كان هذا هو الصبي… الذي خان شقيقه في قصة "سيد النار".

وللمفارقة… كان يبدو عليه النبل والقوة والذكاء. راقب رايزل بنظرة فاحصة، ثم قال:

"لقد أصبحت أضعف من آخر مرة رأيتك فيها."

لم يجب رايزل.

"هل نسيت كيف كنت تبكي حين لا أشاركك الحلوى؟"

قالها لوكاس بسخرية، لكن صوته فيه نبرة عداءٍ خفي.

"لا أذكر شيئًا." رد رايزل، ثم تمتم: "لكنّي لا أحبك."

ارتجف الجو، وعلت همهمة خفيفة. كبير المربين سعل وقال:

"حسنًا! لنبدأ اليوم بمراجعة تاريخ المملكة…"

لكن رايزل لم يكن يستمع. عيناه على لوكاس، وقلبه يصرخ:

> "أنت العدو، حتى لو لم أتذكّر. أنا أعرف… أنّك خنتني ذات يوم."

بعد الدروس…

في الليل، تسلل رايزل إلى المكتبة. أراد أن يجد الكتاب نفسه: "سيد النار".

بحث بين الأرفف القديمة حتى كادت عيناه تحترق من التعب. لكنه لم يجده.

بل وجد مكانه عنوانًا آخر:

"الطفل الذي اختفى"

كان هذا الكتاب خاليًا من النص، صفحاته بيضاء… إلا الأخيرة، حيث كُتب:

> "حين يخرج الطفل من قصته… تُولد قصة أخرى، أشد ظلامًا."

أغلقه، ثم تجمّد.

خلفه مباشرة… كان لوكاس.

قال الأمير الأول بصوتٍ منخفض:

"المكتبة تغلق في هذا الوقت."

استدار رايزل ببطء، وقال:

"لم أجد ما أبحث عنه."

اقترب لوكاس، حدّق في الكتاب، ثم قال:

"ذلك كتاب نادر. لا أحد يعرف من وضعه هنا. يقول البعض إنه يحكي عن أخٍ ضائع… لم يعد أحد يراه."

"وماذا حدث له؟"

"لا أحد يعلم. لكنه كان… غير ضروري."

تراجع رايزل خطوة، لكن لوكاس ابتسم ابتسامة باهتة، ثم همس:

"عُد للنوم، يا أخي."

ثم اختفى بين الظلال

قبل سبع سنوات من "الكراهيه"...

في قصر فالنتين قبل أن يتجسد رايزل الجديد… كان الطفل الأصلي، رايزل الأول، يجلس في البرد على حافة نافذة برجه.

عيناه حمراوان، مشوبتان بالحزن. كان يسمع الاحتفالات في الأسفل.

"عيد ميلاد الأمير الأول…"

"إنه حقًا مذهل! سيتزوج من أميرة إيستريا!"

"سيكون الملك القادم!"

لم يذكر أحد اسم رايزل.

تسلل من غرفته في منتصف الليل، لا أحد افتقده. مشى في الغابة المظلمة، بلا هدف، حتى تعب وانهار تحت شجرة صنوبر عملاقة.

هناك، ظهر له رجل.

كان يرتدي معطفًا أسود طويلًا، ووجهه مغطى بقناع من العاج الأبيض.

قال بصوت هادئ:

"هل أنت تائه… أم منبوذ؟"

رفع رايزل عينيه، وأجاب:

"كلاهما."

قال الرجل:

"هل تريد أن تكون أقوى؟"

رد رايزل: "بالطبع! أريد أن أهزم أخي الأكبر!"

سكت الرجل، ثم مدّ يده.

"تعال معي… ودع مملكتهم تحترق لاحقًا."

ومنذ تلك الليلة، اختفى رايزل.

لكن كما قيل في الكتاب…

> "حين يخرج الطفل من قصته… تُولد قصة أخرى."

وقف رايزل المتجسد في الشرفة الملكية، يراقب الحديقة من علٍ، حيث لوكاس يتدرّب بالسيف.

همس لنفسه:

"سبع سنوات باقية… سبع سنوات على الحريق القادم."

ثم رفع نظره للسماء:

"وأنا… لا أعرف إن كنتُ أنا هو رايزل الأصلي… أم مجرّد انعكاس… لكن في النهاية، سأنهي هذه القصة بطريقتي."

2025/05/20 · 27 مشاهدة · 855 كلمة
نادي الروايات - 2025