في الممرات الملبدة بضوء الشمس الخافت، كان رايزل يلهث بخفة بعد أن قطع نصف الطريق راكضًا..
قال رايزل بجدية هذه المرة، بعينين كريستاليتين بدت فيهما شرارة عزمٍ لأول مرة منذ زمن:
"أريد أن أتعلمه… أريد أن أفهمه، وأتحكم فيه، وأستخدمه… ولو حتى قليلًا."
فيون، الذي اعتاد على كسله وسخريته، لم يرد مباشرة. وضع الكتاب جانبًا، واقترب منه، ثم قال بهدوء:
"السحر يا سمو الأمير... هو طاقة تنبع من الداخل، من روحك… لكن روحك وحدها لا تكفي. يجب أن تتناغم مع جسدك، وقلبك، وعقلك. من يخلّ بتوازن واحد منها… ينفجر أو ينهار."
سكت رايزل، ثم قال: "حسنًا، لنبدأ."
ابتسم فيون، لكنه سرعان ما أعاد ملامحه الجادة:
"إذًا، أول تمرين لك… هو تحسس المانا."
أشار إلى الحديقة الخلفية، حيث كانت الشمس قد بدأت بالغروب. مشى رايزل بخطوات ثابتة وإن كانت مترددة أحيانًا، وهو يقول في نفسه:
"مارين على حق... حتى لو كنت لا أهتم بالقتال، لا أريد أن أكون عبئًا."
في الحديقة…
جلس رايزل أرضًا كما أشار فيون، وسحب نفسًا عميقًا.
"اغمض عينيك. تخيّل أن داخلك نهر… هادئ… دافئ… هناك، في أعماقك، تتدفق طاقة شفافة. تلك هي المانا."
رايزل أغلق عينيه فعلًا، وبدأ يتخيل… لكن بدلًا من نهر، ظهر له بحرٌ هائج… مظلم… تسكنه صرخات من الماضي.
"توقف… لا أرى أي مانا… لا أشعر بشيء."
"هذا طبيعي"، قالها فيون. "تحسس المانا لأول مرة قد يأخذ أسابيع."
"أسابيع؟" قالها رايزل وقد ارتجف صبره.
"أجل، وهل تظن أن الجميع مثل لوكاس؟"
فيون ابتعد قليلًا، وأخرج كريستالة صغيرة، وضعها أمام رايزل:
"حاول تركيز مانا من داخلك نحوها. لو أضاءت حتى بوميض ضعيف، ستكون نجحت في أول خطوة."
مرت خمس دقائق… عشر… رايزل يتنفس ببطء، يركز… العرق يتصبب من جبينه، لكن الكريستالة لم تتحرك.
"لا شيء…"
لكنه لم ينهض.
"حاول مجددًا"، قالها فيون.
وحاول.
ومع الوقت، رايزل بدأ يشعر بخدر بسيط في أطراف أصابعه… ثم ارتجافة خفيفة في صدره… وداخل تلك اللحظة القصيرة، لمع ضوء خافت في قلب الكريستالة. كان ضعيفًا جدًا… لكنه ظهر.
"أ… أضاءت…!" قالها رايزل متفاجئًا.
فيون ابتسم ابتسامة خفيفة: "لا بأس… بداية ضعيفة، لكنها بداية على أية حال."
وقف رايزل وهو يتنفس بقوة، وقال: "أريد أن أتابع… أريد أن أصل إلى الدائرة الأولى."
"الدائرة الأولى؟" قال فيون بسخرية ناعمة.
"نعم. حتى لو أخذني هذا سنوات."
توقّف فيون لثوانٍ، ثم قال ببطء:
"المانا ليست لعبة يا رايزل. ولو دخلت عالم السحر… فلا تظن أنك ستخرج منه كما كنت."
"أنا لا أريد أن أكون كما كنت."
قالها رايزل بعينين صلبتين.
في نهاية اليوم…
حين عاد رايزل إلى غرفته، كان جسده منهكًا من تمرين بسيط فقط… لكنه لأول مرة منذ ولادته في هذا الجسد، شعر بأنه خطا خطوة تخصه وحده، لا تخص العرش، ولا الأمبراطورة، ولا حتى ماضيه الكئيب.
استلقى على سريره، ورمشاته ثقيلة، وفي صدره تسكن همسةٌ صغيرة:
"سأفعلها… ببطء، ولكن سأفعلها."
وفي الزاوية… كان ريمبر يراقبه بصمت، ثم تمتم ساخرًا وهو يتثاءب:
"عجبًا… كريستالي بدأ يتصرف كبشر."
في اليوم الثاني من بداية رحلته السحرية، وبينما كانت الشمس لا تزال تتسلل بخجل من بين الستائر الحريرية في غرفته، جلس رايزل على الطاولة الصغيرة، يداه على الخدين، وعيناه تائهتان في الهواء.
"اجتماع الممالك… قبل سنة بالضبط…"
قالها بصوت خافت في داخله، وصدى الأفكار يتضخم في عقله.
"كنت في الحادية عشرة من عمري… ولسببٍ ما أصرّت فيكتوريا أن أذهب ولو لحظات. لم أحضر إلا دقائق، لكن…"
حاجباه انعقدا: "تلك الدقائق كانت كافية لترعبني. سياسة… حدود… تهديدات غير معلنة… تحالفات سرية… وكان الجميع يتكلمون بلغة أعرفها، لكن لا أفهمها."
"لكن أكثر ما ارعبني هو سيفاريل"
ثم تمتم:
"سيفاريل… كيف له أن يصبح هادئًا هكذا؟ لم يعد يتحدث بلا تفكير كما كان يفعل… لم يعد يضحك… لقد تغير، وكأنه…"
ثم شهق بصمت:
"…كأنه نضج بطريقة لم أستطع اللحاق بها."
وفجأة، قُطع سيل أفكاره بصوت مألوف خلفه:
"همممم… إذا كنت تفكر بهذا الشكل، فذلك يعني أن شعور النقص بدأ ينهشك، أليس كذلك؟"
أدار رايزل رأسه، فوجد ريمبر مستلقيًا على طرف الأريكة، وابتسامة شيطانية على وجهه، كأنها تقول: "كشفتك."
قال رايزل ببرود وهو يشيح بوجهه:
"أنت تتنصت على أفكاري أم ماذا؟"
ضحك ريمبر وقال:
"أنا تنين، لا تنسَ ذلك. ما دمت متوترًا، فمشاعرك تُشبه الموجات المانيوية الحادة. من السهل الشعور بها."
ثم اعتدل في جلسته:
"فلتكن صريحًا، رايزل. هل بدأت تخشى من البقاء خلف الآخرين؟"
سكت رايزل، ثم قال بصوت منخفض:
"لا… أنا لا أريد أن أسبقهم. أنا فقط… لا أريد أن أُترك وحدي في الخلف."
حدّق فيه ريمبر للحظات… ثم قال بجديّة غير معتادة:
"هذا شعور جيد. احتفظ به. لأن أولئك الذين يركضون للحاق بغيرهم… ينتهون إما أبطالًا… أو محطمين."
سكت رايزل، لكنه هذه المرة، ابتسم بخفة… ثم قال:
"إذًا... ماذا عن درس اليوم؟"
"آه، عزيزنا فيون ينتظرك في الحديقة من الفجر."
"من الفجر؟"
"أجل، قال: «إن تأخّر الأمير هذه المرة… فليتوقع التدريب ثلاث مرات مضاعفة.»"
"…….."
ثم قال رايزل وهو يسحب عباءته ويمشي نحو الباب بتنهيدة طويلة:
"أحيانًا أشك أنني تورطت حين قررت أن أصبح أقوى."
ضحك ريمبر وقال:
"بل بدأت تتصرف كرجل."
كانت الحديقة الخلفية هادئة كعادتها، تغمرها أشعة الشمس الوردية في بداية الصباح. الأشجار تهمس في الهواء، والعصافير تُغني لحنًا خفيفًا كأنها تراقب بعينٍ ما سيجري اليوم.
وقف رايزل أمام فيون، حافي القدمين على العشب، يرتدي عباءة تدريب رمادية وخفيفة. ويده اليمنى مشدودة إلى جانب جسده، كأنه مقبل على شيء لم يفهمه بعد.
فيون، بشعره الفضي القصير ونظراته الجادة، وقف مقابل رايزل وهو يقول بصوت هادئ:
"قبل أن تُفكر باستخدام السحر، عليك أن تتقن أولًا... فهم المانا."
أشار بيده إلى الهواء، وفجأة ظهرت دوامة شفافة من الضوء تتراقص حول راحة يده.
"المانا هي أصل كل شيء، سيدي. هي ليست مجرد طاقة. هي الحياة التي تملأ العالم، وتتنفسها الأرواح، وتتشربها الجبال، وتستجيب لها التعويذات."
أغلق رايزل عينيه وقال بتوتر:
"أشعر… أنني لا أشعر بشيء."
ضحك فيون قليلًا:
"هذا طبيعي. جميع السحرة في بداياتهم يظنون أن المانا ستنهمر عليهم بمجرد أن ينادوا عليها."
ثم اقترب ووضع يده على صدر رايزل:
"أغمض عينيك. تنفس. حاول أن تشعر بوجود شيء صغير داخلك… شيء دافئ، يشبه نبضة غير منتظمة. تلك هي نواة المانا."
رايزل أغمض عينيه…
وتنفس…
وانتظر…
وانتظر…
ثم فجأة…
"……لا شيء."
قالها بنبرة إحباط، ونظر لفيون.
"حاول مجددًا."
قالها فيون بثبات.
وحاول رايزل مرة أخرى.
في المرة الرابعة…
سقط على العشب وهو يقول:
"اللعنه… هذا مستحيل."
"هل تظن أن السحر يُفتح بنقرة أصبع؟"
قالها فيون بحدة وهو يعقد ذراعيه.
"المانا عنيدة. لا تنحني إلا لأولئك الذين يملكون إرادة واضحة."
عاد رايزل للوقوف… جسده متوتر…
"إذا كانت لا تُريد أن تأتيني… فسأجبرها."
أغلق عينيه مجددًا…
حاول أن يتخيل ما قاله فيون…
نبضة خفيفة…
شيء دافئ…
ثم…
خفة في أصابعه.
فتح رايزل عينيه بسرعة… وعلى طرف سبابته…
ظهرت ومضة صغيرة…
نقطة واحدة… بلون أزرق كالكريستال، ثم اختفت بسرعة.
قال فيون ببطء، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة نادرة:
"شعرت بها، أليس كذلك؟"
"…نقطة واحدة فقط."
قالها رايزل بمرارة.
"تلك النقطة…"
قال فيون وهو يضع يده على كتف رايزل،
"هي بدايتك. لا أحد يفتح السماء من أول يوم."
ثم أضاف بابتسامة:
"وغدًا… سنجعلها خطًا، ثم دائرة… ثم نارًا إن أردت."
ابتسم رايزل بخفة، ثم قال وهو ينظر إلى أصابعه:
"لن أكون مجرد أمير نائم بعد الآن"
كان فيون قد طلب من رايزل أن يعيد المحاولة الخامسة. قطرات العرق انحدرت من جبين الطفل ذي العينين الكريستاليتين، فيما كان يحاول مجددًا سحب المانا من داخله.
"ببطء…"
قال فيون وهو يراقب حركته.
"تحكم بتنفسك… لا تُقاوم المانا، دَعها تتسلل كالماء…"
ولكن قبل أن يُكمل… اقتحم أحد الخدم الساحة وقد بدا عليه التوتر واللهفة، وهو يقول بانحناءة سريعة:
"سيدي رايزل!… سمو الأمير الأول… عاد!"
رفع رايزل حاجبه، وصمت برهة.
"…من؟"
قال الخادم بسرعة:
"لوكاس فالنتين، الأمير الأول! لقد عاد للتوّ من مهماته خارج مملكة لينيار… إنه متجه نحو القصر الآن."
توسعت عينا رايزل ببطء.
"…أوه، هذا لوكاس…"
وقبل أن يُكمل، تلقّى لكمة خفيفة على رأسه من ريمبر الذي ظهر بجانبه فجأة وهو يصرخ:
"أيها الأحمق! إنه أخوك الأكبر! كيف لا تتفاعل؟! إنه أقوى ساحر في المملكة حاليًا! على الأقل غيّر ملابسك!"
قال رايزل بنصف كسَل:
"لكمتي ليست مبررة..."
"سوف تندم إن قابلته وأنت بثياب التدريب!"
صرخ بها ريمبر وهو يدفعه من كتفه باتجاه القصر.
دخل رايزل جناحه، سحب من خزانته ثوبًا أنيقًا بأطراف فضيّة وزخارف بسيطة تليق بأمير من العائلة المالكة. لبسه ببطء، ثم وقف أمام المرآة، يعدّل طوقه، وهو يقول لنفسه:
"لوكاس… لم أره منذ عامين أو ثلاث أعوام تقريبًا. هل ما زال يتحدث بذلك الصوت البارد؟ أم أصبح أكثر تشبهًا بأبينا؟"
عاد ريمبر ليلوح بجناحيه الصغيرين أمام رايزل:
"هيااااا! لا تجعلني أضربك مرةً أخرى!"
"حسنًا… حسنًا."
خرج رايزل من غرفته، يسير في ممرات القصر بثبات وكسل وفي داخله، تساؤل هادئ…
"هل سيتذكرني؟ أم أصبحتُ مجرد طفل آخر من أطفال العائلة…؟
في بهو القصر الخارجي، كان لوكاس ينزل من حصانه بكل هدوء وهيبة، وعيناه الأرجوانيتان تنظران إلى القصر بثقة وخبرة رجل عاش الكثير.
عند زاوية الأعمدة، كان رايزل يتثاءب بكسل، متكئًا على جدار، وجهه يملؤه التعب من النوم.
نظر إليه لوكاس بنظرة سريعة، ثم قال بابتسامة خفيفة مليئة بالمودة الأخوية:
"تبدو كأنك لم تنم منذ أيام."
رد رايزل وهو يتمطى:
"ما دام أنك رجعت من المهمات، فأنا لا أهتم، أنا بحاجة إلى النوم فقط."
ابتسم لوكاس وقال وهو يربت على كتف رايزل:
"حاول أن تحافظ على نفسك، نحن بحاجة لك."
لم يرد رايزل سوى بتنهيدة، ثم اتجه إلى غرفته بكسل، بينما لوكاس يتابع طريقه للداخل بوقار ومسؤولية.