كان رايزل يسير في أحد ممرات القصر، عازمًا على التوجه إلى فيون ليكمل تدريباته على السحر، حينما باغته ظل سريع من الجانب، تبعه ضربة قوية على رأسه.
"آخ!"
التفت بسرعة، وهو يمسك رأسه، ليجد ريمبر واقفًا خلفه، جناحيه المتوهجين مطويان، ونظراته ممتلئة باللوم.
قال رايزل متأففًا:
"ريمبر!! ما بك الآن؟!"
رمقه ريمبر بنظرة غاضبة وقال:
"ما هذا؟! أهكذا يتقابل الإخوة؟! لوكاس عاد، ولم تفعل سوى أن تقف هناك وتنظر وكأنك غريب!"
هز رايزل كتفيه بكسل وقال:
"أنا لست مهتمًا، ريمبر... بأمور العائلة أو الدراما الخاصة بها. أنا فقط أحاول أن أعيش... بهدوء."
سكت لحظة ثم تابع في نفسه، وقد شرد ذهنه نحو شيء مختلف تمامًا:
«الدمية... الدمية التي قتلتني في حياتي السابقة... ما الذي حدث لها؟ كانت مخيفة بشكل لا يصدق، حتى أنني بالكاد كنت أتنفس حين رأيتها... هل ما زالت موجودة؟...»
وقبل أن يغوص أعمق في دوامة أفكاره، تلقّى ضربة أخرى من جناح ريمبر أطاحت بتوازنه قليلاً.
صرخ رايزل:
"آااخ! ريمبر! كفى!!"
رد ريمبر وهو يعقد جناحيه بضيق:
"كفى من الهروب! العالم لا يمنح فرصًا ثانية كل يوم، لا تكن أحمقًا!"
قال رايزل وهو يحاول التراجع خطوة إلى الوراء، رافعًا يده اليمنى بتردد:
"ريمبر... أريد فقط أن أُكمل تدريب—"
لكن الكلمات لم تكتمل، إذ جاءت اللكمة قوية وغير متوقعة.
"أغخ!"
شهق رايزل من المفاجأة أكثر من الألم، يده على فكه، وعيناه متسعتان من الذهول.
صرخ ريمبر، وقد تكسرت نبرته بين الغضب والارتباك:
"رايزل!! أتعلم أن... أن ج-جسدك...!!"
لكنه توقف، وكأن الكلمات اختنقت في حلقه، وأشاح بوجهه سريعًا، ثم أدار ظهره تمامًا.
تسمرت عينا رايزل عليه، يرمش ببطء، لا بسبب الألم، بل لأنه لم يفهم.
"هاه؟"
همس بها وهو يراقب جناحي ريمبر يهتزان بخفة.
ظل الصمت مشحونًا بينهما، إلى أن ابتعد ريمبر خطوة دون أن يلتفت، وهمس بصوت بالكاد يُسمع:
"...اهتم بنفسك، أيها الأحمق."
ثم مضى دون كلمة أخرى.
أما رايزل، فقد ظل واقفًا في مكانه، يحمل نظرة غامضة وهو يضع يده على أثر اللكمة، وقال لنفسه:
"جسدي...؟ ما الذي كان سيقوله؟"
في أروقة القصر العلوي، وتحديدًا داخل المكتب الإمبراطوري المُزخرف بأعمدة سوداء وتنانين من الذهب الأبيض، كان لوكاس جالسًا بهدوء على أحد الكراسي المقابلة لمكتب الإمبراطور إيدور، يحتسي كوب الشاي بصمت تام، وكأن الهواء نفسه يحبس أنفاسه احترامًا للمكان.
رفع الإمبراطور رأسه ببطء، وصوته الجهوري يحمل طبقات من الجدية والتفكير:
"لوكاس... سمعت أن الوحوش ذات الرتبة S بدأوا بالانتشار في حدودنا الشمالية. أهذا صحيح؟"
خفض لوكاس كوبه، ثم أجاب بنبرة هادئة ولكن واثقة:
"نعم، جلالتك. رصدنا تحركاتهم في الليالي الأخيرة. لكنني كنت هناك أنا وبعض السحرة من الدائرة الرابعة والخامسة... وتمكّنا من القضاء عليهم قبل أن يتوغلوا."
ضرب الإمبراطور سطح المكتب بأصابعه بإيقاع بطيء، ثم قال بعد تفكير قصير:
"سنقيم مأدبة على شرف عودتك من المهمة... الجميع بحاجة ليراك بعد هذه الغيبة الطويلة، يا لوكاس."
أومأ لوكاس برأسه احترامًا دون أن ينبس بكلمة، ثم نهض بهدوء وانحنى قليلًا، وقال بنبرة رسمية:
"كما تأمر، جلالتك."
ثم استدار وغادر الغرفة بهدوء، تاركًا وراءه عباءة سحرية ترفرف بخفة، وأثر خطواتٍ خافتة على أرضية الرخام الأسود.
كانت شمس لينيار تغرب خلف أبراجها السحرية، ملقية ظلالًا ذهبية على القصر الكبير الذي بدأ يتحول إلى خلية نحل متوترة استعدادًا للمأدبة المُقامة تكريمًا لعودة لوكاس، ساحر الإمبراطورية، من حدوده الجليدية.
في الداخل، كانت الخادمات يركضن جيئة وذهابًا عبر الممرات الطويلة، يحملن أقمشة مطرزة من الحرير البنفسجي وكؤوسًا من الكريستال النقي، بينما وقف الطهاة في المطبخ الضخم يهيئون عشرات الأطباق الغريبة من لحوم الوحوش المُثلجة المجلوبة من قمم الجبل الجليدي.
داخل القاعة الملكية الوسطى، وُضِعت الموائد الطويلة تحت ثرياتٍ من المانا المضغوطة، ينبعث منها ضوء أزرق ناعم كأنها تنبض بالحياة، وزُيّنت الطاولات بأوراق التريليا النادرة، التي لا تنمو إلا في حدائق لينيار المسحورة. كانت الكراسي مُبطنة بقماش الملكيّ الخاص بالعائلة الحاكمة، والمفارش خيطت بخيوط سحرية لا تتسخ أبدًا.
كان فيون يقف في منتصف القاعة، ينظر إلى كل تفصيلٍ بدقة وهو يكتب شيئًا في دفتر صغير.
"الزهور... عدّلوها قليلاً نحو الشرق. لا أريد أن تتصادم الطاقة مع مركز الضوء. والملاعق، هاه؟ لا تلمع كفاية! أعيدوا تلميعها حالًا!" صرخ وهو يلوّح بعصاه الصغيرة.
وفي أحد جوانب القاعة، كانت سيليا وكومي تراقبان الخدم بدهشة.
قالت كومي وهي تميل على كتف سيليا:
"أوه... مأدبة لـ الأمير الأول فقط؟ كان يمكن أن نحضر طاولة من الجليد تكريمًا له، أليس كذلك؟"
ردّت سيليا بتهكم خفيف:
"لو الأمر بيدي، لجلسته في ساحة التدريب بدلاً من هذه الفوضى الفاخرة."
في الخارج، بدأ السحر يتكثف حول البوابات، فالمأدبة وإن كانت داخل لينيار، إلا أن الحضور الملكي من نبلاء القصر، وبعض شخصيات السحر العليا، سيضفون عليها طابعًا ثقيلًا، ومليئًا بالأنظار والتوقعات.
وكان هناك شيء ما يلوح في الأفق...
ربما أكثر من مجرد طعام ونبيذ.
لتبدأ المأدبة...
غرقت القاعة الملكية في صمتٍ مذهولٍ لحظة فتح الأبواب الثقيلة المزخرفة بنقوش المانا. تناثر الضوء الأزرق المنبعث من الثريات على جسد الداخل ببطء: لوكاس فريدريك.
كان واقفًا بصلابة، شعره الابيض لطويل مربوط بنصفه، ووشاحه الأسود الفخم يتطاير بخفة مع خطواته. عيونه الارجوانية اللامعة تنظر أمامه بثقة، لا مبالاة، وكأنه لا يرى أحدًا.
تنهدت إحدى النبيلات بصوت خافت وهي تهمس لصديقتها:
"يا آلهة المانا... إنه أكثر وسامة من الشائعات..."
وتلتها همسات كثيرة:
"هل هذا لوكاس حقًا؟ ساحر الإمبراطورية؟"
"سمعت أنه واجه وحش من الرتبة S لوحده!"
"لا أحد يستطيع أن يقاوم تلك العيون..."
بينما كانت العيون تتبعه، وقلوب النبيلات تكاد تُنتزع من مواضعها، لم يُظهر لوكاس أي اهتمام. فقط مشى بهدوء نحو الإمبراطور، انحنى له بأدب، ثم اتجه إلى مقعده المخصص قرب العرش.
وفي أقصى زاوية القاعة، خلف طاولة صغيرة مكدسة بالطعام، جلس رايزل.
شعره الأبيض مبعثر قليلاً من النوم، وعيونه الكريستالية بالكاد مفتوحة، ويده تمسك ساق ديكٍ متبّلة ينهشها بلا اهتمام.
قال ريمبر وهو يضغط على صدغيه بيده:
"أنا لا أصدق... نحن في مأدبة ملكية، وهو يأكل وكأننا في حانةٍ قروية!"
رد رايزل بدون أن يرفع رأسه:
"طالما أن الطعام موجود... لا شيء يهم، ريمبر."
ثم شرب من كأس العصير دفعةً واحدة، وقطّب حاجبيه:
"هذا الكأس فارغ... احضِر لي واحدًا آخر."
رد ريمبر وهو يمسح وجهه بتعب:
"لا. اجلبه بنفسك. أنا مصدع بسببك منذ أن بدأنا اليوم."
نظرة رايزل إليه كانت بريئة، لكن مرهقة جدًا:
"أوه... آسف. نسيت أنك لا تتحمل العباقرة."
في تلك اللحظة، لمح لوكاس من بعيد رايزل، وارتسم على شفتيه ابتسامة صغيرة بالكاد تُلاحظ. ثم نظر إلى الأمام من جديد وكأن شيئًا لم يحدث.
المأدبة بدأت رسميًا...
لكن ما سيحدث لاحقًا؟
لن يكون مجرد حفلٍ بسيط.
كانت مارين تقف بهدوء بين مجموعة من النبيلات الصغيرات، ثوبها الوردي المائل الاسود ينساب على الأرض بخفة، وشعرها الفضي اللامع يتألق تحت ضوء الثريات، تتكلم بثقة وابتسامة بسيطة تعلو شفتيها بينما تتحدث عن رحلتها الأخيرة إلى أرشيف الدوقية.
ثم، دون سابق إنذار، ارتفع صوت ناعم لكنه لاذع من بين الحضور:
"أوه، هل تتحدثين عن رايزل فالنتين؟ الأمير الكريستالي؟"
التفتت الأنظار نحو المتحدثة… كانت فتاة صغيرة بعمر مارين تقريبًا، ترتدي ثوبًا أخضر زمرديًا، وشعرها البني مربوط على شكل ضفيرتين خلف رأسها. كانت هي كيارا، ابنة الماركيز العريق في لينيار، وصاحبة لسان حاد منذ أن كانت في الخامسة.
تابعت كيارا بنبرة تحمل مزيجًا من السخرية والتسلية:
"سمعت أنه لا يمتلك أي موهبة سحرية... مجرد أمير بلا فائدة. لا مانت، لا سحر، ولا حتى حضور. لو لم يكن في العائلة المالكة، لما تذكره أحد."
ضحكت واحدة من الفتيات بخفة وهمست:
"رأيته نائمًا في إحدى الحصص في القصر… ظننته خادمًا ضائعًا."
كانت مارين لا تزال تبتسم، لكنها لم تقل شيئًا للحظة. ثم أمالت رأسها قليلًا، وضاقت عيناها الخضراوان ببطء وكأنها تزن كلماتها.
قالت بصوت ناعم… لكنه يحمل برودة الجليد:
"غريب حقًا…"
توقفت قليلاً ثم تابعت:
"عادةً لا ينتقد الفارغون إلا من يُرعبهم وجوده."
تجمدت الابتسامة على وجه كليارا.
مارين تقدمت خطوة، وواصلت وهي لا تزال تبتسم:
"رايزل فالنتين...رغم كل ما تقولينه، فهو يعيش بلا اهتمام لأي كلمة قيلت عنه. وربما… هذا بالضبط ما لا يمكنك تحمله، أليس كذلك؟"
أطرقت الفتيات برؤوسهن بصمت…
وبينما كانت كيارا على وشك الرد، نظرت مارين إليها بنظرة هادئة وقالت:
"وأيضًا… لا أحد يسخر من خطيبي أمامي."
ثم استدارت مارين بكل أناقة، وتركت خلفها همسات مبهورة، ووجوه مذهولة… أما كيارا، فقد اختفى بريق السخرية من عينيها تمامًا.
في الزاوية الهادئة من القاعة، حيث كان رايزل مستندًا إلى الحائط وبيده كأس عصير، لم يكن بعيدًا عن مجموعة النبيلات، بل كان يقف خلف ستارة نصف شفافة قرب النافذة المفتوحة. سمع كل شيء. كل كلمة خرجت من فم كيارا، وكل همسة سخيفة عن "الأمير عديم الفائدة". عيناه الكريستاليتان بقيتا ثابتتين على مارين التي تصدت لهم بكلمات باردة وساخرة بذات الوقت.
وبينما بدأت المجموعة تتفرق ببطء، تقدم رايزل بخطوات هادئة، حتى وقف خلف كيارا التي لم تكن قد انتبهت بعد، ثم قال بصوت مائل للاستفهام وكأن الأمر لا يهمه إطلاقًا:
"طعم عصير البرتقال… أفضل من عصير التفاح. هل توافقينني الرأي يا مارين؟"
السكوت ساد المكان للحظة.
كيارا استدارت ببطء، لتجد رايزل واقفًا هناك خلفها مباشرة، ينظر إليها باستغراب حقيقي وكأنه لم يسمع ما قالته… وكأنه يتحدث فقط عن العصير.
وجنتا كيارا احمرّتا بشدة، اختلط فيهما الخجل والذهول والحرج. ثم، بلا تفكير…
ـ "أيها...!"
ـ صفع!!!
راحت يدها الصغيرة تصفع خد رايزل بخفة لا تؤلم جسدًا، لكنها أحرجت الموقف كله.
مارين اتسعت عيناها. أما النبيلات؟ فقد خنقن صرخاتهن من الصدمة وبدأن يتراجعن من المشهد.
رايزل لم يتحرك… مجرد رمشة بطيئة في عينيه، نظر إلى كيارا وقال بهدوء:
"هل هذا يعني أنك تفضلين عصير التفاح إذًا؟"
انفجرت مارين بالضحك بخفة، محاولة كتمه بيدها. أما كيارا فقد غطّت وجهها بكفّيها وركضت بعيدًا من شدة الإحراج، وثوبها الأخضر يرفرف خلفها.
قالت مارين وهي لا تزال تضحك:
"كان بإمكانك فقط قول إنك سمعتهم."
فرد رايزل، وهو يمسح أثر الصفعة بهدوء:
"لكن… عصير البرتقال أفضل، أليس كذلك؟"
في قلب القاعة المزينة بأفخم أنواع الزخارف، جلس رايزل على الأريكة بجوار مارين. لم يكن يفكر في شيء، فقط يرفع كأس العصير بهدوء إلى شفتيه بينما عيناه نصف مغمضتين، وكأن روحه ما تزال عالقة في سريره.
قالت مارين بصوت منخفض فيه شيء من التردد:
"رايزل... أنا آسفة على ما قلته في ذلك اليوم... كنت قاسية—"
قاطعها رايزل، بدون أن ينظر إليها، فقط أشار برأسه قليلاً وهو يرشف من كأسه:
"لا بأس... لقد كنتِ صادقة."
وقبل أن تضيف شيئًا، مدد رايزل جسده بخفة، وأطلق تنهيدة طويلة، يغمض عينيه للحظة وكأنه سينام في وسط القاعة…
ثم—
"رايزل فالنتين؟"
فتح عينيه بهدوء، واستدار للخلف.
فتى في نفس عمره تقريبًا، شعره بني فاتح وعيونه ذهبية، يقف بثقة أمامه. كانت ملامحه حادة كأنه معتاد على التحديات.
"أجل؟" قال رايزل بصوت خافت.
رفع الفتى ذقنه وقال بفخر:
"أتحداك في نزال."
سكون.
كل من في القاعة التفت فجأة. حتى النبيلات توقفن عن الهمس. الإمبراطور إيدور نفسه رفع رأسه من كأس النبيذ.
رايزل رمش مرة، ثم مرتين، ثم قال بتنهيدة:
"عذرًا... لكنني ضعيف. لا أستطيع."
ضحكة قصيرة خرجت من الفتى الذي قال بتهكم:
"هل الأمير الثاني جبان؟"
رمش رايزل مجددًا. نظرة كسولة، لكنها هذه المرة تحمل شيئًا من الضيق.
"اسمع... أنا لست مهتمًا بنزالات أو ما شابه… أريد فقط النوم."
لكن صوتًا ثقيلًا، حادًا، قاطع كل شيء:
"أسمح بالنزال."
استدار رايزل ببطء. كان إيدور، الإمبراطور، واقفًا الآن، ينظر إليه من فوق.
"ماذا؟!"
سرت همسات من الخلف. الجميع انصدم.
قال رايزل بنبرة شبه مرتجفة:
"لكنني ضعي—"
قاطع إيدور حديثه بجفاف:
"لا. هذا عذرٌ أيها الأمير الثاني. في أرضنا، الضعيف… يموت."
جف حلق رايزل. شفتاه تحركتا ببطء:
"حسنًا… لكنني لم أفعل المانا بعد—"
قال الإمبراطور بحدة، ونظراته تفضح نفاد صبره:
"تغيبك عن دروس المانا ثلاث مرات، ونومك المستمر؟ هذا ما تفعله. لا أعذار بعد الآن."
ثم سأل رايزل، بصوت منخفض فيه بعض التقبل الممزوج بالخوف:
"أين سيقام النزال… إذا؟"
قال إيدور وهو يجلس مجددًا:
"في الساحة الخلفية. وسأجمع جميع النبلاء… لمشاهدتك."
تشنج كتفا رايزل، وتشبث بأطراف معطفه، يكاد لا يصدق.
من الزاوية الأخرى من القاعة، كان إيزِيك يشرب الشاي بهدوء لا يناسب الموقف إطلاقًا، بجواره يقف فين صامتًا، لكن ملامحه مشدودة.
قال إيزِيك وهو ينظر من فوق الكوب:
"رايزل أحمق بالكامل... وهذا ما أحبه فيه."
ثم تقدم الفتى (ايرفين)مدّ يده وقال بابتسامة ساخرة:
"صاحب السمو… لنتوجه للساحة الخلفية. هيا."
نظر له رايزل للحظة، ثم نهض ببطء، خطواته خفيفة لكن صدره يعلو وينخفض بثقل.
في الساحة الخلفية، حيث كان القمر معلقًا في السماء يعكس ضوءه على أرض الحجر البارد، اصطف النبلاء على جانبي الساحة، يتحدثون همسًا، تعلو وجوههم ملامح الترقب والدهشة. لم يكن أحد يتوقع هذا النوع من القتال في مأدبة فاخرة داخل العاصمة، وخصوصًا أن أحد أطرافه… هو رايزل فالنتين.
دخل إيرفين الساحة بخطوات ثابتة، عيناه الذهبيتان تتوهجان بثقة متغطرسة، بينما يرفع يده اليمنى بهدوء، وتبدأ جزيئات المانا تتكاثف حوله بلونٍ سماويٍّ خافت.
"فعلت المانا منذ أن كنت في سن العاشرة..." قال في نفسه بثقة قاتلة، "أستطيع القيام بتعويذات ستُنهي الأمير الثاني بالتأكيد."
ثم ظهرت على أطراف أصابعه خيوط سحرية كأنها شرارات نارٍ ناعمة، وابتسم إيرفين:
"لن تكون أكثر من درس صغير في الساحة."
أما على الطرف الآخر، فكان رايزل ينزل السلالم المؤدية للساحة بتكاسل، شعره الأبيض مبعثر قليلًا، عيونه الكريستالية متجهة للأسفل، وكتفاه منحدران بتعب، وكأنه خرج للتو من النوم.
"أنا ضعيف للغاية..." تمتم لنفسه، ثم زفر تنهيدة عميقة:
"سأموت... إيزِيك، أنقذني..."
وقف في منتصف الساحة، بلا استعداد قتالي، بلا مانا مرئية، فقط… رايزل.
الهمسات بدأت تتصاعد بين النبلاء، بعضهم يضع يده على فمه بدهشة، وآخرون يضحكون بخفة:
– "هل هذا هو الأمير الثاني؟"
– "لا يبدو أنه يملك أي ذرة من الفخر الملكي."
– "ساذج... طفل مدلل."
– "إنه وصمة عار للعائلة..."
ومن الأعلى، في الشرفة الحجرية، جلس الإمبراطور إيدور، وعلى جانبه لوكاس الذي اكتفى بالنظر نحو رايزل بوجهٍ جامد.
أيزيك؟ كان واقفًا في زاوية الظل، يضع يده على خده، عيونه الحمراء تراقب كل حركة بصمتٍ ثقيل.
فين قال بصوتٍ خافت:
"هل… هل سيموت؟"
أيزيك لم يجب. فقط راقب، لكن قلبه كان يغلي بشيء… لا يشبه القلق، بل يشبه الفضول الممزوج بحدسٍ مظلم.
رفع الحكم يده، وأطلق:
"ابدأا!!"
اشتعلت الأرض تحت قدم إيرفين، وسحب تعويذة من راحة يده، وصرخ:
"تعويذة النار الصغرى – لهب اللسع!!"
واندفعت كرة نار صغيرة نحو رايزل بسرعة…
وكل ما فعله رايزل… هو أن عينه توسعت قليلًا، فقط قليلاً.
تلاشى اللهب في لحظة الاصطدام، وانفجر الغبار في الساحة كحاجز كثيف من الرماد، حجبه عن أعين الجميع. ارتفعت أصوات النبلاء بالدهشة والارتباك:
"هل... هل أصيب؟"
"لا أرى شيئًا!"
"ما الذي يحدث؟!"
ومن خلف الغبار، سُمِع صوت سعال ضعيف.
كان رايزل يسعل بقوة، جسده نصف منحني، وأصابعه المرتجفة تلمس معصمه المحترق. عندما نظر إلى راحة يده، رأى اللون القرمزي... دم.
توسعت عيناه الكريستاليتان ببطء، بينما تقاطر الدم من شفتيه أيضًا، وقد بدأ يسعل دمًا. كانت المانا التي اصطدمت به ضعيفة… لكنها كانت كافية.
همس وهو يتنفس بثقل:
"...هذا... مزعج للغاية..."
رفع رأسه ونظر لإيرفين من بين الغبار، نظرة لم تكن غاضبة… بل كانت فارغة، وكأن الألم ليس غريبًا عليه، بل مألوف.
"أن تسعل دمًا من أول تعويذة…؟" همس إيرفين بصدمة، ثم ضحك:
"هل أنت جاد؟ أهذا كل ما لديك، يا أمير؟"
كان كل من على الشرفة مذهولًا، خاصة الإمبراطور إيدور الذي لم يحرّك ساكنًا، فقط شرب من كأسه ببطء وهو يراقب بهدوء قاتل.
مارين من جهتها كانت تمسك بفستانها بقوة، بينما قالت النبيلات من حولها:
"سوف يموت."
"يجب إيقاف هذا!"
"أين حرّاسه؟ أين حامي العائلة الملكية؟"
لكن لوكاس… لم يتحرك. فقط راقب.
وفي الزاوية، قال أيزيك وهو يهمس لفين:
"...لقد كُسِر جسده بالفعل… لا يتحمل المانا حتى… ومع ذلك، وقف."
فين اتسعت عيناه:
"سي-سيموت."
هزّ أيزيك رأسه ببطء:
"ربما... أو ربما..."
وفي الساحة، كان رايزل يزفر بهدوء، يهمس لنفسه وسط الأنفاس المتقطعة:
"فقط... عدة دقائق إضافية، وسأنهار…"
ثم نظر إلى إيرفين وقال بصوتٍ خافت:
"هل من جولة ثانية؟"
كان كل شيء يتباطأ حول رايزل… أصوات الحشود، نظرات النبلاء، حتى صدى أنفاسه وهو يلهث تعبًا.
تسارعت أفكاره، وهاجت ذكرياته كسيلٍ لا يُقاوم:
(“لا أريد الموت...”)
(“يكفي أنني في حياتي السابقة مجرد فتى في الميتم...”)
(“كنت أُضرَب، أُهان، أُربَط في الظلام لأيام...”)
(“ثم... أعود من الموت، لأُهزم مجددًا؟”)
(“أهذا ما يحدث بعد أن تُمنَح لي فرصة أخرى؟ أهذا قدري؟”)
أغلق رايزل عينيه.
كان الألم في صدره حادًا، الدخان الخفيف يتصاعد من ذراعه، يده ترتعش. لكن وسط هذا كله... شعر بشيءٍ غريب، كأن شيئًا صغيرًا في داخله اشتعل.
همس، بصوتٍ بالكاد يُسمع:
"استسل—"
لكن قبل أن يكمل، دوّى صوتٌ داخله… شعور غريب بحرارة في كفه الأيسر. كان حرقًا بسيطًا، بالكاد يُرى، كأنه وميض نارٍ خاطف. لكن الألم؟ كان واضحًا.
اتسعت عيناه.
ثم بصوتٍ مرتجف، غاضب، مليء بالخذلان والحقد الدفين، صرخ رايزل:
"ألا تسمع؟!! قلت... استسلم!!"
صدى صوته ارتطم بجدران القصر الخلفي، أسكت الجميع، حتى إيرفين نفسه تجمّد للحظة.
كانت تلك اللحظة الوحيدة التي لم يكن فيها رايزل الأمير الثاني الكسول، ولا الفتى الذي يسعل دمًا… بل كان شيئًا آخر.
شيئًا… لم يفهمه أحد بعد.
اقترب إيرفين خطوة، رفع حاجبه بشيء من الاشمئزاز وقال بصوت مرتفع:
"حسنًا، حسنًا… سننهي القتال. لكن هذا عار."
ضحك بعض النبلاء بخفة، لكن أغلبهم بقوا صامتين، يحدّقون في رايزل الذي كان يترنح واقفًا، جسده يرتجف.
ثم...
انهار.
سقط رايزل على الأرض، جسده الصغير لا يقوى على الوقوف، عينيه أُغلقتا ببطء، وسعل دمًا للمرة الأخيرة قبل أن يغيب عن الوعي.
صرخ ريمبر: "رايزل!!"
لكن لوكاس كان قد تحرّك أولًا.
من مقعده البعيد، قفز دون أن ينطق بكلمة، ركض نحو رايزل، سحب عباءته السوداء الملكية وركع بجانبه فورًا.
انحنى فوق جسده، رفع رأسه بين ذراعيه، ونظر إلى وجهه الصغير المغطى بالتراب والعرق، وهمس بخوفٍ حقيقي لم يُظهره من قبل:
"رايزل... بحق الآلهة... لا تمت..."
ثم نظر بسرعة إلى الحراس خلفه وقال بصوتٍ آمر:
"أين فيون؟!! أحضروا المعالجين الآن!! فورًا!!"
في تلك اللحظة، ساد صمتٌ ثقيل فوق الساحة، حتى إيرفين —الذي كان يمتلئ بالثقة— شعر بشيءٍ غير مريح. لقد أغضب لوكاس، وأثار عاصفة لم يكن يعلم بها أحد.
ووسط كل هذه الفوضى، كان فين يهمس من بعيد، عينيه على رايزل:
"لقد بدأ…الفتى ذو المانا الميته"