في العتمة الخفيفة والضباب الأبيض الذي يلف السماء، كان رايزل واقفًا، لا يشعر بوزن جسده، ولا حتى بالوقت. بدا كأن كل شيء من حوله مجرد حلم… أو موت مؤقت.

كانت الأرض تحت قدميه مثل السحب، والهواء دافئ بنعومة غريبة. وفجأة…

ظهرت امرأة.

شعرها الأبيض ينزل على كتفيها بانسياب كثلج صافٍ، وعيناها الورديتان اللامعتان تبكيان من دون أن تشوّه دموعها ملامحها الجميلة. تقدمت نحوه، خطواتها لا تصدر صوتًا، وكأنها تمشي فوق عالم ليس فيه زمن.

قالت بصوتٍ مرتجف، حنون، ودافئ كحضن نسيه منذ زمن طويل:

"رايزل…؟ طفلي؟"

فتح رايزل عينيه، كانت متسعتين بدهشة، لم يفهم كيف أو لماذا يعرف اسمه من شفتيها، لكنه لم يرد، فقط ثبت نظره عليها، وقلبه ينبض ببطء.

فجأة، اندفعت المرأة نحوه، احتضنته كأنها وجدت روحها الضائعة، وشهقت وهي تبكي:

"رايزل… لم تحبسك فيكتوريا معي… هذا رائع… لست محبوسًا رايزل…"

تجمّد جسد رايزل، لم يحضنه أحد بهذا الشكل من قبل، لا في حياته السابقة، ولا هذه. قال بصوتٍ ضعيف، متردد:

"...هاه؟ أمي؟"

لم يعرف لماذا قالها، ولا من تكون هذه المرأة.

رفعت رأسها عنه، مسحت دموعها، وابتسمت ابتسامة حزينة:

"لا بأس… لا بأس… أخبرني، عن حياتك في القصر، رايزل... هل كنت تأكل جيدًا؟ هل هناك من يعتني بك؟ هل آذوك؟"

ظلّ رايزل صامتًا، يحاول فهم ما يجري. عيناه الكريستاليتان حدّقتا فيها، وفجأة قال بنبرة فارغة:

"أنا… لا أعرف من أنت."

ابتسمت المرأة مرة أخرى، ودمعة جديدة انحدرت على خدها:

"ستعرف، في الوقت المناسب… أنا فقط أردت أن أراك، مرة واحدة على الأقل… قبل أن تصحو من هذا الحلم."

مدت يدها ولمست جبينه بلطف، ورايزل شعر بشيء دافئ… شيء مثل المانا، لكن ليس مانا… شيء مختلف.

قالت بهمس:

"تذكر… أنت لست وحيدًا يا رايزل. هناك من يحبك… حتى وإن كنت لا تعرفهم بعد."

ثم…

تلاشى الضباب.

وسقط رايزل في الظلمة من جديد.

كان الضوء ناعمًا كالحرير، والنسيم العابر يحمل معه دفء الأمومة المفقود، وفي وسط الحقل المزهر الذي لا يعرف زوالًا، كان رايزل يجلس على العشب، بثيابه البيضاء، يحدّق في السماء بعينين زجاجيتين خاليتين من التفكير.

وإلى جانبه…

امرأة، شعرها الأبيض يتماوج تحت أشعة الضوء، وعيناها الزهرية تلمعان ببريقٍ غريب، لكنها لم تكن تبكي اليوم، بل تضحك بخفة وهي ترمي نحوه زهرة بنفسجية.

ضحك رايزل أيضًا، ضحكة خفيفة لا تشبه ضحكاته المعتادة — ربما لأنه نسي كل شيء.

نعم… نسي القصر، ونسي النبلاء، ونسي المانا والسياسة والنزال…

نسي حتى الألم.

قال فجأة وهو يحدّق فيها:

"من… أنتِ؟"

نظرت إليه، لحظة صمت مرت قبل أن تبتسم وتهمس:

"اسمي فيليا… فيليا أريام."

تجمّدت نظرات رايزل.

توسعت عيناه، وكل الألوان حوله بدأت تتلاشى للحظة. كأنّ صدى صوتٍ بعيد جاء من قلب ذاكرته...

"فيليا أريام؟ العاهرة؟! هي التي جلبت العار للعرق الكريستالي!"

كانت همسات الخادمات قبل ست سنوات… عندما اختبأ خلف الجدار، خائفًا، صغيرًا.

تراجع خطوة ببطء وهمس:

"حقًا؟ أنتِ…"

لكنها لم تغضب، لم تحزن.

ابتسمت فقط — تلك الابتسامة الهادئة التي لا تحمل أي ندم، بل دفئًا خافتًا.

ثم تقدمت، واحتضنته من جديد.

همست وهي تضمّه:

"حتى لو قالوا ما قالوه… أنت ابني. وهذا يكفيني يا رايزل."

راح قلبه ينبض.

نبض لم يعرفه منذ ولادته.

نبض… جعله يرغب بالبقاء هنا للأبد.

وهكذا، استمرت غيبوبته…

لكن روحه كانت تتعلّم شيئًا… شيئًا أعمق من السحر والقوة.

كانت الأرض مغطاة بأزهار زهرية صغيرة، تمتدّ كالبساط حولهما، والسماء صافية تلوح فيها طيور بيضاء ترفرف بهدوء.

ركض رايزل، ضاحكًا لأول مرة منذ ولادته. نعم، ضحكته كانت صادقة. طفولية. نقية.

ضحكة لا يعرفها أحد في القصر، ولا حتى هو.

كانت فيليا تركض خلفه، تمسك بطرف ثوبها الأبيض، وتصرخ بمرح:

"أمسكتك، رايزل!!"

"لااا!! لستَ سريعة كفاية!" قال وهو يركض ويختبئ خلف شجرة زهرية.

ضحكت بخفة، ثم جلست على العشب، وذهبت تصنع إكليلًا من الزهور.

اقترب منها رايزل وجلس بجانبها، ينظر لما تفعل بانبهار.

"ما هذا؟" سأل.

"هذا لك." أجابت وهي تضع الإكليل على رأسه.

صمت للحظة، ثم سأل:

"لماذا تفعلين هذا؟"

نظرت إليه بعينيها الزهرية الدافئة وقالت:

"لأنك طفلي، رايزل. هذا ما تفعله الأمهات."

اتسعت عيناه قليلًا.

"طفلكِ؟"

"نعم. أنت لا تتذكرني، أليس كذلك؟" قالت بنبرة حزينة قليلاً، لكنها أخفتها خلف ابتسامتها.

هزّ رأسه ببطء.

لم يكن يتذكر، ولكن قلبه يشعر بشيء...

شيء يشدّه نحوها دون أن يفهم.

قال بصوت خافت:

"لكنني… لست جيدًا."

وضعت يدها على صدره، فوق قلبه مباشرة، وقالت:

"أنت جيد بما يكفي، فقط لأنك أنت. لا يجب أن تكون قويًا لتستحق الحب، رايزل."

سقطت دمعة صغيرة من عينه، لم يعلم لماذا خرجت، لكنها خرجت.

أمسك يدها بقوة، وسأل هامسًا:

"هل ستبقين هنا دائمًا؟"

سكتت… ثم أجابت بهدوء:

"طالما كنت بحاجة إليّ، سأبقى."

فجأة، هبّ نسيم خفيف، وأوراق الأزهار تطايرت حولهما كالعاصفة الزهرية.

نظر رايزل إلى السماء، ثم قال:

"إذا استيقظتُ… هل ستختفين؟"

"لا" قالت وهي تضع يدها على خده، "سأكون دائمًا في داخلك."

ابتسم بخفة، ثم أغلق عينيه.

وبينما كانت فيليا تدندن لحنًا هادئًا، غطّ رايزل في نومٍ جديد… نوم آمن، لا يشبه غيبوبته، بل كحضنٍ أبدي.

وغابت الصورة في نورٍ زهرٍ ناعم...

في جناح الشفاء الملكي، حيث كانت النوافذ مغلقة والجو مشبع برائحة الأعشاب الطبية،

اهتزّت أغطية السرير فجأة،

وانفتحَت عينا الأمير الثاني ببطء...

الضوء أزعجه،

لكن ما أزعجه أكثر…

هو الصوت الذي ظل يتردد في ذهنه، صوتها... صوت "فيليا" وهي تقول:

«تذكّر… إيدور ليس والدك الحقيقي.»

صرخ أحد المعالجين:

"لقد استيقظ!! سمو الأمير الثاني استيقظ!!"

وبدأ الهرج والمرج في أرجاء الجناح،

ركض أحدهم لإبلاغ لوكاس،

وآخر ركض لإبلاغ الإمبراطور…

لكن رايزل؟

كان مستلقٍ بعينين مفتوحتين، لا يشاركهم الفرحة…

كان شاحبًا، صامتًا، ووجهه جامد كالجليد،

كأنما روحه لم تعد بعد كاملة من تلك الغيبوبة الطويلة.

كان يتنفّس ببطء،

يمسك بالغطاء بيدٍ مرتجفة،

وينظر إلى السقف،

عيناه الكريستاليتان خاليتان من التركيز، كأنهما تبحثان عن امرأة ذات شعر أبيض… لم تزل عالقة في قلبه.

في عقله، كان يُعيد الكلمات مرة بعد مرة…

«إيدور ليس والدك… ليس والدك…»

بلع ريقه، شعر بحلقه جافًا كأنّ الرمل سُكب فيه.

همس دون أن يشعر:

"... من أكون؟"

دخل المعالج الأكبر وقال بفرح:

"سموك! حمداً لله! لقد كنتَ في غيبوبةٍ طويلة... نحن سنبدأ الفحوصات الآن، سموك، لا تقلق!"

لكن رايزل لم يرد.

ظلّ ساكنًا…

صامتًا…

وعيناه تتأملان المجهول.

بعد أن استيقظ رايزل، بدأ الأطباء بإجراء الفحوصات اللازمة بحذر شديد،

حيث أُخذت عينات من مانا جسده لفحص مدى تحمّله وقدرته على الاستيعاب.

مرت الدقائق ببطء، والهمسات تتصاعد بين الأطباء،

تبادلوا نظرات مليئة بالقلق والدهشة،

حتى أن أحدهم قال بصوت خافت:

"مانا جسده ضعيفه جداً... لا يتحمل كثيراً... هذا أمر خطير..."

تجمّعوا حول الأوراق والبيانات،

لكن كل الأرقام تشير إلى نقطة واحدة:

جسد رايزل هشٌ أمام قوى المانا.

في تلك اللحظة، تضيق عينا رايزل وهو يسمع تلك الهمسات،

وتغمره موجة من اليأس والغضب في آنٍ واحد،

فهمس لنفسه بصوتٍ خافتٍ لكنه مليء بالألم:

"أتمنى أنني لم أستيقظ أبدًا... لأول مرة شعرت كأنني إنسان... اللعنة على السحر... وعلى الممالك... وعلى السياسة..."

وبينما كان جسده ضعيفًا، كان قلبه يحترق بنيران الإحباط،

يتساءل في صمت: هل ستسمح له هذه الحياة بالعيش؟ أم أن عبء المانا سيسحقه قبل أن يبدأ؟

2025/07/01 · 6 مشاهدة · 1084 كلمة
نادي الروايات - 2025