في أروقة قصر لينيار الباردة، كانت خطوات الطفل رايزل تترك آثارًا خفيفة بالكاد تُسمع، تمامًا كما أراد. لم يكن قصرًا حقيقيًا في نظره، بل متحفًا للمظاهر، وسجنًا من ذهب لمن وُلدوا في الزمان والمكان الخاطئ. كان يبلغ من العمر ست سنوات، لكنه لم يكن طفلاً عاديًا… ليس بعد أن حمل ذاكرة رايزل القديم.

تلك الذاكرة كانت مشوشة، لا يتذكر كل شيء دفعة واحدة، لكنها تنزلق إليه مثل قطرات ماء على زجاج نافذة في الشتاء. أسماء، مشاعر، خيبات… لحظات قصيرة من الألم والخذلان. أكثر ما يذكره وضوحًا، هو الشعور بالوحدة. أن تكون مجرد ظل في مملكة لا ترى فيك إلا لقبًا زائدًا.

لم يكن الأمير الثاني محبوبًا أبدًا، وذاكرة جسده السابق تُعيد له هذا الإحساس كل يوم.

رايزل الحالي جلس على الأرض في زاوية مهملة من المكتبة الشرقية، حيث كان الغبار يملأ الرفوف، والكتب تبدو كأنها لم تُفتح منذ عقود. كانت هذه الزاوية مملكته. المكان الوحيد الذي لا يدخله الخدم بتاتًا، لأنه ببساطة… لا يهم أحد.

فتح كتابًا ضخمًا بعنوان: "الأسوار الداخلية للقصر الإمبراطوري"، لم يكن يعرف القراءة جيدًا بعد، لكنه كان يتعلّم ببطء، كلمة تلو الأخرى. كان يسجّل الحروف على قصاصات ورقية يخفيها تحت وسادته.

قال في نفسه: "أحتاج أن أفهم كل شيء… المكان، النظام، كيف يتحركون، من ينام متى… لا يمكنني التحرك وأنا أجهل العدو."

كان يعرف أنه لا يستطيع الهرب الآن. لا يملك جسدًا قويًا، ولا معرفة كافية، ولا حتى حليفًا. لكنه لم يكن يخطط للهروب غدًا أو بعد أسبوع… بل بعد سنوات. سبع سنوات، بالتحديد. سبع سنوات على الكراهية. على الاصطدام العظيم بينه وبين أخيه، وبين تلك الحقيقة الغامضة التي تختبئ خلف الرجل الذي قال لرايزل القديم: "هل تريد أن تصبح أقوى؟"

كان رايزل يراقب كل شيء. من يجلب الطعام؟ من يُنظّف الممرات؟ من يزور لوكاس؟ متى يختفي الإمبراطور؟ كم خادمة يدخلن جناح والدتهن الإمبراطورة؟ كم حارس ينام على نوبة الليل؟

كل هذه التفاصيل، كان يحفظها… واحدةً تلو الأخرى.

في أحد الأيام، دخل عليه خادم طويل القامة، بعينين ميتتين، وقال بنبرة جامدة: "مولاي الصغير، يجب أن تأتي الآن. أخوك الأكبر عاد من رحلته."

في تلك اللحظة، لمعت في عيني رايزل شرارة لم يرها أحد، لكنه كتمها كما يكتم النار في كفه. لوكاس… الاسم الذي يتردّد في كل مديح، كل احتفال، كل ضحكة مزيفة تمر في أروقة القصر.

سار خلف الخادم دون أن يُظهر شيئًا. تظاهر بالبرود… التظاهر أصبح عادته.

وقف إلى جوار الملك والإمبراطورة، بينما يدخل لوكاس بثياب ناصعة، وسيف منقوش بالذهب. كان في الخامسة عشرة من عمره، فارع الطول، بابتسامة باردة.

قال الإمبراطور بفخر: "ها هو بطل الحدود الشمالية… ابني، لوكاس فالنتين."

صفق الجميع، إلا رايزل… الذي لم يصفق، ولم يُلاحظ أحد ذلك.

لكن نظرات لوكاس، مرّت سريعًا على أخيه الأصغر. ثانية واحدة… كافية. كانت كأنها سكين.

مرّ أسبوع على عودة لوكاس، وكانت الأحاديث عنه تملأ أرجاء القصر. ووسط هذا الصخب، كان رايزل يبتلع كل تفصيلة.

في إحدى الليالي، كتب على قصاصته: "لوكاس لا يزور الجناح الشرقي. جناحه القديم مهجور. الحراس في الليالي الفردية يبدلون مواقعهم. المطبخ يفتح أبوابه في الثالثة فجرًا لإعداد طعام الجنود…"

ثم توقّف، وأغلق الورقة بعناية، وابتسم بسخرية طفلٍ يعرف أن الحياة تلعب لعبة طويلة.

كان يخطط لتعلّم شيء جديد: كيف يخفي نفسه.

بدأ يتعلّم من الخدم دون أن يشعروا. كان يسأل أسئلة طفولية عن كيفية تنظيف الأرض، كيف يُعد الحساء، ما نوع الخشب في النوافذ. كانوا يضحكون، يسخرون منه أحيانًا، لكنهم يجيبون. وكان هو يسجّل… كل شيء.

حتى جاء ذلك اليوم، حين رآه أحد الفرسان يجلس في زاوية الإسطبل، يراقب الخيول.

سأله الفارس: "أتحب الخيول، يا مولاي؟"

أجاب رايزل دون أن يرفع عينيه: "أحبها لأنها لا تكذب."

ضحك الفارس، لكنه لم يدرك أنه التقى للتو بطفلٍ بدأ يزرع الشوك.

وبينما كانت الأيام تمضي، كان رايزل يتدرّب على الصمت، على تقمّص دور الطفل الأحمق. يتعثر عمدًا، يتلعثم أمام المعلمين، يتظاهر بالبلادة. كان يخفي نبوغه كما يُخفى الخنجر في كمّ الثوب.

وفي كل ليلة، قبل أن ينام، كان ينظر إلى السقف ويهمس: "سبع سنوات… وسأذكّركم جميعًا بمن تجاهلتم."

لكن أولًا، عليه أن يزرع… بصبر الذئب. وكل شيء يبدأ بالخطوة الأولى.

لقد بدأ التخطيط. والشرارة، اشتعلت بالفعل.

2025/05/22 · 23 مشاهدة · 643 كلمة
نادي الروايات - 2025