مرت الليالي على رايزل وهو يُقلب في أفكاره، يحلل كل صغيرة وكبيرة، لا يسمح لنفسه بالاستسلام أو التراجع، فالهروب ليس مجرّد رغبة بل ضرورة حياة.

في كل مساء، كان يقف أمام النافذة الصغيرة في غرفته، ينظر إلى السماء التي تكتسي بألوان الغروب، ويتساءل: "ما الذي ينتظرني في الخارج؟ هل سيكون الحُرّية، أم الموت؟"

لكن ذلك لم يوقف عزيمته، بل زادها. فكل قيود القصر، وكل الخوف الذي يحيط به، كان دافعًا أقوى له لكي يُثبت لنفسه أنه ليس مجرد دمية بيد الآخرين، بل إنسان لديه إرادة.

بدأ رايزل يراقب تحركات الخدم بعناية، ولاحظ أن هناك ثلاثة حراس يتناوبون على مراقبة ممرات القصر الرئيسية، وكان لكل منهم نمط مختلف في عمله.

الأول، حارس هادئ وجدي، يفضل الجلوس بالقرب من الباب الشرقي، لا يثق بأحد، ولا يسمح لأي صوت غير معتاد أن يمر.

الثاني، شاب جديد يبدو عليه التوتر، يتجول باستمرار في الممرات، لكنه يبدو غير منتبه تمامًا للتفاصيل الصغيرة.

الثالث، رجل مسنّ ذو عين واحدة، يُشاع أنه كان محاربًا سابقًا، عينه الحادة لا تغفل عن أي حركة.

أخذ رايزل يخطط بناءً على هذه الملاحظات، وفكر في استغلال لحظة تبديل الحراس، حيث يكون التوتر والارتباك أكبر، وربما تكون الثغرة الأفضل للهروب.

لكن الهروب لا يحتاج فقط لتوقيت جيد، بل أيضًا إلى أدوات. لذا بدأ يجمع خيوط من القماش القديمة، قطع معدنية صغيرة وجدها في ركن من أركان غرفته، وكل شيء يمكن أن يكون مفيدًا.

في إحدى الليالي، بينما كان يحاول فك قفل صغير على باب غرفته باستخدام دبوس معدني، سمع صوت خطوات قادمة. تسمر في مكانه، قلبه ينبض بسرعة، لكن الصوت مرّ دون أن يتوقف

هذه اللحظات علمته أن أي خطأ قد يكلفه حياته.

كما بدأ يفكر في استغلال علاقات الخدم ببعضهم، فقد لاحظ أن هناك بعض الخدم لا يحبون القصر، وبعضهم لديهم أسرار خاصة، ربما يستطيع أن يكوّن تحالفًا صغيرًا معهم.

كل هذه الأفكار كانت تدور في رأس رايزل بينما هو يحاول أن يبقى هادئًا، لكنه كان يعلم أن الوقت ينفد، وأن كل يوم يمضي هو يوم أقرب للمصير الذي يكرهه

ارتفعت أصوات الخطى الثقيلة تقترب من أروقة القصر، وكان رايزل يقف في الزاوية، عيونه تتفحص كل شيء حوله بتركيز، لكن قلبه يخفق بسرعة، فهو يعرف أن الفرسان ربما شاهده قبل لحظات.

حين وصلوا إلى المكان، نظر أحدهم إليه مباشرة بنظرة مشككة، ولكن قبل أن يسأل، رفع رايزل يديه ببراءة، وقال بصوت هادئ:

"كنت أبحث عن لعبتي... أين يمكن أن تكون؟ لقد ضاعت مني."

كانت كلماته محسوبة بعناية، لم يرد أن يبدو مذعورًا أو مذنبًا، بل أراد أن يعكس صورة طفل صغير تائه يبحث عن شيء بسيط.

تبادل الفرسان نظرات سريعة، ثم أومأ أحدهم وقال: "من الأفضل ألا تتجول وحدك، يا مولاي."

ابتسم رايزل بخفة، لكنه كان يعلم أن كل كلمة وكل حركة تراقبها عيونهم، وأنه يجب أن يكون أكثر حذراً في المرات القادمة

جلس على الأرض وكأنه يستجمع نفسه، وأخذ يخطط في عقله كيف يجعلهم يصدقون هذه القصة، وكيف يخلق فرصة مناسبة ليبدأ التخطيط للهروب الحقيقي دون أن يشك به أحد

لم تكن تلك سوى بداية معركة صامتة، بين طفل صغير يملك ذكريات كبيرة، وقلوب عميقة في القصر تخفي الكثير من الأسرار

جلس رايزل في زاوية الغرفة الصغيرة، عيونه اللامعة الصغيرة تتفحص تفاصيل المكان البارد والغامض. رغم أنه مجرد طفل صغير لا يفهم كثيرًا، إلا أن ذكرياته السابقة ما زالت تحوم في ذهنه، تجعله يشعر بالاختلاف عن باقي الأطفال ثم بدأ في الهمس "كادو ان يكشفونني..سحقا"

تذكر عندما كانت أصوات الخطى تقترب، فشعر بقلق داخلي، لكن سرعان ما حاول تهدئة نفسه، متظاهرًا بأنه مجرد لعبة غير ضارة. كان يعلم أن أبسط شك قد يجعله ضحية جديدة في عالم لا يرحم.

وبينما كان يفكر، خطرت له فكرة متأنية، ليست فكرة طفولية ولا بداهة، بل خطوة مدروسة بحذر: كيف يمكنه أن يكتشف نقاط ضعف الحراس؟ كيف يستغل الفوضى الصغيرة في جدران القصر؟ كيف يزرع بذور شكوكهم في عقولهم، دون أن يكون مكشوفًا؟

بهدوء شديد، بدأ يراقب توقيت الحراس، حركات الخدم، وأصوات الأبواب. أدرك أن هناك لحظات هدوء قصيرة يمكن استغلالها، لحظة تمر كالنسيم قبل العاصفة.

وفي داخله، خطط كيف سيبدأ بالتعامل مع القصر من الداخل، ليس بالهرب الفوري، بل بجمع المعلومات، بناء تحالفات صغيرة، واستغلال ضعف الإمبراطور وكره الإمبراطورة له.

تلك الخطة لم تكن سريعة أو طفولية، بل حسابية، تعبر عن عقل كبير في جسد صغير

كانت الليلة تمطر بغزارة، والريح تعصف بأغصان الأشجار كأنها تهمس بأسرار مظلمة في أذن الغابة. كان رايزل، الطفل ذو الست سنوات، يختبئ بين الأشجار الكثيفة، وقلبه يخفق بسرعة. هذه أول محاولة له للهروب من القصر، إذ لم يعد يحتمل أن يكون مجرد لعبة في يد الإمبراطور.

لم يكن يعلم أن الإمبراطور قد أصدر أوامره الحازمة فور علمه بمحاولة الهروب: "ابحثوا عن الأمير الثاني! رايزل فالنتين، أسرعوا!"

تجول فرسان القصر في أرجاء الغابة، يحملون المصابيح المضيئة، يخطون بحذر على الأرض المبللة، متتبعين أثر الطفل الهارب.

شعر رايزل بالبرد يتسلل إلى عظامه الصغيرة، لكنه أصر على المضي قدمًا، راغبًا أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه أكثر من مجرد دمية.

فجأة، وأثناء تحركه بحذر، شعر بشيء يمسكه من الخلف بقوة، لكن ليست بالقوة المؤذية، بل تلك التي تحمل ثقل الكلمات والماضي.

التفت ببطء، فإذا بأخيه الأكبر لوكاس واقفًا أمامه، وابتسامة نصف مستفزة ترتسم على شفتيه، ونظرة مليئة بالتحدي.

قال لوكاس وهو يرفع الطفل بين ذراعيه:

"مرحبًا يا أخي، هل تلعب الغميضة؟"

رد رايزل بنبرة متمردة:

"لو كنت ألعب الغميضة، لما أختفي ثم تأتيني فجأة هكذا! لقد أخفتني!"

ابتسم لوكاس بسخرية وقال:

"أخفتك؟ أنت تعلم أني لا أضيع لعبتي بسهولة. لا تفكر أن تهرب مرة أخرى، فأنا من يفوز دومًا في الغميضة."

نظر إليه رايزل بعينين متسائلتين وهمس:

"خبرة؟ أنت فقط تخاف أن تمشي وسط الزحام!"

ضحك لوكاس بصوت منخفض وقال:

"خوف؟ كلا، ولكني أعلم أنك تختبئ كأنك لعبة تلاعب، وأنا دومًا ألحق بك. هيا، دعني أحملك كما كنت صغيرًا."

تردد رايزل للحظة ثم قال:

"حسنًا، ولكن إن أخطأت في حملك لي، سأحاول الهروب مرة أخرى عندما أكبر!"

ضحك لوكاس وضرب كتف رايزل بلطف:

"انظر، الهروب لعبة خطيرة، لكن مع الأخ الأكبر ستكون نهايتك. هيا، لنعد، القصر لن يدوم عليك."

استمرت الريح تعصف والبرد يلسع، لكن بين الأخوين الصغيرين، كان ه

ناك مزيج من التحدي والود، كأنهما لا يعلمان أن هذه اللحظات ستغير مصيرهما إلى الأبد.

2025/05/22 · 23 مشاهدة · 975 كلمة
نادي الروايات - 2025