في ظلال الغرفة المهجورة، حيث انحنى الضوء الخافت من نافذة صغيرة مشققة، وقف رايزل متوقفًا كمن وجد كنزًا دفينًا في ظلمات النسيان. كل ركن في المكتبة القديمة كان يروي قصة من زمن بعيد، صفحات ملونة بنقوش وأسرار تتغلغل في أعماقه. بيد مرتجفة، مدّ يده نحو كتاب ضخم غطى الغبار معظم غلافه الجلدي. حمله بين يديه، وأحس بثقل الماضي يملأ هذا الحجر المقدس، وشعر وكأنه يحمل بين يديه مصيرًا جديدًا.

فتح الكتاب ببطء، وكأن كل حركة كانت تعيد إيقاظ أشياء كانت نائمة منذ قرون. على الصفحات، رأت عينيه دوائر متشابكة تلتف حول كلمات غامضة تنطق بـ"المانا"، ذلك المفهوم الذي لم يكن يعيه من قبل، لكنه يغمز له الآن بعالم مجهول من القوة والتحكم.

رفع رأسه نحو السماء التي بدت بعيدة وموحشة من النافذة، وقال بصوتٍ خافت، "المانا؟ ما هي هذه القوة التي يتحدث عنها هؤلاء؟ هل هي حقيقة أم مجرد خرافة قديمة؟"

مع كل كلمة كان يتلوها، كان قلبه ينبض بقوة غير معتادة، كأن قوة عميقة تسري في عروقه وتوقظ في داخله شيئًا لم يكن يعرف بوجوده. كانت عيونه تلمع بفضول وهلع مختلط، "هل أستطيع... أن أمتلك هذه القوة؟ أن أكون أكثر من مجرد دمية تتحكم بها الأيدي التي صنعتني؟"

تحرك ببطء في الغرفة، وأخرج من بين الكتب رقعة قديمة مرسوم عليها دائرة معقدة تشبه تلك التي رآها في الكتاب. وضع يده عليها، وفجأة، انتابت جسده رعشة غريبة، وكأن طاقة خفية تحاول أن تتدفق من خلاله. تنهد بقوة وأغمض عينيه، محاولًا أن يشعر بهذه القوة التي سمع عنها فقط في الحكايات، لكن الآن كانت حقيقية.

"لا... لا يمكن أن يكون الأمر سهلاً هكذا"، تمتم لنفسه. "هذه القوة... تحتاج إلى تدريب، إلى فهم، إلى صبر... وأنا لا أملك شيئًا من هذا."

وفي تلك اللحظة، سمع صوت خافتًا يهمس من بين الظلال، صوت بدا مألوفًا لكنه بعيد، "رايزل... أنت أكثر مما تعتقد..."

التفت فجأة، لكن الغرفة كانت فارغة إلا من الغبار والكتب. رجع نفس الصوت، هذه المرة أقوى قليلاً، "تعلم كيف تستخدم المانا، وستكون طريقك للخلاص."

ارتجف من شدة ما سمع، ولكن شيئًا في داخله دفعه ليبحث أكثر، ليعرف أكثر، ليصبح أكثر

مرت ساعات وهو يغوص بين الصفحات، يدرس الرموز، يتلو الكلمات، يحاول أن يستشعر تلك الطاقة التي تسمى المانا. بدأ يشعر بخفقان خفيف في يديه، شيء يتردد، يتراقص كلهيب صغير ينتظر أن يتحول إلى نيران تحرق كل قيود الماضي

لكن لم يكن وحده، فكلما ازداد تركيزه، تذكر نظرات الإمبراطور الباردة، وذكرى أخيه لوكاس، وصرخة الخيانة التي عاشها من عائلته. هذه القوة لم تكن مجرد أداة، بل وسيلته الوحيدة للنجاة، للانتقام، ولإثبات أنه ليس مجرد دمية

بينما كان رايزل مستغرقًا في عالمه الغامض بين صفحات الكتب، فتح الباب برفق فدخلت الخادمة بخطوات مترددة، وجهها يعكس مزيجًا من الحيرة والخوف. نظرت إليه وقالت بصوت منخفض لكن حازم:

"رايزل... الإمبراطورة تطلب حضورك إلى قاعة الطعام."

رفع رأسه ببطء، وعيناه تتأملانها ببرود، ثم قال مازحًا بنبرة تحمل قليلًا من التحدي:

"منذ متى صار الخدم ينادونني بهذه الطريقة غير الرسمية؟"

حسّت الخادمة بالإحراج، وارتسمت على جبينها قطرة عرق صغيرة، ثم انحنت قليلاً، قبل أن تهمس:

"عذرًا، لم أقصد..."

مرّ رايزل بجانبها بهدوء، وهمس بصوتٍ بارد وكأنه يُصدر أمرًا لا يُناقش:

"لا أريد أن أسمع هذه الأخطاء مجددًا."

انسحبت الخادمة بهدوء، تاركة رايزل واقفًا في وسط الغرفة، وجهه يعتريه تعبيرٌ صارم، لكنه تحرك بخطوات ثابتة نحو القاعة التي ينتظره فيها مصيره.

دخل قاعة الطعام، وهناك كانت الجلسة مشحونة؛ الإمبراطورة تجلس بثبات على عرشها، ولوكاس الإمبراطور بجانبها، ورايزل يرى بوضوح نظرات الإعجاب والازدراء في آن واحد.

ما أن وضع قدميه داخل القاعة حتى بدأ يسمع أصواتًا خافتة تتردد في أذنه، كأنها همسات من الماضي:

"رايزل! لست سوى نذل! مكانك الحقيقي هو دار الأيتام!"

تلاشى صوت الواقع فجأة، وبدأ وجهه يشحب قليلًا. ابتلع ريقه بصعوبة، لكنه جمع شجاعته وجلس على الطاولة، بينما نظرات الجميع كانت ترصده وكأنها تهبط عليه كالسكاكين.

قالت الإمبراطورة بنبرة باردة:

"أخبرني، يا أمير، لماذا حاولت الهرب؟"

راح رايزل ينظر إليها بعيون تخفي بين طياتها نارًا متقدة، لكنه رد بهدوء:

"الهروب؟ ربما كان الهروب الوحيد لي من قيود لم أختارها."

رفع الإمبراطور نظره إليه، وابتسامة تعلو شفتيه كأنها سكين مخفية خلف ثوب رسمي، وقال بصوت يملؤه تهديد مبطن:

"تعلم جيدًا، يا رايزل، ما عقوبة الخيانة، أليس كذلك؟"

ابتسم رايزل ابتسامة خفيفة، تعانقها ملامح التهكم، ومسح شفتيه بمنديلٍ أبيض قبل أن يرد بثقة وكأن الأمر مزحة بسيطة:

"بالطبع... عقوبة الخيانة هي الإعدام، أبي. ربما شنقًا؟"

التفت لوكاس إليه بنظرة مندهشة، تختلط فيها الدهشة مع الإعجاب الخفي، وكأن هذه الجرأة تشي بقوة كامنة في هذا الصغير.

لم يبد الإمبراطور تأثرًا، بل رد بصوت صارم لا يحتمل السخرية:

"رايزل، لا وقت للمزاح الآن... لوكاس في الخامسة عشر من عمره، وهو بالفعل في الدائرة الثالثة، رغم أنك أصغر منه بتسع سنوات—"

قاطعته نظرة رايزل الحادة، ونبرته التي لم تخفِ غضبًا دفينًا، بل كانت كأنها وعود بدمٍ مسفوك، وقال بحدة:

"مرة أخرى... أبي، لقد أزعجتني لوكاس لوكاس هذا يجعلني أشعر بالغثيان. حسناً، أعلم أن لوكاس في الدائرة الثالثة، لكن أليس العمر المحدد لتفعيل المانا هو بين الحادية عشرة والثانية عشرة؟ هل أنا مخطئ؟"

انفجرت الإمبراطورة بغضب، ورفعت يدها لتطرق الطاولة بعنف، فتردد الصوت في أرجاء القاعة كضربة مطرقة:

"سحقًا! رايزل، لقد تجاوزت كل الحدود! من تظن نفسك؟!"

ولكن رغم الغضب المحيط به، رسم رايزل على شفتيه ابتسامة هادئة، وداخل أعماقه صرخ قائلاً:

"ماذا؟ هل أغضبتها؟ كنت فقط أريد أن أريهم كيف تغيرت لأجعلهم يهابوني!"

ثم نهض من مقعده، ورفع كتفيه بتلك اللطافة الغريبة التي لا تخلو من غطرسة، وقال:

"أعتذر على وقاحتي، ولكن سأغادر هذه المائدة. إنها صاخبة للغاية... أنا لا أحب الضجيج، ولا أحب الناس المتكبرين."

وبخطوات متأنية، توجه نحو الباب، بينما تعالت همسات الحضور، وتبادل لوكاس ونظرات الإمبراطور والإمبراطورة مزيجًا من الدهشة والاستغراب والقلق

2025/05/24 · 11 مشاهدة · 894 كلمة
نادي الروايات - 2025