وفي اللحظة التي خفت فيها أنفاس أكاينو، وانسحب الصمت بينهما كوشاح ثقيل، ظلّت صورة العلامة المحترقة على كتفه تطارد يوري...

لماذا تأخذ هذا الشكل؟

كأنها لا تنمو... بل تُفتح.

كأن شيئًا في داخله يُحاول الخروج.

ولأول مرة، لم يشعر يوري بالخوف على صديقه...

بل تساءل بصمتٍ مرتجف:

من يكون أكاينو حقًا؟

---

يوري ظلّ ينظر إلى العلامة المتفرعة بصمت، ثم اقترب قليلًا، دقّق فيها كأنما يقرأ خريطة معقّدة محفورة على جسد صديقه. وضع يده على ذقنه، تأمل لحظة، ثم تمتم:

"الأمر فعلاً غريب… وأنت تقول إن كل هذا بدأ منذ يومين؟ وكأن العلامة كانت... تنتظر شيئًا لتتفعّل."

أكاينو أومأ برأسه ببطء، وصوته خرج كأن فيه صدى تعب قديم:

"يبدو كذلك."

رفع يوري حاجبيه، وتابع :

"إذن لماذا لم تذهب إلى موزّع العناصر؟ ربما يعرف ما يحدث لك."

-"هل نسيت؟ دخولي إلى ذاك المكان صار ممنوعًا بعد ما جرى… ثم، واذا لو سمحوا لي، لن يساعدنا بشيء. لو كان يعرف ما الذي يحدث… لقاله منذ البداية."

يوري عضّ شفته للحظة، ثم تنهد ببطء :

"نعم… كلامك صحيح"

صحيح بشكل مقلق

يوري ابتسم بسخرية، وهو يزل كمّ قميصه ببطء ويكشف عن الكتف الأيمن. هناك، كانت العلامة باهتة بلون ترابي، لا تتوهّج، لا تنبض… مجرد وجود خامد.

العنصر: التراب

عدد الكوما: 0

الرتبة: ألفا سالب (المستوى الاول )

قال بنبرة تهكم:

"ذهبت له مرّات عديدة، ذلك العجوز القذر، أترجّاه أن يغيّر لي عنصري… لكنه رفض، رغم أنني أعطيته قطعة حلوى. أليست كافية لتغيير مصير أحد؟"

أكاينو رمقه بنظرة باردة، تحمل ازدراءً خفيًا، كأن كلماته كانت تافهة لا تستحق الرد

قال بصوت منخفض، دون أن يزيح عينيه عنه:

"قطعة حلوى…؟ هل تظن أنّ العالم يُغيّر بالحلوى يا يوري؟"

يوري عبس وقطّب حاجبيه، ثم تمتم بنبرة تحمل شيئًا من الاستياء الطفولي:

"لقد كانت كنزي الوحيد...."

أكاينو رفع يده إلى وجهه ببطء، وضعها على عينيه كأنما يحاول حجب العالم، ثم نفخ بضيق، وأغمض عينيه بإحكام.

"أحيانًا... أعتقد أنك لست حقيقيًا، يوري."

قالها بنبرة بين الإنهاك والتهكم، دون أن ينظر إليه.

بينما أكاينو يغطي وجهه بكفه، تسللت أنفاسه بين أصابعه بضيق…

لكن فجأة—

الصمت انكسر.

صرخات. حادة. تُمزق الهدوء داخل جمجمته. هذه مختلفة… واضحة

كل شيء تغيّر.

صوت أنفاس ثقيلة يملأ صدره، لكنّها ليست أنفاسه. الهواء صار أخف، كأنه يتنفس من رئة صغيرة. يده تتحرّك وحدها، أصابعه الصغيرة تحاول الوصول لشيء ما.... يدان، تحمله وسط ضباب كثيف.

ركض...

قدم تضرب الأرض، خفيفة لكنها خائفة.

ثم—صوتها.

أقرب إلى الهمس، لكنّه انغرس في عظامه.

"اقتربت… اقتربت..."

وجهها لا يظهر، لكن عيناها مملوءتان بذعر لم يعرفه. وفجأة، دمعة دافئة سقطت من خدها، انسابت ببطء… حتى لامست وجهه الصغير.

نقطة دم.

ساخنة.

تسقط مباشرة على عينه.

جسده يرتجف... كل شيء يهتزّ، وصرخة أخيرة تشق أعماقه.

ثم—

العالم يرتدّ حوله. رائحة التراب الرطب تعود، نسمة الهواء الملوثة من الأزقة،

صوت مألوف…

"هيه… هل نمت واقفًا؟"

يوري.

عينا أكاينو تنفتحان دفعة واحدة، ووجهه شاحب، أنفاسه متقطعة، كأن صدره رفض العالم للحظة.

حدّق في يوري، وشفته ترتجف دون أن يتكلم.

يده ما تزال نصف مرفوعة، كأنها تبحث عن تلك اليد التي كانت تمسك به قبل لحظة.

لكنها لم تعد هناك.

والصرخات… لا تزال تتردد في أعماقه.

من بعيد، تحركت مجموعة من الجنود ، دروعهم تعكس ضوء المصابيح الزيتية، وخطواتهم تضرب الأرض بإيقاع ثقيل. أحدهم أشار نحو يوري وأكاينو وهو يرفع صوته:

"أنت! ماذا تفعلان هنا حتى هذا الوقت؟"

التفت يوري :

"كنا نعمل في منجم أكسيرا، وقد انتهى دوامنا منذ دقائق فقط."

اقترب الجندي بخطى محسوبة، وعيناه تراقبان بدقة:

"وهل معكما تصريح للبقاء إلى هذا الوقت؟"

يوري أومأ بهدوء:

"نعم… فقط لحظة."

أدخل يده بسرعة إلى جيبه، وسحب ورقة مهترئة قليلاً، مدّها للجندي.

الأخير نظر فيها لثوانٍ، ثم رفع عينه نحو أكاينو.

"وأنت؟ هل تملك تصريحًا؟"

تردد أكاينو، . دفعه يوري بخفة على كتفه وهمس:

"ردّ عليه!"

أكاينو رمش سريعًا، وقال بتلعثم:

"أه… أه ...نعم، معي تصريح."

فتح حقيبته بتوتر، بدأ يقلب محتوياتها حتى وجد الورقة، رفعها قائلاً:

"ها هي…"

.....

لكن~

ثانية واحدة فقط… رمشة عين كانت كافية لفتح أبواب العهد .

حين التقت عيناه بوجه الجندي—

انفجرت الحقيقة.

الهواء تكسّر، لم يعد يُستَنشق، بل يُبتلع.

هبو من الجحيم

الصمت صار كصراخ مكتوم، والعالم يذوب في دمائه .

وجه الجندي… ذاب.

ببطء، أمام عينيه.

كأنّ الجلد قد غُلِي حتى انفصل،

تشقق، تساقط كقشر فاسد.

الجمجمة تحتها لم تكن بيضاء… بل سُوداء. محترقة. متعفّنة.

عيناه؟ لا…

حفرتان، منهما يخرج سائل أحمر داكن، كثيف، لزج كالعسل الملوث.

شلال من الدم الحيّ، يقطر منه بخار.

شمّها…

رائحة لا يمكن وصفها…

مزيج من جثث متحللة، دماء فاسدة، ولحم آدمي محترق…

رائحة الموت، وقد كُبس في قارورة وفتحت فجأة تحت أنفه.

بدأ الصوت.

همسات،

كصرخات أطفال يذوبون في الزيت.

مجموعة اصوات مشوشة لا يتحملها عقل بشري ...

" انه بداخلك... منذ اللحظة الأولى."

عظامه اهتزّت،

أسنانه اصطكّت دون أن يتحرك.

الجندي اقترب، لا يمشي، بل يزحف كدودة ضخمة فوق الهواء،

وجهه المُتفحِّم يسيل، يتقطر لحمًا نيئًا.

مد يده.

يد بلا جلد.

مجرد عضلات مكشوفة، تتنفس، ترتجف، تسيل منها الديدان.

أمسك ذراع أكاينو.

ثم— انفجرت عينه.

نعم، عينه.

تفجّرت كأنها ثمرة ناضجة دُفِعت أكثر مما تحتمل،

واندلق منها نهرٌ ... من الصديد، الدم، قطع من الأنسجة... شيء حيّ، يتلوى.

غمر يد أكاينو.

الدم دخل جلده.

تسلّل، زحف في عروقه، كأنه يبحث عن قلبه.

ثم عضّه من الداخل.

صرخ دون صوت.

شعر أن عظمه يغلي،

أنّ شيئًا ما يحترق في صدره،

كأنّ شيئًا دُفِن فيه منذ زمن بعيد،

ويستيقظ الآن. غاضبًا.

بلا سابق إنذار… اختفى كل شيء.

كان الجندي أمامه، سليمًا.

يمد يده… طبيعية.

"هل هذا تصريحك؟"

لكن أكاينو لم يسمعه.

كان لا يزال يسمع صرخاتهم تنهش عقله …

"انه بداخلك... منذ اللحظة الاولى."

ما زال متجمّدًا، عيناه مفتوحتان عن آخرهما، كأن صدمة الرؤية ما زالت تحت جلده.

أنفاسه بطيئة، وكأن الزمن حوله لم يعد يعمل كما يجب.

الجندي ينظر إليه باستغراب، ثم يقول:

"هل هناك مشكلة؟"

يوري يتدخل بسرعة، ينتزع الورقة من يد أكاينو قبل أن تسقط، يبتسم وهو يقدّمها للجندي:

"لا.. سيدي، تفضل هذا تصريحه... أعتذر، إنه فقط متعب قليلاً."

ويضع يده خلف رأسه متظاهراً بالحرج.

الحارس يومئ برأسه دون اهتمام، يأخذ الورقة، يقرأها لثوانٍ، ثم يعيدها إلى يوري.

"حسنًا... ولكن—"

يركب حصانه، وبصوت بارد كحجر، يقول:

"إن تسببتما بأي إزعاج، ستعودان إلى القاع الذي خرجتما منه... إن كان هناك قاع أسوأ من رتبتكما المزرية."

الجندي الآخر يضحك وهو يقول:

"أحيانًا أتساءل إن كانوا حتى يعرفون ان يفرقو بين نسائهم ورجلاهم !"

يوري يرد بصوت خافت ويشد قبضته بصمت ، متماسك رغم الاشتعال في عينيه:

"نعم... مفهوم كلامك."

يتحرك الحارسان مبتعدين، والضحكات تتناثر خلفهم كطعنة في الظهر.

ثم يهمس يوري وهو ينظر إليهما بحدة:

"يا لكم من أوغادٍ عديمى النفع..."

ما زالا واقفَين مكانهما، والغبار الخفيف يتصاعد من أثر خيول الجنود وهم يبتعدون.

أكاينو يضع يده على عينه، أصابعه ترتجف، وصدره يعلو ويهبط بتسارع.

(افكاره تتداخل )

"تلك الرؤى... تلك الأصوات..."

"اخرجي من رأسي... اخرجي من رأسي أيتها الأصوات المشؤومة!"

"إن استمر هذا... سأفقد السيطرة على عقلي... لا، يجب أن أهدأ... يجب أن أهدأ، وإلا... لن استطيع التفريق بين واقعي وهلوستي... ان كانت فعلا هلوسات....."

وفجأة، انفجر صوت يوري غضبا:

"هل فقدت عقلك؟! ماذا كنت تفعل ؟!"

اقترب خطوة، وملامحه كالسكاكين :

"كدنا ان نضيع ....لو لاحظ أقل شيء … لو لمح فقط نظرة واحدة خاطئة في عينيك… لكان ركلنا إلى قاع السجون!"

صوته يرتجف من الغضب، لكنه ثابت كحد السيف:

"لن يرَ أحد وجوهنا مجددًا… سيتركوننا نموت هناك… ويجعلون حياتنا لعينة أشد مما هي عليه الآن!"

نظر إليه بشدة، كأن كلماته تجرح قبل أن تخرج:

"نحن نمشي فوق خيط من نار … خيط رفيع جدًا، وخلفنا هاوية لا قاع لها .. وانت بكل بساطة لا تهتم بشيء ."

ساد الصمت للحظة، سوى صدى كلمات يوري الغاضبة.

لكن أكاينو، الذي كان يبدو دائمًا ذلك الجدار الصامت… رفع رأسه ببطء.

وجهه مشدود… عيناه لا تحملان خنوعًا ولا ارتباكًا.

بل…

غضب.

غضب خالص، خام، يشبه الرماد المتوهج تحت الركام.

ثم انفجر صوته بنبرة غير مألوفة، حادة كالصفعة:

"اصمت.... ماذا يعرف شخص عديم النفع مثلك عن الجحيم الذي اراه"

جملة واحدة، لكنها سقطت كالسيف على قلب يوري .

يوري تجمّد، مذهولًا.

"عديم النفع...."

لم يسبق لأكاينو أن خاطبه هكذا. لم تكن نبرة حادة فقط… بل شيء أبعد، أعمق، كأنها خرجت من شخص آخر.

لكن ما صدمه حقًا…

كانت عين أكاينو اليمنى.

في لحظة خاطفة، لم تتجاوز الوميض، تحولت إلى لونٍ فضي معدنيّ… مشع، حاد، كأنها مرآة لشيء لا ينتمي لهذا العالم.

" تلك العين ... لا يمكن …"

اختفت.

وعادت إلى لونها المعتاد، وكأن شيئًا لم يكن.

ضغط أكاينو بيده على عينه اليمنى… الألم كان كالنصل، يخترق رأسه من الداخل.

همس بصوت متهالك:

"أنا آسف يا يوري… لا أعلم ما الذي يحدث لي."

صمت يوري لحظة ، ينظر إلى صديقه بنظرة مختلطة بين القلق والحيرة، ثم قال بنبرة منخفضة:

"اتفهم جيدا...لا تعتذر… لكن—" توقف، كأنه يختار كلماته، ثم أكمل:

"لا يوجد شيء فيك يبدو طبيعي اليوم اكاينو، العلامة .... شرودك ... تصرفاتك... الأمور تصبح اسوأ مع الوقت "

رفع أكاينو رأسه، نظراته غائمة.

"إنه مجرد تعب، فقط… عندما تمر هذه الفترة، سأكون بخير."

لكن كلماته لم تكن مقنعة.

رد يوري، واضعًا يديه على جانبيه، صوته يحمل صرامة وصدقًا:

"أشك في ذلك. ما أراه الآن لا يبشّر بالخير على الإطلاق، لا لك… ولا لمن حولك."

لم يتحدث أكاينو فورًا… فقط تنفّس ببطء.

ثم قال بصوت خافت، دون أن ينظر إلى يوري:

"سأكون بخير… لا تشغل بالك، أنت."

أكاينو ترنّح قليلًا…

كأن صاعقة صغيرة نزلت على رأسه.

"آه!"

رفع يده إلى موضع الضربة، وحدّق في يوري باستغراب مشوب بالذهول.

"هذا بسبب صراخك!" قالها يوري وهو يوجه له ضربة ثانية خفيفة، أكثر حدة.

"وهذا… بسبب غبائك!"

لم يمنح أكاينو فرصة للرد، فقد أردف بضربة ثالثة على الكتف قوية ، ثم ابتسم ابتسامة مشاكسة وقال:

"وهذه؟ هدية مني لك… لأنك أحمق، "

ضغط أكاينو على يده، ثم قال بصوت متعب:

"لقد اعتذرت، يوري… ماذا تريد أكثر؟"

ضم يوري يده بحزم، وأغلق عينيه للحظة ثم قال بابتسامة خفيفة:

"اعتذار الحمقى غير مقبول، يا رأس الأخطبوط."

نظر أكاينو إليه بدهشة:

"رأس الأخطبوط؟! هذا لقب جديد."

رد يوري ببرود:

"نعم، لقب جديد من اختراعاتي."

ابتسم أكاينو بهدوء وقال:

"أنت مجنون."

فأجابه يوري بسرعة:

"وأنت غبي… ولهذا نحن أصدقاء."

نفخ أكاينو هواءً من فمه، وقال بسخرية حادة:

"تعرف ما هو الأسوأ؟ "

-" ها؟ما هو ؟"

--" هو اننا اصدقاء"

نظرة يوري لم تفارقه، صارخًا بنبرة نصف مزعجة ونصف متحدية:

"هيه! أنت مزعج يا رأس الاخطبوط."

~~~~

الليل ساكنًا، والشارع خالٍ إلا من ظلالهما التي تسير جنبًا إلى جنب. لا كلمات، فقط وقع الخطى وهدير خافت في القلب

قال يوري بصوت متزن دون أن ينظر إليه:

— "هل ستتوجّه إلى المنزل مباشرة؟"

أجابه أكاينو، نبرته جادّة كعادته:

— "نعم. وأنت؟ ألن تعود؟"

هزّ يوري رأسه قليلاً:

— "ليس الآن."

توقّف أكاينو لبرهة، ناظراً إليه مباشرة:

— "لِمَ لا؟"

أجابه يوري، بعينين ثابتتين:

— "سأذهب إلى مورا. هناك شخص أحمق لم ينتظرني هذا الصباح."

لم يتغير تعبير أكاينو، لكنه قال بعد لحظة:

— "ولماذا الآن؟ الوقت متأخر."

— "لدي بعض الأوراق التي يجب إنهاؤها قبل الأسبوع القادم. ويجب ان تدرس جيدا "

-" ما هي تلك الاوراق ؟"

أخرج يوري ورقتين من جيبه بهدوء، ومدّهما نحو أكاينو. أمسكهما الأخير، قرأ ما كُتب:

"طلب التحاق بجيش مملكة بيراما."

رفع عينيه إليه:

— "ألم يتم رفضك في السابق؟"

أجابه يوري بوضوح:

— "بلى. لكن الأمر مختلف هذه المرة. مورا كانت قائدة في الجيش، وتفهم آلية القبول. بدعمها، قد أحصل على فرصة حقيقية."

~~~~

مورا، ابنة بريزليوس، كانت قائدة عسكرية في جيش بيراما. حملت عنصراً نادراً، وتميّزت بقدرتها على كشف الموهبة تحت الركام. قبل ثلاثة اعوام، أُصيبت في مهمة عسكرية وعرفت تلك المهمة بي المهمة المشؤومة ولكنها نجت منها ومعها بعض الجنود لكن بضرر بالغ في ركبتها. أُبعدت عن منصبها، وعادت للعمل في النجارة إلى جانب والدها.

تعرّفت على يوري وأكاينو منذ عامٍ ونصف، حين كان أكاينو يوصل طلبية إلى ورشة بريزليوس. ومنذ ذلك الوقت، تكوّن بينهم رابط لم يَبنِه الكلام، بل المواقف.

أعاد أكاينو الورقتين، وقال دون تردد:

— "أتمنّى أن تكون محقاً هذه المرة."

توقّف يوري فجأة، واستدار ليقف أمام أكاينو مباشرة. نظر إليه بعين ثابتة وقال بنبرة هادئة لكن مباشرة:

— "تعال معي، لن يستغرق الأمر وقتًا."

أكاينو تباطأ في خطواته، توقف هو الآخر، نظر إلى يوري مطولاً، كأنه يزن الطلب أكثر من اللازم. ثم قال بصوت منخفض:

— "لا أستطيع."

يوري لم يتحرك، ظل واقفًا في مكانه:

— "لماذا؟"

تنفّس أكاينو ببطء، كأن الإجابة أثقل مما تبدو عليه:

— "لأن أمي تنتظرني. حان وقت جرعتها... ولا يمكن أن تتأخر ثانية."

ثم رفع عينيه إليه وأكمل، بصوت أكثر ثباتًا:

— "ولأنها لا تعرف أنني أعمل في المملكة. تسألني كيف أفسّر تأخيري كل يوم... ولا أريد الكذب الليلة أيضاً."

~~~~

كان أكاينو على وشك أن يستدير ويمضي، خطواته بالكاد بدأت، حين قال يوري بهدوء:

— "انتظر."

توقّف أكاينو، لم يلتفت، فقط قال بصوت منخفض:

— "ماذا؟"

اقترب يوري خطوة، نظر إليه بتركيز:

— "نسيت أن أسألك... عندما ظهر الجنديان، كنت تحدّق في وجه أحدهما. بدا وكأنك شارد. هل كان جذابًا لتلك الدرجة؟"

ثم أردف، نبرة خفيفة لكن مقصودة:

— "لا تقل لي أنك كنت تفكّر في حبيبة القلب."

أكاينو أدار وجهه إليه جزئيًا، عينيه خالية من المجاملة:

— "عقلك المسطّح لا يتغير أبداً."

ثم بصوت أقسى وهو يواصل طريقه:

— "متى تكف عن هذه السخافات؟"

صمت لحظة، ثم تابع السير.

يوري لم يتركه يذهب بسهولة، صرخ خلفه:

— "هَيْه! لا تتهرّب!"

ثم بصوت أعلى:

— "وثانيًا، من هي الفتاة المجنونة التي قد تفكر فيك من الاساس؟"

أكاينو لوّح بيده دون أن يلتفت:

— "عندما أجدها... سأخبرك."

وقف يوري في مكانه، يتابعه بعين ضيقة، ثم قال بينه وبين نفسه:

— "المغرور..."

~~~~

تابع أكاينو طريقه بصمت، خطواته بطيئة وثابتة، يده في جيبه، وعيناه معلقتان بالأرض. كل شيء حوله بدا باهتًا... صدى كلمات يوري لا يزال يتردد في ذهنه، لكنه لم يكن ما يشغله حقًا.

اقترب من أحد الأزقة الجانبية، الضوء بالكاد يصل إلى هناك. الجو ثقيل، والرائحة مختنقة.

وسمع—

صوت بكاء.

لكن لم يكن بكاءً عاديًا... كان خافتًا، ممزقًا، أشبه بنداء مكتوم. أكاينو توقّف. كاد يتجاهله، كان على وشك أن يتابع طريقه، لكن الصوت... شيء فيه شدّه من الداخل.

التفت نحو الزقاق.

من بعيد، لم يكن يرى سوى ظل جسدٍ نحيل، جسد امرأة على ركبتيها، يداها تغطيان وجهها، وصوتها المرتجف يخترق السكون:

— "ساعدوني... أرجوكم..."

تجمّد أكاينو.

ذلك الصوت... يعرفه. مستحيل أن يخطئ فيه.

همس:

— "مورا...؟"

اقترب، خطواته تتباطئ ....فجأة، من الظل العميق خلفها، تحرّك جسد آخر.

طيف ضخم، كالجدار، يتحرّك بصمت نحوها.

وقبل أن يدرك ما يحدث، صرخت مورا بصوت حاد... لا يحمل خوفًا فقط، بل رجاءً أخيرًا.

صرخة واحدة كانت كافية.

أكاينو اندفع بلا تردد، ركض نحو الزقاق، عينيه لا ترى سوى صورتها، صوته يعلو:

— "مورا!!"

دخل إلى الظلام، قلبه يسبق خطواته

يلتفت هنا وهناك، بينما يقترب الصوت من أذنه.

أضاءت الظلال وجهه....

لكنه لم يكن مستعدًا لما رآه.

يتبع....

2025/07/21 · 1 مشاهدة · 2343 كلمة
Tendo akino
نادي الروايات - 2025