داخل مملكة القهر...

تخطت قدمه الحدود، وأُغلقت البوابة خلفه بصوتٍ ثقيل.

انساب الصوت في عقله، ثابتًا كحقيقة لا جدال فيها:

"قبل أربع سنوات... لم يكن هناك سور."

الأغلال تُجرّ، السياط تُمزّق الجلود، وعيون غارقة في الرماد ترفع للحظة قبل أن تعود لتموت في الأرض.

الزحام خانق، أجسادٌ نحيلة بملابس ممزقة، عيون خاوية كأنها فقدت القدرة على الحلم. طفلٌ يمدّ يده المرتجفة نحو كسرة خبز عفنة، تسحبه أمه بسرعة.

"لم تكن هناك حدود بين الطبقات، كان الجميع يأكل من نفس الأرض، يشرب من نفس النهر. لكن اللعنة نزلت... والأرض جفّت."

الجدران ترتفع كسدٍ لا يرى نهايته. رجل عجوز يجرّ صندوقًا يفوق وزنه، يتعثر، يسقط، والسوط ينهال على ظهره. لكنه ينهض. لا وقت للشكوى.

"حين اختفى الطعام، خاف النبلاء. حين جفّت المياه، بنوا الأسوار واحتكروا الموارد. لم يكن هناك مكان للجميع، فمَن لم يكن غنيًا... طُرد إلى الخارج."

ارتطامٌ شديد، شابٌ يهوي على الأرض بعد ضربة قاسية. يحاول النهوض، لكن ضربة أخرى تجبره على السقوط مجددًا. الدم يختلط بالتراب. لا أحد يتحرك. لا أحد يعترض.

"خارج السور، كان الجوع أرحم من الموت البطيء... الأخ يقتل أخاه لأجل رشفة ماء، الابن يسرق من أمه كي يعيش، والجميع يتشبث بالحياة ولو على جثث الآخرين."

قبضةٌ مشدودة، أنفاس ثقيلة، لكن الصوت يواصل ببرود:

"الخيار الوحيد للنجاة كان العبودية. اعمل حتى تنكسر، حتى تنزف، حتى تموت... لكن على الأقل، لن تموت جائعًا."

نباحٌ حاد، وقعُ خطوات مسرعة. فجأة، يقفز كلبٌ نحيل، يلعق اليد بجنون كأنه كان ينتظر منذ دهر

---

مرر يده فوق رأس الكلب وقال بابتسامة خفيفة:

"جلبت لك شيئًا ستحبه، ريو."

هزّ الكلب ذيله بحماس ونبح.

فتح أكاينو السلة، بحث بين قطع الخشب... لكن أصابعه لم تجد ما أراد. تجمد للحظة، تمتم بضيق:

"أنا متأكد أنني جلبتها..."

بحث مجددًا، عبثًا. زفر، ثم رفع نظره إلى الكلب:

"آه، آسف يا ريو. يبدو أنني نسيتها في الغابة."

خفض الكلب رأسه، نظراته مليئة بالاستياء.

ربّت أكاينو على رأسه:

"لا تستاء، أيها الصغير. سأحضرها لك في الصباح."

نهض، شدّ سلة الخشب على كتفه، ولوّح له بيده:

"إلى اللقاء، لدي أعمال كثيرة. العجوز ينتظرني."

نباح قصير، ثم استدار الكلب. أكاينو كذلك.

لكن فجأة—

اصطدم بشخصٍ ما.

رفع رأسه رأى ... قماش أسود، جسد بلا ملامح. الهواء حوله بدا أبرد. الرجل لم يتحرك، لم يبعد نظره عنه.

قال سريعًا:

"أنا آسف، لم أقصد..."

لكنه توقف.

تحت طرف القماش الأسود، لمح شيئًا ليس بشريًا—

جلدٌ قاتم كظلٍ متحرك، وعينان حمراوان توهجتا للحظة قبل أن تختفيا.

برودة غريبة تسللت إلى جلده.

الشخص لم يرد، فقط واصل سيره بصمت.

راقبه أكاينو وهو يبتعد، نبضه متسارع.

ضغط أصابعه على السلة، ثم أكمل طريقه بخطوات حذرة.

في مملكة بيراما ، الفضول خطيئة... والخطايا لا تُغتفر.

---

واصل سيره عبر الأزقة المزدحمة، متجاهلًا ضوضاء السوق وأصوات الحرفيين الذين يطرقون الحديد وينحتون الخشب. في الأفق، بدأت ملامح ورشة نجارة تتضح بين الأبنية، رائحة الخشب المنحوت امتزجت بدخان سيجارة تحترق ببطء.

داخل ورشة النجارة، يد قوية حطمت لوحًا خشبيًا، ثم رفعت أداة النحت.

"لقد تأخر هذا الفتى... ليس من عادته."

كادت الكلمات تضيع وسط الضجيج، حتى قاطعها وقع خطوات ثابتة.

"لقد أتيت... بيرزيلوس! . ."

ظهر أكاينو عند المدخل، ألقى السلة على الأرض.

ابتسم بيرزيلوس بخفة:

"تأخرت يا أكاينو."

مرر أكاينو يده خلف رأسه، ساخرًا:

"أنت تعرف أن الحراس مزعجون."

—"أزعجوك ثانية؟

-"نعم... كالمعتاد."

نفث دخان سيجارته، ثم التفت إليه:

"هل أحضرت شيئًا جديدًا؟"

مد أكاينو يده داخل السلة، أخرج قطعة خشبية، وقلبها بين أصابعه قبل أن يرميها له.

"وجدت شيئًا كنت تبحث عنه منذ فترة."

التقطها بيرزيلوس بمهارة، تفحصها، ابتسم برضا:

"أحسنت... هذا هو فتاي.. لم تخذلني أبدًا."

صوت أنثوي :

"ألم أقل لك إنه سيأتي، يا أبي؟"

التفت أكاينو. فتاة تحمل بعض الأخشاب، شعرها الذهبي يتمايل عند كتفيها.

"مرحبًا، أكاينو."

ردّ وهو يراقبها تضع الأخشاب جانبًا، تمسح يديها المغطاة بالغبار:

"يبدو أنكِ مشغولة كالمعتاد، مورا."

ضحكت:

"أبي يرهقني بالعمل، لكنه عنيد."

بيرزيلوس، مبتسمًا:

"العمل يعلمك الصبر، مورا... والحياة لا ترحم من يتكاسل."

تأففت، ثم التفتت إلى أكاينو:

"هل ستعلمني درسًا عن الحياة أم ستساعدني في حمل هذه الأخشاب؟"

رفع حاجبًا، ألقى نظرة على بيرزيلوس، ثم زفر:

"لم آتِ إلى هنا للعمل، لكن... حسنًا."

مد يده، لكن مورا أشارت إلى كومة أكبر:

"ليس هذه، بل تلك هناك."

رفعها ، يحاول التوازن. اقتربت منه مورا، همست:

"هل جاءك شيء جديد منه؟"

توقف للحظة، نظر إلى الفراغ، وجهه ظلّ من اليأس:

"لا."

راقبته مورا وهو يضع الخشب، ثم قالت بصوت صادق:

"أنا آسفة على سماع ذلك ، أكاينو."

وفجأة—

أصوات غير مفهومة !

صرخات. آلاف منها. ليست أصواتًا عادية، بل كأنها تمزق روحه من الداخل. عيناه اتسعتا—بحر من الدماء، يديه مغطاة به. هل هو السبب؟!

دمًا.......!

ليس مجرد دم... بحرٌ منه.

لطخ يديه، أحاط به. كأنه كان السبب في كل هذا الخراب.

"أكاينو!"

اخترق صوت مورا الضباب حوله.

اقتربت، عيناها مليئتان بالقلق:

"ما بك؟!"

رمش بعينيه، تلاشت الصورة، لكن الألم بقي.

حاول الوقوف رغم ارتجاف جسده، مسح جبينه المتعرق، تمتم بصوت مبحوح:

"لا شيء."

مورا لم تصدقه، لكن قبل أن تتحدث—

"فتى ، هل أنت بخير؟"

كان بيرزيلوس، نظراته مليئة بالشك.

أجبر أكاينو نفسه على الوقوف، يتنفس بي بطئ ، ثم قال بثبات زائف:

"أنا بخير... لم أنم جيدًا فحسب."

تأمل وجهه الشاحب لثوانٍ، لكنه لم يضغط عليه.

لكن أكاينو... في داخله، لم يكن شيء بخير.

لماذا؟

لماذا يسمع هذه الصرخات؟!

لا إجابة.

فقط الصمت...

---

بعد لحظات، ألقى بيرزيلوس كيسًا صغيرًا من العملات نحو أكاينو، الذي التقطه بمهارة.

"300 عملة، نصف الدفعة."

رفع أكاينو حاجبًا:

" 300؟ هل بدأتَ تسرقني الآن، بيرزيلوس؟!"

أجاب بيرزيلوس دون أن يرفع عينيه عن الخشب الذي يفحصه:

" لا تكن دراميًا، يا فتى. الاتفاق لم يكن يشمل البحث عن كنوز..... الاتفاق كان واضحاً"

"الاتفاق كان على إحضار الخشب، وأحضرته، لم أقل إنني ساحر يستطيع إيجاد كل شيء في تلك المملكة !"

في وسط الجدال، بدت مورا وكأنها تذكرت شيئًا مهمًا، فغادرت فجأة.

أما أكاينو، فكان يواصل احتجاجه، لكنه توقف عندما لاحظ تغير نظرات بيرزيلوس.

الرجل تجمد.

عينيه متسعتان، وكأنه رأى شيئاً لا يجب ان يرى

"بيرزيلوس، ماذا هناك؟"

لم يرد بيرزيلوس، فقط ظل يحدق للأمام. التفت أكاينو ليرى بنفسه... لا شيء. الناس تمر، الحياة مستمرة، لا شيء غريب.

أعاد نظره إليه، سأله بحِدة:

"ماذا هناك؟"

أفاق وكأنما عاد إلى الواقع، تظاهر بالهدوء وهو يقول:

"لا شيء... لا شيء، إذن، ستأخذ ما اتفقنا عليه؟"

قبل أن يجيب أكاينو، دوى جرس المملكة في الأرجاء. يعيد كيس العملات إلى جيبه:

"ليس لدي حل آخر، سأخذه."

استدار مستعدًا للرحيل، ولوّح بيده بلا اهتمام:

"أنا ذاهب، عليّ الوصول إلى العمل قبل أن أتأخر."

أجابه بيرزيلوس بصوت ثابت:

"لا تتأخر الأسبوع المقبل."

لم يلتفت أكاينو، فقط انطلق يجري، يختفي بين الحشود.

بعد لحظات، خرجت مورا تحمل شيئًا بين يديها، رفعت رأسها تبحث عنه، ثم صاحت:

"أكاينو!"

لكنه لم يسمعها. وقفزت أنفاسها باضطراب وهي تراه

يختفي في زحام المملكة. عضّت شفتيها بضيق قبل أن تهمس لنفسها:

"أيها الأحمق... لو علمتَ فقط ما فاتك"

يتبع ..........

---

ما الذي كان في يدها؟ ولماذا كان مهمًا؟

Dark Dimensions

2025/04/06 · 13 مشاهدة · 1096 كلمة
Tendo akino
نادي الروايات - 2025