"ركض دون أن ينظر خلفه، يلهث بين الزحام... حتى توقف أمام البوابة، لا يعلم أن ما ينتظره ليس عملًا، بل بداية سقوط في جحيمٍ لا رجعة منه."
____
وقف أكاينو أمام البوابة.
أنفاسه تحاول أن تواكب دقات قلبه المتسارعة، والعرق البارد ينزلق من صدغه كما لو أنه يهرب من جسد يعرف ما ينتظره في الداخل. رائحة الفحم المحترق، والغبار، وعرق الرجال العالق في الجدران، تشكّل مزيجًا خانقًا يلتف حول حنجرته.
حدّق في البوابة.
ضخمة، متآكلة، وكأنها أكلت من وقوف البشر أمامها، أكثر مما أكلت من باطن الأرض.
(في عقله)
"كل يوم، أقول لنفسي إن هذا آخر يوم... ثم أعود."
"أركض، ألهث، أقاتل... لأجل حفنة نقود... لأجل دواء، لكي لا تنقطع أنفاسها ."
تسللت صورة والدته لعينيه. شاحبة، ساكنة على فراش المرض ، صوتها متقطع كأنه سيل من رياح خفيفة تتلاشى في الفراغ.
"قالوا لي: الحياة اختيارات... لكن لا أحد يخبرك أن الفقراء بلا خيارات."
"إن لم تعمل، تجوع... وإن تعبت، لا أحد يسمع."
نظر إلى يديه، متسختين من الغبار، فيهما شقوق لم تلتئم، وندوب قديمة من الحطب، والركض، والحفر.
"بيرزيلوس؟ رجل طيب، نعم. أعطاني عملاً لا يقتلني، أو هكذا ظننت."
"لكن الطيب لا يكفي في مملكة تشرب العرق وتبصق الأرواح."
صوت من الداخل... جرس ثقيل.
ثم خطوات، ثم صرير السلاسل.
البوابة بدأت تفتح.
الضوء تلاشى تدريجيًا، كما لو أنه يخجل من الدخول إلى هذا المكان.
الظلال كانت أصدق من النور هنا.
"لا أريد أن أكون عبدًا... قلتها لنفسي ألف مرة."
"لكن من يعمل ليس حرًا حين يعمل ليعيش... بل عبد بقيدٍ شفاف."
خطا خطوة للأمام....
"أنا لا أحفر من أجل المال... أنا أحفر لأمنع جسدًا نحيلًا من أن يتحلل أمامي."
"أنا لا أتحمل هذه الأصوات... لكني لا أملك رفاهية الهرب."
صوت تكسير الصخور صفع أذنه، دخان كثيف خرج من عمق النفق، والهواء بدا وكأنه محمّل بعذاب قديم.
نظر أمامه. ثم همس:
"أنا لست قويًا..."
"لكنني لم أعد أملك الحق في أن أكون ضعيفًا."
---
دخل.....
الرطوبة ضربت جلده كصفعة، والظلمة التهمت ملامحه شيئًا فشيئًا.
رجال منحنون، أجساد متصلبة، ضربات متتالية على الصخور… لا أحد ينظر، لا أحد يتحدث.
المكان يُقاس بالعرق، لا بالكلمات.
خطا وسطهم.
كل خطوة، كأنها تمشي على صدى ذنب.
( صوت افكاره عاد مجددا)
"لم أقصد..."
"لم يكن يفترض أن يصل الأمر إلى هذا الحد."
توقف للحظة ، ثم تابع.
"كان من المفترض أن لا يحدث اي شيء … ."
"أردت المعرفة فقط ، لا لعنة للعالم."
"لكن كيف تُقنع العالم بأنك لم تكن سوى أحمق أراد معرفة ما هو محرم معرفته ؟"
"كيف تُخبرهم أن لعنتهم بدأت ... لكنها لم تكن بنيتي؟"
"أنهم الآن يحفرون في نفس الأرض التي سمّمتها دمائي ، ويحلمون بغدٍ لا وجود له."
" كتب على الجدران إن هناك شيئاً قديم ، يمكنه أن يحررنا من المرض، من الجوع، من هذا الجحيم المتكرر…"
"لكن لم يكتب أنها كانت تُغذّي شيئًا آخر... شيئًا كان نائمًا تحتنا طوال هذا الوقت."
أمسك بمطرقته، بيدٍ لا تزال ترتجف رغم ما اعتادته.
مرّ بجانب عامل فقد نصف أصابعه، وآخر يرتجف دون سبب.
صوت الحديد يخترق الصمت، لكنه لا يُشعر بشيء... لأن الوجع الحقيقي لا يُسمع.
"لا أحد يعلم... ولا يجب أن يعلم."
"هذا المنجم هو كفاري، هذا العذاب هو حكمي، هذه الأصوات التي تصرخ في رأسي كل ليلة... لن تختفي حتى ينتهي كل شيء."
توقف لحظة، وضع يده على الجدار، شعر بنبضٍ خافت... كأن الصخر ما زال يتألم.
رفع المطرقة.
الصدع في الصخر ليس أعمق من الذي في داخله.
لكنه حفر، كما يفعل كل يوم.
ليس لأنه يريد،
بل لأنه... لا يستطيع التوقف.
كان أكاينو يضرب بالمطرقة، ثم توقف.
أسند جبهته إلى الجدار، وهمس بصوت متقطع:
"كنت أتمنّى فقط... أتمنّى..."
لكن صوت ارتطام جسد بالأرض قطَع أفكاره.
استدار بسرعة، ليرى مجموعة من الشباب يحيطون برجل عجوز ممدد على التراب.
أحدهم دفعه منذ لحظة، وقد تجمّعوا الآن حوله كذئاب حول فريسة.
تقدّم قائدهم، شاب نحيل العينين، لكن نظراته تنزف احتقارًا، وقال:
"إن كنت لا تملك ما تدفعه، فدعنا نستمتع بك قليلاً، أيها العجوز."
رفع الرجل العجوز رأسه بصعوبة:
"يا بني... لديّ أطفال ينتظرون طعامهم، لا تظلمني، ليس لديّ ما أعطيك ... انا من دور والدك ."
انحنى القائد نحوه مبتسمًا بسخرية:
"إن كان والدي نفسه لا يدفع، نستمتع به... فكيف بغريب مثلك؟"
ضحك شاب خلفه وقال:
"وأخيرًا، جاءنا من نُسلي أنفسنا عليه هذا اليوم!"
وأضاف آخر، وهو يلوّح بعصا قصيرة:
"لن نأخذ منه المال... بل سنأخذ منه صوته، وكبرياءه، وربما بعض الأسنان!"
ارتجف العجوز، تمسّك بالأرض كمن يتمسّك بالحياة:
"ارحموني... أقسم لكم أنني لا أملك شيئًا!"
أجابه أحدهم وهو يدوس على يده:
"كفى حديثًا! كلّكم تقولون هذا... حتى تبدأ العظام بالاعتراف!"
وقف القائد أمام الرجل العجوز، عينيه تضيقان كمن يحدّق في شيء لا قيمة له.
مدّ يده إلى الخلف، دون أن يتكلم.
فهم من خلفه ما يريد، بسرعة صمتٍ يعرف العادة.
وُضِعت في كفّه عصا من خشب غليظ، نُصبت في رأسها سنون معدنية مسنّنة، تعانقها بقع داكنة من صدأٍ... أو شيءٍ آخر.
أمسكها القائد برفقٍ غريب، كأنما يتحسس ذاكرة قديمة.
"كان هناك رجل... يشبهك كثيرًا."
قالها وهو ينظر إلى العجوز المنكمش على نفسه.
"كان عنيدًا، وكان يحمل المال، لكنه ظنّ أن الصمت يحميه... وأننا لا نُدرك."
اقترب أكثر، رفع العصا قليلًا... ثم مدّها نحو العجوز.
"أمسك."
تردد العجوز، ارتعشت أصابعه، لكنه أمسك بها كما يُمسك بالتعاسة.
نظر إلى السنون، وحدّق في تلك البقع الداكنة، وشفتاه ترتجفان.
"هل ترى الدم؟"
أجابه العجوز بصوتٍ خافت:
"نعم..."
ابتسم القائد، لكن عينيه ظلتا جافتين:
"إنها دماء ذلك الرجل."
"كان طيّبًا، طيّبًا أكثر من اللازم... ولهذا كان أحمق."
انتزع العصا من يديه فجأة، بعنفٍ أربكه، وصوته ينفجر ببرود:
"للأسف، أنت مثله تمامًا."
الجملة وقعت على العجوز كالحكم.
ركبتاه لم تقويا على حمله، يختنق بأنفاسه، .....
بلّل نفسه.
الروائح امتزجت بالخوف، والأرض تحته تشهد.
ضحك أحد الشبان من الخلف:
"ها قد جاءنا صيدٌ سهل هذا اليوم!"
وقال آخر، وهو يصفق بإيقاعٍ ساخر:
"يبدو أنّه بدأ حفلة الإهانة بنفسه!"
رفع القائد العصا، قبض عليها بكلتا يديه، عينيه لا ترى سوى العجز أمامه.
اغلق العجوز عينه منتظر موته....
"حان الوقت..."
ضربة نزلت!
لكنها لم تصب.
صوت اصطدام مفاجئ.
كأن الحديد اصطدم بالحجر... لا، لم يكن حجرًا.
العجوز فتح عينيه ببطء، الخوف ما زال يغلف وجهه.
ثم رآه.
ظهرٌ عريض، ثابت كجدار.
يدٌ دامية تمسك بالعصا من رأسها، والسنون قد غرست نفسها فيها.
الدم ينزل في خطوط، لكنه لا يتحرك. لا يتراجع. لا يرتعش.
رفع رأسه، ببطء، والتفت بعينٍ واحدة نحو القائد.
"تريد ضرب رجل لا يملك القوة ليدافع بها عن نفسه؟"
"ألا تخجل من نفسك؟"
كان الصوت هادئًا… لكن تحته جبل من السخط المكبوت.
أكاينو
يتبع.......