بعد عدة ساعات....
تتوهج السماء بألوان الغروب الدافئة، تتداخل خيوط الشمس البرتقالية مع ظلال الجبال.
يدق جرس المملكة بقوة، صوته يخترق سكون المساء، معلنًا انتهاء اليوم.
العمال يتنفسون الصعداء، يمسحون العرق عن جباههم، وجوههم متعبة لكن مرتاحة.
يتحرك الجميع نحو المخارج ببطء،
يقترب يوري منه وهو يبتسم بتعب:
"هيا، أكاينو، لنأخذ أجرنا. انتهى اليوم أخيرًا يا رجل."
أكاينو يرد بهدوء، يرمي نظرة أخيرة نحو الأفق، ثم يتابع السير إلى جانب يوري، غارقًا في أفكاره.
يقفان في طابور طويل، تنتظر أقدامهم بصمت دورهم للحصول على الأجر.
في وسط الطابور، يلتقط يوري شيئًا غير معتاد في سلوك مسؤول المنجم. الرجل متوتر، صامت، يتجنب التحدث مع أي شخص.
يهمس يوري لأكاينو:
"ما شأنه اليوم؟ يبدو وكأنه غير طبيعي."
يهمس أكاينو ليوري بهدوء:
"يبدو أن رايدن قد هددَه... لذلك هو بهذا القلق."
يأتي دوره في استلام اجره...
وقف ينتظر بصبر، حتى أخرج المسؤول ببطء عملتين فقط ووضعهما على المكتب كأنهما قطعتا خبز يتيمتان. الصمت امتد لثوانٍ
ينظر إليهما بغضب، ويسأل:
"ما هذا؟ أين أجري؟"
يرد المسؤول ببرود:
"هذا هو الأجر المتاح، هل ستأخذه أم لا؟"
يتردد قليلاً، ثم يلتقط العملتين ويقول بصوت منخفض:
"سآخذها."
~~~~
يخرج أكاينو عند بوابة المنجم حيث ينتظره يوري. يلاحظ يوري تغير تعابير أكاينو، فيقول وهو يبتسم بسخرية:
يوري:
" ما الأمر يا وجه العبوس؟"
أكاينو (بتعب واحتقان):
«لم يعطني سوى عملتين! ماذا أفعل بهما؟"
يوري (ضاحكاً وهو يضع يده خلف رأسه):
" تمنى بهم أمنية، ربّما تتحسن أحوالك!"
أكاينو يرمقه بنظرة لا تصمت، لكنه لا يرد.
يوري يقلد بصوت ساخر:
"اتركني أفكر في الأمر...
أنت تحب الفقر فعلاً!"
ثم يضيف وهو يضحك بخفة:
" أخبرتك بالحل، لكنك ترفض الاستماع"
~~~~الهواء المسائي يلفح وجهيهما بلطف، والسماء تكتسي بلونٍ نحاسيّ يميل للأحمر، فيما تعبر سحبٌ خفيفة كأنها أطياف شاحبة تنسحب من يومٍ منهك.
شوارع المملكة تفيض بأصوات الحياة الخافتة: قرقعة عربات خشبية، صيحات أطفال بعيدة، ووقع أقدامٍ بطيئة للعابرين المتعبين.
يمشي أكاينو ويوري جنبًا إلى جنب، الأول يحمل حقيبته بإهمال، والآخر يسير بخفة وكأن التعب لم يمرّ عليه.
يوري (ينظر إليه فجأة بنبرة خفيفة):
"هيه، أكاينو..."
أكاينو (بدون أن يلتفت):
"ماذا؟"
يوري (بلهجة خبيثة):
"أريد أن أسألك عن شيء آخر."
أكاينو (يضع يده على وجهه، ثم يتنهد):
"أعلم أنني سأندم على الاستماع إليك."
يضربه يوري بخفة على كتفه وهو يضحك.
أكاينو (بابتسامة نصف مرهقة):
"ما الذي تريد السؤال عنه؟"
يوري (ببساطة):
"هل ذهبت إلى مورا وبريزليوس؟"
أكاينو (يرد دون تفكير):
"نعم، ذهبت لهم في الصباح."
يصفعه يوري مجددًا بخفة، فيلتفت له أكاينو مستاءً:
"هيه! ما الأمر؟"
يوري (بصوت مرتفع):
"ألم أقل لك بالأمس أن نذهب سويًا؟ لمَ لم تنتظرني، أيها الأحمق المخادع؟"
أكاينو (يرد بتماسك):
"انتظرتك... لكنك تأخرت أكثر من اللازم. بريزليوس كان غاضبًا لتأخري."
صمت لحظة... ثم سأل يوري، هذه المرة بصوتٍ منخفض، ونظرةٍ غير معتادة:
"هل... رأيت مورا؟"
أكاينو (بتعجب):
"نعم، رأيتها. ما السبب؟"
يوري (ينظر إلى السماء، وكأنه يهرب من عين صديقه):
"لا شيء... فقط أردت الاطمئنان. أليست هي مدربتك؟ لما لا تحجز لي موعدًا معها ؟ لدي أمر مهم أود إخبارها به."
أكاينو (ينظر إليه بنصف ابتسامة وملامح مستاءة):
"وهل ترى هذا مناسبًا في الوقت الذي نمرّ به؟ نحن بالكاد نملك قوت يومنا، وأنت تريد أن تحجز موعدًا مع مدربة النخبة؟"
يوري (يرد بلهجة ساخرة، وهو يشبك يديه خلف رأسه):
"آه صحيح، نسيتُ أننا في زمن الكوارث، حيث مجرد التفكير بشيء مختلف يُعد جريمة... سامحني يا سيد الحكمة!"
ثم يضحك ويضيف:
"على الأقل دعني أعيش وهماً صغيرًا... أنت تعيش على الواقع وحدك وسيموت قلبك قريبًا من كثرة الجدية!"
أكاينو (بتنهيدة عميقة وهو يواصل السير):
"ليت الوهم يطعم فمًا جائعًا..."
ثم ينظر له بطرف عينه:
"لكن إن كانت مورا هي الوهم... فلا بأس أن أحجز لك موعدًا، شرط أن تُفلح في أول جملة تقولها دون أن تفرّ من الخجل."
يوري (يرد وهو يضحك بشدة):
"خجلي؟! من مورا؟ هي من يجب أن تخجل عندما تراني!"
يتبادل الاثنان نظرة، ثم يضحكان معًا، ينسحب من حولهما توتر العالم، ولو مؤقتًا، بينما تمضي خطواتهما وسط الأزقة المظلمة...
تمر نسمة باردة تحرك شعر أكاينو المتعب، فيلتفت يوري نحوه بابتسامة ماكرة ويقول:
يوري (بصوت ساخر ):
"بالمناسبة، تهانينا أيها العجوز! لقد بلغت السابعة عشرة من عمرك أخيرًا! أخشى أن نحتاج قريبًا لعصا كي لا تسقط من التعب."
أكاينو (يرمقه بلا مبالاة، لكن نبرة صوته تحمل تهديدًا ساخرًا):
"إن لم تصمت... ستكون أول من أستخدم عليه تلك العصا."
يوري (يضع يديه في الهواء وكأنه يحتمي):
"آه، بدأنا بالتهديدات! يبدو أن الشيخوخة جاءت ومعها المزاج الرديء!"
ثم يغمز بعينه ويقول بمكر:
"لكن مهلاً... هل ستحتفل؟ أم أن الاحتفالات محرّمة في قاموس الحزن الذي تحمله؟"
أكاينو (بنبرة هادئة وعينين تنظران للأمام):
"إن بقيت على قيد الحياة حتى الغد... ربما أفكّر في قطعة خبز إضافية كاحتفال."
يوري (يضحك ):
"واو... حفلة أسطورية! سأُحضر الملح من السوق، ونرسم نجمة على الطين ونرقص حولها!"
بينما كانت خطواتهما تتردد بين صدى الأزقة وضوء المصابيح الخافتة، قطع يوري الصمت بنبرة خالية من سخريته المعتادة، وقد تسللت إلى صوته نغمة فضول مشوبة بالقلق:
"أردت أن أسألك عن شيء آخر... شيء لم يفارق ذهني منذ الصباح"
-"هاه؟ أنت كثير الأسئلة هذا اليوم."
--"لا تسخر… هذه المرة الأمر مختلف."
يوري يحدّق في وجهه، صوته صار أكثر جدية، كأن شيئًا لم يغادر ذهنه منذ ذلك الحين:
"عندما أمسكتَ بالورقة... تجمدت. كنت مثل التمثال، ملامحك تغيرت، وعيناك كانتا شاردتين، وكأنك رأيت شيئًا لم نره نحن."
تتبدل ملامح أكاينو تدريجيًا. تخف وطأة خطواته، ويصمت لثوانٍ، كأن الكلمات تخونه. نظراته تهرب نحو الأرض، وعيناه تلمعان بتلك اللمحة التي لا تفضح سوى من يحمل ثقلاً لا يُقال.
يوري تابع بصوت أخف، لكنه أكثر حدة:
"رايدن كان ينظر إليك وقتها بنظرة... لا أعرف كيف أصفها. لم أرَه يحدق هكذا من قبل. شيء فيك أثار انتباهه، وردّ فعلك تلك... أثارت شكوكي أكثر."
أكاينو توقّف عن المشي دون أن يشعر، شفتاه تحركتا دون صوت، كأن الكلمات تخونه للحظة.
"لماذا فعلت ذلك؟ ماذا كان في الورقة، أكاينو؟"
أكاينو يشيح بوجهه إلى الجانب، يحبس أنفاسه للحظة، ثم يرد بصوت منخفض:
"ذلك ليس شأنك، يوري."
لكن يوري لم يتراجع، اقترب منه خطوة، وحدّق في عينيه مباشرة:
"بل هو شأني، إن كنت صديقي حقًا."
صمت ثقيل خيم على الجو.
صوت تنفس أكاينو صار مسموعًا أكثر من أي كلمة.
لكنه لم يرد.
يوري ظل يراقبه، عينيه لا تفارقه، يعلم أن صديقه يخبئ شيئًا، وأن هذه المرة... الصمت لم يعد يكفي.
أكاينو ظل صامتًا لثوانٍ بدت وكأنها ساعات، ثم أخيرًا، حرّك رأسه ببطء، وخرج صوته مشوشًا، كأن الكلمات ثقيلة على لسانه:
"لا أعلم ما الذي يحدث لي… منذ يومين، كل شيء تغيّر."
نظر إلى يوري، وعيناه نصف مطفأتين، تحملان شيئًا غريبًا… كأن جزءًا منه لم يعد هنا.
"أنام… أو على الأقل أحاول. لكن جسدي يتحرك وحده. وكأنني أقاتل شيئًا في الظلام."
كانت أنفاسه ترتجف، ونبرته أكثر هشاشة مما اعتاده يوري.
…
كان
الليل ساكن، والجدران رمادية صامتة. جسد أكاينو يتقلّب فوق الفراش كمن يحاول الفرار من شيء لا يُرى.
أنفاسه تتسارع، يده ترتفع وتقبض على الهواء بعنف، وجهه ينكمش وكأنه يصرخ بلا صوت.
العينان تنفتحان في الظلام… واسعتان، شاحبتان، خالية من الحياة.
الهمس يزحف إلى عقله، كنارٍ تلتف حول أفكاره:
"… اقترب الوقت..."
كلمات لا تُنطق، بل تُزرع داخله كشوكة في الدماغ.
…
أكاينو يحدق بالأرض، يده ترتجف قليلًا وهو يتمتم بصوت واهن:
"في البداية ظننتها مجرد أحلام… لكن هناك لحظات أكون فيها واعيًا بالكامل. أرى… أشياء."
رفع يده ببطء، فكشف عن كتفه.
علامة سوداء اتسعت، لم تعد مجرّد رمز. أصبحت كأنها نبض حيّ، تمتد منها تفرعات دقيقة تشق الجلد كجذور لشيء ينمو تحته، تتسلل نحو صدره وذراعه.
يوري شهق دون أن يشعر، عيناه اتسعتا، وكلماته خرجت ببطء:
"يا إلهي... أكاينو، هذه..."
أعاد أكاينو تغطية كتفه، ونظره ما زال مثبتًا على الأرض.
"العلامة لم تعد صامتة. تؤلمني تحترق… وكل ليلة، الأصوات تزداد."
تنهد ببطء، صوته بات أكثر خشونة:
"تهمس لي… تفتح لي أبوابًا لا أريدها. ذكريات… لكنها ليست لي."
رفع رأسه قليلًا، نظر إلى يوري نظرة ثقيلة:
"دماء… صرخات… وجوه تموت داخلي. كأنني أعيش حياة غيري. وكلما استيقظت، أجد العلامة أكبر… كأن شيئًا منها يستيقظ معي."
ثم بصوت مبحوح، ختم كلماته:
"أنا... لا أفهم. ولا أظن أنني أريد أن أفهم."
الصمت عاد، أثقل من ذي قبل.
لكنه لم يكن مجرد صمت…
كان بداية شيء أكبر، شيء لم يُكشف بعد.
بينما ظل يوري يحدّق في وجه أكاينو، يبحث في ملامحه عن إجابة لا تُقال… لم يكن يعلم أن شيئًا آخر يحدّق فيهم من بعيد.
بين أكوام الحجارة المتناثرة في زاوية الزقاق، حيث لا يصل ضوء القمر إلا كهمسة، انسلّ ظل طويل ببطء، كأن الليل نفسه تنفّس فجأة.
جسد زاحف، ينزلق على الحجارة دون أن يصدر صوتًا، بشرة لامعة تتلوى تحت الضوء الخافت، وعينان… ليستا كأي عينين.
عينان حمراوان، لا تنطفئان.
لم تكن تلمع، بل تحترق بهدوء.
ثقبان من الجمر يراقبان المشهد كما يراقب المفترس أنفاس فريسته الأخيرة.
لسانه المشقوق خرج للحظة، تذوّق الهواء، وكأنه يتغذّى على الهمسات بين أكاينو ويوري.
الثعبان توقف عند حافة الجدار، رأسه يعلو ببطء، يحني نفسه كمن يسجد لما لا يُرى، ثم استدار دون استعجال، وانزلق في العتمة بين الشقوق والأزقة المتصلة…
كأنه أنهى مهمته… أو كأنه استلم إشارة ما.
ولم يترك خلفه سوى هواء أثقل، وشعور عميق…
بأنهما لم يكونا وحدهما أبدًا.
يتبع ......
---